القضية الكردية بين العاطفة والحقائق الجيوستراتيجية

القضية الكردية بين العاطفة والحقائق الجيوستراتيجية
 قيس مراد قدري

ما من انسان عاقل لا يؤيد حق تقرير المصير لأي مجموعة عرقية أينما وجدت ؛ والاستفتاء الكردي الذي جرى في شمال العراق يندرج بلا شك في هذا الاطار ؛ لكن بالمقابل هل كان التوقيت صحيحا ؟ وهل هناك أجندات مخفية تقف وراءها دول بعينها ذات مآرب ومصالح خاصة ؟

اسئلة كثيرة تطرح في هذا الصدد . والتوقيت في اجراء هذا الاستفتاء هو ما يثير التساؤل خصوصا وأن الحرب الأهلية في سوريا وخلال وقت قصير ستضع أوزارها  ووصلت الى نهايتها ومعها نهاية ما عرف بالدولة الاسلامية (داعش)  في كل من سوريا والعراق. 

من المؤكد أن الشارع الكردي سيقول نعم كبيرة لقيامة كيان كردي مستقل . وما كان لهذا الاستفتاء أن يتم دون موافقة أمريكية عليه رغم أن الموقف الرسمي المعلن يخالف ذلك لكنه في السر يدعم وبقوة هذا التحرك والدليل على ذلك تدريب وتسليح  20000 مقاتل كردي في سوريا ومثلهم في العراق ما يعني أن أمرا ما يدبر للمنطقة ككل. 

اسرائيل من جهتها لم تخف تأييدها الكامل لعملية الاستفتاء ؛ وهذا ليس سرا بل ان قراءة سريعة لما تناولته الصحافة الاسرائيلية لأكبر دليل على هذا التأييد . ولعل رفع العلم الاسرائيلي في المناطق الكردية وفي المسيرات التي شهدتها  مناطق مختلفة من العالم  لدليل واضح على مدى التنسيق والدعم الذي تقدمه اسرائيل في سبيل تحقيق الحلم الكردي. مضافا الى ذلك تصريحات رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي أعلن صراحة تأييده المطلق لقيام دولة كردية في شمال العراق كنواة لقيام دولة كردية في كل مناطق التواجد الكردي .

حلم اقامة الدولة الكردية يعود في التاريخ الى عهد الدولة العباسية بعد دخولهم الاسلام ؛ لكن فكرة الدولة  لم تظهر الى العلن الا في عام 1922 عندما أسس حفيد البرزنجي مملكة كردية في منطقة السليمانية وعين نفسه ملكا عليها  لكنها لم تعمر سوى عامين وتم القضاء عليها من قبل الجيش البريطاني والعراقي وانتهت بتوقيع معاهدة غادر بموجبها البرزنجي وأسرته الى ايران .

في العام 1925 جرت محاولة لتشكيل كيان مستقل في المناطق الكردية في تركيا بقيادة الشيخ سعيد بيران لكن كمال أتاتورك تمكن من القاء القبض على الشيخ ورفاقه وتم اعدامهم جميعا .

عام 1946 اراد ستالين اقامة كيان كردي في ايران ردا على دعم شاه ايران رضا بهلوي لأدولف هتلر والذي هرب من ايران بعد توغل سوفياتي في أراضيه وآل الحكم الى ولده محمد رضا بهلوي وفعلا تم انشاء ما عرف في ذلك الوقت بجمهورية مهاباد التي أسسها قاضي محمد وأقيمت على 30 % من الأراضي الكردية ولم تعمر سوى 10 أشهر وتم القضاء عليها. 

في العراق جرت محاولات كثيرة قادها الملا مصطفى البرازاني ومن بعده ولده مسعود انتهت بالاعتراف بالقومية الكردية ومنحت حكم ذاتي موسع وأصبحت اللغة الكردية تدرس رسميا ( هناك 3 لغات كردية مختلفة : الفيلية وهذه لغة أكراد بغداد وجنوب العراق وهم ينتمون الى الطائفة الشيعية . واللغة الصورانية والكرامنجية في الشمال في كل من ايران وتركيا ولا قواسم مشتركة بين اللغات الثلاث ). 

بعد احتلال القوات الأمريكية للعراق عام 2003 انتعشت آمال الأكراد بتحقيق حلمهم فأصبح لديهم جيش منظم ( البشمركه ) وبرلمان وأحزاب سياسية وعلم ونشيد وطني واصبح يسمى اقليم كردستان العراق. وبالرغم من كل الاتفاقات بين اقليم كردستان والدولة المركزية في بغداد بحيث أعطي منصب رئيس الجمهورية للأكراد فكان  جلال الطالباني أول رئيس ومن بعده جاء محمد فؤاد معصوم  كما أعطي للأكراد العديد من المناصب السيادية ومن ضمنها وزارة الخارجية.

في خضم الصراع والاقتتال مع الدولة الاسلامية ( داعش ) سيطراقليم كردستا العراق على مدينة كركوك الغنية بالنفط . وخلال السنوات العشر الماضية بيع النفط لجهات عدة وكلها كانت تذهب لأسرة البرزاني .

سوريا التي دخلت في حروب أهلية طاحنة خلال السنوات الست الماضية فسحت المجال أمام أكراد سوريا عام 2016 باقامة نظام فدرالي في مناطق سيطرتهم في شمال سوريا وبدعم واضح من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.

كل هذه المحاولات لاقامة كيان كردي مفهومة ومبررة لكن المعضلة تكمن في أن دول الجوار العراقي أي تركيا وايران وسوريا لن تقبل في أي حال من الأحوال قيام دولة كردية في شمال العراق وتعتبر ذلك تهديدا لأمنها القومي . 

 في تركيا يوجد قرابة 21 مليون كردي وفي ايران 12% من السكان من الأكراد وفي سوريا قرابة 3 ملايين كردي وهناك نسبة أقل من ذلك بكثير في أرمينيا  . لذا لن تسمح هذه الدول بأي تغيير جيو- سياسي في المنطقة لأنه سيكون على حسابها وسببا لاضعافها وتجزأتها .

بوادر محاربة التطلعات الكردية قد بدأت فور بداية الاستفتاء اذ قامت كل من تركيا وايران باغلاق حدودها البرية والجوية مع الاقليم ولا شك أنه سيترافق مع تطبيق عقوبات اقتصادية وربما تصل الى شن حرب بهدف وأد فكرة الدولة من أساسها.

الأيام القليلة القادمة حبلى بالكثير من المتغيرات التي ستشهدها المنطقة لكن من المؤكد أن ما كان قبل الاستفتاء لن يكون كذلك بعده.

التعليقات