مركز مسارات يطلق تقرير حوار القاهرة واستحقاق التقدم نحو الوحدة الوطنية

رام الله - دنيا الوطن
أصدر مركز مسارات تقديرًا إستراتيجيًا بتاريخ 8 تشرين اﻷول/أكتوبر الماضي بعنوان "آفاق المصالحة الفلسطينية عشية حوار القاهرة"، الذي جرى بين حركتي فتح وحماس في تشرين الأول/أكتوبر، تناول العراقيل التي تقف أمام جهود إنهاء الانقسام، ومتطلبات تحول المصالحة إلى وحدة وطنية شاملة، والسيناريوهات المُحتملة لمسار المصالحة.

وخلص هذا التقدير الإستراتيجي إلى أن الصورة ليست وردية ولا تدعو للتفاؤل الشديد، كما أنها لا تدعو للتشاؤم المطبق. فهناك أسباب وظروف أدت إلى تحرك ملف المصالحة، وتجعل فرصة الاستمرار أفضل من سابقاتها، ولكن ذلك يستدعي رؤية الاحتمالات والسيناريوهات المختلفة، وما هو المفضل والجيد والسيئ والأسوأ والأكثر احتمالًا، ومتطلبات تحقق السيناريو المفضل للفلسطينيين، ودرء الأسوأ، وتقليل أضرار السيئ.

واليوم، عشية انطلاق جلسة الحوار الوطني الشامل في القاهرة يومي 21 و22 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، تبدو مثل هذه العملية أكثر أهمية في ضوء حجم العقبات التي تعترض الخطوة الأولى في مسار المصالحة، والمتعلقة بتمكين الحكومة، كما ظهر خلال الأسابيع القليلة الماضية، وضرورة وضع كافة الملفات على طاولة الحوار الوطني من أجل التوافق على حلول وآليات وجدول زمني للتنفيذ، بما يضمن عدم العودة مجددًا إلى نقطة الصفر.

سيناريوهات المصالحة والمستجدات

في التقدير الإستراتيجي السابق، عُرضت ثلاثة سيناريوهات محتملة لآفاق المصالحة، وقد طرأت تطورات خلال الأسابيع الستة الماضية باتت معها مواقف حركتي فتح وحماس، وعدد من الفصائل الأخرى، وكذلك الموقفان الأميركي والإسرائيلي، إضافة إلى مواقف إقليمية ودولية أخرى، أكثر وضوحًا من حيث مستوى تأثيرها على كل من هذه السيناريوهات، والفرص التي ينبغي للفلسطينيين عدم إهدارها لإنجاح الجهود الحالية. وهو ما يحاول هذا التقدير الإستراتيجي التركيز عليه بدءًا بإعادة عرض تحليل السيناريوهات الثلاثة كما يأتي:

السيناريو الأول: أن تكون المحاولة الراهنة لإنجاز المصالحة مثل سابقاتها، أي سرعان ما ستنهار. وهذا سيناريو مستبعد، لا سيما أن المستجدات المحلية والعربية والإقليمية والدولية لا تعزز فرص تحققه، حيث التقت الإرادة المحلية المتمثّلة باستعداد "حماس" للتخلي عن الحكومة في القطاع دون شروط، وموافقة الرئيس و"فتح" على عودة سيطرة السلطة على القطاع، مع الإرادة المصرية التي لا تريد انهيار القطاع وانفجاره، وتسعى لتنفيذ خطوات من شأنها تعزيز الأمن القومي، واستعادة الدور المصري في رعاية ملف المصالحة، وكذلك على صعيد ما يسمى "عملية السلام".

ويضاف إلى ذلك، المواقف الإسرائيلية والأميركية والدولية التي لا تريد أيضًا انهيار الأوضاع وانفجار القطاع، وتسعى لتوظيف مسار المصالحة وفق شروطها للتمهيد لإحياء المفاوضات والعملية السياسية، في سياق محاولات تمرير خطة أميركية جديدة يمكن أن تأخذ شكل حل انتقالي، أو نهائي، أو يجمع ما بين الاثنين، ولكنها تلتقي جميعًا في كونها لا تلبى الحد الأدنى من الحقوق والمصالح الفلسطينية.

