الحوار الجزائرية تنشر الجزء الثانى عشر من سيرة ياسر عرفات

رام الله - دنيا الوطن
اتسمت مواقف شارون في البداية بالاعتدال "النسبي"، بهدف انخراط نواب حزب العمل في حكومة الوحدة الوطنية، ولما ضمن ذلك، أطلق عملية تشهير ضد عرفات بأنه وراء الإرهاب، ساعده في ذلك انتخاب "جورج دبيلو بوش" رئيساً للولايات المتحدة، ولقائه معه في 20 آذار (مارس) 2001، كان اللقاء حاراً، فلم تمض بضعة أيام، حتى دعا بوش عرفات إلى "التحدّث بقوة وعلناً، وبلغة الفلسطينيين، لإدانة العنف والإرهابيين، واعتقال المسؤولين عنها". في الوقت الذي اضطر عرفات إلى إصدار دعوة خلال مؤتمر القمة العربي الذي انعقد في عمان في أواخر آذار (مارس) 2001، المطالبة بوقف اطلاق النار، مطالباً بإرسال قوات دولية إلى الأراضي الفلسطينيةلحماية السكان المدنيين. في الوقت الذي طالب فيه من البيت الأبيض مباشرة دعمه في العودة إلى المفاوضات. لكن بوش، دعماً لشارون، تجنّب أي لقاء مع عرفات تاركاً الأمر لوزير خارجيته "كولن باول" في الوقت الذي اشتد قمع الانتفاضة أكثر وأكثر.

منذ مجيء شارون، ازادات التوغلات الإسرائيلية داخل مناطق الحكم الذاتي، استخدمت الطائرات والدبابات في الرد على العمليات، دون تمييز بينها، سواء قام بها إسلاميون، أو وطنيون، أو قوى يسارية، وسواء وقعت في إسرائيل أو في مناطق الحكم الذاتي، وسواء كان ضحاياها من المدنيين أو العسكريين أو المستوطنين، حيث وصفت إسرائيلياً، وبتأييد أميركي، بأنها أعمال إرهابية يديرها عرفات. مما دفع عرفات الذي قال لباول: "أنتم تتحدثون عن وقف العنف، ولكنكم تطلبون ذلك من الضحية وليس من المعتدي".

حاول شارون، على الأقل، طرد عرفات، إلاّ أن بوش كان يخشى أن تغرق المنطقة في بحر من الفوضى إذا جرى المساس بالزعيم الفلسطيني، فطلب بإصرار عدم التعرض لسلامته. وفي 21 أيار (مايو)، أعلنت لجنة ميتشيل في نيويورك تقريرها النهائي حول أسباب الانتفاضة ودعت إلى "التوقف الفوري وغير المشروط لكافة اعمال العنف" وطرحت أفكاراً وافق عليها عرفات والقيادة الفلسطينية، وأبدت القيادة الإسرائيلية عدة تحفظات. وجاء وزير الخارجية الألماني "يوشكا فيشر" وبعد مداولات مع عرفات، أصدر أمراً للفصائل كافة بما فيها حماس والجهاد الإسلامي
والجبهة الشعبية وشهداء الأقصى، بتعليق العمليات العسكرية، ومنع الهجمات والابتعاد عن نقاط الإحتكاك. وجاء بعده "جورج تينيت" للمساعدة في المحافظة على الهدنة، ووضع خطة مع عرفات وشارون تستند إلى تقرير ميتشيل، وافق عليها عرفات
ورفضها شارون.

ورغم كل ذلك، قامت طائرات الأباتشي يوم 31 تموز (يوليو) باغتيال اثنين من قادة حماس في نابلس سقط معهما ستة قتلى، فردت حماس بعملية في مطعم بالقدس في 9 آب (اوغسطس) سقط فيه 18 قتيلاً. إلاّ أن عملية كبرى قامت بها القوات الإسرائيلية، حيث اعلنت عن مسؤوليتها في 17 آب (اوغسطس) عن اغتيال أبي علي مصطفى، أمين عام الجبهة الشعبية في مكتبة برام الله باطلاق الصواريخ عليه، فلم تتأخر الجبهة الشعبية بالرد، أذ قام مقاتلوها في 17 تشرين أول (اكتوبر) باغتيال وزير السياحة الإسرائيلي" رحبعام زئيفي" واعلنت مسؤوليتها عنها، ومع ذلك اعتبر شارون أن عرفات هو المسؤول الحقيقي عن الاغتيال، فقطع كل اتصال مع السلطة، وشدد الحصار على المدن، وبخاصة على رام الله، وفرض منع عرفات من استخدام مطار غزة، على الرغم من الإدانة الواضحة التي عبّرت بها السلطة عن عملية الاغتيال.

