سلفيو قطاع غزة: بين فرص الاحتواء وأخطار التهديد

سلفيو قطاع غزة: بين فرص الاحتواء وأخطار التهديد
سلفيو قطاع غزة:

بين فرص الاحتواء وأخطار التهديد

د. أحمد يوسف

إن عملية التفجير الإرهابي لأحد عناصر السلفية الجهادية ضد مجموعة من شباب القسَّام المرابطين في منطقة رفح الحدودية مع مصر، قد أثارت الكثير من الأسئلة التي تبعث على الخوف والقلق، حول خطورة هذه المجموعات المتطرفة على حالة الاستقرار والأمن العام، ومدى ارتباط عناصرها بالتنظيمات العابرة للحدود؟ وهل هناك حالات اختراق لهذه المجموعات من قبل الموساد الإسرائيلي؟! وهل سنشهد لها مواجهات مفتوحة مع قوى المقاومة في قطاع غزة؟ وهل المناطق الحدودية مع مصر ستكون مسرح لعمليات إرهابية قادمة؟ تساؤلات مشروعة يطرحها هذا الحادث الإرهابي، وتسوقنا لتناول الحديث عن السلفية في فطاع غزة ولو بمشهد مختصر تحتاج معالجته إلى أكثر من مقال. 

سلفية غزة في سطور

قبل وصول حركة حماس إلى سدّة الحكم في عام 2006، لم يكن للسلفية بطابعها الدعوي الهادئ خصومة مع الحركة، بل كانت رصيداً ميدانياً لعملها الحركي، حيث نشطت في الأماكن التي لم تكن ضمن اهتمامات حركة الإخوان في قطاع غزة، وجلبت الكثير من الشباب إلى المساجد، وحثتهم على التزام الأخلاق والآداب الإسلامية. 

بعد عام 2007، تربعت حركة حماس بمفردها على مسرح الحكم والسياسة في قطاع غزة، وبدأت تتعالى النداءات لتطبيق الشريعة الإسلامية، حيث أخذ هؤلاء الإخوة في الحركة السلفية يوجهون الاتهامات لحركة حماس بتعطيل تحكيم الشريعة، مما أثار الكثير من اللغط والتوتر في العلاقة، والتي تصدَّعت وتصاعدت بعد أحداث مسجد ابن تيمية عام 2009، ومقتل الشيخ عبد اللطيف موسي (رحمه الله)، الذي أظهر التمرد، والإعلان عن إمارته الإسلامية!!

وبغض النظر عن كل التفسيرات التي تمَّ تقديمها لما وقع، فالذي لا نختلف عليه أنها كانت فتنة؛ ألا وإن الله وقانا شر انتشارها وتمَّ تطويقها بأقل الخسائر ومعالجة ذيولها بجهود مشكورة في الداخل والخارج، والدماء التي سالت نحتسبها عند الله شهداء، ونسأل الله التوبة والمغفرة للجميع.

السلفية الجهادية: الظاهرة والإشكالية 

إن واحدة من الظواهر التي تفاجئك عندما تقرأ عن السلفية الجهادية كظاهرة عالمية أن الكثير من أعلامها ومن برزوا على ساحتها؛ سواء في العالم العربي أو الإسلامي، تعود أصولهم إلى أرض فلسطين، حتى من أقام منهم في مصر والأردن كالأستاذ صالح سرِّية، والأستاذ محمد سالم الرحَّال، والشيخ أبو محمد المقدسي وأبو قتادة، والعنوان الإسلامي الكبير الشيخ عبد الله عزام (رحمه الله).

إن هؤلاء الرجال الذين بادروا بالتأسيس للفكر الجهادي على شكل مجموعات مقاتلة ظهر تأثيرها أولاً في مصر، ثم في أفغانستان، لتنتشر بعد ذلك في طول العالم العربي وعرضه، وتشكل صدعاً مقلقاً للأنظمة العربية الملكية والثورية، وصراعاً دامياً لم تتوقف مخاطره منذ أن وضعت الحرب أوزارها في أفغانستان، وانتهت المواجهات المسلحة والدامية مع السوفييت في نهاية الثمانينيات، حيث عاد الآلاف من هؤلاء المجاهدين (الأفغان العرب) إلى بلدانهم لاستكمال مشروعهم الجهادي بتحرير أوطانهم من حكم البغاة والطواغيت، فخاضوا مواجهات ضارية تعددت سنوات المواجهة فيها من مكان لآخر.