السيناريو الثاني: أن يكون نصيب جهود المصالحة من النجاح أكبر من سابقاتها، بحيث تأخذ شكل استعادة قطاع غزة تحت مظلة السلطة، أو بعبارة أخرى امتداد السلطة كما هي وبالتزاماتها إلى القطاع. وهذا السيناريو محتمل، وهو يتحقق على الأرض، لكنه يختلف عن إنجاز مصالحة حقيقية، فهو أقرب إلى انتقال إلى حالة جديدة من مرحلة ما بعد الانقسام دون الوصول إلى تحقيق وحدة حقيقية قادرة على الاستمرار والصمود في مواجهة التحديات والمخاطر وتوظيف الفرص المتاحة.

ومع أن هذا السيناريو أفضل من الانقسام، وخصوصًا أنه بات يقترب من الانفصال، إلا أنه سيكون أقرب إلى عملية "مصالحة دون مصالحة"، وينذر بالانهيار عند حدوث خلاف واسع، أو مستجدات كبيرة في منطقة حبلى بالاحتقانات والصراعات والتغيرات العاصفة.

وفي سياق هذا السيناريو، يمكن وضع رفع حدة التراشق الإعلامي حول بعض القضايا، مثل تمكين الحكومة الحالية، وتشكيل حكومة جديدة، والأمن، والسلاح، والموظفين، والمنظمة، والتي لا تعكس تغييرًا جوهريًا في المواقف، وإنما محاولات لتحسين موقف كل طرف عشية حوار القاهرة، فليس من مصلحة أي طرف العودة إلى ما قبل حل اللجنة الإدارية، ومهما كبرت الخلافات يفترض أن تحرص مختلف الأطراف على إدارة التوافق مثلما تمكنت من إدارة الانقسام، خصوصا أن الخطر يتهدد الجميع باستثناء قلة من المستفيدين من استمرار الاحتلال والانقسام والحصار.

السيناريو الثالث: أن تكون المصالحة الجاري تحقيقها مقدمة لإنجاز وحدة وطنية شاملة، وهو سيناريو لن يتحقق إلا في إطار بلورة رؤية شاملة وتوفر إرادة فولاذية لتحمل الضغوط، ودفع الثمن المطلوب، ووضع خطة أو خطط عمل لتحقيق أهداف البرنامج الوطني الذي لا بد من إقراره في المجلس الوطني التوحيدي، بما في ذلك التوافق على البرنامج السياسي للسلطة/الدولة وآليات تنفيذه من خلال الحكومة كأداة تخدم التقدم على طريق تحقيق البرنامج الوطني لمنظمة التحرير. وقد برهنت التجربة الماضية أنه من دون الاتفاق على السياسة والمال والأمن والسلاح والمنظمة والسلطة/الدولة وأسس الشراكة، والاحتكام بعد ذلك إلى الشعب، لا يمكن أن تقوم وحدة وطنية حقيقية.

ومع أن هذا السيناريو هو الخيار المفضل للفلسطينيين، إلا أنه مستبعد حاليًا، لأن القوى التي ستحمله غير موجودة، أو على الأصح لا تزال ضعيفة، لكن قوته تنبع من كونه يقدم حلًا جذريًا إذا توفرت مقومات تحويله إلى خيار وطني وشعبي، ويعبر عن مصلحة وإرادة الأغلبية، لا سيما أنه ينطلق من التوافق على الأهداف والحقوق الوطنية والمصلحة العامة، لا من مصالح الأفراد والفصائل.

لا بد من الإشارة إلى أن استبعاد تحقق هذا السيناريو، لا يعني إدارة الظهر لضرورة أن يبقى هدفًا يتم السعي لتوفير مقومات تحويله إلى خيار يتم اعتماده وتوفير مقومات تحقيقه، وبناء أوسع موقف وطني وشعبي ضاغط بهذا الاتجاه، وربما تحدث تطورات ومتغيرات كبيرة تجعله ممكنًا. ولعل من المفيد التذكير بأنه لولا هزيمة الأنظمة العربية في حرب حزيران 67، لما حدثت الانطلاقة الثانية للثورة الفلسطينية، التي كانت أهم من انطلاقتها الأولى، لأنها استفادت من المد الشعبي الداعم لها بعد هزيمة الأنظمة التي باتت ضعيفة، وكانت بحاجة إلى دعم الثورة لتغطية عورتها التي كشفتها حرب حزيران.

