صور: مخيم الفارعة يودع معمرا عن عمر ناهز 100 عام

صور: مخيم الفارعة يودع معمرا عن عمر ناهز 100 عام
مخيم الفارعة يودع معمرا عن عمر ناهز 100 عام
رام الله - دنيا الوطن
عبد الباسط خلف 

ودع مخيم الفارعة المعمر محمد كايد إبراهيم سرحان، الذي غيبه الموت الأربعاء، عن عمر  تجاوز مئة عام، فيما ظل حنينه مشتعلًا لمسقط رأسه في الكفرين جنوب شرق حيفا، حتى أنفاسه الأخيرة.

وخصصت وزارة الإعلام في محافظة طوباس والأغوار الشمالية حلقتها (69) من سلسلة (ذاكرة لا تصدأ) بالتعاون مع  اللجنة الشعبية للخدمات لسيرة الراحل، الذي وثقتها قبل رحيله.

وظل سرحان محتفظًا ببطاقة هوية برتقالية، تؤكد أنه ولد عام 1917 أو سنة وعد بلفور اللئيم كما أسماه، فيما قال أولاده وأحفاده إنها تقديرات عشوائية، فوالدهم وجدهم تجاوز القرن منذ زمن، إذ أبصر النور كما قالت وثيقة عثروا عليها عام 1911. واللافت أن البطاقة، تفيد أنه ولد فيإسرائيل المُقامة عقب نكبة 1948!

وسرد الراحل: أنا أكبر من الإنجليزي بلفور، الذي سرق بلادناوأرضنا وأعطاها لليهود. ويوم خرجت من بلدنا كان عندي 5 أولاد أطول مني، ولو أبني راشدعايش كان اليوم عمره 91 سنة. وعملت في أراضي والدي، وأذكر حقول: أم اليتامي، وأمالعبران، ووادي العرايس، والطويل، وعين الكفرين، والحواكير، والمرشقة، وتلةالزعترة، وأم القرامي، وطريق العرب الذي كان يربط بلدنا بمرج ابن عامر ويافا،والبيادر، وبئر خميس، ووادي البزاري، وعين البلد، ووادي العرائس، ووادي الحنانة.

ثورة وكفرين

وقال قبل أشهر من وفاته: كنت شاباًقبل أن نخرج من الكفرين، وسمعنا عن 17 مقاتلاً صمدوا في جبال أم الفحم، أيامالثورة، لكن الدواسيس (العملاء) أوشوا بهم، وضربتهم الطائرات بالنار، واستشهدوا. ثمجاء الإنجليز بجثثهم إلى ساحة البلدة، بعد جرها بالخيول.

سمع سرحان برجال الثورة: يوسف أبودرة، ويوسف الحمران، والشيخ عطية، ومصطفى الأسمر، وأبو جلدة، والشيخ عز الدين القسّام.وكان يمضي معظم وقته في الحقول. ولا تسقط من ذاكرته هجمات الجيش البريطاني علىالكفرين، فقد كانوا يختارون وقت الظهيرة لاقتحامها، ويجبرون الأهالي على التجمع فيساحة البيادر، ويحضرون المختار، ويجلس قائدهم وراء طاولة، ثم يبدأ باختيار الشبانالذين سينكلون بهم، وينهبون القمح، ويخلطون كل ما يجدونه في البيوت معاً.

وقصّ: كان الإنجليز يضربون الناسبالعصي والأيدي على الوجه، ويربطون الثوار بالجنازير بعد استشهادهم، ويجرونهم إلىبلدانهم، ومن يعثروا عنده على "فتشتشه" (رصاصة)، أو بارودة يحكمون عليهبالإعدام، واستخدموا كثيراً الخيول للوصول إلى بلدنا.

سلاح وقشّ

مما ظل سرحان يردده، نجاح أحد شبان قريتهفترة طويلة في تهريب الأسلحة للثوار، فيومها كان يضع القش على دابته، ويخفي الرصاصوالسلاح  بينه، إلى أن أمسك به الإنجليزي،وأعدموه أمام الأهالي.

