حياكة الوطنية بخيوط الهوية النفعية

حياكة الوطنية بخيوط الهوية النفعية
بقلم د. محمود عبد المجيد عساف

عندما فكرت في كتابة هذا المقال، ذهبت في التفكير نحو كثير من التناقضات الحاصلة في المجتمع، حاولت من خلالها الوصول إلى صورة واضحة من العلاقة بين النسيج الاجتماعي ومفهوم النسق السياسي المتعارف عليه، بين ما نقول وما نفعل لكني فشلت.

حاولت أن أصل إلى نقطة مشتركة بين ما هو كائن، وما يجب أن يكون لكن التناقضات العجيبة كانت بالمرصاد، وشعرت للحظة أني سأكتب خارج المألوف، وأيقنت أنه على الرغم من تنامي وعي الشعب وتعلمه القواعد الكثيرة حول مضمون العلاقات، إلا تناقضه المستمر عبر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي واكتسابه الخبرات المريرة والحزينة، والقامعة للحريات أدى إلى تجميد الإبداع والمبادرات الطموحة، إلى الحد الذي وصلت فيه الأمور إلى تحويل الطاقات إلى خدمة الاستبداد بصوره المتعددة، وإلى اعتياد تصرفات وأقوال ومبادئ ننتقدها ونفعلها في نفس الوقت. 

فبدلاً من البحث عن الهوية الوطنية، والحق في اتخاذ القرارات المصيرية ذهبنا إلى الانخراط في حركات اجتماعية لنعزز نفوذنا ونعوض نقصنا، ومارسنا الديمقراطية في غير موضعها أو أسقطنا التعسف على بيوتنا ومدارسنا، وربطنا علاقاتنا بحجم الفائدة المرجوة منها، لنعزز هويتنا الشخصية أو ما سأصطلح عليه هنا بالهوية النفعية .

الهوية النفعية التي تحقق للفرد المنفعة الشخصية على حساب أي شيء آخر، وتدفع باتجاه تميزه (سلباً-إيجاباً) عن غيره بحجة أن الوضع العام يستلزم البحث عن المصلحة، وفي نفس الوقت ، تجد صاحب هذه الهوية يتذمر من الحال العام .

نعي جميعاً، ونهمش وعينا بأن غاية كل حياة مدنية، سياسية، اجتماعية هو التوصل شيئاً فشيئاً إلى الخير العام، والخير العام يختلف كلياً عن أهداف أصحاب الهوية النفعية، وعن المصالح الفردية، ويتعالى عليها، ولو أدرك أصحاب هذه الهوية أن هدف الخير العام يندرج في سياق تأمين المنفعة الشخصية لكل فرد لدفعوا في اتجاهه، لكنهم استعجلوا الحصاد ودخلوا بوابة الأنانية وساهموا في الإجحاف بحقوق الأفراد، وأسسوا لعدم الاستقرار المجتمعي.

قد نقبل العذر من أفواه البعض لاعتباراتهم الخاصة كحال العوز والفقر وتحقيق الذات، لكن من الصعب قبول التناقضات، وما أكثرها في هذا المجتمع الذي أصبحت ملامحه هلامية غير واضحة، وأصبح يعتبر أن بعض الواجبات وجه آخر من الحقوق (يسقط تدهور الوضع العام على الالتزام في أشياء دون أشياء) فيظهر الفقر عند أداء الحق العام في حين ينفق ما لا يجب إنفاقه على أمور كمالية، رغم أن هذا لا ينفي المسؤولية عن أصحاب القرار في تدهور الوضع العام، وتفسخ النسيج الاجتماعي والقيمي .

ولعل هذا الموضوع لا يشمل الأشخاص فحسب، بل ينسحب على كثير من المؤسسات الريادية ( التي تدعي الخيرية، والوطنية)، والتي أوجدها المجتمع لتحقيق الصالح العام وليس لاستغلال طاقات الشباب  في ظل انتشار ظاهرة البطالة تحت مسميات تبدو للكثير أنها خيرية .

كل هذا وأكثر، وما خفي كان أعظم ما هو إلا خلل في مفهوم الدولة المدنية والمواطنة، وتراجع في أدوار الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، التي وجدت لتراقب احترام الإنسان وصون كرامته وتبلور مفهوم المواطنة وتخرجه من إطاره النظري إلى حقيقة سياسية ومجتمعية راسخة .

وهنا أتراجع في التفكير، فإن كانت التربية على المواطنة هي السبيل الوحيد لتحقيق شمولية المفهوم، ومصدر الحد من التناقضات بين الحقوق والواجبات، والتي تعمل على تخلص الأفراد من المنظومة النفعية، فإن الواقع التعليمي لا يوحي بأنه قادر على ذلك في ظل نمطية العمل التربوي، وشعور المعلم بالقهر الوظيفي وتهميش الكفاءات وتقريب الولاءات، وما اصطلح عليه بـ ( الثقات)، وتراجع مستوى الانتماء الوطني الناتج عن ضيق الحال، والتجاوزات الحقوقية.

ولأني أؤمن دائماً بأن الفقير أو المقصر إنما هو في الحقيقة مقصر أو مجبر على التقصير من خلال منظومة الممارسات المجتمعية و الحكومية، التي أدت إلى وصوله إلى هذا الحال، فإني أرى أن انتشار حالات الذات التي لم تتعرف بعد على حقيقتها، وتتوقع على نفسها نتيجة غياب المساواة وفحص الضمير، أنها الوطن الذي سوره أصحاب المصالح الضيقة بحياكة الوطنية الميتة .

التعليقات