لحظات تاريخية مع الرئيس عرفات

لحظات تاريخية مع الرئيس عرفات
لحظات تاريخية مع الرئيس عرفات 
انهيار الاتحاد السوفيتي 

شهد العالم وعلي امتداد عقد الثمانينات وبداية عقد التسعينات من القرن العشرين العديد من التحولات الإستراتيجية الكبرى ، دول وكيانات وأنظمة ومنظومات اختفت عن الخارطة السياسية للأمم إلا أن منظمة التحرير الفلسطينية وهي الرقم الصعب حافظت على بقائها ووجودها في معارك الصراع ضد التيارات الجارفة ، ولقد كان للرئيس عرفات ولقيادة حركة فتح التاريخية دورها البارز في حماية الشعب والوطن والقضية الفلسطينية من الضياع ، وفي هذه المذكرات يكشف اللواء الدكتور / كامل أبو عيسي . وهو من أهم المفكرين الاستراتيجيين الموثوقين على الصعيدين الأمني والسياسي لدي الرئيس عرفات بعض أسرار تلك المرحلة الخطيرة والصعبة . 

صحيفة الأهرام 24/8/2009م 
 
 لحظات تاريخية مع الرئيس عرفات
انهيار الاتحاد السوفييتي

بقلم:اللواء الدكتور كامل أبو عيسى

المقدمـــــة
عندما يستنشق الإنسان الحر عبق التاريخ تحت ضغط الزمان وعبودية المكان ،يبدأ شريط الذاكرة وعبر دورانه القدري العجيب في استحضار التجربة قبل أن يفترسها العدم وهي تدخل قسراً في غابة النسيان ،ولهذا فأنني ومن منطلق الوفاء لذكرى قادة عظام ساهموا وبالقدر الممكن في صناعة التاريخ الفلسطيني المعاصر، أكتب للجميع وللأجيال القادمة هذه الاضاءات الخاصة بعلاقات العمل التي جمعتني بهم في إطار المعركة الوطنية للشعب الفلسطيني ومن أجل نيل الحرية والاستقلال والخلاص من عبودية الاحتلال الإسرائيلي البغيض ، وعلى طريق تجسيد الحلم ببناء الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة وعاصمتها القدس الشريف.
أكتب هذه الاضاءات عن  دولة الحلم الفلسطيني التي استشهد من أجلها الأخ أبو جهاد والأخ أبو إياد والأخ أبو الهول والرئيس ياسر عرفات،" أبو عمار " بالإضافة إلى عدد كبير من شهداء الملحمة الفلسطينية المستمرة ممن سبقوهم أو لحقوا بهم على طريق الشهادة.
لقد منحتنا هذه القيادات التاريخية العظيمة الثقة بالنفس والقدرة على التفكير والتدبير ، وأشعلت فينا روح التحدي والصمود في الملمات وأمام المحن، وأذكر أنني وعندما وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام المفاوضين الإسرائيليين في مفاوضات " طابا " الأولى ، كيف تنامى لدي الشعور بالدهشة والقوة في نفس الوقت، اندهشت لأنني لم أجد فيهم شخصاً واحداً يمثل صورة "السوبرمان الإسرائيلي العجيب والذي لا يقهر" كانوا أناساً عاديين محدودي القدرة والذكاء، إلاّ أن روح المؤسسة والإدارة جعلت منهم فريقاً واحداً متحداً في كل شيء، وهي بذلك تستر عيوب الضعف الشخصي على صعيد الأداء فيما بينهم، وكنت أشعر بالقوة والفخر والاعتزاز بالنفس كلما تسمح الظروف لي بلقاء عابر مع أحدهم في قاعة التعارف حيث يبدو ضعيفاً مهزوزاً كالطائر الذي يفقد توازنه بعيداً عن السرب الذي ينتمي إليه، ولهذا لم يستغرب الرئيس عرفات قيامي بتقديم تحليل سيكولوجي خاص بتركيبة أهم أعضاء الوفد الإسرائيلي على الصعيد الشخصي له ، وهو ا لقائل في حينه " لقد عرفهم قبل أن يعرفوه واكتشف نواياهم قبل أن يكتشفوه " وقد قلت له عبارة ذات مغزى تعليقاً على أقواله، "ربما تربح إسرائيل اللحظة الراهنة بسبب التسيد الطاغي للهيمنة الأمريكية، ولكنها خسرت وستخسر معركة الأجيال مع الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة العربية لاحقاً وبالتأكيد....ص إنهم يفاوضونا ويتفاوضوا فيما بينهم نيابة عنا وعلى قاعدة العمل على إطالة العمر الافتراضي زمنياً لكيان الدولة الإسرائيلية المحكوم عليها تاريخياً بالفناء، وعبر التعطيل المتعمد والمقصود لقيام كيان الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة وعاصمتها القدس الشريف، وقد ينجحوا لبعض الوقت في ذلك نتيجة الاختلال الواضح في موازين القوى إلاّ أنهم لن ينجحوا كل الوقت في كبح فرامل الحتمية الجدلية لصراع الأجيال في محكمة التاريخ.

"صيف بيروت وخريف موسكو "

كنت في موسكو عاصمة الثلج والبرد الدافئ والحرية وكانت بيروت البعيدة تزودنا عبر اللاسلكي العسكري بالمؤشرات الدالة عن اقتراب لحظة البركان ، فإسرائيل تستعد لاجتياح جنوب لبنان وياسر عرفات يتحدى، وبناء التحصينات المنيعة يجري على قدم وساق، العميد سعد صايل بوصفه رئيساً لهيئة الأركان يعمل وفق منظور وخطة السفير الفلسطيني في موسكو العميد محمد الشاعر المهندس السابق للتحصينات العسكرية السورية في هضبة الجولان، أبو جهاد الوزير يقول: سنقاتل والرئيس أبو عمار يتحدث عن صمود أسطوري والقائد أبو إياد يحذر من مؤامرة أمريكية إسرائيلية لكسر عنفوان جبهة الصمود والتصدي بواسطة العدوان الإسرائيلي الشامل والمبيت ضد قوات منظمة التحرير وفصائل الثورة الفلسطينية في لبنان.
خرجت من معهد آسيا وأفريقيا التابع لجامعة موسكو الحكومية والذي يطل مباشرة على قصر الكرملن والساحة الحمراء إلى فندق المتروبول لتناول وجبة الغذاء ومن ثم الذهاب لمواصلة العمل مع العميد محمد الشاعر وحيث كنا نلتقي على فترات متواصلة بعد الظهيرة للتداول في كثير من الأمور التي تهم الشأن الفلسطيني وإن كان على رأسها في تلك الفترة استعداداته المتواصلة للدفاع عن أطروحته في الأكاديمية العسكرية والتي تتحدث عن خطة التحصينات العسكرية الفلسطينية للدفاع عن جنوب لنبان من جهة وآخر المجهودات المبذولة بيننا سراً حول موضوعه تأسيس منظمة لمكافحة نشاط الحركة الصهيونية وسيول الهجرة اليهودية من جمهوريات الاتحاد السوفييتي إلى إسرائيل من جهة أخرى ، وقد كانت الأجواء غير مريحة بهذا الشأن خاصة بعد التدخلات الأمريكية والغربية الضاغطة على الحكومة السوفييتية لفتح أبواب الهجرة واحترام حقوق الإنسان.
في كافتيريا الفندق وهي عبارة عن مطعم صغير وأنيق يمتاز بالنظافة وحسن الضيافة جلست مرهقاً ومتعباً لأسباب تتعلق باليوم الدراسي الصعب وأسباب أخرى لها علاقة بالجوع الطارئ وبعض الذكريات القريبة فقبل شهور لم أكن في هذا المكان وربما كنت في عداد الشهداء لولا لطف المولى وجدلية الأقدار ، فإرادة الله هي الغالبة وقدره هو الوافي والكافي الذي لا فكاك منه.
تذكرت في تلك اللحظة المفوض السياسي العام للتوجيه السياسي والمعنوي الأخ " أبو حسام" خطاب أبو الرب أبن جنين العظيمة عندما أيقظني من نومي في تمام الساعة الثالثة من فجر ذلك اليوم وقال لي ممازحاً استعد أيها الصديق الرفيق وتهيأ جيداً فنحن على سفر، للوهلة الأولى ظننت أننا سنذهب إلى مقرنا الرئيسي في دمشق ولهذا تعطرت جيداً بعد أن ارتديت بدلتي المدنية وبدون أن أنسى ياقة العنق وعندما نزلت فاجأني بابتسامته العريضة قائلاً : كأنك ذاهب إلى خطبة أو حفلة زواج ما هذه الأناقة والشياكة، ليس هذا المطلوب منك اليوم ، غير هذه الملابس وأرتدي ملابسك العسكرية وأحضر سلاحك فنحن ذاهبون إلى عرب صاليم في جنوب لبنان.
في تمام الساعة الرابعة والنصف كنا هناك في قرية عرب صاليم وعلى مقربة من الحدود الإسرائيلية اللبنانية ، ترجلنا من السيارة وبدأنا مشوارنا سيراً على الأقدام بين حجارة الصخور المتناثرة وحتى وصلنا إلى الموقع ، وحدات الكوماندوز الإسرائيلية كانت هنا قبل ساعة ونصف، وهنا استشهد ثلاثة من الطلاب المتطوعين القادمين من الجزائر وبالقرب منهم كانت الدبابة الفلسطينية " تي 36 " السوفييتية الصنع وهي من الطراز القديم الذي عاصر الحرب العالمية الثانية مدمرة فقد تعمد جنود الكوماندوز الإسرائيلي تفجير بطارية مدفع الدبابة وكانت ماسورة المدفع مثنية باتجاه الأرض، كان المصور المرافق لنا حريص على تنفيذ التعليمات تصوير كل شيء وكنا نبحث معاً على مسافة غير بعيدة من المكان عن الناجين من أفراد الموقع بعد نصف ساعة على وجه التقريب شاهدنا أحد أفراد القوة يقترب منا وهو ينزل عن تلة غير بعيدة كان المذكور في حالة شبه يائسة على الرغم من كونه الرتبة الأعلى في المنطقة والمسؤول الأول عن الموقع وبعد تبادل التحيات الباردة سأله الأخ خطاب بحذر أين كنت وأين هم أفراد وحدتك فأجاب: أعطيتهم أمراً بالانتشار سيدي. استشطت غضباً فسألته : انتشرتم وتركتم قوة المتطوعين من الطلاب تواجه مصيرها في قتال غير متكافئ مع وحدة الجنود الإسرائيليين المهاجمة ؟! فاجأني الأخ خطاب وقبل أن استمع إلى إجابة "العقيد المنتشر بقواته "بالقول: اسكت يا صديق وأكتب فقط إجاباته على كل الاستفسارات والأسئلة المطلوب إجابته عنها وبينما كان الأخ خطاب يسأل والعقيد يجيب وأنا أكتب انهالت علينا وجبة من الصواريخ الإسرائيلية تناثرت الأوراق من يدي وقفزنا هرباً للاحتماء ببعض الكتل الصخرية ، كنا ممددين خلف صخرة وإذا بالأخ خطاب يضع يده على جبيني ويقول: لقد أصابتك شظية يا عريس في رأسك كما يبدو، تحسست جبيني وكان الدم الدافئ ينزف باتجاه وجهي وعلى قميصي عندما استندت قليلا لأتبين الأمر ، وإذا به يقول ممازحاً دمك أحمر وفي منتهى النقاء ابتسمت وقلت وهل نسيت أنني قادم من موسكو. انتهت وجبة القصف ونحن نضحك بسبب عفوية الإجابة "فالدم الأحمر النقي قادم من موسكو" أي من بلاد الشيوعية والثورة الحمراء التفتنا حولنا فلم نجد أحداً ، اختفى قائد الموقع بينما كان المصور يجلس بالقرب من السيارة جلسنا نتحاور عن أقرب الطرق التي ستوصلنا إلى مستشفى صيدا كان هناك أيضاً جرح صغير في الركبة اليمنى وإذا بكهل لبناني تجاوز السبعين من عمره يطل من بيته البعيد ويسير باتجاهنا وهو يحمل بيده زجاجة من الماء وفوطة بيضاء مسح وجهي من الدم وأصر على ضيافته لنا في بيته لإحتساء كوب من الشاي بعد أن صب جام غضبه على الأمتين العربية والإسلامية بسبب التخاذل الواضح من قبل الجميع في مواجهة العدو الإسرائيلي ارتفعت معنوياتنا بسبب شهامة وكرامة هذا الكهل المسن اللبناني الأصيل ودعناه على عجل وانطلقنا باتجاه صيدا وحيث وصلنا إلى مقر قيادة المنطقة في حدود الساعة السادسة صباحاً وكانت المفاجأه أننا التقينا مع الاخ القائد ابو جهاد الوزير وبعض مرافقيه ، تبادلنا معهم التحيات وإذا بالأخ أبو جهاد يصيح بغضبة المؤدب في وجه الأخ خطاب ، كيف تذهب في هذه الساعات المتأخرة من الليل إلى عرب صاليم وأنت تعرف أن قوات العدو لم تغادرها بعد إذا كنت تريد الاستشهاد فهذا حقك وشأنك ولكن ما دخل أبناء الناس تأخذهم معك إلى هذا الموت المحقق كان عليك الانتظار أو المجيء معنا على العموم اذهبوا بالأخ كامل إلى المستشفى فوراً لتلقي العلاجات اللازمة ومن ثم احضروا إلى هنا تحركت سيارة الحراس والمرافقة الخاصة بالقائد أبو جهاد إلى مستشفى صيدا وبعد أن تلقيت العلاجات اللازمة عدت معهم ثانية إلى مقر القيادة وإذا به يمازحني بلطف قائلاً : إذا كنت تشعر بالتعب من الجرح أستطيع إرسالك للراحة في بيروت ، خجلت مما سمعت رغم الإرهاق والتعب وأجبته بالقول: لا يا أخ أبو جهاد حالتي جيدة وسأبقى معكم ، عندها أمر الجميع بالتحرك في جولة ميدانية لتفقد المواقع والقوات في الجنوب وقد استمرت هذه الرحلة طوال اليوم حتى الساعة السادسة مساءاً بين القواعد المختلفة  كنا نحتسى الشاي مع المقاتلين هنا وهناك ويستمع الأخ أبو جهاد إلى همومهم وطلباتهم ويدونها في مفكرته الخاصة ومن ثم افترقنا عائدين إلى بيروت ، حيث انهالت علينا عبارات الدفئ الطيبة وبينما كنت في الطابق السابع أستعد للراحة من عناء هذا اليوم حضر أحد الأصدقاء وأصر على أن أخرج معه إلى غرفته لممارسة لعبة الشطرنج ، خرجت معه وبعد دقيقة واحدة من هذا الخروج سقطت على سقف الغرفة قذيفة بسبب عمليات القصف العشوائي لقوات الكتائب اللبنانية وإذا بجزء من السقف ينهال فوق السرير الذي أنام عليه ، أحسست حينها وكأن شبحاً ما يلاحقني وقد قررت مع صديقي الانتقال للنوم في الدور الأرضي لمبنى الإعلام الموحد وفي تمام الساعة الحادية عشرة ليلاً وبينما كنت أستعد للنوم بالقرب من جدار أحد الغرف المحاذية للشارع وإذا بقذيفة أخرى تسقط لترتطم شظاياها بالجدار فصاح صديقي لا تغضب عمر الشقي بقي والحذر لا يغني عن القدر هذا اليوم ربما لن تنساه ما دمت حياً.
