المثقف القلق

المثقف القلق
نبض الحياة 

المثقف القلق 

عمر حلمي الغول 

دعيت يوم الأربعاء الماضي الموافق 3 أكتوبر الحالي (2018) من قبل الجامعة العربية الأميركية لحضور توقيع كتاب الدكتور خالد الحروب، وأتيح لي حضور تقديم الكاتب والكتاب من قبل الدكتور ابراهيم أبو هشهش، وإستمعت لمداخلة الحروب حول كتابه، ولم يتح لي حضور النقاش والجزء الأخير من الفعالية. 

بطبيعة الحال تركز الحديث حول المثقف وإشكالياته من حيث التعريف لماهيته، وإختلاف المدرستان الألمانية والأنكلو ساكسونية بين المثقف التجريبي والمثقف العضوي، وتوقف نسبيا عند الخط الغرامشي ومدرسته الواقعية، التي سيطرت لفترة من الزمن، فترة المد الماركسي في العالم. وخلص إلى ان المدرسة الجديدة، تقوم على تكرس دور المثقف الناقد المشحون بدائرة القلق. 

وهنا حسبما أعتقد، فإن مخرجات الحروب إعتمدت على المدارس الغربية، حيث تبنى السائد المفاهيمي في مدارسها. ولم يحاول إعمال العقل لمحاججة مفهوم المثقف القلق. لإن المنطق العلمي يفترض أن كل مثقف بغض النظر عن هويته القومية أو الأممية أو الدينية، هو مثقف قلق، ولا تستقيم الثقافة الإبداعية بغير القلق، والتخندق في خنادق السؤال للبحث والإجابة عن أسئلة التحدي المطروحة في هذة المرحلة أو تلك، وفي هذا المجتمع أو ذاك. 

كما أن إعتماد التعريف الرائج حاليا من وجهة نظر الكاتب، بإعتبار المثقف، هو المثقف الناقد، فيه ايضا قصور. لإن المثقف وبغض النظر عن مدرسته، هو مثقف ناقد، كونه يدافع عن منطلقاته المعرفية الوضعية أو الدينية، ويحاجج الآخر متسلحا بالنقد. وبالتالي المثقف من وجهة نظري، هو المثقف المنتج للمعرفة، هو المثقف العضوي المتفاعل مع سيرورة وصيرورة تطور المجتمع، الذي يعيش بين ظهرانيه والمجتمع البشري بشكل عام، وهو القادر على حمل هموم وقضايا المجتمع بالإتجاه النهضوي. ومع ذلك لا أغبن دور المثقف الآخر، لإنه بالمعنى التجريدي للكلمة، هو مثقف أي كانت مدرسته  وخلفيته الفكرية أو العقائدية. وبالتالي إنحيازي للمثقف التنويري، لإنه خياري ومدرستي، غير انه لا يمنحني الحق في إنكار دور ومكانة المثقف النقيض.    

وعلى صعيد آخر، وحسب قراءة الكاتب فإن المثقف العربي جاء في ذيل القائمة العالمية (وإن لم يقلها تماما بالنص، غير ان النتيجة التي خلص لها، هي كذلك) من حيث المكانة والكفاءة على تمثل الدور، وإعتبر الحروب أن المثقف العربي برز دوره الفعلي نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن الماضي بعد الإستقلال السياسي للأنظمة العربية، ثم قسم المثقفين إلى أقسام: مثقف السلطة، والمثقف الآخر،  حيث وزع المثقفين على المدارس الفكرية والعقائدية المنتشرة في العالم العربي، فمنهم الليبرالي والقومي والديمقراطي والديني وما بينهم. وهنا إبتعد مؤلف كتاب "المثقف القلق" موضوعيا عن محاكاة الواقع لإنصاف المثقف العربي. لإن حضور المثقف العربي في الحقب التاريخية المختلفة، كان موجودا، وإن تمايزت مرحلة وحقبة عن أخرى إرتباطا بشروطها الذاتية والموضوعية.