ففي الجزائر، استمرت المعارك الطاحنة عشرية كاملة، في محنة وطنية غير مسبوقة منذ الاستقلال، حيث راح ضحيتها أكثر من 200 ألف قتيل، وفقا للإحصائيات شبه الرسمية.. وفي العراق وسوريا، ما تزال رحى تلك المواجهات قائمة، بالرغم من كل ما أهلكته من الحرث والنسل والتشريد لملايين البشر داخل الوطن وخارج حدوده. 

إن من الجدير ذكره القول: إن الظاهرة السلفية الجهادية هي نتاج للثقافة السلفية الهادئة وغير المنضبطة فكرياً، والتي كانت السعودية وجامعاتها الإسلامية حاضنة لها، ولكنها أيضاً تمَّ تغذيتها بالمظالم التي لحقت بالمجاهدين العرب وحالات الظلم والاستبداد والقهر التي عليها معظم أنظمتنا العربية. لذلك، فالسلفية الجهادية هي نتاج لكل هذه الظواهر المشوهة من التعاملات اللاإنسانية والسياسات الظالمة والأفكار المتطرفة، فهي حالة متطورة منذ أكثر من أربعة عقود، وكان لها العديد من الدوافع والأسباب، فهي حقيقة لم تكن نبتاً شيطانياً عارضاً تفاجئنا به.

إن واحداً من بين أهم الكتب التي صدرت باللغة العربية عام 2011، وتناولت الظاهرة بالشرح والتفصيل كتاب "السلفي اليتيم: الوجه الفلسطيني للجهاد العالمي والقاعدة"، للإعلامي حازم الأمين، والذي تتبع مسارات هذا التيار منذ السبعينيات، وربط بين ذلك والمأساة الفلسطينية في الشتات، حيث كانت النكبات والجراح الغائرة التي تعرضوا لها أرضاً خصبة لتنامي حركات الغلو والتطرف.

ومع استمرار عمليات النزف والوجع الفلسطيني على مدار أكثر من ستين عاماً، أصبح بعض رجالات هذا التيار السلفي الجهادي رؤوساً في الإفتاء أو قادة وجنوداً له.

والإصدار الثاني الذي تناول الظاهرة السلفية بالبحث والتحليل في أشكالها ومدارسها وبعض رموزها وشخصياتها في العالم العربي هو كتاب "أنا سلفي"، للدكتور محمد أبو رمان، والصادر عن مؤسسة "فريدريش ايبرت" الألمانية عام 2014، وهو عبارة عن بحث في الهوية الواقعية والمتخيلة لدى السلفيين، وخلص بدراسته تلك إلى أن السلفية ليست أمراً مستحدثاً، ولا غزواً دينياً لمجتمعاتنا وثقافتنا العربية، فهي تيار عريض له تراثه الفقهي والفكري والدعوي، ومعه ترسانة من الكتب والفتاوى والتنظير الديني غير المنقطع عبر القرون والعصور الإسلامية، وهي ليست فقط اتجاهاً فكرياً - فقهياً، وقبل ذلك عقائدياً، حقق انتصاراً كبيراً على الاتجاهات الإسلامية الأخرى، وانتشر في أرجاء العالم العربي فقط، فزيادة على ذلك ، تمثل السلفية حالة معاصرة لها حضورها الملحوظ في مختلف مناحي الحياة العربية، وخاصة بعد ما سمي بـ"الربيع العربي"، حيث إن تحولاً كبيراً طرأ في المنطقة وأدى إلى مشاركتهم في الشئون السياسية، ودفعهم بالتالي إلى إعلان أجنداتهم السياسية.

المظلومية الفلسطينية: الدافع والمحرك للتطرف

لا شكَّ بأن إسرائيل بشكلها الاستعماري الإحلالي وعدوانها المستمر على الفلسطينيين، والمظلومية التي لحقت بشعبنا من ناحية، والاضطهاد والاستبداد في الدول العربية من ناحية ثانية، هي البيئة الأكثر ملائمة لتفريخ الغلو والتطرف، خاصة مع استهداف تيارات الاعتدال والوسطية، التي يمثل الإخوان المسلمون أحد أعمدتها في العالم العربي.

