التسويات المجحفة .. شبيهة بصفقات الدم

التسويات المجحفة .. شبيهة بصفقات الدم
د.عبير عبد الرحمن ثابت 

تتسارع الأحداث فى المنطقة بوتيرة غير مسبوقة؛ تربك صناع القرار قبل المحللين السياسيين أو المتابعين لها، وهذا يفسر مدى التدخل الخارجى للقوى العظمى والتداخل فى مصالح تلك القوى فى المنطقة؛ ومدى التضاد وعدم التوافق الحاد بين الأطراف المحلية سواءً كانت تلك الأطراف دولاً أو كيانات؛ أو حتى تنظيمات وحركات صغيرة، وفى هذا التسارع انعكاس واضح لحساسية ودقة المرحلة الحالية؛ والتى تمر بها المنطقة والتى من الواضح أن ترتيباتها الحالية ستدوم لمرحلة  طويلة الأمد مستقبلاً؛ أو على الأقل هذا ما يتم التخطيط له؛ وذلك بدءً من ترتيبات ما بعد الربيع العربى فى تلك الدول التى عصفت بكياناتها ومكوناتها رياحه؛ مروراً بحل الصراع العربى الاسرائيلى؛ ووصولاً إلى إعادة تقسيم مناطق النفوذ الدولى طبقاً لمتغيرات موازين القوى العالمية .

مرحلة تاريخية حرجة تعصف بمنطقة  الشرق الأوسط اليوم؛ ستتشكل  فى نهايتها خرائط النفوذ للقوى الإقليمية والدولية؛ وسترسم فيها معالم الجغرافيا السياسية لعقود قادمة، ويبدو الولايات المتحدة وروسيا لاعبين أساسيين دوليين فى كل ما يجرى فى المنطقة؛ وكل من إيران وإسرائيل وتركيا كلاعبين إقليميين أساسيين،  وتلك الدول الخمس هم فقط من يملكون حق النقد الدولى والإقليمى على الخطوط فى تلك الخرائط؛ وذلك طبقا لموازين القوى العسكرية والاقتصادية والسياسية الدولية والاقليمية، ولن تمر تلك الخرائط إلا بتوافق مصالحهم .

وقد رأينا كيف فرضت روسيا الاتحادية رؤيتها فى الأزمة السورية؛ وأعادت فرض نظام الرئيس السورى على سوريا والمنطقة والولايات المتحدة بالقوة العسكرية؛ ونتابع كيف تفسح روسيا المجال للولايات المتحدة منفردة فى حل الصراع العربى الاسرائيلى بصفقة القرن من خلال تراجع لدور الرباعية الدولية؛ ولاحظ الجميع كيف انهارت أحلام الأكراد فى  كيان سياسى فى العراق بفعل الفيتو الإيرانى التركي؛ وكذلك الفيتو الاسرائيلى اليومى وبشكل عملى فى سوريا عبر طيرانها الحربى الذى يحدد خطوط النار للمتناحرين هناك؛ والذى بدوره أجبر قوات النظام السورى والقوى المتحالفة معه على التراجع ثلاثين كيلو متر من حدودها فى الجولان الذى هو طبق للقانون الدولى أراضى سورية محتلة .

