نموت جميعاً ويحيا الوطن

نموت جميعاً ويحيا الوطن
نموت جميعا ويحيا الوطن

عبد الرازق أحمد الشاعر

حين تدق طبول الحرب، تنتفخ أوداج القادة وترتفع عقائرهم، فتلهب مشاعر الجماهير الكادحة، وينسى المعذبون في الأرض قسمات جلاديهم وتفاصيل احتجازهم في وطن عاشوا على هامشه من الميلاد وحتى الشهادة. وفي غمرة الإعداد للغياب ينسى الشعراء قصائدهم وملامح أطفالهم، ويستبدلون الخوذات بالأقلام والدفاتر، ويقفون على صعيد واحد كمخلب وحش لم يولد إلا للقنص أو الموت ليحيا الوطن. 

هذا بالضبط ما حدث مع صاحبنا الشاعر ولفريد أوين الذي دافع عن السلام بما أوتي من شعر، ثم ارتد على عقبيه ليدافع عن ويلز في حرب هي الأكثر دموية في تاريخ العالم بسلاح أعور لا يفرق بين الشجرة والطفل، ولا بين الحجر والجمجمة. "فرق بين الكلمة والرصاصة،" هكذا أدرك المأسوف على وعيه بعد أن ذهب معصوب الإرادة إلى خندق حفره رفاق لا يعرفهم، بأوامر قادة لا يتحدثون لغته. 

وعند خطوط التماس، اختلطت الدماء بألوان الرايات الكثيرة التي أحاطت رأسه المتعبة. وحاول جاهدا أن يبرر وقوفه بين أشلاء رفاق السلاح وفتات خبز يابس لم يتسن لهم أن يأكلوه، لكنه عجز عن تبرير قتل جند اقتيدوا إلى الحرب دون خيار منهم كمثله تماما. وحسن انتقل إلى المشفى، ليعالج من آثار الشظايا التي خلفها انفجار هائل رج الأرض تحت قدميه، حاول الرجل من تحت شراشف الأسرة البيضاء أن يخلد صدمته، وعجزه عن إيقاف هذا العبث الكوني بمصائر المدن وسكانها. 

"نموت ويحيا الوطن،" هكذا ردد الرجل في سريته بعد أن عوفي من آثار الحرب، وعاد إلى الصفوف الأول. هو شاعر برتبة رائد، لكنه لا يملك الحق في ساحة الوغى أن يتساءل. هي فرضية غبية جعلت موت المحبين ضريبة لبقاء المحبوب، ثم تحولت إلى مسلمة نكدة لا يناقشها أو يتمرد عليها أحد حتى الثوار من الشعراء من أمثال أوين.  فأي محبوب هذا الذي لا يحيا إلا بنزيف لا ينقطع من دماء محبيه؟ وأي حياة تلك التي يصبو إليها وطن بلا محبين. 

لكن الحرب الضروس التي خلفت أكثر من 16 مليون قتيلا وأكثر من 20 مليون مصابا لم تمهل أوين ليطرح أسئلته الكبيرة على مائدة مفاوضات الساسة الذين أشعلوا فتيل اليأس في كل النفوس. ومات الشاعر قبل أن تخرج قصائده اليائسة للنور، ليلاقي مصير المتنبي الذي ملأ الدنيا شعرا، وأفرط في تقدير ذاته حتى أتت اللحظة الفارقة وفر ذليلا أمام حفنة من الهواة الذين لا يجيدون القتال. وعندها ناداه خادمه: "كيف تهرب يا مولاي، وأنت القائل:

الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم؟"

فما كان من رب الشعر والكذب إلا أن قال لعبده: "قتلتني يا عبد السوء." ثم عاد فقاتل فقُتل.

لماذا يموت الشعراء من أجل قرارات غبية يصدرها حكام أغبياء، يتخذون قرار الحرب، ثم يتوارون خلف الشاشات لإحصاء بيانات القتلى وذوي العاهات من جنودهم البواسل؟ ولماذا يفقد العالم طهره ونقاءه من أجل حفنة من الدجالين وأصحاب التدين الزائف، وأصحاب الفرق والطوائف؟ لماذا يموت المحبون ويحيا المنتفعون والراقصون في كل الموالد؟ أسئلة ربما لم يكتبها ولفريد أوين، لكن المؤكد أن أحدا من الساسة لن يجيب عنها حتى يهلك المحبون جميعا كالجراد في أتون أوطان لن تعرف طعم الحياة أبدا.

[email protected]

التعليقات