في فلسطين، وخاصة في قطاع غزة، نشأ تيار سلفي معتدل، لم يعرف الغلو والتطرف طريقاً إلى قلبه ولسانه، وكل ما تحرك من أجله في البداية – كما ذكرنا - هو العمل على حث الشباب للصلاة في المساجد، والمشاركة في الحلقات الدينية التي تنعقد هناك، بهدف تنقية الروح وتقييم السلوك، ولكن تعقيدات الحالة السياسية على الساحة الفلسطينية، والصدمة التي عاشها هؤلاء الشباب في غياب تحقيق حلمهم برؤية ملامح الدولة الإسلامية على أرض الواقع، دفع بعضهم إلى التطرف، وتجنيد بعضهم الآخر للعمل من حيث لا يعلم مع أجهزة المخابرات الإسرائيلية، لإلباس الحالة الإسلامية في قطاع غزة ثوب الشيطان، ووصم حركة حماس وأصحاب المشروع الإسلامي بالتطرف والإرهاب!! لذلك، شاهدنا بعض هؤلاء يغادر القطاع، ويتخذ سبيله لبيئات بعيدة عن أرض الوطن، ليمارس ما يعتقده من فريضة الجهاد، فكان أن شدَّ بعضهم الرحال إلى العراق وسوريا، أو إلى ليبيا وسيناء، فيما العدو الحقيقي للأمة هو على بُعد مرمى حجر منهم!! 

نعم؛ هناك تيار سلفي وجد طريقه وأخذ مكانته في مساجد قطاع غزة، وذلك بعد أن انشغل الكثير من الدعاة بمسائل السياسة وشئون الحكم، وهذا الفراغ وجد من يملأه، فتنامت أعداد الكوادر السلفية وأعمدتها، وصار لهم مساجد ينشطون بها وأجندات يعملون على خدمتها.

كانت حركة حماس ولعشر سنوات مشغولة بأوضاع السياسة، وغفت عيونها عما يحدث داخل ما كان يعتبر مسرح عملياتها الأساس وهو المساجد، ولكن بعد أن أعادت التفاتها لتلك الساحة التي تعتبر الأهم والأساس لها ميدانياً، كانت السلفية قد تجذَّرت وتوسعت، وصار لها عناوين ومؤسسات ورجال أعلام يصعب محاصرتها أو شطبها من الخريطة الإسلامية.

ومع اكتشاف الأجهزة الأمنية في قطاع غزة لعدد من هؤلاء الشباب المشبوهين، والذين نجحت المخابرات الإسرائيلية في تجنيدهم، بهدف خلق حالة من الفتنة الدينية والفوضى الأمنية في القطاع، وتكاثر تحذيرات الدولة المصرية من وجود عناصر من بين هؤلاء تقاتل إلى جانب تنظيم بيت المقدس التابع لتنظيم الدولة في سيناء، قامت وزارة الداخلية في قطاع غزة وأجهزتها الأمنية بتعزيز أمن الحدود مع مصر، والقيام بحملة اعتقالات واسعة ضد هذه العناصر للتحقيق معها؛ لأنها غدت تشكل خطراً على الأمن القومي للقطاع، وتهديداً للعلاقة مع الشقيقة مصر.

لا شك أن التحقيقات أخذت مسارات عدة، لتجنيب وقوع الظلم على هؤلاء الشباب، وعدم خلط الأوراق بين الديني والأمني، فكان أن قامت وزارة الداخلية بإطلاق سراح الكثيرين منهم، بعد محاكمات عادلة أجريت لهم.

 بقي البعض رهن الاعتقال، حتى تتضح طبيعة ارتباطاتهم الأمنية، ويجري العمل على توعية البعض دينياً؛ لأنهم كانوا ضحية التضليل والتجهيل والانحراف الفكري.

في الحقيقة، حاولت حركة حماس التعامل بهدوء مع الحالة السلفية، ولكن تكاثر الشكوى من الجانب المصري بقيام عناصر من هذا التيار باختراقات أمنية، استفز الأجهزة الأمنية فقامت بوضع الخطرين والمشبوهين منهم في دائرة الرصد والمراقبة؛ لأنهم كما شاهدنا في قصة العميل "أشرف أبو ليله"، الذي قام باغتيال القيادي في القسام مازن فقهاء، حيث أصبحوا خطراً حتى على أمن قطاع غزة، وعلى المقاومة الفلسطينية.