مؤشرات وعوامل معرقلة

ما جرى منذ إصدار التقدير الإستراتيجي السابق من خطوات يؤكد ما خلصنا إليه سابقًا، بأن السيناريو الثاني هو الأكثر احتمالًا. فقد تم بالفعل تجاوز بعض التحديات والتهديدات، في مقدمتها النجاح في استكمال تسلّم الوزراء لوزاراتهم في القطاع دون مشاكل تذكر، باستثناء بعض المشاكل التي تم تجاوز معظمها بسرعة. وحدثت محاولة لاغتيال اللواء توفيق أبو نعيم، مسؤول الأمن في القطاع، ولو نجحت لكانت لها تداعيات كبيرة. كما تجاوزت حركتا الجهاد الإسلامي وحماس وبقية الفصائل امتحانًا كبيرًا بنجاح مُلفت للنظر حين احتفظت بحق الرد دون أن ترد حتى الآن على المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال بقصف النفق شرق غزة، ما أدى إلى استشهاد 12 مناضلًا، منهما قائدان في سرايا القدس.

في هذا السياق، لا نستطيع الجزم فيما إذا كانت إسرائيل تستهدف استدراج كتائب المقاومة المسلحة إلى مواجهة واسعة تقضي في طريقها على المصالحة، لأن ما أقدمت عليه تقوم به في كل الأحوال؛ بوجود المصالحة أو غيابها، ولكنها بالتأكيد أخذت بالحسبان هذا الاحتمال، غير أننا نستطيع الجزم بأنها أرادت بهذا العدوان المساهمة بدور فعال في التأثير على مسار المصالحة ومضمونها وفق الشروط والإملاءات الإسرائيلية، أو لا تكون أبدًا.

يدفع ذلك إلى إعادة التأكيد على أن إسرائيل لم ترفع الفيتو عن المصالحة، بدليل زيادة الشروط التي وضعتها على مشاركة "حماس" في السلطة والمنظمة، والتي من دونها لا تتحقق المصالحة. وتتصرف الحكومة الإسرائيلية على أساس معادلة تخدم مصالحها، فهي لا تريد من جهة أولى وصول الأوضاع في قطاع غزة إلى مستوى الانفجار جراء تفاقم الحصار، وبخاصة أنها سوف تتحمل المسؤولية عن ذلك أولًا وأساسًا وقبل بقية الأطراف الأخرى، بصفتها الدولة المحتلة التي تُمارس الحصار والعدوان، والتي أوصلت القطاع إلى هذه الحالة المروعة وغير الإنسانية، كما أنها لا تريد من جهة أخرى، وبقوة أكبر، أن ينتهي الانقسام باعتباره الدجاجة التي تبيض لها ذهبًا. باختصار، فإن أكثر ما تسعى إسرائيل لإفشاله هو تحقيق وحدة فلسطينية تقوي الفلسطينيين في مواجهتها.

لذلك، فإن التنافس بين مواقف مختلف الأطراف الفلسطينية ينبغي أن يتركز على الإجابة عن سؤال "أي مصالحة نريد؟": مصالحة تعيد السلطة المقيدة باتفاق أوسلو إلى قطاع غزة، وتعمل على نزع سلاح المقاومة، وإعادة العمل باتفاقية المعابر التي تريد إسرائيل تعديلها أيضًا لتصبح أسوأ مما هي عليه، أم مصالحة تمهد وتغطي على التحرك الأميركي الإسرائيلي لتمرير التطبيع مع إسرائيل تحت شعار "الحل الاقليمي"، أم مصالحة تجعل الفلسطينيين قادرين على حماية قضيتهم وشعبهم وأرضهم وإحباط المخططات المعادية؟

في الإجابة عن هذا السؤال تكمن نقطة البداية في اعتماد السيناريو المفضل، غير أن هناك مؤشرات لا تعزز الانتقال من سيناريو "مصالحة دون مصالحة" إلى سيناريو الوحدة الوطنية الشاملة. فقد تم تسلم وتسليم المعابر من خلال وضع عناصر وأفراد من السلطة محل العناصر الذين عينتهم سلطة "حماس" دون الإبقاء على أي فرد منهم داخل المعابر، وأُلغيت الرسوم والضرائب المفروضة سابقًا، بينما استمرت الإجراءات العقابية ضد القطاع، ولا يعرف أحد سوى الرئيس متى سترفع، فضلًا عن إحالة آلاف جدد من الموظفين في الضفة والقطاع على التقاعد.

