"ذاكرة لاتصدأ" لوزارة الإعلام واللجنة الشعبية

رام الله - دنيا الوطن
استعاد الثمانيني محمد صالح العرجا، فصولًا قاسية من حصار الفالوجة عام 1948،  ووصف بلدته خلال الحلقة (65) من سلسلة ذاكرة لا تصدأ"التي تنظمها وزارة الإعلام في محافظة طوباس والأغوار الشمالية واللجنة الشعبية للخدمات في مخيم الفارعة، وجاءت ضمن إحياء السنوية (70) للنكبة بالتعاون مع هيئة التوجيه السياسي والوطني. كما  استرد لحظات نكبتها، وذكرياتها مع الجيشالمصري ودفاعه عنها.

واستهل:كان عدد سكان بلدتنا خمسة آلاف، وفيها بلدية، ومدارس ثانوية وابتدائية للبنات، وأربعكتاتيب، ومركز صحي، ومحكمة، ومسلخ للحوم. وكانت متطورة، وتعيش على الزراعة، ثم تحولتإلى التجارة.

سوقالبرين

وأضاف:تقع بلدتنا شمال غزة وغرب الخليل، وأقامت فيها عائلات: السعافين، وعقيلان، والنجار،والنشاش، والمطرية، والبراجنة، ولا زلت أنذكر مناطقها، كالشومرة، والخصاص، وأم النعاج،والرسوم، وخربة الشلف، ودار كركية، وأبو الغربان، ومليطة، والقبال. وفي كل يوم خميسكان ينعقد سوق البرين، وفيه يتوافد الناس من البلدات والمدن المجاورة للمتاجرة بالسلعالمختلفة، كالقماش واللحوم والذهب والخضار. وكنا نشاهد مواسم وادي النمل، والمنطار،أسدود، والنبي روبين، والرملة، التي كانت مثل العرس، وتعقد في شهر أيار، وفيها سباقاتخيول على البحر، ودبكة، وأناشيد دينية للفرق الصوفية، وبيع، وشراء.

كانالعرجا يشاهد الناس والتجار في سوق البرين، وكان يلعب بالفخاخ، ويصطاد العصافير منالحقول. ولا زال يتذكر يوم اجتمع الأهالي، وقرروا قبل النكبة إرسال الشيخ محمد عواد،رئيس البلدية إلى مصر لشراء السلاح، بعد أن جمعوا المال، وقرروا تدريب 360 من الشبانعلى استخدامه.

وتابع:في إحدى أيام نيسان، كنا نلعب في المزارع، عندما أوقفتنا سيارة عسكرية للجيش المصري،فسألني الضابط( يا جدع وين المستعمرة)، فأشارت له إلى مكانها، وصعد إلى خزان المياهفي البلدة، وحمل منظاره، ثم نزل، وبعد أيام قليلة بدأ الجيش يدخل البلدة، وطلب من الناسأن يفحتوا ( يحفروا) خندقاً حولها، وظلوا يقومون بهذا العمل لشهر، حتى انهوا".

فداءمصري

اختلطالعرجا بالجنود المصريين، وكان يبيت بينهم في منزل أسرته، وتعرف على الأسلحة، وشاهدمدفع (أبو الستة رطل)، وراح يجر صناديق الرصاص معهم، وتعرف إلى الضابط القبطي وحيد،وشحاتة من المنصورة، وسعيد القادم من السويس، واحتك بالضباط صلاح سالم، وجمال عبدالناصر، الذي أصبح رئيسًا فيما بعد.

وأضاف:عشنا تحت الحصار والقصف ستة أشهر، وكانت البلد كلها ساحة معركة، وصد الجيش المصري العصاباتالصهيونية مرات كثيرة، وشاهدت بعيني الشهداء والجرحى والطائرات، وكان يظن الجنود المصريونأن الطائرات الإسرائيلية التي تقصفهم هي مصرية.

ومضى العرجا: هجرنا من البلد أنا وأمي وعمتي وأخواني، وظل أبي مع الجيش المصري، وروحنا علىالدوايمة. وعدت إلى الفالوجة لمساعدة عمتي فاطمة البعم، التي قالوا لها إن زوجها استشهد،فما أن دخلنا البلد، إلا وإصابتها قذيفة، وشاهدت كيف قسمت جسدها إلى نصفين، واحترقشعر رأسها، وجاء زوجها الذي تبحث عنه ليدفنها بنفسه.

وواصلالراوي متنقلاً بين الدوايمة، ووصل دورا ثم مدينة الخليل، فأريحا، ثم سوريا، فالأردن،وانتهى به الحال في أريحا، حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية واعتقل لفترة، ثم أستقر فيمخيم الفارعة، بانتظار العودة التي نفذها بعد النكسة عدة مرات، فكان يفتش خلالها عنبيته، والمسجد حيث تلقى دروسه، وضريح وليها.

تصوّفوكاز

وممانسجته رواية  العرجا عن بلدته: كنا نستقبل شهر رمضان بتجهيزات خاصة، بعد أننعرف ثبوته من علماء الأزهر بمصر، وكانت تنشط لدينا الزوايا الصوفية الأربع، ونستمعإلى دق الطبول والموالد الرمضانية، وتميزت بلدته بأن رجالها كانوا يحافظون يوميا طوالالشهر الفضيل، على تقليد اسمه 'الخروج'، فيحمل كل واحد منهم طبقا من الطعام، ويجتمعونفي مجالس الحارات، ويأكلون معا، وكانت البلدية تنير الشوارع بفوانيس الكاز من بعد العصروحتى أن ينفذ ما فيها من وقود.