وهو بذلك حسبما أعتقد أنه (الحروب ) جانب الصواب عندما غيب دور مثقفي عصر النهضة العربية، مع انه إستحضر أسماء بعضهم مثل شبلي شميل، وبطرس البستاني والأفغاني والطهطاوي والبستاني .. إلخ من الرواد الأوائل في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. الذين لعبوا دورا مهما في تطور الثقافة عموما والمثقف العربي، وسعوا ضمن إمكانياتهم وشروط الواقع المعاش في زمانهم للدفاع عن اللغة العربية، والدعوة للصحوة القومية العربية، ورفض نظام الإستبداد، ولعل من أهم ما أنتج آنذاك كان كتاب عبد الرحمن الكواكبي "طبائع الإستبداد وأوضاع الإستعباد"، والدعوة للحرية والتآخي، ونشر المعرفة من خلال إصدار الصحف والمجلات والمطابع ودور النشر وإنشاء المسرح (ابو خليل القباني)، بالإضافة لتبنيهم شعارات الثورة الفرنسية: الخبز والحرية ..  

ومع ذلك ليس ما تقدم ما أردت تبيانه، انما شئت أن أؤكد على ان تعريف المثقف صحيح مازال ملتبسا وغامضا وفضفاضا، غير أني أود الإشارة إلى ان المثقف العربي، هو نتاج شروط تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في المجتمعات العربية، التي عاشها ويعيشها، ولم يكن يوما سابحا في الفضاء، مع انه حاول ان يحاكي الثقافة الغربية، وسعى لعمل مقاربة بينها وبين الواقع، غير انه فشل لسببين، الأول الإسقاط الرغبوي على الواقع، الثاني عدم نضوج وقدرة المجتمع على إستيعاب وتلقي المطروح، بالإضافة لحائل موضوعي تمثل بتسيد ثقافة ومثقف النظام القائم.

 وموضوعيا هناك التعقيدات المختلفة والظلال الثقيلة للإستعمار بمراحله المختلفة، وأنظمة الإستبداد المتعددة، رغم إفتراض العديد منها، بانها أنظمة "تقدمية" بالمعايير النسبية، وهي كذلك بمعايير ما كانت تعيشه الشعوب العربية زمن السيطرة الإستعمارية  الكلية، أو في ظلال الأنظمة الإتوقراطية، رغم إرتدادها نحو الإنغلاق والتوقع في نطاق الفكرة القطرية، وغرقها في براثن الإستبداد. فضلا عن عدم تمكن المدارس والقوى الفكرية والسياسية العلمانية والديمقراطية عموما من المحافظة على نقاء هويتها ودورها الريادي، وإنغماسها في تبسيط عملية الخلط بين دورها التنويري والعلاقة مع مؤسسات النظام السلطوي هنا أو هناك في المشهد العربي مما ساهم في بناء نسق مشوه للمثقف العربي، وضاعف من تراجع دوره. وما أن جاءت لحظة صعود التيار الديني في الساحات العربية والإقليم مع إزاحة الخميني لحكم الشاة، والسيطرة على مقاليد الأمور في إيران في 1979، حتى تقلص حضور المثقف التنويري بشكل كبير. لكنه مازال يقاوم، ويحاول إيجاد مكانا له تحت الشمس العربية والعالمية، ولا يمكن إعتباره في ذيل الحركة الثقافية العالمية، لإنه يسعى لإثبات ذاته بالقدر المتاح في شرط معقد.

والنتيجة التي اخلص اليها، ان المثقف العربي بقي اسير واقعه المتخلف، غير انه لم يستسلم، ولم ينكفىء، بل يحاول الإستفادة من المساحات المتاحة لتكريس دوره التنويري بالقدر المستطاع. وهو لا يختلف كثيرا عن مثقفي العالم الثالث، مع الإدراك المسبق للتباين بين مثقفي الدول والشعوب إرتباطا بخصائص وسمات كل شعب ومجتمع ونظام سياسي.

بالتأكيد كتاب الدكتور خالد الحروب يشكل إسهاما إيجابيا في إثارة النقاش في أوساط المثقفين الفلسطينيين خصوصا والعرب عموما. وللموضوع بقية من حوار في هذا الشأن.

[email protected]

[email protected]      

التعليقات