في المقابل، ظهر تباينٌ حول مسألة اعتماد ودمج الموظفين المدنيين والأمنيين، مع أن اتفاق القاهرة الأخير في تشرين الأول/أكتوبر الماضي نَصَّ على دفع نصف رواتبهم مع نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر الجاري. وانعكس هذا الخلاف على الموقف من اللجنة الخاصة بالنظر في أوضاع الموظفين، إذ تطالب "حماس" بمشاركة ممثلين عنها كأعضاء وليس كمستشارين أو مختصين، كما جرى الاتفاق عليه على مضض في القاهرة. كما أن هناك خلافًا حول تشكيل أو عدم تشكيل لجنة أمنية عليا بالتوافق، إذ يتحدث نَصُّ الاتفاق عن لقاء بين مسؤولين أمنيين من الطرفين وليس صيغة عمل مشترك لمعالجة ملف الأمن.

يجدر التأكيد مجددًا على أن هناك فرقًا بين مصالحة تقوم على الإقصاء أو حتى المحاصصة، ولو جزئيًا، ومصالحة تكون مقدمة لوحدة وطنية شاملة، فالوحدة تتحقق من خلال الاتفاق على إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني الذي يجسد القواسم المشتركة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية ببرنامج سياسي يتفق عليه، ويكون أكثر مرونة من البرنامج الوطني، شريطة الحفاظ على الحقوق والمصالح الفلسطينية بعيدًا عن شروط اللجنة الرباعية، وبالاستناد إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وربط تطبيق الالتزامات الفلسطينية بتطبيق إسرائيل لالتزاماتها، والعمل على التحرر الكلي بشكل تدريجي من هذه الالتزامات، انسجامًا مع تخلي دولة الاحتلال عن التزاماتها، والاعتراف الأممي بدولة فلسطين، بحيث تقوم حكومة الوحدة بتشكيل لجنة إدارية وقانونية للبت في قضية الموظفين وفق معايير مهنية وليست فئوية، ولجنة أمنية عليا تشرف على معالجة ملف الأمن.

أما على مستوى ملف منظمة التحرير، فهناك خلاف حول عقد المجلس الوطني التوحيدي، وتحديًدا حول تأجيل انعقاده إلى أن تتمكن الحكومة بشكل كامل دون تحديد سقف زمني، ما يعني أن عقد المجلس الوطني سيؤجل حتى إشعار آخر، وقد يعقد المجلس القديم دون اتفاق وطني ما يهدد بانهيار كل شيء. وهناك خلاف على شروط الانضمام إلى المنظمة بين من يطالب بأن تتضمن الموافقة على برنامج المنظمة والتزاماتها، وبين من يقصر الشروط بالموافقة على برنامج الإجماع الوطني؛ برنامج العودة وتقرير المصير والدولة والاستقلال الوطني والمساواة.

إن ما يحدث حتى الآن شيء مختلف تمامًا عما تضمنته الاتفاقات السابقة، وهذا له ما يبرره، وله أيضًا ما يدحضه. فالظرف اختلف، والاتفاقات السابقة ليست نصًّا مقدسًا، وفيها في بعض الجوانب قدر من التناقض، والعديد من عباراتها حمّالة أوجه وقابلة لتفسيرات متعددة، وأحيانًا متناقضة. ولكن هناك في المقابل تجاهل لأهمية الاتفاق على البرنامج الوطني، وتأجيل لملف الأمن لما بعد الانتخابات، وهذه وصفة لعدم إجراء الانتخابات أو إجرائها دون توفر الحد الأنى من نزاهتها.

كانت للاتفاقات اللاحقة على "اتفاق القاهرة" للعام 2011، وخصوصًا "إعلان الدوحة" و"اتفاق الشاطئ"، مرجعيتها النظرية على الأقل، متمثلة إلى حد كبير باتفاق القاهرة ذاته، التي كانت تستند إلى صيغة خروج الجميع منتصرًا عبر التوافق، وتتضمن رزمة واحدة تشمل الحكومة والمجلس التشريعي والإطار المؤقت للمنظمة والمجلس الوطني التوحيدي والأمن والانتخابات والمصالحة المجتمعية، إذ كان يوضع جدول زمني يحدد متى سيتم تنفيذ كل عنوان، رغم الفشل في تطبيق ما كان يتم التوقيع عليه، لأن طرفي الانقسام لم تتوفر لديهما القناعة والإرادة الكافيتين للتطبيق.