ووالى:كان لكل حارة مسحراتي خاص بها، وكنا نسمع إلى خليل الراعي، وهو يقرع الطبل ويوقظ الناسمن نومهم، ولا ننسى 'المفتول' الأكلة الشعبية في رمضان، والمنسف دون أرز، أما الحلوياتفأشهرها المطبق، وكان تجار غزة يحضرون لأسواقنا النمورة.

وزاد:سقطت بلدنا بعد صمود طويل، وأذكر أن ذلك كان في رمضان، وكنت صائما، وأغمي علي من العطش،فأدخلني والدي إلى المقهى، وأسقاني العصير، وأتذكر وجود الجيش المصري في بلدنا، وكيفكان الجو في رمضان معهم. ولا أنسى كيف أن الحصّادين هربوا من السهل القريب إلى داخلالبلد، وهم يحملون المناجل من جيش الاحتلال.

ومنالقصص التي لا ينساها، كيف غمر ثلج عام 1950 خيام المخيم، وحين انفجرت من وسط بيت أسرتهعين ماء، أجبروا على النوم فوقها، بعد وضع الأشواك والحطب، ولا يسقط من ذاكراته حينأورقت أوتاد الخيام التي أحضرتها وكالة الغوث لتقوية بيوت المخيم أمام الرياح، ثم أزهرتوأثمرت!

نجمةوصبح!

وسرد أحمد عبدالله دغمان (82) مقاطع رأسه الكفرين القريب من حيفا: احتفظ بخريطة بلدتي التي أعدهالي رجا مصطفى صالح، وحتى اليوم لم أنس أسماء أراضيها الشعبية، كالحواكير،والمرشقة، وتلة الزعترة، وأم القرامي، وطريق العرب، والبيادر، وبئر خميس، وواديالبزاري، وعين البلد، ووادي العرائس، ووادي الحنانة، وجبل بيت راس.

وقال: عاشت في الكفرين،التي تعني بالتسمية القديمة (نجمة الصبح): عائلات: سرحان، والغول، وخليفة،والعسوس، ونعجة، وعبد الجواد، والحاج يوسف، وأبو لبّادة، وأبو سرّيس، أما مختارالبلد فكان أديب أبو نجمة، من حيفا، بينما كان أمام المسجد الشيخ عبد الله الأحمد،ونعيم دروزة مدير المدرسة ومعلمها الوحيد.

وبحسب الراوي،فقد اشتهرت قريته بالزراعة، وبخاصة  الحبوب والحنطة والذرة البيضاءوالملوخية، ولكنها تميزت بالفجل الذي كان يتضخم كثيراً ويتجاوز  وزنه 2 كيلوغرام، ويذهب إلى أسواق حيفا.

وتابع انتشرتفي الكفرين الجمال، التي كانت تستخدم لنقل البضائع، فيما كانت معظم الطرق ترابية. واستذكر حكاية رمضان في قريتي، فقد كان الأهالييتبرعون لقراءة المولد والمدائح النبوية الرمضانية، وكنا نخشع حين نستمع إليها،وكان المولد ينتقل في كل ليلة من بيت إلى آخر، ويدعو من يقع عليه الاختيار الجيرانوالأقارب والأهالي.

مسحراتي وفدائي

 وأردف: أتذكر أمي وقريباتي ونساء بلدنا حين كن يصنعن على الرحى (الطاحون المنزلي) البرغل خلال نهار رمضان، ويجهزنالشعيرية من الطحين في البيوت. ولا أنسى كيف كان الرجال والنساء يجمعونالخضروات من أراضي سهل الروحة قبل الإفطار، ثم يجتمعون قبيل الغروب في مجموعاتلتناول الطعام مع بعضهم البعض.

ووفقدغمان، فقد حرص المسحراتي الشيخ عبد الله على إيقاظ الناس، وكان يجوب الحارات،ويصلي بالناس التراويح، وكان الصبية يذهبون في رمضان إلى مقام (الولي) الشيخمجاهد. أما النساء فيتوجهن لعيون الكفرين: البيادر، والبلد، وحمد، وصلاح، واديالبزاري، والحنانة، وغيرها؛ لجلب الماء البارد قبل الإفطار.

وأضاف: قبل أننُجبر على ترك الكفرين، منعنا والدي من أخذ أي أغراض، وقال لنا( سنعود بعدي يومينعلى الأكثر)،  ورحل معظم الناس إلى أم الفحم، وانتقلنا منها نحن إلى سيلةالحارثية ورمانة، وبعضنا إلى جنزور ( قرب  مثلث الشهداء)، ثم إلى مخيم نورشمس فالفارعة عام 1957.

مما لا يسقط منذاكرة دغمان حكاية الشاب  محمد العسوس، الطويل والجهم، والمشهوربـ(السفياني)، الذي راهن جنود جيش الإنقاذ الذين كانوا يدافعون عن القرية، قبلالانسحاب، أن يحضر لهم المجندة التي كانت تطلق النار من فوق جبل بيت راس، فما أنكاد أن يصل لها، إلا وظنه جندي آخر  منالعصابات الصهيوينة، فأطلق عليه النار، ليتدحرج من فوق الجبل، إلى قاع الوادي مثلالكرة، وأكلت البلد التراب حزناً عليه.

وعرضإبراهيم الشاويش، الذي ولد في قنير قضاء حيفا عام 1945 قصة مؤلمة لقريته، فقد عملفي الخضار والفاكهة بالداخل المحتل عام 1970، ووصل  قنير، من غير أن يعرفها، وحين طلب زميله سائق الشاحنةأن يتفحص العنب الأجود، اختار البضاعة المشتراة من قريته، فبكى لحظة إخباره بأنالعنب الأجود قادم من قنير، ونقل القصة لوالده فاكتوى بالحزن.