 وبالفعل هذا اليوم لم أنساه فقد فرض نفسه بأحداثه المتلاحقة بقوة على ذاكرتي حتى وأنا في المقهى الأنيق لفندق المتروبول استعد لتناول وجبة الغذاء كما لن أنساه بسبب حدث آخر وقع معي داخل المقهى ، فبينما كنت أتناول وجبة غذائي المفضلة والمكونة من الدجاج المحمر والمقلي مع بعض الملحقات الأخرى جلس بالقرب مني شخص وسيم في الأربعين من عمره تبدو عليه ملامح الثقة بالنفس وبعد أن تبادل معي النظرات الهادئة بادرني بالسؤال من أين أنت ؟ فأجبته من فلسطين فرد عليّ بابتسامة باهتة : تقصد "إسرائيل" قلت له لا بل أقصد فلسطين، قال: إذن أنت من جماعة ياسر عرفات أجبته نعم وأيضاً من فلسطين، صمت قليلاً وأحتسى ما تبقى في كأسه من الفودكا وقبل أن يصب الكأس الثاني من الزجاجة ويحتسيه قال: اسمع يا رفيق دعنا نتعرف أولاً على بعض اسمي ألكسندر مالا خين وأعمل عقيد في منظومة الدفاع الجوي لحلف وارسو ومكان عملي في بلغاريا وأنت ماذا تفعل هنا؟ قلت له : طالب دراسات عليا في معهد آسيا وأفريقيا التابع لجامعة موسكو الحكومية وأعمل مع منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت واسمي "يونس علي" قال وهو يواصل شربه بنهم أعرف أنتم كالمسلمين لا تحبون الشرب على طريقتنا ولكن دعني أقول لك هناك أيام صعبة وعسيرة جداً تنتظركم في لبنان إسرائيل ستحتل لبنان وستخرجكم في القريب العاجل من هناك قلت له: كيف فنحن أقوياء ومعنا سوريا خاصة وأنها نشرت شبكة من الصواريخ للدفاع الجوي في منطقة البقاع قال: وهو يبتسم ، دعك من هذه المكابر صواريخ سوريا في البقاع لن يكون بمقدورها العمل ضد الطيران الإسرائيلي وسيتم تدميرها على الأرض، قلت له : كيف يكون ذلك ؟ وهي صواريخ سوفييتية مجربة وناجعة وقد أثبتت قدرتها وفعاليتها في العديد من المناسبات، أجابني باقتضاب قلت لك إنها لن تعمل وسيتم تدميرها على الأرض، هذه أسرار ولا تسألني أكثر عن ذلك الأمر. استأذنت منه بعد تناول وجبة غذائي وخرجت مسرعاً باتجاه السفارة الفلسطينية التقيت بالعميد السفير محمد الشاعر وحدثته عن هذا العقيد وما لديه من أفكار ومعلومات تتعلق بالغزو الإسرائيلي المنتظر ضد منظمة التحرير في لبنان ورأيه ألمعلوماتي الخاص بالصورايخ السورية المنصوبة في سهل البقاع خاصة وأنه ضابط كبير يعمل في الدفاعات الجوية الخاصة بحلف وارسو ، اهتم العميد الشاعر بالأمر وقرر إبلاغ الأخوين أبو عمار وأبو جهاد بالموضوع سراً ، بعد أيام جاء الرد من الأخ أبو جهاد، نحن أبلغنا السوريين وطلبنا منهم تفقد بطاريات الصواريخ المنصوبة في البقاع ولا مانع من إبلاغ الأصدقاء السوفييت بالأمر بالنظر لخطورة الموضوع ، بعدها وجدت نفسي أجلس مع العميد السفير محمد الشاعر في مكتبه الخاص وحيث كان يستضيف بعض المسئولين العسكريين والأمنيين والذين سجلوا ملاحظاتهم الخاصة بهم ووعدوا بمتابعة القضية وقبل أن نستعلم شيئاً أو ندري بشيء عن هذه المتابعة اختفت النسخة الأصلية والرئيسية للأطروحة الخاصة بالعميد الشاعر من الأكاديمية العسكرية في موسكو، كان الرجل شديد الحزن والإحباط والألم وقال لي بصوت خافت مليء بالحسرة يبدو أنهم أقوى منا حتى داخل الاتحاد السوفييتي اختفاء النسخة الأصلية من الأطروحة يعني الكثير لقد كنت في بعض الأحيان مبهوراً بعظمة الاتحاد السوفييتي وأفنيت عمري في التعاون المبدئي معه ومُنذ أن كنت ضابطاً في الجيش السوري ، والآن فإن لحظة الحقيقة مؤلمة لست حزين بسبب تأخر الدفاع عن الأطروحة لنيل شهادة الدكتوراه فلدي نسخة أخرى سيتم تنقيحها وترتيبها مجدداً ولكن اختفاء النسخة الأصلية وفي هذا الوقت الحرج بالذات يتطلب منا إجراء تغييرات وتعديلات جذرية في خطة التحصينات التي اعتمدناها للدفاع عن الجنوب اللبناني وقد لا تسمح لنا الظروف ولا ضيق الوقت بإنجاز ذلك ونحن نعيش الأيام الأخيرة من العد العكسي لبداية العدوان الإسرائيلي المنتظر علينا في لبنان، وعلى العموم يبدو أننا أصبحنا بأمس الحاجة للإسراع في تشكيل لجنة مكافحة الصهيونية والهجرة اليهودية وقد طلب الكاتب الكبير صاحب رواية "أرض الميعاد" يوري كلاسنكوف موعداً في الغد سألتقيه بحضورك فقط وفي مكتبي الخاص للتباحث في هذه المسألة وباعتبار أنه من أشد المعادين للصهيونية والهجرة اليهودية إلى إسرائيل على الرغم من أصوله اليهودية.
في اليوم التالي وفي نفس الموعد المحدد حضر الكاتب السوفييتي الكبير صاحب رواية "أرض الميعاد" الشهيرة والعديد من المؤلفات الأخرى المعادية بشدة وبوضوح للصهيونية العالمية وصهاينة الاتحاد السوفييتي بالذات، كان يبدو متعباً من وزنه الضخم وسنين عمره المديدة وعلى قسماته تظهر بجلاء علامات الارتباك والمعاناة وكأنه يهرب نحونا بخطوات حزينة هرباً من مطارديه وقبل أن نغوص معه في تفاصيل ما لديه من أفكار ومقترحات اعتذر عن تأخره في طلب تحديد الموعد الخاص باللقاء لأسباب صحية ، وقف الرجل أمامنا بصعوبة وكشف عن بطنه العريضة لنرى بأم أعيننا الآثار البليغة للطعنة القاتلة التي تعرض لها والتي تم لمها بسبعة وعشرين غرزة ومن ثم تحدث قائلاً: لم أعد أميناً على حياتي إنهم يلاحقوني بكافة الأشكال والوسائل وبدهاء وخبث منقطع النظير ولدي شعور خاص بأنه يوجد من يساعدهم أحياناً ويتستر علي أعمالهم الإجرامية في أحيان أخرى، إنهم الصهاينة الأشرار ممن قدموا الخدمات للنازية الألمانية وساعدوا هتلر في تنظيم حفلات الإبادة الجماعية لقطاعات واسعة من يهود أوروبا الشرقية في مقابل الفوز بتهجير عشرات الألوف من بين القادرين جسمانياً على خدمة المشروع الصهيوني في فلسطين وإنني أقترح عليكم أيها الرفاق الأصدقاء تغيير اسم اللجنة أو المنظمة التي سيجري تشكيلها لمقاومة الهجرة الصهيونية من الاتحاد السوفييتي إلى إسرائيل لا داعي لتسميتها مباشرة " بلجنة مكافحة الصهيونية والهجرة اليهودية" ابحثوا عن تسمية أخرى لا تثير عليكم طواغيت المافيا الصهيونية المنتشرين في جسد السلطة السوفييتية تسمية يمكن من خلالها استقطاب أوسع الفئات من المثقفين والمفكرين والمبدعين السوفييت وبدون أن تكونوا سبباً في إلصاق تهمة اللاسامية ومعاداة الجنس والدين اليهودي بهم وبإمكانكم وعبر صياغة بنود برنامج العمل والنظام الداخلي للمنظمة الإشارة إلى دور الحركة الصهيونية الخطر في عمليات التهجير الاستعماري ليهود الاتحاد السوفييتي نحو إسرائيل وحجم الخديعة الكبرى التي يتعرضون لها وحيث يتم استقطاب الآلاف منهم على أساس أن الهجرة ستكون إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، وهناك وفي محطات الاستيعاب المؤقت بعد خروجهم من روسيا يتم إجبار السواد الأعظم منهم للتوجه إلى إسرائيل بقوة الضغوطات المتنوعة وبدون أن تثير حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أي اعتراض على سلوك وممارسات الوكالة اليهودية المتعلقة بهذا الشأن. وعلى الرغم من اعتراض العميد السفير محمد الشاعر على الدعوة لتغيير التسمية إلا أنه أبدى نوعاً من التوافق المرن ، وحيث أصبح هدفنا فيما بعد الإبحار في المشروع حتى وإن كان ذلك على حساب العنوان، ودّعنا الرجل بأدب بعد أن تمنيا له وافر الصحة والمزيد من العطاء المبدع ، وفي اليوم التالي استقر الرأي بنا على استبدال التسمية بتسمية أخرى وتحت عنوان "لجنة الحق لمكافحة العنصرية " أو "منظمة الحق" فقط وعلى أن يتم تكريس مبدأ مناهضة الصهيونية باعتبارها حركة عنصرية استعمارية معادية للسلام تعمل على التغرير باليهود وبقصد اقتلاعهم من أوطانهم الأصلية وتهجيرهم لخدمة مشروعها العنصري والاستعماري في فلسطين وخاصة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي وسائر بلدان أسرة " المعسكر الاشتراكي " وعليه فقد تم تكليفي بوضع برنامج للعمل والنظام الداخلي وقد تولى العميد السفير محمد الشاعر وعبر معارفه الواسعة واتصالاته القوية عملية التوزيع بدون ضجيج وبشكل لا يسمح باستنفار أي موجه من العداء العلني للفكرة أو المشروع، وفي تلك الفترة بالذات وكأننا نعيش في سباق مع الزمن والأحداث بدأت إسرائيل عدوانها الواسع والشامل على لبنان وضد قوات منظمة التحرير وفصائل الثورة الفلسطينية وتحت يافطة من أوهام الخديعة الدولية الكبرى وحيث تم إبلاغ القيادة الفلسطينية والقيادة السورية والعديد من الأطراف العربية بأن ملعب الصدام المسموح به دولياً لا يتجاوز حدود الأربعين كيلومتر وأن إسرائيل قدمت ضمانات أكيدة للولايات المتحدة الأمريكية بهذا الصدد وهي التي قامت بتمريرها لأطراف الصراع في الجانب العربي، وللأسف فقد تمت عملية برمجة استراتيجية للموقفين الفلسطيني والسوري على هذا الأساس وقد تصرفت القيادة العسكرية الفلسطينية وقيادة الجيش العربي السوري على ضوء ذلك وعبر هذه الالتزامات.