في 11 ايلول (سبتمبر) 2001، ذهل العالم لمرأى مركز التجارة العالمي ينهار بالإضافة إلى تعرّض البينتاغون بعملية انتحارية بواسطة الطائرات المدنية، قامت القاعدة بتبنيها، فقام عرفات بادانتها "إدانة تامة" وتبرّع من دمه لجرحى الحادثة، وأعطى تعليماته "الواضحة" لمنع أية مظاهرات مؤيدة، ودعيت المدارس
للوقوف دقيقة صمت حداداً على الضحايا، ووجه تعازيه باسمه وباسم القيادة الفلسطينية والشعب إلى الإدارة الأميركية.

إلا أن شارون استغل هذه الحادثة، وراح يكرر أينما يذهب "ان عرفات هو بن لادن إسرائيل"، وأخذ يدعو إلى "تدمير أنظمة الإرهاب، بدءاً بمنظمة التحرير"؛ وعلى الفور دفع قواته الأرضية والجوية (الأباتشي) ليطوق مخيم جنين، ويتوغل فيه، ويقتل 58 مناضلاً ويجرح أكثر من 200، ودمر المخيم تدميراً كاملاً.

أما على الصعيد الأميركي ، فرغم تصريحات المسؤولين، دعا الرئيس بوش أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عن "تاييده لوجود دولتين تتعايشان جنباً إلى جنب داخل حدود آمنة ومعترف بها، طبقاً للقرارات الدولية". ومع ذلك أصر بوش على تجنب اللقاء بالزعيم الفلسطيني الذي كان حاضراً وقت الخطاب. والذي خلص بكلمته أمام الجمعية إلى القول إن "الشعب الفلسطيني قد اختار السلام الذي هو خيار استراتيجي لا رجعة عنه".

في ضوء ذلك، أعلن بوش: "أن على عرفات والسلطة الفلسطينية أن يبرهنا اليوم أكثر من أي وقت مضى، ومن خلال الأفعال وليس الكلمات فقط، عن عزمها محاربة الإرهاب"، فما كان من شارون إلاّ اعتبار ذلك فرصة سانحة، فما كان منه إلاّ أن اعلن حصاراً كاملاً على مقر ياسر عرفات في المقاطعة في رام الله، بعد أن قصف المقر ودمرت مقرات الشرطة والمخابرات والسجن، ولم يبق سوى مكان إقامه عرفات، وكذلك لم يسمح له بصفته نائب رئيس منظمة المؤتمر الاسلامي بالمشاركة في جلساته، ومنعه من حضور احتفالات عيد ميلاد المسيح في بيت لحم، رغم الاحتجاجات الدولية من شتى البقاع، بل كانت الدبابات تقترب أكثر فأكثر. وعلى نحو مماثل، لم يتمكن عرفات من المشاركة في القمة العربية الرابعة عشرة، التي عقدت في بيروت (في 27 – 28 آذار (مارس) 2002، وتبنت مبادرة السلام التي أطلقها ولي العهد السعودي، وتغيب عنها إلى جانب عرفات كل من الملك الأردني الملك عبد الله الثاني والرئيس المصري حسني مبارك، أي أصحاب العلاقة المباشرة في عملية التسوية التي رفضها شارون مباشرة، رغم الإعتراف العربي باسرائيل.

وسوف يكتب التاريخ العربي، أنه بدلاً من الوقوف إلى جانب عرفات، وحصاره في هكذا مؤتمر، فقد حاولت الرئاسة اللبنانية (إميل لحود)، بالتعاون مع سوريا، منع بث كلمة عرفات (بالصوت والصورة)، ما أدّى إلى مشكلات مع الوفد الفلسطيني، حلتها قناة الجزيرة بتأمين البث لكلمة عرفات، الذي قدّم صورة مريعة عن الأوضاع في الأرض المحتلة، ولكنه فاجأ الجميع بأنه استغل هذا اليوم الموافق "أول أيام عيد الفصح اليهودي"، فقال في ختام كلمته، بلهجة واثقة: "اننا نقول لهم، عيد مجيد، وسوف يأتي عيد استقلال شعبنا آيضاً".

قامت حركة حماس بتنفيذ عملية في فندق بمدينة "نتانيا" الساحلية أوقعت 22 قتيلاً ونحو 100 جريح، وعلى الرغم أن عرفات والقيادة الفلسطينية، أدانوا العملية، إلا أنها اشعلت شارون واليمين الإسرائيلي المتطرّف، في البحث عن سبل للتخلص من عرفات، انتهى بقرار شارون: "سوف يكون معزولاً تماماً عن العالم، وحيداً في قفصه". فأصدر في اليوم التالي (28 آذار)، أمراً باطلاق عملية "السور الواقي" لاجتياح الضفة الغربية، معلناً "عزل عرفات كلياً في مقره وملاحقة السلطة في كل مناطقها"، ولم ينطق بأي كلمة ضد حماس أو الجهاد الإسلامي.

