تكامل أشكال النضال

تكامل أشكال النضال
نبض الحياة 

تكامل أشكال النضال

عمر حلمي الغول 

شابت الضبابية والإلتباس رؤية وقراءة قيادات وفصائل العمل الوطني، والنخب السياسية العلاقة الجدلية بين أشكال النضال المختلفة. حتى أن بعض الفصائل أكدت في برامجها السياسية، ان شكل النضال "الوحيد"، هو الكفاح المسلح. ولم تحاول تلك القوى قراءة العلاقة التبادلية والطردية بين كل أشكال النضال، والتمييز بينها في مراحل النضال المختلفة، وصعود شكل على حساب شكل في لحظة سياسية معينة، دون ان تسقط او تلغي دور ومكانة ذلك الشكل الكفاحي. وهذا ناجم عن قصور في الوعي السياسي، وإسقاط مجاني من حيث تدري أو لا تدري لإشكال نضال ذات أهمية إستراتيجية في الكفاح التحرري لمطلق شعب من شعوب الأرض، وليس للشعب العربي الفلسطيني فقط، وتعميم تشوه معرفي في وعي الشارع الفلسطيني تجاه أشكال النضال الأخرى، وبالمقابل فسحت المجال أمام أعداء الشعب لإستغلال فقر الحال السياسي والكفاحي ضد الشعب ومشروعه التحرري ... إلخ 

من المؤكد حدث تطور في اوساط القوى السياسية خلال العقود الخمسة الماضية. غير ان هذا التحول الإيجابي، مازال يعاني من تسيد المفاهيم العرجاء، والمتخلفة عندما يتم الحديث عن أشكال وأساليب المقاومة، حيث يتمظهر في الوعي الجمعي الفلسطيني أن المقاومة " لا تكون مقاومة، إلآ إذا إقترنت بالكفاح المسلح." وحين تذكر أشكال الكفاح الأخرى، مثل النضال السياسي والديبلوماسي والشعبي السلمي أو الثقافي والأكاديمي التربوي، والفني والإعلامي والصحي والإقتصادي والمالي والرياضي نجد المواطن بشكل عام ينظر لتلك الأشكال ب"إستصغار" و"دونية"، وكأنها ليست ذات شأن، وهو ما يشير إلى تجذر الإعتقاد في اللاوعي الفلسطيني، أن مواجهة دولة الإستعمار الإسرائيلية لا يتم إلآ عبر شكل واحد، هو شكل الكفاح المسلح، وهذا خطأ فادح. 

ولا يوجد فلسطيني يمكنه الإنتقاص من شكل المقاومة المسلحة، لإنه الشكل الأرقى بين أشكال النضال. ولكن لم يكن النضال المسلح معزولا عن اشكال النضال الأخرى. لإنها جميعا كانت تصب في خدمة أهداف الثورة والشعب. فكان المقاتل يخوض العمليات العسكرية ضد قوات العدو الإسرائيلي، وفي ذات الوقت يتلازم كفاحه مع النضال السياسي والديبلوماسي والثقافي والعلمي والإعلامي .. إلخ. ولولا التكامل مع أشكال النضال الأخرى لما نجح الكفاح السياسي للشعب الفلسطيني. وعلى سبيل المثال لا الحصر نضال المدرسين الفلسطينيين في مشارق ومغارب الأرض العربية وغيرها من دول العالم، كان يشكل إسهاما إيجابيا في دعم كفاح الثورة، لإنه من خلال تبرعهم بنسبة 5% من راتبهم الشهري، بالإضافة للفعاليات السياسية والتربوية والإجتماعية والثقافية الفنية، التي كانوا يقيمونها في بلاد الشتات، كانوا يسهمون في توطيد العلاقة مع الشعوب الشقيقة والصديقة، ويعززون صورة النضال الوطني. وبالتالي ليس من اللائق، ولا المنطقي الإنتقاص من هذا الشكل النضالي أو ذاك مهما كان صغيرا. لإنه ايضا ليس مطلوبا من كل الشعب ان يكون في مواقع القتال، وإلآ فإن دورة الحياة ستنتفي.