كان الجنرال شارون وزيراً للدفاع في حكومة مناحيم بيغن آن ذاك وكانت "عملية سلامة الجليل" وهي العنوان المباح للعداون الإسرائيلي الشامل مرهونة بنجاحات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية المنتظرة من جهة وبطموحات الجنرال شارون السياسية عبر تحوله إلى بطل قومي في نظر الجمهور الإسرائيلي من جهة أخرى مما يساعده على إقصاء منافسيه واستلام زمام الزعامة في إسرائيل كوريث شرعي عن مناحيم بيغن في أي انتخابات قادمة بعد أن يتم القضاء على قوات منظمة التحرير والثورة الفلسطينية في لبنان. 
ومُنذ اللحظة الأولى للعدوان بدأت ملامح الخطة العسكرية الإسرائيلية في الظهور وهي تقوم بعمليات التفاف وتطويق ناجح للتحصينات والمواقع الفلسطينية الحصينة وبدون الاشتباك المباشر معها مكتفية بقصفها من الجو وبحيث تحولت هذه المواقع والتحصينات إلى جزر معزولة ومحاصرة من جميع الاتجاهات وهو الأمر الذي سهل على الجيش الإسرائيلي الإندفاع بقوة إلى الأمام، وعملياً وبالمفهوم العملياتي للمناورات العسكرية أفقدت تحركات الجيش الإسرائيلي خطة التحصينات العسكرية الفلسطينية للدفاع الإستراتيجي عن الجنوب أهميتها وبينما كان الجيش الإسرائيلي يندفع باتجاه بيروت بغرض محاصرتها واقتحامها فيما بعد كانت القوات الفلسطينية تعيد انتشارها من الجنوب وباتجاه منطقة سهل البقاع، وفي حين كان الطرف الفلسطيني يلم جراحه استعداداً لمعركة الدفاع عن بيروت انقضت الطائرات الإسرائيلية على قواعد ومنصات الصواريخ السورية المنتشرة في سهل البقاع وبدون أية مقاومة أرضية تُذكر تم تدمير هذه الصواريخ من الجو كما سجل الطيران السوري فشلاً كبيراً أثناء محاولاته المتأخرة للدفاع عن هذه القواعد وحيث تمكنت الطائرات الحربية الإسرائيلية من إسقاط حوالي سبعين طائرة حربية سورية في اشتباك جوي اعتبر في حينه الأضخم من بين جميع الاشتباكات السابقة وقد كان للنصر الإسرائيلي هذا أهميته الخاصة بالنسبة للقيادة العسكرية الإسرائيلية باعتباره رد اعتبار لنجاعة سلاح الجو الإسرائيلي المهزوم والمهان من قبل الصواريخ السورية أثناء حرب أكتوبر التحريرية عام 1973م.
وللحقيقة وبالرغم من حملات التشويه الاعلامي المبرمجه اسرائيليا والتي استهدفت النيل من مكانه القائد العسكري الفلسطيني لجنوب لبنان الاخ الحاج اسماعيل ورفاقه الاخرين  فقد استبسلت الوحدات الفلسطينية في الدفاع عن شرفها العسكري، كان ذلك في صور وفي قلعة الشقيف وعلى أبواب ومداخل مخيم عين الحلوة في صيدا وفي الدامور وقد استشهد قائد منطقة صور وهو يقوم بعمليات نوعية مع من تبقى من وحداته خلف خطوط العدو الإسرائيلي الزاحف إلى الأمام وهو الشهيد الشجاع عزمي الصغير كما استشهد السواد الأعظم من جنود وضباط قلعة الشقيف بعد صمود أسطوري قل نظيره، وفي حين اضطرت حامية صيدا  للانسحاب مع قواتها نحو سهل البقاع إقتنص أحد الأشبال اليافعين المدافعين عن مدينة الدامور دبابة الجنرال يوكاتئيل آدم بقذيفة من مدفعة  " الآربي جي" ومن ثم أجهز بمساعدة بعض المقاتلين الأشبال عليه وعلى وحدة الحماية والمرافقة الإسرائيلية المتحركة معه وقد كان لذلك الحدث مفعوله السحري العجيب حيث أدى إلى إنخفاض واضح في معنويات الجيش الإسرائيلي المتقدم لحصار مدينة بيروت من جهة وفي رفع توازنات الروح المعنوية والقدرة على الصمود في أوساط المقاتلين الفلسطينيين والقوات الفلسطينية اللبنانية المشتركة . كانت القيادة الفلسطينية تعمل على إطالة أمد المعركة زمنياً وهي تعلم عن علم ودراية أنها بذلك تربك المخططات العسكرية الإسرائيلية وتحاصر القيادة السياسية في إسرائيل والتي بدت عاجزة عن لجم الجنرال شارون المستفرد بمصير الحملة العسكرية خاصة وبعد أن تقدم باتجاه مدينة بيروت ليفرض عليها حصاره المرير، وهو الأمر الذي دفع بالقوى الدولية المحرجة من هذا السلوك الإسرائيلي الغير متفق عليه للضغط على الحكومة الإسرائيلية بهدف إيجاد مخرج وحل سلمي للأزمة، في تلك الفترة وعلى ضوء هذه التداعيات المتلاحقة حضر الرئيس حافظ الأسد إلى موسكو يحمل في ملفاته فاتورة الخسائر التي مُني بها الجيش السوري والعديد من الهواجس الإستراتيجية الأخرى حول احتمالية قيام الجيش الإسرائيلي بالإجهاز على القطاعات العسكرية السورية البرية المنتشرة في بعض المناطق اللبنانية والاستيلاء على مساحات جديدة من الأراضي السورية، التقطت القيادة السوفييتية الحدث وهي تكتوي أمام حلفاءها بنيران رسائل الاستغاثة التي يطلقها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات المحاصر مع قواته الصامدة في بيروت ، وبطريقة دراماتيكية مفاجئة تحرك الدب الروسي الصبور وخرج عن طوره ، فالزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف يعرض على الرئيس حافظ الأسد إرسال ثمانية فرق سوفييتية للدفاع عن دمشق والأراضي السورية في حين يقوم الجيش السوري بالتقدم نحو الأراضي اللبنانية ولمحاصرة الجيش الإسرائيلي المنتشر بالعديد من فرقه حول مدينة بيروت وعلى قاعدة حرمانه من خطوط المواصلات والإمدادات اللازمة، انتهت الاجتماعات بموافقة الرئيس حافظ الأسد على الخطة وبعد أن طلب من القيادة السوفييتية تحضير القوات والفرق اللازمة غادر موسكو متجهاً بطائرته إلى المملكة العربية السعودية للتشاور، وعلى امتداد الثماني والأربعين ساعة التي أعقبت الزيارة كان الجميع في انتظار الحدث المفاجأة وقد كان لدى العميد السفير محمد الشاعر أربعة وعشرين حقيبة خرائط أعدتها وحدات الهندسة الطوبوغرافية بإشراف الشهيد القائد " أبو جهاد" خليل الوزير عن الجغرافيا العسكرية للمنطقة في كل من سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، وعلى الفور تم تسليمها لهيئة الأركان في القيادة العسكرية السوفييتية والتي قامت بتوزيعها على قادة الفرق المتأهبة للنزول في الأراضي السورية، وفي لحظة تراجيدية حزينة عاد العميد السفير محمد الشاعر مقطب الجبين وكأنه يحمل كل هموم الدنيا على منكبيه وقال هامساً ، انتهى كل شيء يا بُني 00000تراجع الرئيس الأسد عن موافقته وعهده الذي قطعة على نفسه أمام السوفييت واستجاب للنصائح السعودية والتي حذرته من تكرار تجربة أفغانستان في سوريا 00 لنا الله وكان الله في عون القيادة الفلسطينية والرئيس ياسر عرفات المحاصر فالقادم أعظم وربما نتعرض لحرب من الإبادة الشاملة على أيدي السفاحين الإسرائيليين، وكما يبدو فإن الولايات المتحدة الأمريكية وبعد أن استشعرت بخطورة ومرامي العرض السوفييتي تحركت تحت الضغط السعودي لملئ الفراغ المهين في زمن العجز العربي مرسلة بمبعوثها اللبناني الأصل فيليب حبيب ليقوم بدور الوساطة والتفاوض مع القيادة الفلسطينية والرئيس عرفات للبحث عن مخرج يرضي جميع الأطراف من الأزمة المستفحلة.
اشتد الحصار واشتد القصف الوحشي الإسرائيلي لمدينة بيروت وبدأ الحديث عن عشرات آلاف القذائف التي تسقط يومياً على المدينة ومحاولات الإسرائيليين المستميتة للتقدم ولعدة أمتار في اليوم الواحد يثير نوعاً من الاعتزاز والفخر في النفس الفلسطينية ، كما عكست محاولات الاصطياد الأمني الفاشلة للطائرات الإسرائيلية للرئيس عرفات تارة وللقائدين أبو إياد وأبو جهاد تارة أخرى وعبر قصف المقرات القيادية بالقنابل الفراغية حالة من الإفلاس الإسرائيلي الممهور بالعجز، فالجيش الذي لا يقهر يقف عاجزاً أمام أسوار بيروت، وطائر الفينيق الفلسطيني يواصل انبعاثه وتجدده المستمر بانتظام من بين رماد وركام المباني المدمرة والفلسطيني المحاصر يسجل حضوره السياسي دولياً بنجاح منقطع النظير في حين لا يبدو من إسرائيل شيء غير وجهها الهمجي القبيح فهي دولة عنصرية بامتياز وعدوانية بلا تردد وتشكل خطراً على الأمن والسلم العالمي بشهادة معظم أعضاء مجلس الأمن الدولي وهيئة الأمم المتحدة والبيت الأبيض يرهق نفسه في البحث عن حل لهذه الورطة تقيه على الأقل من ملامة وعتب وغضب الحلفاء والأصدقاء بسبب انحيازه الدفاعي المستمر عن السلوك الإسرائيلي المرفوض بكل المعايير الأخلاقية السائدة في الشرق والغرب، القوى الوطنية والتقدمية اللبنانية وأمام هول الخسائر والأضرار التي يُلحقها القصف الإسرائيلي بالمدينة بدأت تتحرك وهي تبحث لنفسها عن غطاء دولي وعربي وإقليمي وإسلامي للطلب وبطريقة خجولة من القيادة الفلسطينية بالتفكير الجدي في مسألة الخروج مع قواتها من بيروت ، وعلى هذه الأرضية كان الوسيط الأمريكي يواصل حركته المكوكية بين جميع الأطراف مُستعيناً بكثافة القصف الإسرائيلي المتصاعد في بعض الأحيان لتليين المواقف الفلسطينية من جهة وعبر البحث عن عواصم ودول قادرة ومُستعدة على استضافة القيادة والقوات الفلسطينية من جهة أخرى.
وهكذا بدأت تراجيديا العد التنازلي للخروج السياسي والعسكري الفلسطيني من بيروت على الرغم من كافة التصريحات المختلفة والمتناقضة الصادرة عن العديد من أطراف اللعبة، وقد ظهر ذلك الأمر بجلاء ووضوح بعد وصول الرسالة العاجلة من الرئيس عرفات للزعيم السوفييتي ليونيد بريجينيف، حدث ذلك مع بداية شهر آب أغسطس، كان صيف موسكو في تلك الليلة بارداً وممطراً وكان العميد السفير محمد الشاعر يشعر بوعكة صحية ألمت به مُنذ يومين، خرج على عجل وهو يرتدي بيجامته  وطلب تحضير السيارة الرسمية ، وفي ظرف أبيض أنيق وضعنا رسالة الرئيس عرفات والتي يستنجد فيها بانتظار موقف سوفييتي حاسم وحازم خاصة وأنه يتحدث عن أكثر من مئتين وسبع وثمانين ألف قذيفة من مختلف الأنواع سقطت طوال اليوم على بيروت وهي تضاهي في مفعولها التدميري الجماعي قوة قنبلتين ذريتين من النوع الذي تم إسقاطه على مدينتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ارتدى العميد السفير محمد الشاعر بدلته الرسمية على عجل وتوجه مع سائقه إلى الكرملن وبعد حوالي الساعة عاد وهو يبتسم بالرغم من علامات الأعياء الشديدة البادية على وجهه وقال: لقد كانت مفاجأة بالنسبة لي، أصر الرئيس ليونيد بريجينيف على مصافحتي والتحدث معي لمدة تزيد عن الخمسة دقائق وهذا يعني أن القيادة السوفيتية تعد نفسها لاتخاذ موقف قوي وهام، وبالفعل وفي طليعة وصدر النشرة الإخبارية الرئيسية للتلفزيون المركزي السوفييتي في تمام الساعة التاسعة ليلاً صدر البيان الإنذار الموجه للحكومة الإسرائيلية ولكل القوى الإمبريالية المساندة للعدوان مع دعوة عاجلة لانعقاد جلسة فورية لمجلس الأمن الدولي وبغرض وهدف وضع حد نهائي لسياسة العربدة والقرصنة العنصرية البربرية التي يقوم بها حكام إسرائيل الأشرار، وعملياً وبعد صدور هذا البيان الإنذاري الشديد اللهجة تم عقد جلسة فورية طارئة لمجلس الأمن الدولي، كما بدأت بعد ذلك عجلات التحضير للنزوح الفلسطيني عن بيروت، وقد فهمت بعد ذلك وبحس خاص بأن رسالة الاستغاثة المرسلة من الرئيس عرفات كانت بحاجة لهذا البيان السوفييتي لتغطية عملية الخروج وبشكل لائق ولإسكات بعض الأصوات المغامرة والمزاودة والمحسوبة في نهاية المطاف على السياسة السوفييتية من جهة وحتى لا تخل إسرائيل بتعهداتها أثناء عملية الخروج الفلسطيني من بيروت من جهة ثانية، وهكذا وبهذه الطريقة خرج ياسر عرفات بصحبة الآلاف من مقاتلي الثورة الفلسطينية بسلاحهم وبكامل عتادهم عبر البحر باتجاه المنافي والملاجئ العربية، كما تم الاتفاق على استقرار القوة المركزية مع القيادة السياسية في العاصمة التونسية وفي مدينة حمام الشط المجاورة للعاصمة كذلك.
