"ذاكرة لا تصدأ" لـ"الإعلام" و"اللجنة الشعبية": مخيم الفارعة يُلاحق "بلفور

رام الله - دنيا الوطن
واكبت الحلقة (62) من سلسلة "ذاكرة لا تصدأ"، لوزارة الإعلام في محافظة طوباس والأغوار الشمالية، واللجنة الشعبية للخدمات في مخيم الفارعة، الذكرى المئوية لوعد بلفور الأسود. في أزقة المخيم، يعرف الجيل الذي عاصر النكبة، أن عميدهم اللاجئ محمد كايد سرحان، يستطيع بمفرده إسقاط وعد وزير خارجية بريطانيا، فالرجل المولود في الكفرين كما يقول عضو اللجنة الشعبية محمود أبو لبادة، يسبق الوعد بست سنوات في عمره.

وأكمل أبو لباده: ولد العم محمد سرحان، ابن قريتنا الكفرين، عام 1911م، وهو دليل ناطق لتفوقنا على بلفور، صاحب الوعد المشؤوم.

ذكريات وزنازين

وتابع: يرتبط تاريخ وعد بلفور بذاكرتي، فقد اعتقلني جنود الاحتلال يوم 2 تشرين الثاني 1967، وأمضيت في السحن سنة و3 أشهر و21 يومًا. وقال: حين اعتقلنا الجنود في مخيم الفارعة أنا و11 شاباً، تناوبوا على التنكيل بنا في الدورية، وصاروا  يقفزون علينا من حافتها، وأهانونا بأقسى الشتائم.

وأشار إلى أن المسافة التي تفصل نابلس عن الفارعة، لا تحتاج غير ربع ساعة، لكن جنود الاحتلال أمضوا ثلاث ساعات، وهم يضربوننا، ويوجهون إلينا الشتائم، ووضعونا فوق بعضنا البعض ككومة قش. ومن اللحظات التي لا تنسى، كيف أنهم كانوا يعطونا مياه الشرب من تحت باب حديدي، ويطلبون منا أن نضع الكأس الفارغ، ولم يكن ينتهي الأمر دون أن يجرح أحدنا من الباب والتزاحم.

وأضاف: خلال سنة في سجن نابلس، لم نعرف الاستحمام إلا بعد مضي ثمانية أشهر بمياه باردة، وكان السجانون يجبروننا على وضع الأغطية (البطانيات) فوق بعضها البعض، ونعود لاختيارها مرة أخرى، ويحرموننا من الجلوس عليها، وفي بعض الأحيان يطلب السجان منا في منتصف الليل، أن نظل واقفين لساعتين وثلاثا أحياناً.

كان أبو لبادة شاهد عيان لنوع جديد من التعذيب، إذ نقل واثنين من الأسرى إلى سجن صرفند، وأدخلوا إلى مكان معتم، ولم يكونوا يعرفون ليله من نهاره، وأمامهم حفرة كالقبر، وأوهموا أنهم يُساقون إلى الإعدام، عبر إطلاق رصاص حي، في الزنزانة المجاورة، وإصدار صوت بالعربية يقول: "صاحبك أعطاها، انتظر دورك".

ومما يسترده: كان إحياء ذكرى وعد بلفور في السجون ممنوعا، لكن خلال انتفاضة العام 1987، بدأ المخيم يستذكر الثاني من تشرين الثاني بمسيرات غضب، وشعارات وطنية، ومواجهات مع جنود الاحتلال في مدخل السجن.

وختم: تزامنت ذكرى الوعد في العام 1989 مع فرض حظر تجول استمر 18 يومًا على المخيم، ولم يمنع ذلك الشبان من كتابة شعارات وطنية تندد بالوعد المشؤوم، وتطالب بالحرية.

رسائل حرية

وتحرص فعاليات مخيم الفارعة اليوم، على إحياء الذكرى الأليمة التي أسست لنكبته، وما زالت رسائل فتية المخيم الموجهة إلى الملكة البريطانية إليزابيث، ورئيسة الوزراء، ووزير الخارجية، وقائد المنتخب الإنجليزي لكرة القدم، وأطفال من أقرانهم، باقية.

