بين اسبرطة وأثينا

بين اسبرطة وأثينا
 شفيق التلولي 

قبل هذا الفضاء الأزرق الوسيع كانت أصابعنا خشنة تجيد الإمساك بالحجارة؛ نرجم الجند الغاصبين مدينتنا كلما مروا جيئة وإيابا؛ فلم يمتص خشونتها لمس شاشات أجهزة العصرنة الذكية، كنا نرى قرص الشمس وقوس قزح وأشياء أخرى دون نظارة شمسية، نقرأ ما تشتهيه الأبصار بلا أي من النظارات الطبية، نكتب بخطيّ النسخ والرقعة ما يجول في وجداننا من خلجات وخواطر.

 لم تكن لتشوش هذه التكنولوجيا المجنونة رؤيتنا للأشياء؛ كان بريق عيوننا يشق دروب عتمة المخيم؛ لنصرخ في وجه حاكم المدينة كلما تمطى حظر التجوال الثقيل، زادنا أصابعنا الخشنة وسواعدنا التي شدتها الطوابير الصباحية في مدارسنا القرميدية أو الصفيحية ومونتنا القرطاس والقلم والحجر.

 أما وقد حطت غزوة الانترنت الكبرى حتى أسقطتنا في براثن "سوء استخدام التكنولوجيا" وتَسيّدت صحائفها، أوقعتنا أزرارها في فِخاخ مواقعها التواصلية الاجتماعية الافتراضية، اصطادتنا شِباك "السوشلة الفوضوية"، أصابتنا الحُمى الكيبوردية؛ فطوقتنا أنظمتها وقوانينها وساقتنا أحكامها "الخُنفشارية" بالجرم المشهود.

 ليس هذا هو المهم، وجيد أن نمتطي أمواج التكنولوجيا الحديثة بكل فضاءاتها المعرفية، لكننا لم نفلح حتى اللحظة في الخروج من تردداتها وذبذباتها الإلكترونية إلى بَراح الحرية التي نتوق، فما زلنا نقاتل بأصابعنا الناعمة وبأسلحتنا الكيبوردية التي لم تؤسس مع الأسف إلى حراك حقيقي وفاعل يغير واقعنا المزري مع تقدير الدور الذي أسهمت به في تثوير الأمة بدايات ما سمي بالربيع العربي.

 منذ أن اجتاحت تكنولوجيا المعلومات فضاءنا ونحن نختبئ خلف أصابعنا، نمارس التنظير من وراء شاشات أجهزتنا المحوسبة، نشكو إليها حالتنا الرثة ونلعن واقعنا المزري بين اسبرطة وأثينا، وندعو إلى التغيير ولوجاً للخلاص والانعتاق؛ لعل وعسى أن تُفضي إلى بلوغ غايتنا وتحقيق هدفنا المنشود وتعيد مدينتنا.

 ليتني أقدر أن أمضي في الشوارع والطرقات لا لكي أحمل الحجارة وألقيها في وجه من يوصد أبواب المدينة، ليتني أستطيع أن أركض صوب الحصون، أتسلق كل الجُدر العاليات؛ كي أصرخ بملء حنجرتي وأسمع حاكم المدينة صوتي؛ بيد أن إصابتي الملعونة وما أعملت تخذلني وتعيدني خلف هذه الشاشة الزرقاء، أخط بقلمي خيطاً؛ عله يجمع اسبرطة بأثينا.

 يا أهل السوشلة، معشر فيس بوك وقوم تويتر وهواة انستجرام وأخواتها من مواقع انترنتية، دعونا نسجل في رواياتنا ما يستحق من شهادات؛ أخرجوا من خلف شاشات الوهم والهوان، حرروا أصابعكم الناعمة تغدو خشنة، أطلقوا أظفاركم وتسلقوا الجدران الصماء، أصرخوا عالياً واسمعوا حاكم المدينة صوتكم؛ لتعد مدينتكم إلى النور.

التعليقات