وبينما كانت السفن الدولية والمتعددة الجنسية تبحر بالقيادة الفلسطينية مع مقاتليها كان الجنرال شارون يعد طبخته مع حلفائه في الساحة اللبنانية حيث اجتمع بقادة حزب الكتائب والقوات اللبنانية الانعزالية المكون من المليشيات المسيحية لينقضوا جميعاً على مخيمي صبرا وشاتيلا، فكانت المجزرة وحدثت المأساة المروعة عبر قتل المئات من المدنيين الفلسطينيين بالرصاص وبالسلاح الأبيض وبطرق همجية أخرى ترافقت كذلك وفي نفس الوقت بالعشرات من حالات الاغتصاب وهتك الأعراض وقتل الأطفال الرضع ودفن المسنين والجرحى الأحياء والنساء بالجرافات وعبر خنادق الموت التي تم تحضيرها لهذه المهمة القذرة على عجل، وعملياً فإن خروج القيادة الفلسطينية وقوات م.ت.ف والثورة الفلسطينية من بيروت لم يساهم كما كانت تعتقد إسرائيل في وأد روح المقاومة وإنما أشعل فتائل جديدة لمقاومة جديدة أشد فتكاً وتأثيراً من سابقتها وحيث تولى حزب الله وحركة أمل وفصائل وطنية وتقدمية لبنانية هذه المهمة بامتياز وهي القوى التي عبرت في العديد من المناسبات عن امتنانها للقيادة الفلسطينية التي لم تبخل عليها بالدعم العسكري والمالي والتدريب العملياتي على امتداد السنوات السابقة وقد كان لمجازر صبرا وشاتيلا أثره المروع في نفوس هذه القوى التي احتشدت في جنوب لبنان لمواصلة مشوار المقاومة في حين دفع شارون ثمناً باهظاً في أعقاب هذه المجزرة فقد أدانته لجنة تحقيق إسرائيلية رسمية بالتواطؤ والمشاركة، فوجد نفسه يترك وزارة الدفاع ويغادر الحكومة مهزوماً في طموحاته وفي مشروعه السياسي الذي لا يعرف الحدود كما أصيب مناحيم بيغن بصدمة نفسية واعتزل الحياة السياسية بينما حصل ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية على جواز سفر دولي بوصفهم قادة لحركة وطنية من أجل الحرية والاستقلال، إلاّ أن ترك الرئيس الفلسطيني لبيروت مع قواته وبقاء الوجود والنفوذ العسكري السوري في لبنان أحدث نوعاً من الشرخ في العلاقات السورية الفلسطينية غذته الهواجس عن وجود مؤامرة إقليمية ساعدت في تنفيذها سوريا بتخليها عن الحليف الفلسطيني، ولهذا حدثت القطيعة بين الرئيسين الأسد وأبو عمار وبدأت علامات الانشقاق داخل حركة فتح وفي ساحة العمل الوطني الفلسطيني عموماً بالظهور وكان لسوريا الدور الأكبر والأبرز في دعم المنشقين وكل أشكال التمرد الأخرى المناهضة لبقاء وزعامة الرئيس عرفات، وهو لذلك وعندما أحس بذلك قرر المواجهة بمفرده وقد تمرد على كافة الالتزامات التي قطعها على نفسه بعدم العودة مع قواته إلى لبنان، وفجأة وبطريقة ما وعبر سفينة ما أبحر متخفياً عن الأنظار عبر قبرص باتجاه مدينة طرابلس اللبنانية والمعروفة تاريخياً بقربها الجغرافي والسياسي والاجتماعي وإلى حد الارتباط المعنوي بسوريا ، وتحت ضغط الآلة العسكرية السورية والتحرك العسكري والسياسي للقوات المنشقة عن حركة فتح وجد ياسر عرفات نفسه ومن جديد يعيش حصاراً جديداً على الأراضي اللبنانية وفي مدينة طرابلس بالذات. وحيث غادرها وللأبد مع من تبقى من قواته بغطاء عربي ودولي لعبت فيه مصر وفرنسا الدور الأكبر، وحيث كان قراره الجريء والمفاجئ بالعودة إلى مصر بعد القطيعة المديدة التي فرضتها ظروف وملابسات اتفاقيات كامب ديفيد. نزول الرئيس عرفات في الأراضي المصرية واستقباله من قبل الرئيس حسنى مبارك لم يخلط أوراق اللعبة فقط وإنما قلب الطاولة تماماً وعلى رأس الجميع وحيث أدى ذلك إلى حدوث شكل جديد وآخر من التصدع والانشقاق داخل اللجنة المركزية لحركة فتح من جهة وعلى صعيد قيادة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى وحتى بدى للعيان وكأن الزعامة التاريخية للرئيس عرفات أصبحت في مهب الريح بعد أن خسر معظم أوراق اللعبة التي بحوزته وبين يديه وهو يحتاج لوقت مديد حتي يتمكن إن نجح في ذلك من لمها والسيطرة عليها من جديد، وبينما كنا نعيش في خضم هذه التحولات الكاسحة والمخيفة في تناقضاتها كانت موسكو قد ودعت قبل ذلك آخر عواجيزها من القادة الكبار إلى مثواه الأخير، الزعيم السوفييتي ليونيد إليتش بريجنيف يُغادر ملعب الحياة منتقلاً إلى الرفيق الأعلى بعد فترة عصيبة من الحكم المديد للحزب والدولة السوفييتية شهد فيها الاتحاد السوفييتي العديد من التحولات السلبية والانجازات الناقصة، فالخزينة شبة خاوية ورصيد البلاد من احتياطي العملات الصعبة ضعيف للغاية والغطاء الذهبي وحيث كانت دولة السوفييت من أغني دول العالم لجهة رصيدها الاحتياطي من سبائك الذهب أوشك على النضوب لأسباب تتعلق بفشل ونواقص خطط التنمية والتي تبدو ناجحة وجميلة على الورق في وثائق الدولة والحزب وما يبث عبر وسائل الإعلام الموجهة للشعب، بينما كان يتم التستر على هذه الأزمات الاقتصادية الطاحنة والمتنامية تحت ضغط الحاجة الملحة للاستمرار في لعبة سباق التسلح وتقديم العون والمساعدات لشعوب الكون الثائرة ضد الإمبريالية العالمية والاستعمار الأمريكي المتمدد في كافة الاتجاهات، وعلى قاعدة ستر النواقص في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين عبر الاستعانة المستديمية بالخزينة الاحتياطية لسبائك الذهب. يوري أندروبوف جنرال المخابرات المخضرم يعتلي سدة الحكم خلفاً للزعيم الراحل وهو من الزعماء الأشداء والمتشددين وربما لم تسمح له الوقائع التي تسيدت في عهد الرئيس بريجينيف بالاستمرار في الحكم وهو الكهل المُسن، وعلى الفور وبعد أن اتضحت أمامه الصورة المأساوية للواقع السوفييتي بدأ في العمل لتنظيم الجبهة الداخلية في البلاد وعلى قاعدة تصدير الأزمة عبر فتح الجبهات للصراع الخارجي مع الإمبريالية الأمريكية. وقد بدى ذلك بوضوح عبر خطابه التاريخي يوم تتويجه حاكماً للبلاد وزعيماً للحزب الشيوعي السوفييتي. فالجرح الأفغاني أصبح يستنزف جزءاً مهماً من الطاقات السوفيتية ولم يعد بالإمكان إصلاح هذه الخطيئة الكبرى بالمزيد من القمع وتكميم الأفواه ويوري آندروبوف وهو الزعيم الأوحد والقوي في البلاد يريد أن يسخر تجربته الأمنية المديدة وخبرته الواسعة في البحث عن مناطق جديدة على يابسة الكون قابلة للاشتعال والتدخل الأمريكي المباشر وحتى يتمكن وفيما بعد وعلى طريقته من إغلاق صفحة الجرح الأفغاني، وبينما كان يناور ويداور ويحاول أن يشد من أزر الحركات التحررية والوطنية أصدر تعليماته الصارمة للقضاء على حالات الميوعة والتراخي التي تعاني منها الأحزاب الشيوعية الدولية، وفي ظروف غامضة وقبل أن يتمكن من تنفيذ الجزء اليسير من برامجه الطموحة تم الإعلان عن مرضة فيما تحدثت الشائعات القوية عن محاولة اغتيال جادة وعنيفة أصابته في مقتل داخل قصر الكرملن وظل يعاني على أثرها من سكرات الموت حتى وافته المنية ، وهكذا رحل الجنرال يوري آندروبوف رجل الهيبة والنفوذ القوي ومعه رحلت بصمت هيبة الدولة الجبارة وسطوة الحزب القوي ، وعلى إنقاض هيبة الدولة وسطوة الحزب تم امتهان كل شئ عبر الاختيار غير الموفق لعجوز مريض مُسن لقيادة الدولة والحزب وهو الرفيق كونستنتين تشيرننكو والذي بدأت تنتشر في عهده مراكز القوى والمافيات المنظمة داخل الجسد الحكومي وعلى حساب الوجود الفاعل للسلطة المركزية وإلى حد أصبح الحديث عن بديل آخر للزعيم المريض يتم تداوله في بورصات مراكز القوى قبل وفاته بسبعة شهور وحيث جمعتني الضرورة في إطار من المصادفات العجيبة مع سيدة فاضلة بحسب المواصفات السائدة في عرف وتقاليد تلك البلاد وهي عضوة في القيادة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي عن مدينة موسكو، وبعد أن تحدثت عن الحاجة والضرورة الملحة لاستبدال جيل الحكام الهرم المتحكم بمقاليد السلطة والمعيق لكل عوامل التطور والنمو والانفتاح والتغيير المأمول نحو الأفضل تحدثت معي همساً وكأنها تلقي بسر عجيب عن ميلاد حقبة سوفييتية جديدة لزعيم سوفييتي شاب إسمه الرفيق "ميخائيل سيرحفتش قربتشوف" سيتولى مقاليد الحكم في الدولة والحزب بعد ستة شهور، وأن الرئيس تشيرننكو مريض في عداد الأموات وسيتم الإعلان عن وفاته وانتقاله للرفيق الأعلى بعد استكمال كافة الترتيبات الخاصة بتولي قربتشوف للحكم وحيث يتطلب الأمر الكثير من العمل لاستبعاد وابعاد الطامحين الكثر والمبعثرين بين مراكز القوى في أجهزة السلطة وعلى صعيد اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي. وفي الجانب الفلسطيني من الصورة وعلى صعيد العلاقات الفلسطينية السوفييتية انتهى المرض المفاجئ الذي الم بالسفير العميد محمد الشاعر بموت الرجل في ظروف غامضة وفي وقت حرج للغاية، كان ذلك بعد وفاة الرئيس بريجنيف بعدة اسابيع، مرض العميد الشاعر وكانت الضرورة تقتضي نقله فى طائرة خاصة للكشف والعلاج لدى مجموعة من الأطباء البلغار العالمين جيداً بحالته الصحية وحيث سبق وأن أشرفوا على علاجه في العديد من المرات وكان يسافر احياناً الى صوفيا بعلم وتسهيلات لجنة التضامن " الأفرو آسيوية " والتي تتولى الاشراف على حركات التحرر الوطني في العالم وعبرها يتم دعوة قادة الفصائل الفلسطينية للزيارات الرسمية والمباحثات ومن خلالها ايضا يتم تقديم معظم اوجه الدعم المادي والمعنوي لمنظمة التحرير الفلسطينية وللسفارة الفلسطينية المعروفة باسم " ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في الاتحاد السوفييتي " وكانت هناك مبالغ من المال تدفع من قبل لجنة التضامن " للسفارة الفلسطينية أي للمثلية " كموازنة لتغطية كافة النفقات الخاصة بالاقامة وأجرة المقرات وبيوت السكن ورواتب الموظفين والتي كانت تصرف للعاملين الروس والفلسطينيين كمستحقات شهرية بالروبل العادي وجزء آخر منها بالروبل الذهبي هذا بالإضافة للرواتب الاعتيادية للكادر الوظيفي الفلسطيني والتي يتم تحوليها بالدولار عبر الصندوق القومي، وبالتأكيد لم يجرؤ أحد من المقربين للسفير العميد محمد الشاعر بالتحدث عن  الأسباب التي تدفع بالرفيق "دروجن" وهو سكرتير لجنة التضامن المشرف المباشر على الملف الفلسطيني إلى هذا التراخي وعدم الاهتمام الجدي والمعتاد من قبل السوفييت بصحة الرجل وباعتباره من الأصدقاء الكبار والمقربين من الحزب والدولة ويشكل في كينونته نقطة الالتقاء المشتركة للموقفين السوري والفلسطيني وقد تم اختياره لهذا الموقع الحساس في حينه عن علم ودراية، وللأمانة فقد كان الرجل يشعر بثقل المسؤولية وكان الموقع وعلى الرغم من أهميته في تلك الفترة أصغر من قيمته ومكانته وقدراته وطموحاته، وبالإضافة إلى دوره في الجيش السوري من جهة والحركة الوطنية الفلسطينية من جهة أخرى، وربما لهذا ولذلك كان يضع العديد من الفواصل بينه وبين القادة والزعماء والفلسطينيين أثناء زياراتهم المتكررة إلى موسكو كان يحترم الرئيس عرفات ولا يوده كما كانت تربطه علاقات جيدة بالأخوين أبو إياد وأبو جهاد وإلى حد ما مع الأخ أبو مازن وعدى ذلك فإنه يرى فيهم جميعاً أقل شأناً منه وعلى كافة الأصعدة، وقد كانت لطبيعة الظروف والملابسات الصعبة وإفرازات الأزمة الطاحنة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني دورها في إقترابي منه وإقامة نوع من صداقات العمل المشترك والمتين معه حتى تنامت عوامل الثقة بيننا والتي كلما إزدادت إزداد هو إقتراباً وإلتصاقاًً بالمواقف الوطنية والسياسية للرئيس عرفات وللأخوين أبو إياد وأبو جهاد، وحتى أصبحت لدينا رؤية مشتركة عن النواقص المفزعة التي تعاني منها السياسية السوفييتية في ثوبها الكلاسيكي المستديم كما تنامت لديه العديد من الشكوك حول الموقف الرسمي لسوريا وعلى ضوء مواقفها أثناء فترة الغزو الإسرائيلي للبنان وضرب قواعد منظمة التحرير الفلسطنيية وترحيل ياسر عرفات والقيادات الفلسطينية الأخرى من بيروت.
