القطة التي اكتشفت ان الاسرى اكثر رحمة من السجانين

القطة التي اكتشفت ان الاسرى اكثر رحمة من السجانين
 عيسى قراقع

رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين

(قط بئر السبع) ، رواية جديدة للكاتب الصحفي اسامة العيسة، صادرة عن دار الهلال وتقع في 152 صفحة من القطع المتوسط ، تبحر في عالم السجون والمعتقلات الاسرائيلية ومن خلال قطة لجات الى سجن بئر السبع لتعيش هناك بين الاسرى ، تشاركهم همومهم وآلامهم وأحلامهم ، تركت الصحراء القاسية وبراري الصيد بعد ان وجدت الرأفة والطمانينة من قبل الاسرى المحشورين والمقيدين، تكون اكثر امانا على ابراشهم وفي أحضانهم الى درجة انها فضلت ان تنجب ابناءها في غرفة السجن لا في صحراء بئر السبع الواسعة.

القطة التي اطلق عليها الشقراء يعتني بها الاسير ابراهيم الصرعاوي والذي لقب بسبب ذلك بإبراهيم البسة، كان يتحسس جسدها، يفهم نبرات صوتها وتقدير حركة ذيلها وإغماض عينيها وتحريك شاربيها، فتولدت ثقة بين القطة وابراهيم، تاركة جسمها له، مرخية اذينها لصوت الاسرى ولعاداتهم وتقاليدهم، لآلامهم ومعاناتهم، كان ابراهيم يطعمها بيديه، صديقته التي تشاركه الفراش، يمسد على فروها يخفيها في فترات العدد والمداهمات التي تقوم بها شرطة السجن، يتصيد لها العصافير، مستغربا من هذه القطة التي فضلت السجن على البقاء في الصحراء ورائحة الرمل وقبلت بالحشر مع الآدميين المعتقلين.

القطة التي وجدت الحب من قبل الاسرى هربت من دولة اسرائيل التي حولت نفسها الى معسكر كبير، مدجج بالسلاح ، جففت الحياة، لا طيور ولا أفاعي ولا سحالي ولا حشرات في صحراء بئر السبع ، بل سجون ومعسكرات ومفاعل نووي ومواد كيماوية سامة تدفن في الصحراء، اسلاك شائكة في كل مكان ، دبابات ومجنزرات ومعسكرات تدريب وصوت رصاص في كل مكان، حتى السماء مسيجة، لا ماء ولا عشب ولا مكان للجري واللعب وممارسة المهارت.

القطة رأت بأم عينيها كيف دمرت البلدات الفلسطينية في بئر السبع، وهجر سكان عشرات القرى الفلسطينية من صحراء النقب والاستيلاء على أراضيها وتهجير 40 الف من السكان البدو وتدمير 38 قرية والذي عرف ( بمشروع برافر) الاسرائيلي، فلم تبق نخلة تجلس تحتها القطة، ولا نبع ماء تشرب منه، فركضت خائفة جوعانة حتى وصلت السجن واجتازت الاسلاك الشائكة واندست في أجسام المعتقلين.

القطة وجدت ان الصحراء الجميلة اقامت فيها دولة الاحتلال سجونا ومعسكرات: النقب ونفحة وريمون وايشل وايلا و هولي كيدار وعسقلان ، واصبحت الصحراء مقابر للبشر، وكل ما حولها رعب وفزع، ثلاثة اسرى يسقطون في اضراب سجن نفحة خلال الاضراب عن الطعام ، مداهمات وصوت قنابل في سجن النقب، سقوط الاسير محمد الاشقر محترقا بقنابل السجانين،هنا ترتكب جرائم ، رائحة موت،صوت طائرات تقصف غزة، سيارات بوسطة حديدية تراها تتحرك ليل نهار تنقل فيها الاسرى، اصوات وجع وأنين لأسرى في الزنازين ومراكز التحقيق، اسرى مرضى ومصابين وجرحى، كل ما حولها رعب وجحيم.

القطة رأت اسرى مشبوحين تحت السياج، وشاهدت الكثير من المستوطنات التي اعدمت الحقول والمراعي والشجر، ورأت كيف تربى الكلاب المفترسة المتوحشة التي تلاحق الناس والفدائيين وتستخدم في مداهمة غرف وأقسام المعتقلين، كل ما حولها نباح مسعور لدولة تتأسس على الحديد والوحشية.

القطة لجأت الى الاسرى لأن كل ما حولها حقول الغام ، وجثث مدفونة ومحتجزة في ما يسمى مقابر الارقام، جدران واسلاك مكهربة وحواجز عسكرية تمنعها من الوصول الى الضفة الغربية والقدس، فقد تحولت الى قنبلة موقوتة في دولة اسرائيل التي تكره الكائنات الحيّة، و تدوس على الخط الاخضر، لتمتد ابعد وابعد احتلالا واستيطانا وعدوانا.

