اللامعقول ما بين المسرح والتحليل السياسي

اللامعقول ما بين المسرح والتحليل السياسي
اللامعقول ما بين المسرح والتحليل السياسي

بقلم د. وليد القططي

المعقول اسم يدل على الشيء المنطقي الذي يقبله العقل ويمكن تصوُّره أو إدراكه وتصديقه، واللامعقول ما لا يقبله العقل ولا يصدّقه، ويشير إلى السلوك غير المنطقي المنفصل عن الواقع، والمتعارض مع أُسس التفكير السليم. واللامعقول تيار ظهر في الفلسفة والفن والأدب بعد الحرب العالمية الثانية، في النصف الثاني من القرن العشرين الغابر، كتعبير عن مأزق الإنسان في عالم غير منسجم، وتجسيد لحالة الاغتراب والعجز والعبثية في الحياة الإنسانية، وترميز لشيوع اللامعيارية واللامعنى واللاجدوى في الوجود البشري، وهي حالة توجد بعد الحروب والكوارث التي تضرب المجتمعات، لاسيما بعد حربين عالميتين طاحنتين حصدتا في أتونهما ملايين البشر، وفي هذا السياق ظهر مسرح اللامعقول ليعبّر عن هذه الحالة من غياب المعنى والجدوى والمضمون والهدف من الكدح الآدمي، من خلال حِبكة غير منطقية، وأحداث غير متسلسلة، ودراما تمتزج فيها الملهاة بالمأساة. والإضافة الفلسطينية بعد مسرح اللامعقول، هو التحليل السياسي اللامعقول. 

وإذا كانت الأشياء تُعرف بضدها، فلابد من معرفة التحليل السياسي المعقول قبل التطرق للتحليل السياسي اللامعقول، فالتحليل السياسي هو "الفهم الدقيق لمسار الأحداث، وإدراك دوافعها، والإجابة عن سؤال ماذا حدث ولماذا حدث، من خلال سبر أغوار الحدث تاريخياً وراهناً...". ووفق هذا التعريف يتضمن التحليل السياسي أكثر من عملية عقلية أهمها: فهم وإدراك لما يحدث (ماذا حدث؟)، ومعرفة الأسباب والدوافع لما حدث (لماذا حدث؟)، والمسارات المحتملة للأحداث في المستقبل (ماذا سيحدث؟)؛ ليستفيد منها الجمهور العام وأصحاب القرار السياسي. والتحليل السياسي المعقول يحتاج لشخص لديه خبرة وبصيرة، وخلفية نظرية وعملية، وعقلية منظمة ومنطقية، تستطيع أن تجمع المعلومات الصحيحة من مصادرها الموثوقة، ثم قراءة الحدث السياسي من أكثر من زاوية نظر، ورؤيتها من أكثر من عدسة تصوير، ويعيد ربطها بإطار نظري، أو منظومة فكرية، أو نسق منهجي، يُفسّر به الحدث تفسيراً منطقياً للخروج بتحليل سياسي عقلاني، يبدأ بطرح مقدمات من الواقع للوصول إلى نتائج منطقية. 

والتحليل السياسي اللامعقول يُبنى على معلومات خاطئة، جُمعت من مصادر غير موثوقة أو مُضللة، فعندما تكون المُدخلات مُغلوطة، تكون المُخرجات مُغلوطة بالتأكيد، سواء في تشخيص الحدث السياسي وتفكيكه، أو في رسم السيناريوهات السياسية المُتوّقعة والمُحتملة لمساراته. والنوع الأسوأ من التحليل السياسي اللامعقول يُبنى على معلومات صحيحة، وبيانات موّثقة، ومُدخلات صائبة، ولكنه ينتهي بمخرجات بعيدة عن المنطق، وتفتقر إلى العقلانية، وخاوية من الحِبكة، سواء في تشخيص الحدث السياسي، وتوصيف الظاهرة السياسية، أو في تحديد مسارات الحدث ومآلاته المتوقعة. ومصدر هذا الخطأ في التحليل السياسي هو الموقف المسبق للمُحلل السياسي، المستمد من خلفيته الفكرية، ورؤيته السياسية، وانتمائه الحزبي، ومصلحته الخاصة... وهذا الخطأ قريب مما يُعرف بـ (أوهام الكهف) والتي توقع العقل في الزلل حسب وجهة نظر الفيلسوف الانجليزي (فرنسيس بيكون)، والتي تعني أن كل إنسان يسجن نفسه في كهف خاص به، ناتج عن ثقافته وبيئته وارتباطاته... يشوّه رؤيته للعالم الخارجي وتفسيره للأحداث، وأكثر التحليل السياسي اللامعقول عندنا يُدخل ضمن هذا الإطار. فيبدأ بطرح المقدمات من الواقع للوصول إلى نتائج غير منطقية ومُخرجات لامعقولة، فيخرج بتحليل سياسي يعجز أمهر كاتب كوميديا عن رسمه. 

ومن النماذج العملية للتحليل السياسي اللامعقول في النسخة الفلسطينية سلسلة من التحليلات القديمة والحديثة، ظهر بعضها بعد التصعيد العسكري الأخير بين المقاومة والاحتلال، مضمونها أن التصعيد العسكري الأخير يدخل في إطار الحرب التمثيلية لتحريك وتمرير تسوية سياسية، لم تستطع الأطراف المتصارعة تمريرها بالمفاوضات، وهذه الرؤية تنسجم مع الإطار النظري لأصحابها، المبني على فرضية أن كل ما يحدث في غزة ابتداءً من الانسحاب الإسرائيلي من غزة- جيشاً ومستوطنين- وانتهاء بوقف إطلاق النار الأخير، مروراً بالانقسام والحروب والحصار وبمسيرات العودة وما رافقها بمفاوضات التهدئة وكسر الحصار، جميعه مُجرّد تمثيلية أو مؤامرة أبطالها (إسرائيل) وحماس، من أجل تمرير خطة انفصال غزة، تمهيداً لتطبيق صفقة القرن، وتصفية القضية الفلسطينية، في رؤية تحليلية غير منطقية تُلغي دور الفعل الوطني المقاوم لصالح نظرية المؤامرة. 

هذه الرؤية تلوي عنق الأحداث، وتُخرجها من سياقها الطبيعي والمنطقي، كصراعٍ بين المقاومة والاحتلال، في إطار حرب التحرير الشعبية، وفي سياق النضال الوطني الفلسطيني، فيضعه في إطار مشبوه وسياق ضال، كي يأتي التحليلُ  منسجماً مع خلفيته الفكرية، ورؤيته السياسية، وانتمائه الحزبي، وربما مصلحته الخاصة... فالمقاومة المسلحة البعيدة عن مشروع المنظمة السلمي عبثية ولا يمكن أن تحقق إنجازات، وإذا حققت بعض الانجازات، يتم وضعها في إطار أجندة حزبية أو مؤامرات سياسية ضد المصلحة الوطنية العُليا التي لا يعرّفها إلاّ السيد الرئيس ونخبته الحاكمة المُلهمة، ومن تبعهم وتمسّح بهم من جوقة الردّاحين والردّاحات، المرتدين لقناع المُحللين والمُحللات، الأحياء منهم والأموات، من الذين كذبوا ما عاهدوا الشعب عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا طريق النفاق والخداع تبديلا. 

التعليقات