موسكو التي عرفته ودعته وداعاً يليق بمقامه ومكانته كانت الجموع الغفيرة من كتاب وصحفيين وقادة عسكريين وأمنيين بالإضافة إلى كوادر كبيرة من الحزب والوزارات المختلفة وعدد من الفنانين الكبار والقادة النقابيين وعلى امتداد ثلاثة أيام تأم المكان في قاعة استقبال السفارة لتلقي نظرة الوداع، وبمراسيم عسكرية وعلى الطريقة السوفييتية خرج جثمانه من السفارة إلى المطار حيث كانت رحلته الأخيرة ليدفن في منطقة قريبة من فلسطين على الحدود الأردنية الفلسطينية، كان ذلك تنفيذاً لوصيته فهو لم يطلب أن يدفن في سوريا بل في الأردن وعلى مسافة قريبة من القدس والضفة الغربية. المفاجأة الثانية التي وردت في وصيته رسالة صغيرة منه للرئيس ياسر عرفات يوصيه فيها بالوحدة والثبات ويصفه بالرجل الشجاع والجريء وصاحب المواقف والقرارات الجبارة. في تلك الفترة بدأت حركة فتح تتعرض لمحنة الانشقاق الخطير وهي المحنة التي ألقت بانعكاساتها وظلالها الكأيبة أيضاً وبكل ثقل في الساحة السوفييتية حيث يدرس ويعيش عدة آلاف من الطلبة الفلسطينيين ينتمي معظمهم إلى حركة فتح وقد جرف الانشقاق في طريقه أكثر من نصف الكوادر وأقل بقليل من نصف القواعد التنظيمية عبر المدن والجمهوريات السوفييتية المتعددة، وهو الأمر الذي فرض علينا ضرورة التحرك السريع والحاسم للدفاع عن وحدة الحركة والتصدي لمخاطر الانشقاق، وعليه فقد قمت بصياغة بيان باسم السفارة أي باسم ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في الاتحاد السوفييتي،   كانت لغة البيان شديدة في تنديدها بالمؤامرة وبالانشقاق والمنشقين وإلى حد اتهامهم بتنفيذ مخطط أمريكي سوري وبالتحالف مع أطراف أخرى لضرب الشرعية الفلسطينية المتجسدة في شخص الرئيس ياسر عرفات وقد تعرض الأخ رامي الشاعر وباعتباره القائم بأعمال السفارة بعد وفاة والده لسيل من الانتقادات والضغوط بسبب هذا البيان وبالذات من قيادة الإقليم وأمين سرها وبأعتبار أنها قد حسمت أمرها مع الانشقاق وإنحازت عن قناعة للمنشقين، وعلى الرغم من نظافة المواقف الإصلاحية التي كانت تتحدث عنها المجموعات المنشقة عن الجسم التنظيمي في إقليم الإتحاد السوفييتي وحالة الوعي المتميزة لقطاعات واسعة من هذه الكوادر الفتحاوية المتمردة على الشرعية، ألا أنه كان يعيبها ضعف المنطق السياسي وعدم القدرة على استيعاب المتغيرات ومدى خطورة وفداحة العمل الذي أقدمت عليه على الصعيد الإستراتيجي، وقد جاءت خطوة الأخ القائد العام الرئيس أبو عمار أثناء عودته المفاجئة إلى مدينة طرابلس في شمال لبنان والقتال الضاري الذي خاضته قوات الشرعية الفلسطينية وحركة فتح ضد الجسم المنشق عن الحركة والمدعومة على الصعيد الميداني من أطراف فلسطينية أخرى من المنحازين تاريخياً للموقف السوري ومن ثم حصاره مع قواته وإنتهاءاً برحيله ثانية عن الأراضي اللبنانية ونزوله في مصر ولقائه المفاجئ بالرئيس حسني مبارك، كان كل ذلك يبدو وللمراقبين وكأنه قفزة يائسة نحو المجهول لزعيم يحاول تثبيت اركان حكمة وقيادته لمنظمة التحرير الفلسطينية والتي إنحازت وعبر السواد الأعظم من قيادتها بالإضافة لبعض أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح باتجاه نوع من الرفض القاسي والظالم لخطوة عرفات الدراماتيكية والتي توجت بالمصالحة التاريخية بينه وبين الطرف العربي الرئيسي الموقع على اتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل، وعلى ضوء هذه التطورات قويت شوكة المنشقين كما تعرض الرئيس عرفات وقيادات المنظمة وحركة فتح الموالية لسياسته لحصار سياسي ومقاطعة واسعة كادت وفي لحظات تاريخية مؤلمة أن تعصف بالبيت الفتحاوي والهيكل البنياني للشعب الفلسطيني المتجسد في م.ت.ف باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد لهذا الشعب، وتحت ضغط مراكز القوى المتعددة والمتلونة انحازت السياسة الرسمية السوفييتية في مواقفها السرية والمعلنة للأطراف المعادية لسياسة الرئيس عرفات وفرضت عليه المقاطعة كذلك، وتسيدت البرودة الشديدة العلاقات التاريخية الدافئة التي كانت قائمة بين القيادتين السوفييتية والفلسطينية، وتم إنزال صور الرئيس عرفات عن جدران السفارة الفلسطينية في موسكو وفي العديد من العواصم الاشتراكية الحليفة للاتحاد السوفييتي، كما سجل القائم بالأعمال الفلسطيني الأخ رامي الشاعر حضوره الفاعل والمدوي عبر رفضه لسياسات الرئيس عرفات وتعاطيه الصريح والمنفتح مع قوى المعارضة ومع التيار المنشق عن الحركة لأسباب تتعلق في العمق بالموقفين السوفييتي والسوري حتى بدى وكأن الأمور تسير باتجاه الخلاص النهائي من سلطة الرئيس عرفات وأن سقوطه أو إسقاطه عن سدة الحكم في قيادة الحركة والمنظمة أصبح وشيكاً ولا يحتاج لمزيد من الضغط والمعاناة، فضد الرجل وفي تلك الفترة العصيبة تقف سوريا مع الحليف السوفييتي صاحب الثقل الأعظم في معادلات التحرك وصناعة السياسات الإقليمية هذا بالإضافة إلى الموقفين الأمريكي والإسرائيلي والموصومين تاريخياً بالعداء الأعمى للمنظمة ولحركة فتح ولقيادة الرئيس عرفات وللشعب الفلسطيني عن بكرة أبيه، وفي ظل هذه الأجواء كان لا بد من تشكيل قيادة إقليم جديدة لحركة فتح في الاتحاد السوفييتي ولا بد كذلك من إجراء تعديلات واسعة على صعيد السفارات في الدول الاشتراكية وبشكل خاص في السفارة الفلسطينية في موسكو والتي تعتبر القاعدة الرئيسية والعنوان الدائم لطبيعة ونوعية العلاقات القائمة بين القيادتين السوفييتية والفلسطينية وبين القيادة الفلسطينية وسائر القيادات الأخرى في مجموعة دول المعسكر الاشتراكي، ومن يجرؤ على ذلك ومن يستطيع فعل ذلك في مثل هذه الظروف المشحونة ؟! كان لزاماً علينا أن نقوم بفعل شيء ما لتعديل الأمور، وكانت المهمة صعبة فالسفينة الفلسطينية تتقاذفها الأمواج من كل حدب وصوب ورُبانها بقدريته العجيبة يحاول الإبحار بها عكس التيار السائد للوصول إلى بر الأمان والأعداء حوله كثر ومن كل جانب وهو يصيح كالديك مذبوحاً من الألم أو كالذئب الجريح وهو يركض أمام مطارديه المدججين بكل وسائل الضغط وشفرات الحلاقة الحادة بالرغم من نعومتها،  ويبقى السؤال الأبرز من بين كافة الاستفسارات المشروعة والرئيس الربان يصرخ  " يا وحدنا ".
متى وكيف ستصل السفينة إلى بر الأمان، وهل سينجو الربان وينجح في قيادتها عبر هذه الأنواء والعواصف المتلاطمة، العواصم تغلق أبوابها في وجهه ورفاق الخندق الواحد يهجرون خندقهم وينفضون من حوله واحداً تلو الآخر ، وقد لخصت مجلة الهدف الأسبوعية الناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الواقع في تلك الفترة العصيبة عبر صورة للرئيس أبو عمار ملأت غلافها الخارجي تحت عنوان صارخ ومؤذي ومؤلم وحيث وصفته "بالمنبوذ" لماذا أقدم الأخ بسام أبو شريف على هذه الفعلة وهو الرئيس الفعلي لأسرة تحرير المجلة في حينه؟! وهل كان ذلك الفعل بقرار من اللجنة المركزية للجبهة أم نتيجة احتقانات شخصية وتصفية حسابات؟! أم أن وراء الأكمة ما ورائها؟! هذه الفعلة بحد ذاتها استنفرت زخماً مهماً لمصلحة بقاء الرئيس عرفات في قيادته ودفعت بالعديد من المترددين من أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح للالتفاف حوله إلا أن الضغط الإقليمي لسوريا وبعض الكيانات الأخرى ظل واضحاً عبر شكل من الانقسام الحاد على صعيد اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، كان عرفات الزئبقي يمتلك طاقة كريزماتية عجيبة بالإضافة إلى مخزون هائل من التجارب المريرة، وبينما كان القائد الكبير صلاح خلف "أبو إياد" يحرجه عبر بعض الانتقادات اللاذعة فإنه أي أبو إياد ومن خلال موقعه ومكانته التاريخية وقدراته الخارقة على التفكير والتدبير ظل يواصل اجتهادا ته الدأوبة وبمساعدة فذة وناعمة في هدوئها من قبل الأخ القائد هايل عبد الحميد "أبو الهول" لجمع فصائل العمل الوطني الفلسطيني وقوى اليسار الفلسطيني بالذات حول الشرعية الفلسطينية، وبعيداً عن صخب الحوارات كان الأخ القائد خالد الحسن "أبو السعيد" يبذل جهداً خارقاً عبر البوابتين السعودية والمغربية لفتح نافذة للحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية حتى وإن كان ذلك عبر الثغرة الأردنية المهيأة لاستقبال مثل هذا الحوار، في حين ظل القائد الفذ خليل الوزير "أبو جهاد" يواصل عبر عمله الصامت بلا كلل أو ملل الإمساك بورقة الداخل الفلسطيني الاستراتيجية وباعتبار أن تونس المقر لن تكون المستقر للقيادة الفلسطينية، فعين الجميع على فلسطين والعودة للضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة حلم يُراودهم جميعاً عبر اقترابه من الحقيقة 000 وكيف لا ؟ والرئيس عرفات يقول للصحفيين وهم يسألونه عن وجهته القادمة بينما تعتلي قدماه ظهر السفينة الراحلة به مع مقاتليه من بيروت إلى أين ؟ فيرد عليهم بتحدي وهو يرفع شارة النصر000 إلى القدس، وبالفعل كانوا جميعاً وكما ذكرتهم قادة غير عاديين وبقدر ما كانوا يحبون في ياسر عرفات زئبقيته كانوا في نفس الوقت يمقتون فيه وبأشكال مختلفة أنانيته عبر استفراده الدائم بالقرارات الصعبة، وبطريقة عجيبة وعلى طريقتهم الخاصة كانوا كلما أحسوا بالوهن أو الضعف وهو يتسلل من خلال ثغرة ما إلى جسد وروح وعقل الرئيس عرفات يسارعون لملئ وسد هذه الثغرات حفاظاً على هيبته ورمزيته الوطنية، وكان القائد أبو إياد يقول: نحن الذين صنعنا منه الأسطورة ولن نقبل ومهما كان الثمن بأن نحوله إلى تمثال وإله من العجوة نأكله بعد أن تنتهي المواسم كما كانت تفعل العرب في عصور الشرك والجاهلية، لقد عينته بورقة صغيرة كتبتها وقرأتها على الصحفيين في عمان عام 1968م عندما اعتبرته قائداً عاماً وناطقاً عاماً باسم الثورة، وسيبقى كذلك بالرغم من خلافاتنا معه من أجل الثورة ومن أجل فلسطين وحتى النصر بإذن الله .