فقد ظهرت النوايا الحقيقية في الممارسة، حيث كانت "حماس" تفضل الاحتفاظ بالسيطرة الانفرادية على السلطة في القطاع ومراكمة مكاسب جديدة، مثل دفع رواتب موظفيها، ما يمنحهم الشرعية، والدخول إلى منظمة التحرير، بينما كان الرئيس و"فتح" يريدان استعادة القطاع تحت مظلة السلطة التي تخضع لحكم فردي بامتياز تحقق بحكم القوة والشرعية التي تتمتع بهما حركة فتح التي تهيمن على السلطة والمنظمة منذ زمن طويل، وتقاوم أي محاولة لإنهاء هذه الهيمنة، التي تترجمها مظاهر عديدة، منها أن قياداتها وكوادرها وأعضاءها وحلفاءها يتولون معظم الوظائف والمناصب العليا، والمتوسطة، وحتى الصغيرة، كما أن جميع قادة الأجهزة الأمنية دون استثناء  أعضاء في المجلس الثورى لحركة فتح خلافًا للقانون الذي ينصّ على الفصل بين الحزبية والمهنية في أجهزة الأمن. ولو لم تكن "فتح" مهيمنة لا غضاضة أن تستلم السلطة قطاع غزة لأنها ستكون سلطة تعبر عن الكل الفلسطيني.

حتى لا تُستنسخ تجربة الفشل

إن تفادي العودة إلى مربع الفشل، يتطلب مراجعة الأسباب وراء عدم تطبيق اتفاق القاهرة الموقع في أيار 2011 وملحقاته. ولماذا بتنا الآن أمام اتفاق جديد كما يظهر من خلال اقتصار اتفاق تشرين الأول/أكتوبر الذي وُقِّعَ في القاهرة على تمكين الحكومة، أما بقية القضايا المتضمنة في اتفاق القاهرة فسيتم بحثها في حوار القاهرة الوشيك، مع رفض تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو وفاقية، أو حتى تعديل الحكومة القائمة، التي يوجد ملاحظات على مدى "وفاقيتها" حتى عند تشكيلها بوفاق وطني، ومن ثم أجريت عليها بعد ذلك تعديلات بلا توافق.

لقد بات واضحًا اليوم أن جذر المأزق الفلسطيني يعود إلى وجود رأسين لكل منهما برنامجه وتحالفاته العربية والإقليمية، ولا يحظى أحدهما بأغلبية كبيرة ومستقرة، ولا يقبلان الشراكة بينهما، حيث يريد كل طرف منهما إقصاء أو تحجيم أو تقزيم الطرف الآخر، ولا يوجد طرف ثالث قوي لإحداث التوازن المطلوب.

يضاف إلى ما سبق، أن الموقعين على اتفاق القاهرة تجاهلوا أهمية التوافق على البرنامج الوطني باعتباره برنامج القواسم المشتركة الذي لا يمكن من دون الاتفاق عليه تحقيق وحدة وطنية حقيقية، وهو لا يشمل فقط الأهداف والشعارات، وإنما خطط العمل وأشكال النضال، خصوصًا ما هي أشكال المقاومة والمفاوضات والعمل السياسي المناسبة.

كما تم تجاهل الاتفاق على أسس الشراكة التي من دون الاتفاق عليها وتجسيدها بالممارسة لا يمكن لأي اتفاق مصالحة أن يصمد طويلًا. بل يمكن القول، إن الرئيس و"فتح" اعتبرا أن الظروف التي أجبرتهما على توقيع اتفاق القاهرة تغيّرت، وبخاصة أنها اقترنت بمرحلة صعود الإسلام السياسي، وتحديدًا جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت "حماس" تعتبر نفسها امتدادًا لها في فلسطين، لدرجة أن الاتفاق وقع عشية نجاح الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية المصرية، ثم الرئاسية. أما اليوم، فالمرحلة تتميز بهبوط الإخوان المسلمين في المنطقة برمتها، كما أن محمد مرسي، الرئيس المصري السابق، يقبع في السجن.