وبدأت العملية، حيث أعلن عرفات عبر محطة الجزيرة، رداً على إجراءات شارون: "تريد إسرائيل أن تجعلني سجيناً، أو تقتلني أو تجبرني على الاستسلام. أقول لهم: سأكون شهيداً، شهيداً، شهيداً... هل حياتي أغلى من حياة مواطن فلسطيني بسيط، أو حياة طفل فلسطيني؟".

من 29 آذار (مارس) حتى صبيحة 2 أيار (مايو) استمرت القوات الإسرائيلية تحاصر المقاطعة حول عرفات ومن معه من القيادة الفلسطينية، وأعادت احتلال الضفة بكاملها، لقد قطعت حتى الكهرباء والهاتف والأكل وكل لوازم الحياة حول عرفات، ولم يسمح لأحد من زيارة عرفات سوى قلة قليلة من الدبلوماسيين، من بينهم بعض المسؤولين الاميركان، حيث قابلة "كولن باول" ثلاث مرات، دون أن يقدّم شيئاً لحل النزاع، وبدا أن لا شيء يمكنه كسر هذه الحلقة الضيقة التي تحيط بعرفات.

وفي العالم العربي والإسلامي فقد ارتفعت مكانة عرفات بشكل كبير، نتيجة إصراره، ورغم حصاره، على عدم الاستسلام، وكذلك بالنسبة للعالم الذي وجد فيه رمزاً للحرية والتضحية من أجلها، مما دفع مجلس الأمن للتعبير عن "قلقه الشديد على سلامة الرئيس عرفات"، ما دفع بالسعودية إلى التدخل الفوري لدى الإدارة الاميركية، التي كانت تخشى أن يتضعضع التحالف الدولي ضد الإرهاب، ما دفع بوش إلى الطلب من شارون بانهاء الحصار، واعداً إياه بالوقوف ضد أية محاولات قد يفرضها مجلس الأمن لمعاقبة المجرمين في هذا الاعتداء، خاصة في مخيم جنين.

حاول شارون التملّص، إلى أن واجهته وزيرة الخارجية الاميركية، "كوندوليزا رايس" بعبارة واضحة: "إن الاعتراض على اقتراح الرئيس ينطوي على كارثة بالنسبة لإسرائيل". رضخت إسرائيل مقابل أن يتعهد عرفات بتسليم المهتمين باغتيال "زئيفي" وفؤاد الشوبكي المتورط في سفينة "كارين آي".

وما أن انسحبت القوات الإسرائيلية، وشاهد عرفات حجم الخراب الذي خلفته، حتى راح يصفهم بأنهم "إرهابيون، ونازيون"، وزار المستشفى وتفقد الجرحى، والمشهد نفسه في نابلس، وبيت لحم، وجنين التي أطلق عليها "جينينغراد". لكن القوات الإسرائيلية عادت وحاصرت المقاطعة، بعد شهر من انسحابها نتيجة هجوم تفجيري قامت به الجهاد الإسلامي في قرية "مجدو" موقعة 17 قتيلاً.

ونتيجة زيارة شارون ولقائه بوش، أعلن الأخير رؤيته لتسوية النزاع، ذاكراً أنه يريد تشكيل "قيادة فلسطينية جديدة" ولم يذكر عرفات فيها. وهكذا بدا الرئيس الاميركي منحازاً لشارون ومخططاً لتوجهاته، وراحت الإدارةالاميركية تضغط على
دول العالم من أجل استثناء ياسر عرفات من أي حل لمشكلة النزاع.

لم تتوقف العمليات العسكرية بين حماس والقوات الإسرائيلية، موقعة الكثير من الخسائر، ومرة أخرى قامت القوات الإسرائيلية بمحاصرة مقر عرفات "المقاطعة" للمرة الثالثة خلال هذه السنة (2002)، لكنهم هذه المّرة، بعد وقوع هجومين متتاليين الأول في تل ابيب، والثاني في الشمال، يبدو أن شارون قرر أن يحسم
أمره، فبعد أن قصف بالدبابات كل مبنى ما زال واقفاً، حتى الجسر الذي يفصل بين بنايتي المقاطعة على المكانين نفسهما الذي يستقر بهما عرفات وحراسة، وطلبوا بمكبرات الصوت تسليم عشرين شخصاً مطلوباً، فكان رد عرفات "لن يكون هناك استسلام"، ثم طلبوا قائمة باسماء الـ 200 شخص المقيمين في المبنى، فكان جواب عرفات نفسه، ما دفع قيادة الجيش إلى إصدار أمر بإخلاء المقر بالقوة،