"النزول إلى تونس"

الفصل الثاني:-

كانت الطائرة السوفييتية التابعة لشركة "الأيروفلوت" تقطع المسافة بين العاصمتين في أربع ساعات ونصف، كُنت على متن الطائرة وطوال هذا الزمن المديد أحاول الهروب من عناء السفر عبر سيل من الأفكار والذكريات القريبة والبعيدة، وفي مطار "تونس قرطاج الدولي" هناك قسم خاص للإشراف على دخول وخروج كوادر المنظمة وضيوفها القادمين من شتى أصقاع الأرض، كان ذلك في ربيع عام 1984م وهي المرة الأولى التي أسافر فيها من موسكو إلى تونس بغرض التباحث مع أطراف القيادة بخصوص الوضع التنظيمي وكيفية تشكيل لجنة إقليم جديدة للحركة من جهة والإسراع في تعيين سفير فلسطيني من الوزن الثقيل لملئ الفراغ الهائل الذي نشأ بسبب الوفاة المفاجئة للعميد السفير محمد الشاعر من جهة أخرى، فنحن بحاجة ماسة للدعم السياسي والمعنوي السوفييتي لمواجهة أطراف المؤامرة الدولية والإقليمية الشرسة، وبرودة العلاقات التي تسيدت الموقف في تلك اللحظات العصيبة لا تُبشر بالخير فقد نجحت مراكز القوى المعادية للشرعية الفلسطينية وللرئيس عرفات في تعميم مواقفها عبر لجنة التضامن الأفروأسيوية وعبر قسم الشرق الأوسط في المخابرات الخارجية السوفييتية "كي ، جي ، بي " وهو الأمر الذي أخذ يعكس نفسه كذلك على سياسة الحزب والدولة وفي السياسات الخاصة بالشأن الفلسطيني في وزارة الخارجية السوفييتية.
التقيت وعلى امتداد عدة جلسات مع الأخ عضو اللجنة المركزية مفوض التعبئة والتنظيم القائد "أبو ماهر غنيم" وقد كان كريماً في تقديمه لكافة التسهيلات اللازمة بخصوص المنح المالية للطلاب الدارسين وبدون استثناء بالإضافة إلى موازنة العمل الخاصة بلجنة الإقليم الجديدة، وبعد أن أبدى اهتمامه بالوضع السياسي شدد على أهمية وضرورة وضع الأخ أبو اللطف "فاروق القدومي" رئيس الدائرة السياسية وعضو اللجنة المركزية للحركة في صورة الأوضاع التنظيمية والسياسية ، وبعد ذلك التقيت مع الأخ عضو اللجنة المركزية ومفوض جهاز الأمن المركزي والمعلومات هايل عبد الحميد "أبو الهول" والذي أبدى اهتماماً ملحوظاً بالأسباب التي أدت وتؤدي إلى الفتور في العلاقات السوفييتية الفلسطينية، وفي حمام الشط كان اللقاء بالأخ الرئيس القائد العام أبو عمار والذي أبدى اهتماماً غير عادي بضرورة العمل السريع على حل كافة المشاكل الخاصة بإعادة بناء تنظيم الحركة واختيار سفير مناسب ذو خبرة ودراية ومكانة مرموقة للنهوض بالعلاقات مع الأصدقاء السوفييت من كبوتها المحيرة، وباعتبار أن كل ما جرى من فتور على هذا الصعيد ليس أكثر من غمامة صيف عابرة، طلب عدم ترك مقر السفارة للمنشقين والفصائل اليسارية وقال: إنه ربما يرسل الأخ أمين سر المجلس الثوري لحركة فتح الأخ صخر "أبو نزار" سفيراً فوق العادة لمنظمة التحرير الفلسطينية في الاتحاد السوفييتي وأنه يولي كذلك أهمية خاصة للعلاقات مع نيكولاي تشاوشيسكو في رومانيا بالنظر للعلاقات الخاصة التي تربط رومانيا مع إسرائيل من ناحية ومع الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية أخرى، وربما ينجح صديقك "خطاب أبو الرب" المفوض السياسي العام لقوات العاصفة سابقاً في هذه المهمة، باعتباره وفي موقعه الجديد السفير الفلسطيني في رومانيا، بإمكانك التعاون معه وأنت في موسكو فهو يحبك ويثق إلى أبعد الحدود بقدراتك ولن أوصيك بالأخ صخر أبو نزار فهو سيتعاون معك بكل تأكيد، وهو من تبقى لنا من يسار حركة فتح بعد الانشقاق الإصلاحي الذميم، وإن كان لن يقوى بالتمام والكمال على ملئ كل الفراغ الناتج عن وفاة وغياب السفير محمد الشاعر عليه رحمة الله .
ودعت الأخ الرئيس القائد العام وخرجت على الفور باتجاه مكتب الأخ أبو العبد العكلوك عضو المجلس الثوري للحركة والمسئول عن مكاتب التنظيمات الشعبية في منظمة التحرير وحركة فتح طمأنته على كل شيء وهو المخلص والمحب للرئيس عرفات وانطلقت بعد ذلك باتجاه تونس العاصمة حيث التقيت الأخ أبو مروان "حكم بلعاوي" في مكتبه شاكراً له حسن الضيافة، ومن ثم انطلقت ألم حقائبي وأتجهز للسفر وإن كنت قد أحسست بخيبة صغيرة لعدم تمكني من رؤية الإخوة أبو إياد وأبو جهاد وأبو مازن لأسباب تتعلق بسفرهم خارج البلاد. 
عدت إلى موسكو وقد سلمت كافة الحوالات النقدية الخاصة بالمنح الطلابية وموازنة العمل للأخ أمين سر لجنة الإقليم المؤقتة نمر إسماعيل وبحضور أمين سر لجنة المنطقة في موسكو وعضو اللجنة المؤقتة للإقليم الأخ خالد عريقات بواقع اثنين وأربعين ألف دولار منح طلابية وخمسة آلاف أخرى كمصروفات موازنة للجنة العمل الجديدة، وبعد أن وضعتهم في صورة الأوضاع والتطورات التقيت بالأخ  القائم بالأعمال المؤقت في سفارة المنظمة رامي الشاعر وقد كان حريصاً على الإلمام بكل شيء ومعرفة دقائق الأمور، ومن ثم سألني بقلق واضح إن كان بالفعل يستطيع الرئيس عرفات تمرير موضوعه تعيين الأخ "أبو نزار صخر حبش" سفيراً فوق العادة للمنظمة في موسكو، وبدون أن يُخفي إعتراضه المبدئي فهو الأحق بالأمر ومن قبيل وفاء الأخ الرئيس لذكرى والده المرحوم والذي أفني عمره في خدمة العلاقات الفلسطينية السوفييتية. قلت له: أن المسألة أصبحت مسألة وقت، فالتعيين سيحدث والرجل سيحضر وأنت بالتحديد الملام في هذه القضية، فأنت ومن موقعك الرسمي من يمثل الشرعية لا نقيضها، وقد غاليت كثيراً في انتقاداتك لسياسات الرئيس عرفات الأخيرة ومنحت كافة الأطراف الأخرى بما فيها المتمردين على حركة فتح وزناً وشأناً أكبر مما يستحقوا، على العموم يجب أن تكون مطمئناً لأن الرئيس وأطراف القيادة الأخرى متفقين على بقائك في موقعك باعتبارك القائم بالأعمال حتى في ظل وجود السفير عند حضوره. وفي اليوم التالي التقيت مع بعض الأصدقاء السوفييت وأبلغتهم بعتب الرئيس عرفات عليهم لأسباب تتعلق بالفتور القائم في العلاقات واحتجاجه بسبب  استمرار بعض التنظيمات الفلسطينية والتجمعات الطلابية استغلال المنابر السوفييتية للتشهير به وبشرعية قيادته للثورة والحركة والمنظمة ، وقد وعدوا أن يبذلوا جهداً مضاعفاً للسيطرة على الوضع وبدون أن يخفوا امتعاضهم من سلوك لجنة التضامن الأفروأسيوية ومن بعض ضباط المخابرات التابعين لقسم الشرق الأوسط ومن مراكز القوى المعادية لمنظمة التحرير ولحركة فتح وللرئيس عرفات.
بعد ذلك علمت بحضور الأخ "أبو مازن" وهو عضو اللجنة المركزية للحركة وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لمناقشة بعض الأمور المتعلقة بالبحث الذي ينوي تقديمه والدفاع عنه في معهد الإستشراق السوفييتي لنيل شهادة الدكتوراه والذي يدور حول "المسألة اليهودية والمحرقة" وقد ذهبت للسلام عليه وتبادلت معه بعض أطراف الحديث حول الهجرة اليهودية المحتملة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وذكّرته بما قلته له سابقاً وفي زيارة سابقة حول وجود مافيات منظمة لليهود في سائر البلاد السوفييتية وأنهم جميعاً على اتصال وثيق وتعاون شديد فيما بينهم، ابتسم وقال: ولعلمك ومن خلال المتاعب التي بدأوا يثيرونها معي بسبب البحث الذي أنوي تقديمه تأكدت من ذلك ، وتأكدت من أشياء أكثر خطورة مما يقال. وعبر تناولي للحالة السياسية السائدة في الاتحاد السوفييتي أثرت معه موضوعه وجود مراكز قوى، وأن صراعاً شرساً يدور فيما بينهم وأن الفرق بينهم وبيننا في هذه المسألة كبير للغاية فهم يذبحون بعضهم بالسكاكين ومن الوريد إلى الوريد بصمت وبدون ضجيج، في حين نحن العرب نتصارع عبر الصراخ والصوت العالي والكلمات النابية مثل النور والغجر وبدون أن نفعل شيء وقد ضحك كثيراً وقال معك حق نحن كذلك ثم سألني عن أطروحتي فأخبرته بآخر التطورات الخاصة بها، وباعتبار أنها ستقدم فهماً فلسطينياً وسوفييتياً جديداً حول حرب إسرائيل ضد م.ت.ف  في لبنان وربما يساعد ذلك في خلق أرضية مشتركة تثير الدفء في العلاقات الفاترة بين الطرفين . ولمن لا يعرفه فإن الأخ محمود عباس " أبو مازن" من صناع السياسات الفلسطينية على الصعيدين السياسي والأمني ألاّ أن حُبه للعمل الصامت وبعيداً عن الضوضاء والضجيج وصراخ الأجهزة الإعلامية كان يؤثر على نجوميته كقائد وزعيم على الصعيد الشعبي. وقد كانت القيادات التاريخية للحركة وهو واحد منها تحترم بعمق طريقته بالتفكير وخاصة فيما يتعلق بالقضايا الإستراتيجية والمصيرية، وللتاريخ فقد كان لقائي الأول مع الأخ القائد أبو مازن في عام 1981م وحيث كانت تربطني علاقات عمل وصداقة مع ضباط يعملون في الأمن الموحد مُنذ عام 1978م أبرزهم الدكتور وجيه والرائد يعقوب وقد طلبت وقتها من الاثنين لفت نظر الأخ القائد "صلاح خلف أبو إياد " إلى أهمية وخطورة موضوع هجرة اليهود من البلاد السوفييتية إلى إسرائيل وأرسلت عبرهم رؤية وخطة عمل لمقاومة هذه الهجرة لاقت استحسان الأخ أبو إياد والذي أوصى بمتابعة الموضوع بروية وتكتم شديد فنحن ضد هذه الهجرات كما قال وبدون الإضرار بعلاقاتنا المتنامية مع الدولة السوفييتية في نفس الوقت، وأثناء عملي في بيروت في هيئة التوجيه السياسي والمعنوي وقبل سفري إلى موسكو مُجدداً بعد أن تم ترشيحي لمواصلة الدراسة ونيل شهادة الدكتوراة علمت بأن الأخ أبو إياد قد رتب لي مقابلة مع الأخ القائد أبو مازن في مكتبه بدمشق وللتباحث في موضوعه مقاومة الهجرة اليهودية وبعض الأمور الأخرى المتعلقة بالشأن السوفييتي ونشاطات مكتب المنظمة في موسكو،أبلغت  الأخ المفوض السياسي العام خطاب أبو الرب بالأمر واستأذنته بالسفر لإتمام هذه المهمة الشائكة ومن ثم خرجت مع الأخ يعقوب بسيارة خاصة تابعة للأمن الموحد وفي دمشق وفي مكتبه المتواضع التقيت بالأخ أبو مازن بينما ظل يعقوب ينتظر في غرفة أخرى، وعلى أمتداد ساعة ونصف امتد الحوار بيننا، كان الرجل في البداية شديد التحفظ يحاول أن يكون مستمعاً لكل شيئ يتعلق بالقضية، وأمام تأمله وهو يحدق في وجهي بنظرة ثاقبة، قلت له إطمأن ولا داعي للشك والقلق "محسوبك أبيض" إبتسم وبدت على قسمات وجهة علامات الطمأنينة وقال: هذه المِسألة عويصة وشائكة ومليئة بالمخاطر وحتى تنجح في هذه المهمة عليك بالإقتراب من العميد السفير محمد الشاعر وكسب ثقته ومن ثم إقناعه بأهمية وضرورة التعاون والعمل في هذا المجال، ولا داعي لأن يعرف بذلك موظفي المكتب أو أي أحد من أفراد عائلته، من جهتي وعندما سأكون في موسكو سوف أوصيه بك خيراً بشكل عام وبدون الإشارة لما اتفقنا عليه فيما بيننا إطلاقاً ، وحاول من جهتك أن تلتقي معي كلما كنت هناك للمتابعة والتباحث في آخر المستجدات .