كان وقع هذه المتغيرات العاصفة كبيرًا، فقد أفضت إلى مفاقمة حصار قطاع غزة، لدرجة وصوله إلى حافة الهاوية بما ينذر بانهياره وانفجاره، الأمر الذي أدى إلى تغيير جوهري حاسم في موقف "حماس"، لا سيما بعد انتخاب قيادة جديدة، إذ ارتأت التخلي عن الحكومة في القطاع من دون شروط، وحتى من دون ضمان مشاركتها بها إن تعذر ذلك، لأن مصلحة بقائها والحفاظ على دورها السياسي والعسكري تتطلب تخليها عن مسؤوليات الحكم التي باتت غير قادرة على تلبيتها.

كما ساهمت في اتخاذ "حماس" لهذا القرار متطلبات إعادة نسج علاقات حسنة مع النظام المصري، الذي يعد الممر الإجباري لقطاع غزة نحو العالم، إلى جانب سعيها للحصول على الشرعية العربية والدولية، واستعادة حاضنتها الشعبية التي ضعفت وباتت مرشحة لتدهور متسارع إذا استمرت في حكم القطاع دون أن تمكن من الحكم بفعل الحصار والعدوان، ودون أن تقدم نموذجًا جيدًا لحكم تعددي تشاركي يحترم حقوق الإنسان وحرياته، ويوفر المساواة بين المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم وجنسهم ودينهم وآرائهم، وكذلك عدم القدرة على إقناع الفصائل الأخرى، بما فيها "الجهاد الإسلامي"، والمجتمع المدني، بمشاركتها في الحكم.

ويضاف إلى ما سبق، عدم القدرة على توفير الاحتياجات المعيشية والإنسانية لسكان القطاع، خصوصًا بعد إغلاق الأنفاق وإجراءات الرئيس العقابية، وبعد فشل محاولة التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل على أساس رفع الحصار، أو تخفيفه بشكل جدي، مقابل هدنة طويلة الأمد، فما تريده إسرائيل لتحقيق ذلك أكثر بكثير من مجرد معادلة "هدوء مقابل هدوء".

رهانات "حماس"

ما سبق لا يعني أن "حماس" استسلمت دون شروط، أو أنها هُزمت، أو باتت في حالة ضعف شديد، وإنما تراجعت خطوة أو أكثر إلى الوراء على أمل أن تستطيع معاودة التقدم لاحقًا، بعد أن تعيد تموضعها في السلطة والمنظمة ويعترف بها وبدورها، عربيًا وإقليميًا ودوليًا. ويعزز هذا الاحتمال:

أولًا: تريد "حماس" أن تلقي بأثقال الحكم الثقيلة، وخصوصًا المالية، على ظهر الرئيس وحركة فتح، فإذا استطاعا تلبية ما يترتب على ذلك سيكون أمرًا جيدًا، إذ ستخرج "حماس" مستفيدة لأنها تراهن وستقاتل على شرعنة ودفع رواتب عشرات الآلاف من الموظفين الذين عينتهم، ويدين معظمهم بالولاء لها. وإذا لم تتم تلبية كل ذلك، فعندها ستتحمل الحكومة المسؤولية وليس "حماس". ولعل هذا ما يفسر عدم إصرار الحركة على تشكيل حكومة وحدة أولًا، ولا حتى حكومة وفاقية جديدة، ولا تعديل الحكومة القائمة.

ثانيًا: تراهن "حماس" على قوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، وبخاصة قواتها الأمنية (18 ألفًا)، التي لا يوجد بديل سريع لها، ولا يمكن الاستغناء عنها بالسهولة التي يتصورها البعض. كما تراهن على قوة وسلاح "القسام"، ومصادر قوتها الاجتماعية والدينية بعد تغلغل الحركة في كل شيء في القطاع، وعلى قدرتها على استعادة حاضنتها الشعبية من خلال التخلي عن الحكم وطرح البرنامج الوطني والمقاومة.

