صفعة القرن العقائدية وانبعاث الرايخ الثالث

صفعة القرن العقائدية وانبعاث الرايخ الثالث
د.عبير عبد الرحمن ثابت

خلال سنوات الصراع السبعين حاول العديد من الأطراف حصر الصراع فى جانبه السياسى، وقد كانت الشرعية الدولية المتمثلة فى الأمم المتحدة رائدة فى هذا المجال؛ عبر قرارات عديدة أصدرتها فى محاولة يائسة على ما يبدو لحصرالصراع الفلسطينى الاسرائيلى فى جانبه السياسى، ولكنه طبقا للرواية الصهيونية هو صراع قومى عقائدى بامتياز. ومع تطورات الصراع وحسم إسرائيل للصراع عسكرياً، وحيث أن القوى العسكرية هى المحرك الرئيسى الأول والأخير للسياسة، فأصبحت الإدارة السياسية للصراع وفقا لذلك تدار طبقا للمفاهيم الاسرائيلية، والتى هى فى الأساس مفاهيم عقائدية توراتية، وإن كانت تدار بمفاهيم علمانية حديثة، وعليه فإننا اليوم نرى أن الصراع تحول شئنا أم أبينا إلى صراع عقائدى يلعب فيه الجانب السياسى دوراً أقل من أن يكون هامشياً . 

ونحن اليوم أمام حقيقة ماثلة؛ وإن تهربنا منها، وهى أن الصراع عاد إلى طبيعته الأصلية كصراع عقائدى، حتى وإن أنكرت أو تهربت بعض الأطراف من تلك الحقيقة كالاتحاد الأوروبى مثلاً؛ سعياً لتخفيف حدة الصراع إلا أن الحقيقة الماثلة والتى تؤكدها إسرائيل يوماً بعد يوم بإجراءاتها على الأرض؛ أن الصراع عقائدى دينى قومى، وأى حلول مقترحة يمكن أن تقبل بها إسرائيل لن تكون خارج محددات الحل العقائدى المتناسب مع وجهة النظر الاسرائيلية اليهودية التوراتية، وصفقة القرن اليوم تصب فى ذلك التوجه، وهى لن تعدو كونها حلا عقائديا للصراع بعيداً عن أى محددات سياسية، كتلك التى رسمت حدودها الأمم المتحدة والشرعية الدولية بسلسلة قرارات متتالية، وجاء اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بأن القدس عاصمة إسرائيل استناداً على الرواية التوراتية اليهودية للصراع، والذى يفتقد إلى أى مصوغ سياسى أو قانونى؛ وإن كان هذا الاعتراف هو مقدمة لما يعرف بصفقة القرن( صفعة القرن)، فعلينا أن نتوقع الأسوء فى باقى قضايا الحل النهائى، والتى هى أقل حساسية من قضية المدينة المقدسة .

إن الولايات المتحدة الأمريكية بإدارتها العقائدية الإنجيلية وإسرائيل بحكومتها اليمينية المتطرفة؛ تصران على نهاية الصراع بنهاية عقائدية، وهو ما يفتح الباب أمام براكين من اللهب فى المنطقة بأسرها التى بها العديد من الثقافات التى ترتبط بهذا الصراع ارتباطا عقائديا وثيقاً؛ خاصة فيما يخص مدينة القدس، والتى هى مدينة مقدسة لكل سكان المنطقة بمختلف مشاربهم العقائدية، ولديها روايتها العقائدية الخاصة المشابهة عن نهاية الصراع، وترتبط بنصوص دينية ثابتة فى العقائد الثلاث، وهو ما يعنى أن حل الصراع بصورة عقائدية يعنى ببساطة أننا أمام مستقبل مشتعل بنيران اللهب العقائدى الذى لن تطفئه أى حلول سياسية، وهو ما يعنى أن نهاية الصراع بصورته العقائدية لن يكون إلا بفناء أحد الأطراف، وأننا أمام صراع وجودى،  فإما أن نكون نحن أو يكونوا هم، وبهذه الرؤية العقائدية لا مكان للتعايش أو للحلول الوسط . 

إن حل الصراع الفلسطينى الاسرائيلى عبر صفقة القرن الإنجيلية التوراتية لن يقبله أحد، لأنه ببساطة تجسيد  لهيمنة التطرف العقائدى اليهودى، والذى لا محال سوف يستحث تطرف عقائدي إسلامى ومسيحى أرثوذكسى  أيضاً، ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية الإنجيلية قد وضعت فى حساباتها هذا الأمر، عندما استبقت صفقة القرن بالدعوة إلى تحالف إسلامى لمكافحة الإرهاب والتطرف الاسلامى، وكانت ذروته قمة الرياض التى  حاضر فيها الرئيس الأمريكى دونلد ترامب أمام ممثلى خمسين دولة اسلامية، ووضع خلالها الخطوط العريضة لمكافحة ما عرفه بالتطرف والإرهاب الإسلامى، لكن الحقيقة التى تغافل السيد ترامب وغض عنها الطرف كل المدعوين؛ أن هذا التطرف والارهاب الاسلامى الذى دعا لمحاربته هو من إنتاج السى أى ايه والبنتاجون، وتم استخدامه باكراً لإضعاف الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان، لكنه كان يسمى فى حينه الجهاد الأكبر، وكان عناصره يسموا مقاتلى الحرية فى أفغانستان ضمن تحالف أمريكى عربى اسلامى، جندت خلاله أجهزة المخابرات لجلب المقاتلين المسلمين المتحمسين إلى أفغانسيتان، وهو ما تكرر لاحقاً فى العراق وليبيا وسوريا، ضمن نفس السياسة الأمريكية المتكررة للتخلص من المتحمسين العقائديين. عبر حرقهم ذاتيا فى صراعات داخل العالم الاسلامى، نظراً لأن هذه الفئة تحديداً هى بروتونات نواة أى ردة فعل طبيعية على التطرف  العقائدى اليهودى فى فلسطين التاريخية، والتطرف الانجيلى المتأصل فى الولايات المتحدة، والذى يتحكم فى مؤسسات صنع القرار هناك .

العالم اليوم مدعو إلى تدارك الكارثة قبل فوات الأوان، ووضع حد للتطرف الانجيلى الأمريكى، واليهودى الاسرائيلى الصهيونى الذى وصل ذروته باعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لاسرائيل،  لأننا اليوم أمام انبعاث فعلى للرايخ الثالث من واشنطن بمفاهيم عقائدية ، والعالم اليوم أمام رِدة حضارية إنسانية ستتجسد بصفعة القرن التى ستلطم وجه العالم الحر المتحضر، والتى لن تنحصر آثارها فى الإقليم أو المنطقة، بل إن تداعياتها ستطال كل المحيط الإقليمى وستمتد إلى العالم بأسره .

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية 

[email protected]

التعليقات