عودتي إلى موسكو وبغرض مواصلة الدارسة تمت في البداية بيسر وسهولة، وكالعادة تولى الإخوة في قيادة الأمن المركزي ترتيب حالة جواز السفر لجهة وضع أختام الدخول والإقامة في لبنان وعلى طريقتهم الخاصة ومن ثم اتجهت بسيارة الضابط المختص بهذه العمليات إلى مطار بيروت وحيث تولى إنجاز ما تبقى من أمور حتى سلم الطائرة، ودعته بامتنان بعد أن أعطيته ما تبقى معي من نقود لبنانية، وباعتبار أن وضعي المادي والمالي جيد خاصة بعد أن أمر الأخوين أبو عمار وأبو جهاد الأخ المفوض السياسي العام خطاب أبو الرب بالذهاب معي إلى مكتب الأسرى والشهداء لتحصيل كافة المبالغ المستحقة لي والتي كانت ترفض الأخت أم جهاد صرفها وبسبب أنها صُرفت شهرياً عن فترة اعتقال امتدت لثمانية وأربعين شهراً بالتمام والكمال وشهرياً بواسطة شخص يُدعى "أبو أسامة"، لم يعد أمام الأخت أم جهاد أية إمكانية للرفض أو الاحتجاج وقد قال لها الأخ خطاب "إبحثى عن هذا المدعو أبو أسامة وكيف وقّع وكيف استلم هذه المبالغ باسم كامل بعيداً عنا، هذا شأنك فنحن نريد المستحقات كلها وغير ناقصة فلس واحد" وبعد صرفها كما يجب تفاجأت بأنني أتنازل طوعاً عن نصفها لدعم أسر الشهداء والأسرى في حين أبقيت معي فقط مبلغ أربعة وعشرين ألف ليرة لبنانية فقط ، استغربت الأخت أم جهاد في حين ضحك الأخ خطاب وقال : " بعد أن أخذ حقوقه وشعر بالرضا تنازل طوعاً عن نصفها، سأبلغ الأخوين أبو عمار وأبو جهاد بذلك، فعلاً000 إنك نقى وكبير وتستحق كل الاحترام والتقدير".
كانت الطائرة تقترب من مطار موسكو بينما كانت الذكريات المتموجة تتقاذفني عبر بحرها الواسع والعريض، ما هذه المصادفة العجيبة ؟! من الذي جاء بابنة القدس "فاتن" إلى هنا ؟! إنها هي بالفعل ,وتجلس بجوار رجل في الأربعينات من عمره قصير ومربوع الجسم يحمل بيده عكازة يتوكأ عليها بسبب إصابة تحت الركبة في القدم اليمنى ، استأذنته بعد أن تبادلت معي العديد من النظرات وجاءت لتجلس بجواري، منذ ثمانية سنيين افترقنا وها نحن نلتقي صدفة قالت وكأنها تجيب مسبقاً على سؤالي: إنه زوجي وهو من الكوادر القيادية في الحركة الوطنية اللبنانية, حضرنا للعلاج في موسكو بعد إصابته في مواجهة مع قوات الكتائب الإنعزالية ، وانت ماذا تفعل؟ وإلى أين تمضى ؟ قلت لها : جئت لإكمال دراستي في الاتحاد السوفييتي وبعد برهة من الصمت قالت وهي تمسح حبات من الدموع إنهمرت فجأة من عينيها ، لك مني عظيم الأسف ولإختي وصديقة عمري وجد كل المحبة والحزن على مصيرها المؤلم، لقد كنتما معاً أجمل وأطهر عاشقين في بيروت غدرت بهما الأيام وقسوة الظروف، اعترف لك بأنني كنت من أقنعتها بالسفر إلى القدس معي وعلى أمل العودة ثانية لإستكمال الدراسة في جامعة بيروت العربية.ولم أكن أتصور أنه بهذا المستوى الدنيء من الأخلاق ،  فهي وأمام جمع من الطالبات المغتربات والمقدسيات في مطعم الشموع قالت له بكل الجرأة والصراحة أنها تحب شخص آخر ، وأن خطبته لها من أهلها وموافقتهم عليه لاعتبارات تتعلق بالمال ولكونه مهندس نفطي يعمل في الخليج لا تساوي شيء ، فهي تريد الحب ولا تريد المال وتأمل منه بأن يتركها وشأنها ، إلاّ أن أخلاقه المتواضعة وغيرته المتوحشة لم تترك أمامها أي خيار، فقد بلّغ أهلها بكل شيء وتزوجها عنوة وهي تعيش معه في مدينة أبو ظبي كالأسيرة، سأبلغها حتماً بهذا اللقاء المفاجئ وسأنقل لها أخبارك الطيبة فلعل ذلك سيخفف عنها وقع المصاب .
هبطت الطائرة بنا دون أن ندري أو نحس وعلى صوت ارتطام العجلات بأرض المطار استفقنا، ودعتها بعد أن تبادلت مع زوجها عبارات المجاملة الاعتيادية وتمنيت له موفور الصحة والعافية وتيقنت بأننا نحن الفلسطينيون نعيش مستقبلنا عبر الزمان في قطار من اللحظات المترابطة فقط في غموضها وأن ضياع لحظة واحدة منها قد يقلب توازنات حياتنا رأساً على عقب، وأن هذه اللحظات ربما تشبه صخرة " سيزيف الأسطورة "فكلما أوشك على بلوغ القمة بها تهوي من بين يديه فيعود ثانية لتكرار المحاولة، فنحن شعب أسطوري حقاً أو ربما نكون جزءاً من الأسطورة فلكل منا روايته ولكل منا حكايته التي عبثت أو عصفت بمصيره ومستقبله ، فوجد هذه الفتاة المقدسية الجميلة الشقراء والأنيقة في كل شيء يتيمة الأم عاشت في كنف والدها وزوجته الثانية تعلمت منذ نشأتها على نفقة وحساب دار الطفل العربي وعاشت في ألمانيا ولعدة سنوات في مدارس البعثات الكنسية وهي لذلك تتقن الإنجليزية والألمانية وفي فترة مراهقتها وحيث أكملت الثانوية العامة في القدس كانت تُعاني من حسد وغيرة زوجة الأب الظالمة، وبسبب بزوغ نجوميتها كراقصة ممتازة في فرقة الفنون الشعبية بالقدس حاول أحد السياح وهو دكتور سويدي اسمه "جون" المستحيل لإقناعها بالزواج منه عن حب جارف أصابه تجاهها ، وقد رفضت العرض بالرغم من ضغوطات زوجة الأب الموافقة ، ومن ثم تقدم إليها ، "المهندس النفطي المذكور" وقد تم إجبارها بالقوة على قبول خطبته وبدون قناعة أو اقتناع، وباعتبار أنها ومُنذ طفولتها تحتفظ بصورة لفتى فلسطيني أحبته ظهرت في الصحف المحلية وهو يقف أمام المحكمة العسكرية عام 1968م وقد صدر بحقه حكماً لمدة ثلاثين سنة منها خمسة سنوات مع التنفيذ وخمسة وعشرين سنة أخرى مؤجلة التنفيذ ، كبرت فتاة القدس وكبر الفتى في السجن ثم شاءت الأقدار أن يلتقيا في باحة جامعة بيروت العربية، ومنذ اللحظة الأولى ومنذ اليوم الأول أكتشف الاثنان أنهم على موعد مع قصة فريدة من قصص العشق الأسطورية، وبدون مقدمات وبدون فواصل عاشا معاً أجمل لحظات العمر في سبعة شهور ومن ثم افترقا تحت ضغط الموانع الكاسحة والأقدار الرهيبة فالأشياء متداخلة ومترابطة فيما بينها ، فلسطين وإسرائيل الاحتلال والوطن ، المقاومة والغربة ، النفظ والتمرد والمنفى, الحب والخيانة والجنون.
حملت حقائبي وعبرت من سلم الطائرة إلى الخرطوم الطويل الممتد في قلب المطار نحو عالم آخر ، هربت إليه من الواقع العربي المؤلم والمليء بالضغائن وأحقاد الجاهلية بعد أن علمت بأن من تحبني أجبرت وبقوة الإكراة وضغط المال وتحت ضغط الموانع التي أوجدها بطش الاحتلال على الزواج من رجل لا تحبه، ورويداً رويداً وكلما كنت أتقدم إلى الأمام كانت رياح موسكو الباردة تتسلل إلى جسدي حتى بدأت أحس بنوع منه القشعريرة الحنونة ، كان البرد يهزني وكنت أهتز معه حتى تصطك أسناني فيما بينها ، وبهذه الطريقة استفقت على ذاتي وخرجت من عالم الذكريات إلى واقع الحياة. لم أحس بأي شيء قد تغير في موسكو كما تركتها أعود إليها وهي كما هي ، شامخة في قلب التاريخ وقوية ومهابة ، تحاول أن تقود العالم نحو غد أفضل، وباقتدار وكبرياء تدافع عن المقهورين والمظلومين في كل بقاع الدنيا والأرض ضد الطغيان، كنت شديد الخوف عليها وعلى مستقبل الدولة السوفييتية من خطيأة ليونيد إيلتش بريجينيف بسبب تورطه في المستنقع الأفغاني، وهي الخطيئة التي مكنت الولايات المتحدة الأمريكية من تجنيد قوة العالمين العربي والإسلامي للحرب ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وكنت أعتقد بنهاية تراجيدية لهذه المحنة لأن هزيمة الاتحاد السوفييتي ستكون نصراً من الوزن الثقيل تحققه أمريكيا وهزيمة للسوفييت من جهة وللعرب والمسلمين من جهة أخرى وحيث يتم استضعافهم والإستفراد بهم وبثرواتهم ومستقبلهم من قبل إسرائيل وأمريكا فيما بعد وفي ظل الغياب الإجباري للهيبة السوفييتية عن خارطة توازن الرعب القائمة بين الشرق والغرب.