وخط أطفال المخيم رسائلهم ووضعوا عليها العناوين الأصلية لقراهم المدمرة خلال النكبة، ودعوا الشخصيات البريطانية وأحفاد آرثر جيمس بلفور إلى الاعتذار، ومرروا رسائل مماثلة لتيريزا ماي رئيسة الوزراء.

ووجه الفتية لأقرانهم الإنجليز تساؤلات عن معنى حرمانهم من البحر والقدس، وإجبارهم على العيش في مخيم، وانتظار شاحنات وكالة الغوث، بدل الحديث عن روائع شكسبير والذهاب إلى حدائق لندن، والتمتع بمشاهدة ساعة ("بغ بن")، واللهو في مدينة الضباب.

وخاطبت إحدى الرسائل أما افتراضية اسمها ماري: عمري 17 سنة: لم أذهب طوال حياتي إلى بحر حيفا، وحتى البحر الميت سُرق منا، بسبب جدكم بلفور. تخيلي سيدتي لو أن ابنك لا يعرف نهر التايمز، ولم يمسك الجنيه الإسترليني، ماذا ستفعلين؟

وكتب  محمد هنطش المنحدر من بلدة قانون بطولكرم،: أيتها الملكة، لقد منح جدك بلفور أرضنا للغرباء، وبسبب ذلك فقدت بلدي، وأحرم من زيارة بيت جدي، وأدعوك للاعتذار عن هذا الظلم الكبير.

واختار معن وقتيبة أبو حسن مخاطبة ماي بالقول: سيدتي، لقد فقدنا بلدنا صبارين قرب حيفا، وأفضل شيء يمكنك فعله لمساعدتنا الاعتذار الأخلاقي، وليس الإصرار على الجريمة السياسية.

أجداد وأحفاد

واختلق معتصم محمد الصدر، الذي طرد جده من يافا طفلا، بريطانيا افتراضيًا أسماه جون هاستين ليقول له: عزيزي، أنت تذهب لعاصمتك وكنائسها في أي وقت تشاء، أما نحن فنحرم من الوصول لمدينة أجدادنا، ولا نستطيع الصلاة في عاصمتنا، بسبب جدكم و67 من كلماته.

بينما تكرر الشيء نفسه في رسالة الفتية، محمد سرحان من الكفرين المجاورة لحيفا، وعبد الحميد طلعت حسن، وعبد الرحمن هويري، وهشام وبلال الغول، ومحمد حطاب المنحدر من صبارين، وعدنان جوابرة الذي فقد جده قرية بعلين، والحيفاوي إبراهيم أبو شقير، ونزار عبد الرازق من باقة الغربية.

أما صهيب دراوشة، فكتب للملكة إليزابيث: بسبب كلام جدكم، وخرائطكم السياسية، وبجرة قلم خسرنا حيفا وبحرها، بلد جدي، ولو أن أحدًا اعتدى على مدينة بريطانية ستتهمونه بالإرهاب، أما نحن فذبحنا مئة مرة على أيدي عصابات إرهابية أسست دولة، تعترفون بها.

وترددت كلمات مماثلة اختارت السفير البريطاني، ونجم المنتخب الإنجليزي في كرة القدم على لسان أسامة ماهر خليل من قرية البرية، وعبد الله أحمد موسى المنحدر من الكفرين، وبكر جهاد شاويش من قنير المتاخمة لحيفا، ومحمد وصفي تايه الذي لم يزر قرية عائلته في أبو شوشة، وطلال سليم شحادة من بيار عدس، ويزن صبح وسيف خالد طربوش المنحدرين من أم الزينات، ويحيى عوض من شحمة، وعز الدين صبح من الريحانية.

تاريخ وسياسة

في قمة ربوة شرق المخيم، كانت مدرسة الفارعة الثانوية للبنين تحتضن ندوة سياسية نظمتها بالشراكة مع هيئة التوجيه السياسي والوطني. واستمع عشرات الطلبة أغلبهم من قرى حيفا المدمرة،  وبعضهم من جنوب فلسطين المحتلة لسرد تاريخي وسياسي عن بلفور في مئوية وعده.