وقص: في إحدى المرات تجمع الثوار فيبلدنا ومعهم عشرات الخيول، واقتحم الإنجليز الكفرين، فهربوا وأخفينا السروج فيخوابي القمح، وآبار المياه، وحين سألونا عن سبب وجود هذا العدد من الخيول، قلنالهم إننا نحرث ونزرع ونستعمل الخيول دائمًا، وبعد انسحابهم عاد الثوار لخيولهم.

من القصص التي سردها الراوي، الذيضعُف سمعه وزادت أوجاعه قبل الممات، اختباء ثلاثة ثوار داخل شجرة عُليّق، فحينها احتموا طوال النهار بقلب الشجرة، التيتجري المياه من تحتها، ولم يفلح الجنود في الوصول إليهم.

وقال: رعيت الأغنام في سن مبكرة،  بعد أن خرجت من المدرسة نهاية الصف الثالثالابتدائي. وشاهدت الشيّالين ( استعملوا الجمال في نقل البضائع)، وكانت بلدنا قليلةالزيتون، وكثيرة القمح والعدس والسمسم والكرسنة والخضروات، وأرضها سهلية. وحينكانت تثلج الدنيا كنا نتخيل أن الجبال ستقع علينا، وكان المطر وفيراً، ولم نرالشمس في المربعانية إلا في المناسبات.

وصمدت في ذاكرة الراوي أسماء عائلاتقريته التي اشتهرت بمزارعها ومواشيها، فعدد بعضها: سرحان، والغول، وخليفة،والعسوس، ونعجة، وعبد الجواد، والحاج يوسف، وأبو لبّادة، وأبو سرّيس، أما مختارالبلد فأديب أبو نجمة، الذي كان من حيفا، و أمام المسجد الشيخ عبد الله الأحمد،ونعيم دروزة مدير المدرسة ومعلمها الوحيد، أما النجار فاسمه جبر.

بحر وحجارة

ووفق شهادة الراحل، كان التنقل إلىحيفا بالباص، والأجرة 4 قروش في الذهاب والعودة، والصعود من وادي الجعارة، وكان يزورأخواله وجده برفقة أمه يسرى في حيفا، وشاهده القطار، والبحر، ولا ينسى كيف كانت وكانتأمواج البحر تضرب مركز البوليس (الشرطة). وراجت في الكفرين مهنة نقل القشوالبضائع  والحجارة على الجمال، واكتسبتبعض عائلاتها الاسم من هذه المهنة. وتستقر في ذاكرته ما كان يسمعه من توجه المرضىمن بلدته إلى حيفا، ودفع أجور المدرسين بالبيض أو القمح  أو الكرّسنة.

تنقل سرحان بين أم الفحم وعانينواستقر به المقام في مخيم الفارعة، وسبق أن تعرض لحادث عمل أصاب يده من قلعالحجارة وتكسيرها، فأضطر لعلاج نفسه بنفسه بطريقة شعبية، وظل أثر الحادث على جلدهحتى وفاته.

ووفق السارد، فإن أكثر الأمراض التيتسري اليوم هي العمى والصمم؛ لهول ما شاهدوه وسمعوه من أخبار مؤلمة، وحسرتهم علىبلادهم.

تزوج سرحان مرتين: علياء قبل النكبة،وجميلة بعد سقوط البلاد، وأنجب 6 أبناء و7 بنات، ولديه نحو 250 من الأحفاد وأحفادالأحفاد. وولده البكر اقترب من التسعين، وابنته الكبرى شمسة في الثمانين (لهاأحفاد الأحفاد أيضا).

وقال:  تزوجت وأنا ابن 20 سنة، وكان مهر العروس 50جنيهًا، وبعضهن 70، وكنا نشتري دونم الأرض بجنيهين، وشاهدت جارنا محمود أبو نهية،الذي سرق اليهود 200 رأس غنم منه،  فماتحسرة عليها.

فيما أشار رائد جعايصة، المنحدر منالقرية ذاتها أن الراحل سرحان ظل بذاكرة جيدة حتى أيامه الأخيرة، رغم تجاوزه القرن،وبقي يردد طوال حياته شوقه لمسقط رأسه، وقص مراراً لأحفاده سيرة الكفرين الجميلة.  وقد خسر اليوم مخيمنا أحدأعمدته الصلبة، والشاهد الأكبر على وجعنا وجرحنا المفتوح، فقد كان بحق العميد.