ثالثًا: تراهن الحركة على أن الرئيس يبدو مترددًا ومتباطئًا، ويخشى من العودة إلى حكم غزة، لأنه يدرك حجم الألغام والمشاكل، بدليل طرح أفق مفتوح لتحقيق تمكين الحكومة وعدم رفع الإجراءات العقابية حتى كتابة هذه السطور، بل تم اتخاذ إجراءات جديدة بالإحالة على التقاعد المبكر. وإذا استمرت هذه الإجراءات وأدت إلى إفشال المصالحة، فمن شأن ذلك أن يعفي "حماس" من المسؤولية، ويغضب مصر راعية الاتفاق التي تُمارس دورها هذه المرة كشريك كامل، الأمر الذي يفتح الطريق للحركة مع عدوها القديم وحليفها الجديد محمد دحلان للتقدم في غزة، ثم لاحقًا في الضفة، إذا كان ذلك ممكنًا أصلًا.

رابعًا: تراهن الحركة على المتغيّرات العربية والإقليمية والدولية الحاصلة، والتي يمكن أن تحصل مستقبلًا، خصوصًا في سوريا والعراق وإيران وتركيا، حيث وصلت الحرب السورية إلى فصلها الأخير لصالح المحور الروسي الإيراني السوري، وبدأ العراق يستعيد دوره ويقاوم التقسيم بقوة. لذلك حرصت "حماس" على التوجه نحو إيران وحزب الله لإحداث قدر من التوازن في علاقاتها العربية والدولية بعد التراجع في علاقاتها مع قطر وتركيا، وتسعى لإعادة علاقتها بالنظام السوري التي قطعت نصف المسافة باتجاهها بعد أن استعادت علاقتها مع طهران، وأصبح جزء من قيادتها، بمن فيهم نائب رئيس مكتبها السياسي، مقيمًا في الضاحية الجنوبية من بيروت

خاتمة

إن المقاربة الوحيدة التي يمكن أن تُنجزَ الوحدةَ التي تحتاج إليها القضية والشعب لا بد أن تنطلق من معادلة "لا غالب ولا مغلوب"، أي من الشراكة الكاملة التي تتطلب الاتفاق على رزمة شاملة يمكن أن تشمل ثلاثة مسارات، تعمل مع بعضها بالتوازي، ويمكن أن تطبّق على مراحل، ولكن ضمن خطة معروف منذ البداية كيف تبدأ وإلى أين ستنتهي، بحيث تشمل:

·  مسار منظمة التحرير: يشمل إعادة بناء مؤسسات المنظمة وتوحيدها وإصلاحها بشكل ديمقراطي شامل، على أسس وطنية، وديمقراطية توافقية جبهوية، ومشاركة سياسية حقيقية، بحيث تضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي التي تؤمن بالمشاركة. وهو ما يتطلب التوافق على عقد المجلس الوطني التوحيدي وفق الأسس التي تم التوصل إليها خلال اجتماع اللجنة التحضيرية للمجلس في بيروت مطلع العام الحالي، وكذلك التوافق على برنامج وطني يتم إقراره خلال اجتماع المجلس.

·  مسار السلطة/الدولة: يشمل تركيز العمل والنضال على تغيير طبيعة السلطة وشكلها والتزاماتها ووظائفها لكي تصبح أداة من أدوات منظمة التحرير لخدمة البرنامج الوطني. ويتطلب ذلك التوافق على برنامج سياسي للسلطة/الدولة ينسجم مع الظروف الواقعية، ومع الاعتراف الأممي بدولة فلسطين باعتبارها دولة تحت الاحتلال. ولإنجاح مسار المصالحة، ينبغي العمل على توحيد وإعادة بناء ودمج الأجهزة الأمنية على أسس وطنية ومهنية بعيدًا عن الحزبية، وهذا يتطلب تشكيل حكومة وحدة وطنية، بمشاركة فاعلة من الفصائل، تكون قادرة على مواجهة التحديات والمخاطر، وتوظيف الفرص المتاحة، وتوحيد المؤسسات الأمنية والمدنية والقضائية، وإزالة آثار الانقسام من خلال مصالحة مجتمعية.

·  مسار الاحتياجات الإنسانية والمدنية والحقوقية: يشمل عدم رهن معالجة مشكلات التجمعات الفلسطينية واحتياجاتها المعيشية والمدنية والحقوقية بتنفيذ ما يتم التوافق عليه وفق مبدأ الرزمة الشاملة، أو بما اصطلح عليه "تمكين الحكومة"، الأمر الذي يتطلب معالجة المشكلات اليومية ذات الأولوية في هذه التجمعات، وتوفير سبل العيش الكريم، وخاصة في قطاع غزة.