ولكن الجديد القديم اليوم أن اسرائيل لديها فيتو على التوسع الإيرانى فى المنطقة  ضمن  ترتيبات خرائط النفوذ؛ وهذا الفيتو أمريكى أيضاً يضاف له اعتراضها على الاتفاق النووى الايرانى؛ ورسالة ترامب كانت واضحة فى خطابه الأخير عليه،  وعلى ذلك مطلوب من إيران اليوم تحديد مناطق نفوذها فى الخارطة؛ بما لا يتعارض مع نفوذ الدول الاقليمية الوازنة الثلاث وهو ما حملته زيارة الرئيس الروسى لإيران قبل أسبوع والتى كانت ضمن هذا السياق . ولقد وصلت الرسالة إلى إيران بعد استقالة الحريرى؛ وعليها اليوم أن تتراجع فى لبنان واليمن؛ وأن تكتفى بالعراق وسوريا ضمن حدود مناطق نفوذها الاقليمى الطبيعى؛ وعليها أن تفهم أن هدية كردستان العراق كانت مناصفة لها ولتركيا؛ ومن أعطى الضوء الأخضر لقوات الحشد الشعبى  التى  يقودها الجنزال قاسم سليمانى لاجتياح كركوك والمناطق المنازع عليها فى الموصل؛ بإمكانه أن يعطى ضوءً أخضر آخر لقوى أخرى  قادرة على تقويض النفوذ الايرانى فى مناطق أخرى وليس لبنان؛ وبعيداً عن تلك المقاربة  خاصة مع حالة الاحتقان السائدة فى الاقليم بين السنة والشيعة والتى من السهولة بمكان نقلها إلى لبنان؛ والتى يكفيها حادث كبوسطة عين الرمانة ليعيد عجلة التاريخ فى لبنان أربعون عام إلى الوراء بحلة جديدة تتناسب مع  طبيعة الصراع المذهبى القائم وتستفيد منه؛ وتنقل نموذج الحالة السورية إلى لبنان؛ وتعيد حشد آلاف المقاتلين الدواعش (الذين تبخروا إلى حيث يعلم الله ومموليهم  بعد سقوط دولتهم)  إلى  الجبهة السنية اللبنانية ضد حزب الله الشيعى؛ وذلك فى معركة مفتوحة بمقدورها استيعاب المزيد من الصراعات الاثنية والمذهبية فى الفسيفساء الطائفية اللبنانية؛ والكرة اليوم لا زالت فى الملعب الايرانى؛ وطبقاً  لزاوية  تسديدها نحو الهدف ستتحدد التطورات؛  ولكن البرجماتية الايرانية المعهودة والمهارات الايرانية فى لعبة سياسة حافة الهاوية والتى أثبتت تفوقها فى الملف النووى من المرجح جداً أن تجيد التسديد؛ وأن تخرج فى النهاية بأقل التنازلات وأكبر المكاسب؛ ضمن خارطة النفوذ الاقليمى طويلة الأمد التى ترسمها القوى العظمى اليوم .

والحاسم فى كل تلك الترتيبات القادمة ستبقى القضية الفلسطينية؛ والتى ستكون بيضة القبان فى صفقة القرن الذى يرقب الجميع خباياها؛ والتى تنفرد الولايات المتحدة وإسرائيل بترتيب بنودها بمعزل عن القوى الثلاث الأخرى؛ وهنا على الولايات المتحدة وكذلك إسرائيل أن تدرك جيداً أن أى تسوية مجحفة بحق الفلسطينيين هى بمثابة صفقة الدم التى ستقصر من عمر تلك الترتيبات الاقليمية وتفشلها؛ وستزيد من حدة الصراع بمفاهيمه القومية والعقائدية التاريخية؛ وستتراكم يوماً بعد يوم جمراً ملتهباً فوق رماد الحقوق الفلسطينية التى استنزفتها صفقة القرن؛ والذى سينفجر يوما ما كالبركان ليُعيد الصراع إلى نقطة الصفر بأبشع صوره، وعليه فمن الحكمة بمكان أن لا يُطلب من الفلسطينيين تنازلات أكثر مما قدموا؛ وعلى الولايات المتحدة الأمريكية  واسرائيل أن لا تتوهما كثيراً وتصدقا أنهما تمكنا من تحييد أبعاد الصراع القومية والعقائدية؛ وأن الواقع الراهن الفلسطينى والعربى والاسلامى هو الواقع الدائم؛  وأن الصراع أصبح نزاع  فلسطينى اسرائيلي يمكن حله عبر صفقة؛ كما لو أنه نزاع تجارى؛ فبهذه الحالة ترتكبان خطأ تاريخي فادح؛ وتعيدا استنساخ  تجارب أثبت التاريخ فشلها؛ خاصة حينما يطلق على معاهدات بفرض القوة معاهدات للسلام؛  وليس أدل على ذلك من معاهدة  السلام بين فرنسا وألمانيا نهاية الحرب العالمية الأولى، ورغم اختلاف أبعاد الصراع،  فعندها ستكون صفقة مع الشيطان وستستحق بجدارة أن يطلق عليها صفقة الدم؛ وأى ترتيبات إقليمية سترتبط  بها ستكون أقصر عمراً من أعمار من صاغوها .

قد لا يكون جدوى للقرارات والمواثيق الدولية أمام تَغول الديكتاتوريات .. لكن الشعوب وإن استكانت ستنهض لا محالة لتنتزع حقوقها بالدم .

 أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية 

[email protected]

التعليقات