سعة وضيق الأفق

سعة وضيق الأفق
نبض الحياة

سعة وضيق الأفق

عمر حلمي الغول 

تضيق وتتسع رؤية القوى والنخب السياسية بقدر قربها أو بعدها عن صناعة القرار. فكلما إقتربت من مركز البناء الفوقي، كلما إتسعت دائرة إلمامها بشبكة ومنظومة العلاقات الداخلية ومفرداتها وتلاوينها المرئية وغير المرئية للعامة، وبذات القدر تتسع معرفتها السياسية والديبلوماسية في العلاقة مع القوى والدول في المحيط القومي والإقليمي والدولي، وتتضح لديها الصورة بشكل بانورامي، مما يهذب من خطابها السياسي، ويساعدها في تبني الشعارات الواقعية والقابلة للتطبيق، ويوسع مداركها، ويزيد من حكمتها، إلآ إذا كان لديها خلل بنيوي في الوعي والإدراك السياسي، أو أنها أسيرة معتقدات جامدة وشوفينية، مما يجعلها أسيرة إسقاطاتها الرغبوية. والعكس صحيح. بمعنى أن إبتعاد القوى عن صناعة القرار يضيق حدود المعرفة، ويزيد من عملية تسطيح قراءتها للمشهد، مما يدفعها للجوء إلى الآتي: اولا رفع الصوت عاليا، من خلال رفع الشعارات الأقصوية؛ ثانيا الإغتراب عن الواقع؛ ثالثا عدم الربط الواقعي بين الإستراتيجي والتكتيكي؛ رابعا السقوط في دوامة الحسابات الذاتية الضيقة، وتغليب "الأنا" على ال"نحن".  

وحتى الأيديولوجيا والمعتقدات يتم تهذيبها، والتخفيف من غلوائها في مركز القرار. ولا يبقى منها في الحكم سوى الشعار والخطاب السياسي العام لحماية مصلحة النظام السياسي القائم. لا سيما وأن شبكة العلاقات بمستوياتها الداخلية والخارجية أعقد، وأكثر تشبيكا مما يبدو على مسرح المشهد العام، وهو ما يملي على صانع القرار هنا أو هناك التدقيق كثيرا في إشتقاق القرار السياسي والشعار السياسي. لأن الجنوح نحو التطير، والإنشداد للموقف العقائدي أو الأيديولوجي الضيق ينتج مواقف فيها رعونة وشطط، ويكون حصادها على المستويين الوطني والقومي والحزبي الضيق سلبيا، ولا تحقق المراد منها. 

وهناك فرق كبير في صناعة السياسة بين المستويين الذاتي (الداخلي) والموضوعي (الخارجي)، حيث يلجأ صناع القرار في الداخل إلى الإقتراب من المزاج الشعبي العام في زمن الإنتخابات البرلمانية حماية لمواقعهم في الشارع، ولقطع الطريق على المعارضة. غير ان الخطاب الموجه للشعب لا يلزم صانع القرار للإمتثال له في العلاقات الإقليمية والدولية، لإن إشتراطاتها تحتم التعامل مع موازين القوى، التي تحد بهذا القدر أو ذاك من سطوة الإيديولوجيا والمعتقدات، كون لغة المصالح تتغلب هنا، حتى لو كان الممسك بزمام الأمور متطيرا، ويفتقد للخبرة والدراية السياسية، لإن القوى العميقة في الدولة تلجم وتحد من التهور والمغالاة.

غير ان قوى المعارضة تبقى أسيرة مواقفها الأقصوية، ليس بسبب غيابها عن القراءة الدقيقة للواقع، أو إفتقادها الإلمام بمركبات العملية السياسية، إنما يعود ذلك لإكثر من سبب: أولا حرصها على التشبث بخلفياتها الإيديولوجية والعقائدية؛ ثانيا عدم مراعاتها لموازين القوى في الإقليم والعالم، أو لتجاهلها عن قصدية هذا العامل لإحراج وإرباك صانع القرار؛ ثالثا إصرارها على وضع الحكم دائما في دائرة الإتهام والقصور السياسي، والإبتعاد عن مصالح الشعب؛ رابعا محاولة كسب الشارع باللجوء للشعارات الأقصوية المتطرفة غير الواقعية

إذا سعة وضيق الأفق السياسي محكوم بمدى قدرة هذة القوة أو تلك على قراءة المشهد السياسي والإقتصادي والأمنية بكل مستوياته، وليس فقط بما يحاكي مزاج الشعب هنا أو هناك. وهو ما يعطي الأفضلية لصانع القرار في محاكاة الواقع أكثر من المعارضة بحكم المعطيات المتوفرة لديه من مؤسسات الدولة. فضلا عن أن صانع القرار الحكيم، يمكنه الإستفادة من المعارضة في ترويج وتعميم قراره في المستويين الإقليمي والدولي لتحقيق أهدافه السياسية، التي هي أهداف الشعب في لحظة سياسية معينة.

 وهو ما يملي على صانع القرار عدم الإنجرار إلى مزالق المزاج العام دائما، الذي هو بحاجة إلى تشذيب عبر لفت الإنتباه لمضار الركض وراء العواطف، والتركيز على الوقائع لتحقيق الأهداف والمصالح العليا في زمن معين.

[email protected]

[email protected]      

التعليقات