الانتفاضة «الكانونية» الكبرى والحراك ضد قرار ترامب

الانتفاضة «الكانونية» الكبرى والحراك ضد قرار ترامب
ريما كتانة نزال


كنت أنوي الكتابة عن ذكرى مرور ثلاثين عاماً على الانتفاضة الأولى، مقارنة بين دور المرأة آنذاك ودورها في الانتفاضة الثانية، التعريج على دورهن في انتفاضة الشباب والأسرى والقدس. مرور موضوعي وآمن على تقاطعاتها، مزايا وخصائص ودلالات كل مرحلة منها، لجهة علاقتها بالقوى النسائية المحرِّكة، أدواتها وخطابها ومحركاتها، فحص أصالة فكر الانتفاضة في الحركة النسائية الفلسطينية.

أتى توقيع الرئيس الخامس والاربعين للولايات المتحدة الأميركية على قرار نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة قالباً المشهد رأساً على عقب. أقدم الرئيس «ترامب على توقيع قرار متخذ منذ عام 1995؛ أحجم جميع رؤساء الولايات المتحدة عن توقيعه.. التوقيع المشؤوم شكَّل فرصة أمام امتحان الإرادة، قلَبَ ورقة مهترئة من الرزنامة الفلسطينية، مغادرة رتابة الأيام المتعاكسة مع الانقضاض الاسرائيلي، أن تكرّ السُبْحة الفلسطينية نحو مساحات وخيارات، تفرض الأسئلة غير المُجاب عليها حضوراً ضاغطاً، لجهة التقييم والتقدير.

لا يختلف «كانون الأول» عن غيره من أشهر العام الميلادي، إلّا بنكهته الخاصة. شُهرة وسمعة نضالية تخصه عن باقي الأشهر، فجميع الأشهر تعبُر على إيقاع المناسبات الوطنية. لكنّ الشهر الأخير من العام يتمتع بمزايا خاصة، بوصول الصراع مع المشروع الاحتلالي قمة التناقض والاحتدام: أطلق مخزون القهر الفلسطيني، توحيد الكلّ الفلسطيني، الحصول على انتفاضة شعبية شاملة؛ فالكل الفلسطيني في بنك الأهداف الاسرائيلي. النسيج الاجتماعي المتماسك، الالتفاف الشعبي حولها، مرجعية واحدة وهدف واحد، لا شظايا أو شروخ وانقسامات. وفي السِمات «الكانونية» الأخرى؛ شَهِدَ الشهر انطلاق حركات وأحزاب وطنية فاعلة.  

أتت الانتفاضة الشعبية الكبرى للقضية ببعض الثمار، طابعها الديمقراطي العميق كانتفاضة مثّلَت الجميع، مشاركة مختلف الأعمار والقطاعات والشرائح، إيصالها رسائل إعلامية ناجحة للعالم عن القضية وأصحابها، وضوح العلاقة بين الاحتلال والشعب، تنفي النديّة والتكافؤ والتوازن عن الصراع، والأهم تشكيل قيادة وطنية موحدة في الأوان المناسب؛ تقود المجتمع بأبسط الأدوات، الخطاب والآليات، دون بلاغة فائضة أو مغامرات هوائية، على قاعدة برنامج يعَبِّر عن الطموح الجمعي الشعبي، علاوة على استناده إلى الشرعية الدولية، وحدة الأداة والهدف.

رُب ضارة نافعة، الأسئلة الصعبة على مصراعيها. هل نحن على أبواب محطة جديدة. انتفاضة أو هبة أو حراك جديد، ملامحها وسماتها. حرَّكَ القرار سيِّئ الصيت والسمعة السواكن بما يشكّل فرصة، فرصة أمام مغادرة الانتظار والرهان للأبد على الموقف الأميركي، حيث ظهر عارياً ومنعزلاً منفرداً في اجتماع مجلس الأمن.

فرصة أمام التوجه دون مراوغة أو شروط «المسكوب» نحو الوحدة الوطنية دون الغرق بتفاصيل الطبقة السياسية ومصالحها. فرصة لمواجهة محاولات تصفية القضية موحدين. ولكن: شهد الشهر الماضي اجتماعا للمصالحة في القاهرة، كان اجتماعاً مهماً بنظر الشعب، فجأة ودون مسوِّغات مقبولة يصنف الاجتماع نفسه في خانة الاجتماعات المخيبة للآمال، أعاد الجميع إلى موقع الصفر وتقاذف الاتهامات. البيان الصادر عنه ليس بياناً، والروحية السائدة غادرت روحها الجمعية الحية. هابط السقف والمعنويات، مأزوم فئوي تتحكم به اعتبارات السيطرة.

فرصة أمام الشباب والشابات لتثبيت ما قاموا بتكريسه في الهبّات والحراكات المتتالية، الامساك بمشروعهم النضالي ودورهم القيادي الوطني في الشارع، مقدمة لاندماجهم في الأطر التي تصنع القرار وضخ الدماء الشابة في الأطر القيادية. فالفراغ قائم في الساحة إلا من أشكال ذات طبيعة موسمية ومتقطعة، وعليه امتلأ في الحراكات السابقة بحراكات شبابية شبه مستقلة عن الأحزاب، ملأت بعض الفراغ، ليس كله، تحتاج إلى تنظيم والى امتلاك المشروع المتكامل الواضح. السؤال برسم إجابة الأطر الطلابية والشبابية، المنظمة والمستقلة.

الروزنامة الفلسطينية متقلبة. لنعترف بأننا نجهل حالنا، يصعب التنبؤ بالشكل الذي سيكون عليه غَدُنا. نتفاجأ بحالنا وتقلباتنا، نكون في قمة اليأس والاحباط، مرة واحدة تتدفق الجموع من خلف الحواجز، ننتقل من حال إلى حال آخر. نحن نصنع الحدث لكنه يصعب علينا التنبؤ به، نحن نفاجئ أنفسنا بأنفسنا. لكن في كل الأحوال، دفع احتدام الصراع مع الاحتلال الشعب نحو الاشتباك لدى تجاوز الاحتلال جميع الخطوط والحدود. هكذا يُعيد الفلسطيني قضيته إلى الأولوية بعد أن وضعتها الأجندة العربية في الخلف، وتفتيتها من قبل الاحتلال بالجدران والمستوطنات والضم والقطع.

ما يهمني قوله اليوم، أن المشهد الحالي مفعمٌ بالحماس، باذخ بالتضحية واستعداد عالٍ لتقديم الصَعب، علاوة على امتلاك تجارب لها سِمات وميزات ودروس وعبر متراكمة، تؤكد على انفجار خزان الاحتمال والإذلال، أن الشعب ما زال يقول كلمة الفصل، بإمكانه وضع متلازمة الإحباط جانباً لدى المس بحدوده، وبأنه ناقمٌ على الحال.

إلى أين نذهب: لا يهمنا التسمية، هبة أم انتفاضة أم حراك شعبي. لكنه في جميع الأحوال لن يخرج عن النماذج النضالية التي قدمها الشعب على مدار ربع قرن مضى. انتفاضة الأقصى، إرث الهبَّات والحِراكات، هبة النفق والشباب، حِراك الانقسام والأسرى والقدس، جميعها نماذج صنعت تراثاً مهماً وتاريخاً عظيماً أكبر من مجرد أحداث، بعض هذه الحراكات أنجزت أهدافها وانتصرت. 

التعليقات