وأوضح رئيس اللجنة الشعبية للخدمات عبد المنعم مهداوي، أن رهان الاحتلال على وهم (الكبار يموتون والصغار ينسون) فشل، وسرد الظروف التي ساعدت على إصدار الوعد المشؤوم، ولخص تاريخ مئة عام من المعاناة، وصلت ذروتها بالنكبة وإقامة إسرائيل بقرار للأمم المتحدة، وهو سابقة.

وقال القائم بأعمال محافظ طوباس والأغوار الشمالية أحمد الأسعد، إن الشعب الفلسطيني قادر على التعامل مع كل التحديات وفي كافة المراحل، وما مر عليه من نكبات سببها الوعد، الذي خلف المعاناة والجرائم بحق شعبنا الأعزل، وطالب بالضغط على بريطانيا بكل السبل من أجل الاعتذار السياسي.

وأشار مفوض حرس الرئيس العميد نمر العايدي إلى الحاجة لتوازن قوى جديد، لنيل حقنا بالكامل، نكراء عدم اكتراث الاحتلال بالقوانين والمعاهدات الدولية، مؤكدًا أن الحل الوحيد الثبات في الأرض ومقاومة الاحتلال وأفكار هجرة الوطن؛ لأن هذه السبل تمكن المحتل من طردنا عن وطننا.

ودعا أمين سر حركة فتح في طوباس محمود صوافطة، المؤسسات والفعاليات والمواطنين في المحافظة للالتفاف حول القيادة، والخروج بفعاليات الاحتجاج على وعد بلفور المشؤوم.

وبيّن مدير مديرية التربية والتعليم سائد قبها، ضرورة رفع الوعي الوطني والتاريخي للطلبة كونهم الأجدر والأوفى لحمل الراية، والمضي بالشعب إلى بر الحرية ودحر الاحتلال.

وقال ممثل دائرة شؤون اللاجئين ياسر أبو كشك، إن الوعد نتيجة لمصالح عالمية، وقد أنعش الهجرات اليهودية، التي توافدت على فلسطين منذ القرن التاسع عشر .

واستعرض في سرد تاريخي ردود الفعل على الوعد، الذي جاء في حقبة استعمارية شملت معظم الدول العربية، وتوجت مشاركة نحو مليون و700 ألف يهودي في الحرب العالمية الأولى. وقال: سعت بريطانيا لتنفيذ هجمات على الدولة العثمانية في فلسطين، وقد شهدت نابلس سقوط آخر حامية للعثمانيين عام 1918.

وبيّن إن الوعد المشؤوم أنعش الهجرات اليهودية إلى فلسطين، في وقت  تصاعدت الثورات خلال 1921، و1929، و1936.

فيما قال مدير التوجيه السياسي والوطني محمد عابد، إن بلفور كان يكره اليهود، وأصدر تعليماته بوقف دخولهم إلى بلاده، ومع ذلك منحهم وعدًا، في وقت لا زلنا ننتظر منذ مئة عام تنفيذ الشق الخاص الوارد في الوعد الخاص بعدم السماح "بأي إجراء يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها المجتمعات غير اليهودية".

توثيق ونكبة

بدوره، أشار منسق وزارة الإعلام في طوباس والأغوار الشمالية عبد الباسط خلف، إلى أن "ذاكرة لا تصدأ" استطاعت، خلال خمس سنوات، جمع قصص عشرات القرى المدمرة في قضاء حيفا ويافا وغزة وطولكرم وجنين وبيسان، وسجلت شهادات شفوية لقرابة 100 رجل وامرأة اقتلعوا من ديارهم، واختطف الموت 10 منهم.

وأضاف إن الوزارة تواكب الوعد الأسود منذ أسبوعين، فقد نظمت ندوة سياسية بالشراكة مع جامعة القدس المفتوحة، شارك فيها النائب العربية في "الكنيسيت" حنين زعبي، ووكيل الوزارة محمود خليفة، والقائم بأعمال المحافظة أحمد الأسعد. وأطلقت رسائل لرئيسة الوزراء البريطانية خطتها "بنات طوباس الثانوية"، وتستعد لندوة سياسية بالتعاون مع الجامعة الأمريكية للنائب العربي أحمد الطيبي، وأستاذ العلوم السياسية الدكتور أيمن يوسف، ووكيل الوزارة حول الاستراتيجية الفلسطينية الواجبة بعد مئة عام من الوعد.