فلاديمير تماري – رحيل فنان

فلاديمير تماري – رحيل فنان
د. حنا ناصر

لا أعرف كم من الفلسطينيين يعرفون فلاديمير تماري. فقد كان يعيش في اليابان منذ سنوات عديدة. ولكنه رغم الغربة الطويلة بقي فلاديمير ابن يافا وابن فلسطين البار. كان فناناً مرهف الحس. ومعظم رسومه تتعلق بفلسطين وبالقدس بشكل محدد. ولكن فنه وإنتاجه كان عالمياً أيضاً، كما يظهر جلياً في أجمل لوحاته التي رسمها وهو يستمع إلى المقطوعات الموسيقية العالمية الكلاسيكية. فخرجت هذه الأعمال بشكل متألق، مزيجاً من الموسيقى والرسم في آن واحد. وتذكرني رهافة حس فلاديمير في الرسم برهافة حس محمود درويش مع الكلمة. 

كان فلاديمير شخصية متعدد المواهب، فعدا عن الفن، كان كاتباً في علم الفيزياء ومخترعاً ومصمماً في مجالات متعددة. درس الفيزياء في الجامعة الأميركية في بيروت وطغت عليه – كالكثيرين من الفيزيائيين- فكرة نقض نظرية أينشتاين في النسبية. وكتب ونشر حول هذا الموضوع في عدد من الدوريات المتخصصة. وكان أبدع ما في هذه المقالات هي الرسومات التي كان يقوم بها  فلاديمير لتوضيح أفكاره. 

أما بالنسبة للاختراعات فقد صمم – ضمن ما صمم - آلة ميكانيكية للرسم ثلاثية الأبعاد، وسجل ذلك الاختراع في اليابان وفي الولايات المتحدة ولكنه لم ينتج الآلة. فكان - مثل الكثير من المخترعين – غير آبه بالمردود المالي لعمله. كذلك انصب اهتمام فلاديمير وشغفه على الخط العربي وصمم نوعا من الخط أسماه «القدس». وهو نوع خط جميل استعملته العديد من دور النشر في طباعة كتبها.  

زار فلسطين في أواخر السبعينيات من القرن الماضي مع زوجته اليابانية كيوكو وابنتيه مريم ومنى. وكان استقبال سلطات الاحتلال له استقبالاً «حاراً»، فاقتادوه مباشرة من الجسر إلى المسكوبية – حيث قضى عدة أيام قبل الإفراج عنه. ومن «زار» المسكوبية في تلك الأيام كان يرى رسومات فلاديمير على الحائط،- رسومات ترمز إلى الحق الفلسطيني، رسومات سمعتُ أنها أبهرت وألهمت الكثيرين من الأسرى في حينه. 

كان دفتر الرسم ملازما لفلاديمير - لا يتحرك من مكان إلى آخر إلا والدفتر معه، يرسم ويلون في الطرقات وفي الحافلات العامة وفي أي مكان يكون فيه. وحتى في مرضه الأخير كان ذلك الدفتر ملازماً له. ولكنه كان يستبدله أحياناً بالأجهزة الإلكترونية الحديثة ويرسم عليها بسرعة ودقة هائلتين.  

زرتُه مرة في اليابان وأطلعني على دفاتر رسوماته وتصاميمه. كنت أشعر أنني أنظر إلى إبداعات من أعمال مايكل أنجلو؛ دقة في تعابير الوجوه المرسومة ودقة في التصاميم الميكانيكية وملاحظات متعددة على الحواشي كافية لعمل أبحاث كاملة عنها.

فلاديمير نشأ في عائلة فنية، فشقيقته الكبرى تانيا مغنية كلاسيكية موهوبة، وشقيقته الصغرى فيرا فنانة رسم وخزف مرموقة، وابنته مريم مغنية أوبرا محترفة، وقد شاركت في الكثير من الحفلات الموسيقية  في الخارج وفي فلسطين، أما ابنته الثانية منى فهي مهندسة معمارية متميزة.

أهم ما ميز فلاديمير هو تواضعه الجم. جميع من عرف فلاديمير أحبه، وقد أحبه اليابانيون – الذين سكن بينهم عشرات السنوات – بسبب هذا التواضع. وكان الأطفال في الباحات يتندرون عندما يرون فلاديمير – هامة تقرب المترين طولاً، وهي هامة عملاقة في اليابان – وربما في بلدان أخرى أيضاً. 

أبنائي، موسى ورمزي وباسم ورندة، تربطهم بخالهم علاقة قوية ويحبونه من أعماق قلوبهم. وكانوا يتحدثون مراراً معه هاتفياً حول أعماله. أما أنا شخصياً فسأفتقد فلاديمير كثيراً. كنت أطرب لروح الدعابة لديه، وكنت أجادله أحياناً في كتاباته حول نظريات أينشتاين، مندهشاً لسعة معرفته بدقائق هذا الموضوع.

لا أعرف من سيوفي فلاديمير حقه أو إن كان ذلك ضرورياً. ففنه هو الذي سيوفيه هذا الحق، وفلسطين ستفتقدك يا فلاديمير، وعائلتك في اليابان وفي فلسطين ستذرف الدمع على فقدانك. فنم قريرَ العين. لقد تركتَ إرثاً للأجيال القادمة سيُبقي ذكراك خالدة.  

*عن الأيام

التعليقات