إن الحادث الأخير للتفجير الإرهابي في مدينة رفح، هو في الحقيقة مؤشر على خطورة ما هو قادم؛ لأن أمثال هؤلاء المتطرفين والغلاة إن لم يتم معالجتهم فكرياً وأمنياً ومجتمعياً سيشكلون للمقاومة الفلسطينية طعنة في الخاصرة الوطنية، وربما يدفعون الساحة لمواجهات عسكرية مع الاحتلال في غير توقيتاتها الزمنية، وتوتير العلاقات الأمنية مع مصر، وتشويه صورة المشروع الفلسطيني للجهاد والمقاومة.

إن البيان الذي أصدره تنظيم الدولة (داعش) في نعي الانتحاري مصطفى كلاب، وكردٍّ على ما جري، يعكس طبيعة الحقد والعداء الذي يغذي هذه المجموعات المتطرفة، ومدى ما هي عليه من ضلال مبين، الأمر يدفعنا للقول: إن لم يتم تصحيح ملامح الرؤية عند هذه المجموعات من السلفية الجهادية، وتصويب بوصلتها ثقافياً ووطنياً، فإن المقاومة سوف تصطدم بهم وبمناصريهم في المناطق الحدودية، وبدل أن يكونوا ركيزة وطنية في مشروع التحرير والعودة، فإنهم – للأسف - سيتحولون إلى صنَّاع فتنة وشرور، وهذا سيؤدي – شئنا أم أبينا -  إلى حرف بوصلة النضال الفلسطيني.  

لقد انتهيت مؤخراً من إعداد كتاب (التيارات السلفية في قطاع غزة: بين الاعتدال والتطرف والحسابات الوطنية)، حيث حاولت فيه إلقاء الضوء على هذه الحركة السلفية بمختلف رجالاتها وتياراتها، وتوضيح الحقيقة حول أهم مؤسساتها في القطاع، وإظهار براءتها مما تروج له إسرائيل وعملاؤها في المنطقة من اتهامات لهؤلاء السلفيين، بادعاء أن القطاع غدا حاضنة للتطرف والإرهاب، ودحض ذلك وتفنيده من خلال التأكيد على طهارة هذا التيار بشكل عام، برغم انحراف بعض كوادره عن الجادة، ووقوع عدد منهم بأيدي أجهزة المخابرات الإسرائيلية كخلايا نائمة يتم إيقاظها من حين لآخر، لغرض إثارة الفتنة وتحريك الفوضى الأمنية والخلاف مع الجوار الجغرافي.

وبغرض استكمال مشهد الحقيقة والتعرَّف على خلفية المنحرفين منهم، قمت بإجراء عددٍ من المقابلات مع شخصيات قضائية وأمنية ودينية وأكاديمية لتجلية كل جوانب القضية المتعلقة بالتيارات السلفية؛ سواء ما كان منها اتهامات بأدلة وبراهين أو ما أثير حولها من ادعاءات وأباطيل، وذلك بهدف تفنيد ما تقوم به إسرائيل من محاولات على الساحات الدولية لشيطنة قطاع غزة، بغرض تبرير حروبها العدوانية المستمرة على القطاع بذريعة محاربة الإرهاب.!! 

ولعيِّ أطرح هنا ما ذكره د. محمد أبو رمان حول السلفية بشكل عام، حيث أشار إلى أن "السلفية ليست أمراً مستحدثاً، ولا غزواً دينياً لمجتمعاتنا وثقافتنا العربية، فهي تيار عريض له تراثه الفقهي والفكري والدعوي، ومعه ترسانة من الكتب والفتاوي والتنظير الديني غير المنقطع عبر القرون الإسلامية، وهي ليست فقط اتجاهاً فكرياً – فقهياً، وقبل ذلك عقائدياً، فزيادة على ذلك، تمثل السلفية حالة معاصرة لها حضورها الملحوظ في مختلف مناحي الحياة العربية". ولذلك، فإن من يتصدون لمعالجة هذه الظاهرة السلفية الوعي بكل ما سبق.

ختاماً: لإخواني في حركة حماس وقوى المقاومة الفلسطينية، والكل الوطني والإسلامي، خذوا حذركم، فالمعالجة لهذه الظاهرة من الانحراف الفكري تحتاج إلى جهد الجميع، وعقل وحكمة الجميع، حتى لا يخرق السفينة قلة من المتطرفين، حيث إن المطلوب منّا جميعاً الأخذ على يد هؤلاء الغلاة المنحرفين، ولكن بتوافقات وطنية يكون الكل فيها صاحب رأي وقرار.

التعليقات