إذا لا يمكن الإعتماد على شكل من اشكال النضال لوحده في أي مرحلة من مراحل الكفاح التحرري،  مهما كانت مكانة وأهمية هذا الشكل او ذاك. أضف لذلك وبالتجربة العيانية الفلسطينية لا يمكن إعتماد شكل من أشكال النضال، شكلا رئيسيا طيلة زمن الكفاح التحرري. لإن شروط النضال من مرحلة لإخرى تتغير، ويتغير معها شكل النضال الرئيس وفقا لمتطلبات هذة المرحلة أو تلك.   مع إنطلاق شرارة الثورة الفلسطينية المعاصرة في منتصف ستينيات القرن الماضي وحتى إشتعال شرارة الإنتفاضة الكبرى 1987/ 1993 كان الكفاح المسلح، هو شكل النضال الرئيسي. ولكن بعد الإنتفاضة الأولى إحتل شكل الكفاح الشعبي السلمي المكانة الرئيسية. ورغم ذلك لا هذا الشكل أسقط الأشكال الأخرى، ولا ذاك ألغاها، ولا القيادات السياسية أدارت الظهر لها.          

ورغم هذا التطور الجلي، بقي الوعي الجمعي الوطني يحصر أشكال الكفاح في شكل بعينه، وخاصة المقاومة المسلحة، ومهمشا أشكال الكفاح الأخرى، وهذا يعود لعدة أسباب: أولا لإن أشكال الكفاح الأخرى لا تعطي مردودا مباشرا على العدو الإسرائيلي؛ ثانيا لإنها لم تدفع الأهداف الوطنية قدما للأمام، ومردودها بطيء؛ ثالثا كون العدو يوقع في صفوف الشعب الفلسطيني الخسائر الفادحة دون ان يتكبد خسائر مماثلة أو مقاربة؛ رابعا لعدم الإدراك في اوساط الشعب أن طبيعة العدو الإستعماري الإسرائيلي مختلفة عن اشكال الإستعمار الأخرى، فهو شكل إجلائي وإقتلاعي وإحلالي في آن، أي شكل معقد من اشكال الإستعمار. لذا الكفاح اي كان شكله (مع الفارق بين شكل وآخر) لا يعطي المردود الوطني بالسرعة المرادة، أضف إلى ان شكل الكفاح المسلح يعطي مردودا سريعا في رفع معنويات الشعب، والعكس صحيح في أوساط دولة الإستعمار الإسرائيلية. لهذا ترسخ في الوعي الجمعي الفلسطيني، ان الكفاح الأهم، هو الكفاح المسلح. مع أن التجربة أكدت أن النضال الشعبي السلمي والسياسي والديبلوماسي والثقافي والعلمي .. إلخ لعبت دورا مهما وأساسيا في تعرية دولة الإستعمار الإسرائيلية، وحققت نتائج هامة لرفع مكانة النضال الوطني في الميادين والمنابر العربية والإقليمية والدولية، وأعطت زخما نوعيا للنضال التحرري الفلسطيني. وعليه يخطىء اي فلسطيني إن إنتقص من مكانة هذا الشكل أو ذاك. كل أشكال النضال واجبة وضرورية لبلوغ الأهداف الوطنية، ولكن يفترض التمييز بين مرحلة وأخرى وشكل النضال الأساس، الذي تتطلبه دفاعا عن الحقوق والمصالح الوطنية العليا، وايضا القراءة الجيدة لطبيعة الإستعمار، الذي نواجهه، والتدقيق في شبكة تحالفاته الدولية وفي الإقليم حتى يكون التقييم لإشكال النضال علميا وناضجا، وليس عاطفيا وسطحيا.

[email protected]

[email protected]      

التعليقات