القطة اكتشفت ان الاسرى اكثر رحمة وإنسانية من السجانين الذين لاحقوها وهاجموا غرف الاسرى لإلقاء القبض عليها وعلى اولادها ، وهي التي عرفت ان هؤلاء الذين احتكروا دور الضحية تحولوا الى جلادين ، وأن دولة اسرائيل كما تقول القطة اصبحت دولة عنصرية تفرق في المعاملة بين سجين اسرائيلي وآخر فلسطيني ، فالاسرى ممنوعين من كل شيء، من العلاج والطعام الجيد ، من الكتب والصحف والزيارات، يتعرضون للقمع بكميات كبيرة من الغاز ومن فرق مدججة بالسلاح ، يتعرضون لمحاكمات جائرة وغيرعادلة، للاهانات اليومية والإذلال والتعذيب.

القطة حفظت رواية ابراهيم الصرعاوي عن قريته صرعة الكنعانية المقامة فوق جبال القدس التي دمرت خلال نكبة 1948، واستولوا على اضرحتها ومقاماتها، وكيف اخفيت آثار القرى والناس بأشجار الصنوبر التي احترقت ذات يوم فخرج البشر من تحت التراب كالاشباح ، فلم ينعم المستوطنون الجدد بمستوطناتهم بعد ان هاجمتهم اشباح الناس وعظامهم المتناثرة.

القطة عرفت كيف يصمد الاسرى عندما لا يستطيع السجن ان يسيطر على عالمهم الداخلي ، فإبراهيم في زنزانته الانفرادية يعيد استكشاف ماضية منذ ان رحل من مخيم الدهيشة وعاد فدائيا مسلحا عبر الحدود ليشتبك مع الاحتلال ، ويستعيد علاقاته مع ناسه بالخارج، يتعرض للتعذيب القاسي وهو يقول: نحن هنا لأننا رفضنا ان نكون نكرات، اردنا ان نغير، ان نفكر خارج السائد، ان نقل لا للاحتلال، لا للظلم ، لا لقتلة الاطفال، مدمري المنازل وسارقي وطن الغير.

القطة وجدت ان الاسرى الفلسطينين يعرفون ان استخدام القطط والعناية بها هو نوع من طقوس الاحترام لها والمستمدة من التراث ومن طقوس الفراعنة الذين رسموا إلهة الشمس برأس قطة حنونا وادعة، وقد سمعت ابراهيم الصرعاوي يقول: عندما اعتني بالقطة الشقراء انا في الواقع ادافع عن البشرية المهدورة التي شوهها الاحتلال، ونحن لا نعرف ذواتنا الا اذا عرفنا طبيعة علاقتنا بالقطط.

القطة التي اصبحت مراسلا للاسرى تنقل رسائلهم من غرفة الى غرفة، وقد شاركتهم في الاضراب عن الطعام، وشاهدت كيف يستخدم قانون التغذية القسرية بحق الاسرى، وكيف يزج الاسرى في الزنازين وتمارس بحقهم العقوبات الكثيرة، وشاهدت سقوط اسير شهيدا خلال الاضراب ، اقتنعت ان اسرائيل التي تدعي انها واحة للديمقراطية في الشرق الاوسط ليست اكثر من دولة فاشية بعيدة عن السلام الذي اصبح كما قال لها ابراهيم : سلام الانحناء والاستسلام.

إدارة السجون قررت القبض على القطة التي اعطت حياة جديدة للمعتلقين ، فشنت هجوما على غرف الاسرى لأنها لا تحتمل هذا المواء الذي يكسر صمت السجن، ولا تحتمل هذا الحنين واللغة الخاصة بين الاسرى والقطة الجميلة الوديعة ، لا تحتمل ان تحمل قطة ذكريات وحكايات وروايات الاسرى وتصبح شاهدا طليقا في يوم من الايام على ممارسات وجرائم المحتلين.

إدارة سجن بئر السبع تقرر اعدام القطة بعد القاء القبض عليها وبطريقة تمنعها من العودة الى السجن بعد ان عادت اكثر من مرة، فتم إلقاءها الى الكلاب المتوحشة المفترسة التابعة للسجن، والتي نهشت القطة ومزقتها، ليسمع الجميع مواء قطة على مصيرها المأساوي الذي لم تتوقعه عندما قررت العودة من الصحراء الى سجن البني آدميين هذا.

لقد اعدمت الكلاب المتوحشة القطة امام استمتاع الجلادين الذين لم يكن ينقصهم سوى جلود حيوانات، كان القط يصرخ والجلادون من حوله ينبحون.

قال الجلاد يوما لإبراهيم الصرعاوي: لو تعمل معنا شهرا تصبح متوحشا مثلنا

التعليقات