تعاسة القوة النابعة من ضعف الكراهية

تعاسة القوة النابعة من ضعف الكراهية
 د. محمود عبد المجيد عساف

سحبت نفساً عميقاً عندما فكرت في كتابة هذا المقال، ليس ضعفاً في نفسي أو ضعفاً في قدرتي على التعبير، ولكن خشية من أن أكون ضحية للنفس البشرية المتقلبة التي لا تقبل الانكسار وتستعيد الذكريات من حين للآخر .

فما بين نقيضين، اختفاء وظهور، اضمحلال وتوهج تمضي أيام العمر، بين الاحباطات والهموم، والآمال والنجاحات تستعاد أشرطة الذكريات، ورغم قسوة الاعتراف يظل بهذا المزيج المتناقض اعترافاً لا يقر به سوى الأسوياء الذين بلغوا من القوة والصدق والجرأة مبلغاً كبيراً، ويجعلهم قادرين على أن يعلنوا أنهم بشراً وليسوا ملائكة، وبشر تجتمع فيهم الأضداد والتناقضات، يسحبون أحكامهم غالباً بسلاسل قلوبهم.

لطالما شعرنا بالسعادة بقرب أحدهم، وشعرنا بالتيه إن غاب بلا مبرر أو سبب مقنع، أعطينا بلا حدود ولم نتوقع الردود، لكني لست أبالغ إن قلت أن أجمل أيام العمر تلك التي تعيش فيها الضعف وليد قوة الحب، وإن أتعس أيام العمر وأشقاها أيام نعيش فيها القوة النابعة من ضعف الكراهية .

إن قوله تعالى: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) لم يكن وصية ربانية في الزواج والطلاق فحسب، بل هي ضابط للعلاقات بين الأشخاص أو مع الأشياء، فالشق الأول إجادة المعاملة، ولو تم الفراق وجب الشق الثاني وهو الإحسان دون استخدام الأسلحة للحفاظ على المظهر وتشويه صورة الطرف الآخر، وإقناع الذات أو الغير أنه على حق، وأنه بريء من الذنب .

فالعلاقة بمسماها في اللغة هي ارتباط قوي بين طرفين قبلا مزج السعادة أو  مشاركة الحزن، هي علاقة تفاعل تزيد جمال الوجود، فالبدايات والنهايات وجميع الأحداث لا تسير وفق هوانا، لأننا لا نملك أن نحددها أو نسيرها، بل غالباً هي التي تحددنا وترسم لنا الطريق، وإن حصل وكان الفراق وجب (أدب ما بعد الفراق) فلا تحاول أن تصفي حسابات أو تثأر من طرف أعطيته قلبك لأن تصفية الحسابات عملة رخيصة، والثأر ليس من أخلاق الصادقين .

وقد يردد أحد القراء في سره، أنه ظلم من الطرف الآخر، وأن الطرف الآخر يستحق أكثر مما فعل، وهنا أرد قبل السؤال: ليس منا من هو معصوم من الخطأ، ولكن تبقى البدايات آسرة لقلوبنا والنهايات مسورة بأخلاقنا، وتبقى الخلافات كاشفة لمعادنا،  وأخلاق (الغضب، الفراق، الإحساس بالسبب) مرهونة بصدق المشاعر فالصادق في إحساسه أبيض الفكرة خجول العشرة يتألم بصمت ويفارق بشجاعة دون تسفيه .

وللحديث أكثر منطقية، رسالة للحياديين في ظاهرهم، المتعاطفين مع أحد الأطراف وفي باطنهم،  الذين إذا رأوا شخصاً حزيناً نتيجة لفراق أو غدر أو انتهاء علاقة غير مبرر، يتقمصون حالة الحزن في أدمغتهم، ويشعرون بما يشعر به الآخر ليتمكنوا من التعاطف معه، وهذا ما قد يشوه فهم المشاعر لأنهم نظروا إليها من وجهة نظر (كيف كانوا سيشعرون لو كانوا مكانه؟) وهذه أنانية التعاطف، حيث إنهم اعتمدوا على مشاعرهم الخاصة كمرجع للتعاطف دون بذل الجهد  في تخيل ردة الفعل العاطفية تجاه ألم الآخرين.

كم من الأحيان تتقاذفنا أمواج  الحياة، وكم من المرات يطفو اللاوعي على الوعي ليجدد  الحياة، ليخرجنا من دائرة السلوك الدافع لإنهاء علاقات كان فيها الوفاء أكثر من الحب، وعليه   فإن التعاطف لا يوحي بالضرورة الخير، بل إنه يجعل تعذيب الآخرين أكثر إيلاماً سواء كان تعاطفاً ذهنياً أو سطحياً، ففهم مشاعر الآخرين من حيث الفعل وردة الفعل هو التآلف والنضج العاطفي الذي ينظر إلى العلاقات كصفقات قابلة للربح أو الخسارة .

التعليقات