التلاعب العقلي والطاعة

التلاعب العقلي والطاعة
د.يسر الغريسي حجازي

التلاعب العقلي والطاعة

 "كل علاقة لها قدر معين من التلاعب. والسؤال هو إلى أي مدى يمكن للمرء أن يخضع للتلاعب؟هل يمكننا ان نتجنب التلاعب بنا؟ وهل يمكن استبداله بالانتقال إلى التعاون والتشارك؟" 

مارك زفران

هل نحن في بالفعل متلاعب بنا؟ من هم الاشخاص الذين يتلاعبون بنا؟ ما نوع الوضع الاجتماعي المشروط الذي يجب علينا التكيف معه؟ وكيف يعمل؟ عندما نتحدث عن الخضوع، فإننا نشير هنا إلى قوة وسلسلة العلاقات الاجتماعية. دعونا نتحدث أولاً عن تجربة ميلجرام (1963) ، وهو عالم نفسي أمريكي معروف بتجاربه حول وضع "السلطة" و "العالم الصغير". و هو واحد من أهم علماء النفس في القرن العشرين، الذين قالوا أن الوعي يخضع للسلطة وأن تلك المسؤولية ممزوجة مع الهيمنة إلى أن تصبح طغيانًا. تم محاكاة تجربة ميلجرام الشهيرة ، التي أجريت بين عامي 1960 و 1963 ، مع المعلم  والطالب المستقبلي ،من خلال توقيع مذكرة تفاهم وبروتكول ينص علي موافقة كلا الطرفين علي قبولهم للتجربة. يتم اجراء قرعة لمعرفة من سيكون المعلم ومن  التلميذ، ثم يتم وضع الطالب على كرسي الكهرباء في غرفة وبينه وبين معلمه حاجز لكي لا يراه و بجانبه الميكانيكي المسؤول علي تشغيل الالة والمتحكم بها. 

بينما يتم وضع الشخص الذي يلعب دور المعلم خلف الحاجز بينه وبين تلميذه الذي يسمع فقط صوته. ثم يقوم المعلم بإدراج قوائم مع مفردات مختلفة لكي يحفظها التلميذ بذاكرته، و يتم سؤاله عليها في وقت لاحق. 

كلما يرتكب الطالب خطأ في الإجابة، يتعرض لصدمة كهربائية تبلغ 45 فولت والتي ستكون عند كل إجابة علي سؤال خاطئ، مضاعفة بمقدار 15 فولت إضافي. و تتطور ردود فعل الطالب على الصدمة وفقا لمعاناته. لكن من 75 فولت، يبدا يشتكي الطالب، وعندما تبلغ الصدمة الكهرابئية 120فولط يعبر الطالب علي الامه. عند 135 فولت، يصرخ الطالب ،و عند 270 فولت يبكي بقوة، و عند 300 فولت لم يعد يستطيع الإجابة عن الاسئلة. ثم يحدد المعلم انه عدم الإجابة تعتبر خطأ. ومع ذلك ، في المرحلة التي تبلغ 150 فولت ، يعبر غالبية الذين يلعبون دور الطالب عن شكوكهم ومخاوفهم علنا ويشككون في دور الاستاذ المتحكم و الذي بدوره يطمئنهم ويؤكد لهم أنهم غير مسؤولين عن العواقب وأنه يجب عليهم الإجابة على الأسئلة. 

 ولكن في مرحلة ما، يتوسل الطالب الي الميكانيكي ويعرفه بعدم قدرته علي الاستمرار، ولكن يقول له الاستاذ بأدب ان عليه الاستمرار وان هناك ضرورة لانهاء التجربة مثل ما هو متفق عليه، وان لا خيار له. ولكن بعد أربعة تدخلات من قبل الطالب، يتم تعليق التجربة. 

خلاف ذلك ، تنتهي التجربة بعد إلحاق ثلاثة صعقات كهرابئية من 450 فولت على الطالب. كما ان التجربة في الواقع كوميديا لأن الصدمات الكهربائية وهمية وليس لها اساس حقيقيي، وتحاكي التجربة التعلم من خلال العقاب و مستوى الطاعة والخضوع للسلطة الاعلي. والاستاذ والطالب هما في الواقع الجهات الفاعلة، والصدمات الكهربائية وهمية بحتة.

 لقد أثبتت تجربة ميلجرام خضوع الإنسان للسلطة الاعلي، وإزالة القيم تمامًا مع الموافقة لامر الطاعة. لقد سمعنا عدة مرات عن محاكمات جنرالات متهمين بارتكاب جرائم إبادة جماعية أمام محكمة الدفاع، علي أنهم قد أطاعوا أوامر رئيسهم. ولهذا السبب تحظر اتفاقية جنيف الدولية على الضباط العسكريين أو الشرطيين، إطاعة أوامر رؤسائهم إذا كانت أفعالهم تنتهك الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان.   

أظهرت تحقيقات ستانلي ميلجرام  ان مستوي الطاعة وصل الي مدى بعيد بشكل خطير، و بعيدًا كل البعد عن الأخلاق الانسانية و يمكن للبشر الخضوع لأوامر قاسية من الاخرين. وينظر الي هذه الظاهرة كما وصفها ميلغرام  على أنها تخمين يمكن أن يندمج فيه الفرد وان ينتقل من المرحلة الذاتية إلى المرحلة النظامية. وعلي سبيل المثال، يمكن ملاحظة ذلك في السلطة الأبوية على الأطفال والأسرة، ويمكن أن تكون حالة الطاعة أو الخضوع للسلطة الاعلي (زيادة الاستسلام  والانسجام عند البشر لأي مظهر خارجي). ان الطاعة هي أيضا إجراء تفرضه عوامل القلق، بل هي أيضا عملية تكييف منظمة وهيكل وقائي للمجتمع. 

   يعتقد ملغرام أن الطاعة هي السلطة التي، تمكن الشعوب من التماسك الاجتماعي والاستدامة الحيوية العالمية. ببساطة يمكن أن يصبح هذا الهيكل شرًا إذا دخل في نزاع مع نفسية الفرد ،ويمكن أن تجعله خطيرًا وقاسًيا (سلمون واش،1950).

كيف تعمل الطاعة في داخل الفرد؟ قبل كل شيء ، يجب ألا ننسى أن الإنسان مستقل بذاته، لكن  عند القيام بواجبه تسيطر عليه السلطة الأعلى ، فهو بذلك يدخل في حالة خضوع ويصبح وكيل تنفيذي لإرادة خارجية. 

 هناك أيضا ضغوط تمارس علي مستوى التوتر والقلق في داخل الفرد، الذي يطيع أوامر سيده. ما يثبت أن الفرد ينتهي به المطاف الي الخضوع للسلطة الاعلي ،حتى لو لم يوافق على القيام بذلك. ويشعر الفرد انه غير مقتنع بتنفيذ دور محدد ،لذلك يحاول العصيان لخفض قلقه ولكن بمجرد انه منح موافقته فهو يلزم نفسه بطاعة الاوامر.

كما ان في الثورات الشعبية للربيع العربي ،تم التشكيك في السلطة العليا بسبب السماح باطلاق النار في الحشود والوفيات التي حصلت. ان اعوان الامن الذين إطلقوا النار على المتظاهرين وسببوا بقتل عدد كبير منهم، اكدوا انهم ارغموا على ذلك، وحملوا مسؤولية أفعالهم إلى رئيسهم والذي حملها الي رئيس الدولة اي السلطة العليا  ( الثورة في مصر في عام 2011 حصدت 850 حالة وفاة، و 700 حالة وفاة في عام 2013). كما تظهر نتائج اختبار ملغرام، أن الاشخاص الذين عصوا السلطة هي رد فعل لما عانوه من ظلم وقساوة والثورة جاءت لإنهاء الوضع المؤلم. وهذا يثبت أيضا أن يظهر العصيان عندما يكون هناك صعود في المعاناة، دون دفع العبد المامور ان يتخاذ قرار، وهذا ما يثبت اختبار ملغرام،

لكتابة شروط مسبقة للمشاركة، كالتالي:

الحصول علي برتوكول تفاهم موقع،

 1-قبول الشركاء و خضوعهم لمختلف مستويات الصدمات، 

2- موافقة الطالب علي تلقي الصدمات الكهرابئية،

 3- ارادة كاملة وحالة  الادراك حول موضوع التجربة، والطاعة لرغبات السلطة العليا (الاستاذ)،

-4دور السلطة العليا (الاستاذ) علي انها الجلاد و الحريصة علي واجبات الناس،

5-القدرة على الاستاذ (السلطة) باقناع الطالب وحصوله على الحق بقيام  تجربة واحدة دون مقاومة،

تظهر تجربة ميلجرام ميل الناس إلى الخضوع لدور المنفذ، دون أن يضطروا للقيام بذلك. أسوأ جزء من هذه التجربة هو الموافقة الأخلاقية التي تظهرها مذكرات التفاهم الموقعة بين الطرفين، والانتهاك الفادح للأخلاق. 

وقد ناقش الباحثون قضية الخداع الذي تعرض لها الاستاذ والطالب ،لأن الضحية (الطالب)لم تتعرض قط للصدمات الكهربائية ، ومن رغم ذلك كانت الضحية متواطئة في هذه التجربة مع الاستاذ

(الجلاد) الذي رفض وقف التجربة في حين أن الطالب توسل إليه بأن يتوقف. كل هذا يفسر لنا أن القضية الأخلاقية هنا ليست فقط عدم احترام الناس، ولكن أيضا استخدام الحجج الزائفة والطوعية. وفقًا لما قاله الطبيب النفسي الفرنسي روجر موتشيلي (1999) في كتابه "سيكلوجية علاقة السلطة" إن السيكلوجية عامل يمكنه تغذية الأيديولوجيات والمشاعر الراديكالية. وأخيرًا ، تظهر تجربة ميلجرام أن الوسائل القمعية في التعليم، والأسرة، والمجتمع والسياسة، تشجع الشعور بالاغتراب الاجتماعيي والثورات العنيفة كذلك تساهم في التمرد و عدم الانضباط، و تغذي صانعي السياسة بالشعور بالذنب. 

من الضروري أيضًا، فهم العلاقة الهرمية و المجموعة التي تتمحور حول السلطة الاعلي واهدافها. عندما يريد المتظاهرون الاستيلاء على السلطة، يتعهدون بدعم المطالب السياسية والنقابية والاجتماعية. وهو أيضاً صراع جديد يسعى إلى علاقة جديدة من سلطة وقادة جدد وأتباعهم، وذلك لاعادة تنظيم مفاهيم جديدة وسيكلوجية اجتماعية حديثة وقيادة مركزية عادلة. 

التعليقات