من موسكو توجهت فوراً بالقطار إلى مدينة فارونج للحصول على ذاتية خاصة بالسلوك الشخصى العام للطالب المترشح من قبل وزارة التربية والتعليم لإكمال دراسته العليا، الغريب في الأمر أنها كانت جاهزة ومعدة للإرسال في بريد الجامعة  الخاص بالوزارة والأغرب أنها كانت مسيئة وغير عادلة فهي تقول بالنص أن هذا الطالب الفلسطيني وعلى الرغم من أنه يتمتع بشخصية قوية وجذابة ويمتلك مواهب متعددة وهو لماح وشديد الذكاء، إلا أنه معادي للسوفييت ويكره الجنس اليهودي أي " أنتي سمست" باللغة الروسية الدارجة وهي تعني أنه " لا سامي" واللاسامية بالطبع تهمة كبيرة وخطيرة اخترعتها الحركة الصهيونية وعممتها من خلال نفوذها على الصعيدين الدولي والأوروبي بالذات لملاحقة كل من يُعادي مشروعها الاستعماري في فلسطين وبحجة وتهمة وكراهية الجنس اليهودي . علمت بالأمر من سكرتيرة مدير الجامعة وبعد إلحاح شديد وافقت على تسليمي صورة عنها للتصرف وتدارك الأمر بالسرعة الممكنة ، ذهبت فوراًَ مع صديق فلسطيني إلى مكتب المدير العام المسؤول عن الطلبة الأجانب ، أبلغته بالأمر وبعد أن قرأ الذاتية وهي عبارة عن صفحة واحدة اختلف لونه وبدت على وجهة علامات الغضب والارتباك والخجل، وعد بمعالجة القضية ومحاسبة المدير وبدون الإضرار بالسكرتيرة مع أنها ارتكبت حماقة كبيرة من وجهة نظره ، وهو ما تم بالفعل وقد سلمني في اليوم التالي ذاتية جديدة تطالب الوزارة باعتماد ترشيحي كما تم إبعاد المدير المسيء فوراً عن موقعه ، عند عودتي من مدينة فارونج ، التقيت بالعميد السفير محمد الشاعر وأبلغته بما جرى معي وقد زودني بكتاب منه لدعم ترشيحي في الوزارة وبشرط بقائي في مدينة موسكو وبغرض مساعدته في بعض النشاطات الدبلوماسية الخاصة بالشأن الفلسطيني والعلاقات الفلسطينية السوفييتية وهو ما تم بعد عناء بسبب اعتذار العديد من الكليات عن استقبالي بحجة عدم وجود شاغر وبتهمة يجري التستر عليها وهي أن المذكور "أنتي سمست" أي معادي للجنس اليهودي، وكما يقال رُب ضارة نافعة وحيث لم يعد أمام الوزارة إلا إرسالي إلى معهد أسيا وأفريقيا التابع لجامعة موسكو الحكومية وهو معهد شبه مغلق في وجه الطلبة الأجانب واليهود، رفيع المستوى على الصعيد الأكاديمي ويختص بتخريج الكوادر الدبلوماسية والمترجمين العسكريين وخبراء السياسة والاقتصاديين المتخصصين بالشأنين الآسيوي والإفريقي بالإضافة إلى المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام،وبدون أي جهد أو عناء وعندما تعرفت على مدير قسم الشرق الأوسط والذي سأدرس فيه وأحضر رسالتي من خلاله وبإشراف مدير القسم بالذات وهو البروفسور " ليف نيكولا يفتش كتلوف " وبمساعدة نائبه الدكتور "فيتالي نعومكن " أحسست بأنني في وسط مجموعة من مراكز البحث الإستراتيجي المتخصصة بكافة النواحي الخاصة بآسيا وأفريقيا والبلدان العربية ومنطقة الشرق الأوسط ، وأن مجموعة هذه المراكز تشكل الإطار والهيكل العام للمعهد وأنه أي المعهد يُعتبر مصنعاً لتفريخ الكوادر والقيادات السوفييتية المتخصصة من جهة والقاعدة الرئيسية لصناعة السياسات والقرارات الاستراتيجية الخاصة بعلاقات الحزب والدولة السوفييتية المتعلقة بالمنطقة من جهة أخرى، وربما لذلك ولهذا السبب قال لي السفير العميد محمد الشاعر "انتبه جيداً يا بني فأنت أول فلسطيني يدرس في هذا المعهد وثاني عربي ، فقد سبقك إلى هنا مبعوث يمني من عدن تم فصله بسبب عدم القدرة على التحصيل الأكاديمي، ومعك الآن وفي مُختلف الأقسام واحد وعشرين طالب من مختلف بلدان المعسكر الاشتراكي فقط والبقية كلها من الطلاب الروس ومن أبناء العائلات المسسكوبية في معظمهم ، ولا يوجد فيه من ينغص عليك دراستك بتهمة اللاسامية والعداء لليهود " وهكذا وبسهولة ويسر أصبح بإمكاني مفاتحتة في موضوعه مقاومة الهجرة اليهودية وباعتبار أن هذا العمل يصب في خانة الجهد الفلسطيني المدافع عن الاتحاد السوفييتي في وجهة النشاط المتزايد والمتنامي للمنظمات والفرق الصهيونية داخل البلاد فرد قائلاً: هذا ممكن وبكل تأكيد ولكنه يحتاج لمفاتحة ومراجعة القيادة الفلسطينية وأقصد بها هنا الأخ أبو عمار والإخوة أبو جهاد وأبو إياد وأبو مازن فقط ، أما البقية فربما يحاربوك ويحاربوني عبر مزاوداتهم الفارغة وبتهمة الشوفينية والعداء للأصدقاء السوفييت، فأنت تتحدث عن موضوع كبير وخطير ويحتاج إلى قدر هائل من الكتمان والسرية وبدون أن تنسى ولو للحظة واحدة بأن للصهاينة أنياب ويتصرفون دائماً معنا وفي مواجهتنا وكأنهم فصيلة من الذئاب المسعورة . 
على العموم في أوقات فراغك أتمني عليك أن تداوم معنا يومياً ولمدة ساعتين على الأقل للاهتمام بالإعلام السياسي أولاً والنشاطات الإسرائيلية ثانياً هذا بالإضافة لمعاونتي في الندوات والمؤتمرات الصحفية وبالنسبة لموضوع مقاومة الهجرة اليهودية أوصيك بالسرية التامة وكتمان الأمر عن موظفي السفارة وبدون استثناء وبما فيهم أبني وأفراد عائلتي جميعاً.
بعد هذا اللقاء ومن خلال هذه التفاهمات بدأت عجلة العلاقات الطيبة والثقة المتبادلة فيما بيننا بالدوران وحيث فشلت كافة محاولات الواشين والمغرضين وأصحاب النوايا الخبيثة عن تعطيل دورانها ، وقد كان لذلك الفضل الكبير في توسيع دائرة معارفي بالأوساط الرسمية السوفييتية ، وهكذا ومن خلال موقعي الدراسي في قسم الشرق الأوسط في معهد آسيا وأفريقيا وعلاقاتي المتنامية مع الجهات السوفييتية والتي تتواصل باستمرار مع السفارة والسفير الفلسطيني على وجه التحديد أيقنت بأنني أصبحت قريباً من المفاتيح الخاصة بالسياسة السوفييتية في مسائل الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية ، ولهذا ولذلك لم أكن أجد أية صعوبة تذكر عند إعداد أية مادة خاصة بتصريح ما أو بمؤتمر صحفي يجري عقده من قبل السفير، فقط كان يسألني بتأمل عن "اللازمة" وهي ما كان يُسميها مازحاً بالفقرة الأخيرة في البيان أو التصريح والتي يجب أن نشيد فيها بالاتحاد السوفييتي الصديق وبدعمه السياسي والمادي والمعنوي للشعب الفلسطيني وللثورة ولمنظمة التحرير الفلسطينية وبالتدريج وأحياناً كانت كاميرات التصوير الخاصة بأجهزة الإعلام تلتفت إلى وجودي ، ولم يكن ذلك بتاتاً وبالمطلق يزعج العميد السفير محمد الشاعر وإنما يزيد من ثقته بي واحترامه لي، إلاّ أن الصورة اختلفت تماماً بعد ذلك وبعد غيابه النهائي عن المسرح وأذكر أنه ذات مرة وهي المرة الأخيرة التي أعددت فيها مادة المؤتمر الصحفي وقد جلست بجوار الأخ القائم بالأعمال المؤقت رامي الشاعر وبطريقة عرضية أو ربما بشكل مقصود تم تركيز الكاميرات التلفزيونية على وجهي كما ظهر ذلك عبر بث النشرة الإخبارية المسائية ، لم أفهم لماذا تم ذلك ؟ وهل كان عملاً مقصوداً بالفعل أم مجرد لقطة عابرة أقدم على تنفيذها مصور التلفزيون السوفييتي؟ المهم أنها أثارت حفيظة الأخ رامي الشاعر وتركت لديه نوعاً من الهواجس والشكوك التي عمل على تغذيتها في ذهنه حلفاء وأصدقاء السوء وهم كثر وكلهم يعمل وعلى طريقته لإبعادي عن السفارة باعتباري ممثل في تلك الفترة لشرعية الرئيس عرفات المحاصرة والمرفوضة من قبلهم ، وقد صوروا الأمر وكأنه المقدمة المطلوبة لتقديم وتلميع صورتي أمام الرأي العام قبل استلامي لمقاليد الأمور في السفارة وخاصة بعد زيارتي الناجحة إلى مقر القيادة في تونس . 
لم يكن الأمر كذلك ولم يكن أيضاً كما تصوره البعض ولم أكن أجرؤ على البوح بالحقيقة بعد أن عرفتها وتيقنت منها فالمشوار طويل ونحن في بداية اللعبة ، كان لدي شبكة أمان من الأصدقاء السوفييت المتنفذين وهم جميعاً لا ثقة لهم باليهود فقد أبلغوني بأن ظهور صورتي وبهذا الشكل الإستعراضي المثير عملية مدروسة ومخطط لها وبهدف ضرب العلاقة وبشكل نهائي بيني وبين الأخ القائم بالأعمال رامي الشاعر من ناحية ولإبعادي عن مركز القرار والتأثير من ناحية أخرى وأن صهاينة الإعلام المنتشرين في الأجهزة السوفيتية غير مرتاحين من وجودي الفاعل على صعيد السفارة ولا من بقائي فيها أو في البلاد السوفييتية بشكل عام ، وأنهم جميعاً ومعهم المنتفعين من فريق "الكسندر دروجن" في لجنة التضامن وجماعة "بولاد الكسيفتش " في قسم الشرق الأوسط في المخابرات الخارجية السوفييتية سيعملوا على ترحيلي من البلاد وكما أنهم لن يغفروا لي نجاحي في توتير علاقة العميد السفير محمد الشاعر معهم وبسبب تورطه بنشاطات معادية للهجرة اليهودية وإقترابه الشديد والمؤيد لسياسات الرئيس عرفات في العام الأخير من حياته، ولن يقبلوا بتكرار هذا السيناريو مجدداً مع إبنه رامي ، ولهذا 000 وبالضغط وبكل الوسائل الأخرى سيعملوا على تنصيبه سفيراً فوق العادة لمنظمة التحرير الفلسطينية في موسكو حفاظاً على مصالحهم. مثل هذه المعلومات بالتأكيد لا يمكن السكوت عليها ، وعليه فقد قمت بصياغتها على الفور وأرسلت بها للأخ هايل عبد الحميد "أبو الهول" ليوصلها باليد وعلى طريقته للرئيس عرفات والذي أظهر استعجالاًَ ملحوظاً لجهة اتمام الإجراءات الخاصة بتعيين وسفر الأخ أبو نزار "صخر حبش" أمين سر المجلس الثوري لحركة فتح وباعتباره سفيراً فوق العادة لمنظمة التحرير الفلسطينية في الاتحاد السوفييتي.
وهكذا وبهذه السرعة حضر الأخ "أبو نزار " صخر حبش ، وبدى وكأن فصلاً جديداً من علاقات التعاون والصداقة بين القيادتين السوفييتية والفلسطينية سيفرض نفسه بديلاً عن حالة الجمود والبرود والشك السابقة ، وقد ساهم وصوله وقبول أوراق اعتماده رسمياً من الجهات السوفييتية في نشر نوع من الراحة والطمأنينة في أوساط حركة فتح وبين السواد الأعظم من أبناء الجالية الفلسطينية من الدارسين والمقيمين في موسكو وسائر الجمهوريات والمدن السوفييتية الأخرى، وبعد مدة من وصوله وعلى منبر جامعة الصداقة بين الشعوب المعروفة باسم " باتريس لوممبا"  وفي قاعة ضخمة امتلأت عن بكرة أبيها بالطلاب وبالفعاليات الاجتماعية والمدنية السوفييتية بالإضافة لبعض المسؤولين وكبار موظفي لجنة التضامن الأفروآسيوية ألقى السفير الفلسطيني الجديد كلمة يعلن فيها بصراحة عن حضوره الشخصي وعلى حساب مكانته وقيمته السياسية كممثل فوق العادة لمنظمة التحرير والقيادة الفلسطينية فالخطاب يستند إلى القوافي والحروف المتناغمة في نهاية الكلمات والتي تبدو قريبة من قرع الطبول وبعيدة كل البعد عن لغة الحصافة الدبلوماسية والتناغم السياسي العميق مع واقع المستجدات ورياح التغيير المتموجة في هبوبها العاصف نحو المنطقة وباتجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي على وجه التحديد كما لم يكن موفقاً عبر قرعه لطبول الصراع مع الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية ومديحه الهائل للتجربة الاشتراكية المتطورة في سائر الجمهوريات السوفييتية ودول المعسكر الاشتراكي، وإصراره المسطح على ربط مصير الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية بحلف استراتيجي مع الاتحاد السوفيتي.
 وبعد يومين من هذا الخطاب والمهرجان الاحتفالي ، التقيت بالأخ أبو نزار في جناحه الذي يسكن مؤقتاً فيه في فندق" سوفيتسكيا " وبناءاً على موعد مسبق تم تأجيله قبل ذلك لاعتبارات تتعلق بأشغال خاصة به ، كان يرتدي جلباباً واسعاً ليستر بطنه العريضة ويشرب اللبن المخيض بنهم وأمام هذا المنظر حدثتني فراستي على الفور بأن السفير المحترم تأخر في استيقاظه من النوم بفعل سهرة مديدة شرب فيها ما لذ وطاب من كؤوس الواين والفودكا الروسية الشهيرة، وعادة الروس في مثل هذه الحالات وعندما يستيقظون من سكرة النوم المرتبطة بالفودكا أنهم يشربون عدة كؤوس من البيرة في الصباح أي أنهم يعملون " البخمليتسا " وتعني الصحوة من غفوة السكر عبر كاسات البيرة الباردة ، ولمن يعاني بعض الآلام في المعدة كنتيجة لحالة الشرب والسكر فإنه يعمل " البخمليتسا " بشرب عدة كاسات من اللبن المخيض والمعروف "بالكفير" باللغة الروسية واعترف بأن منظر سفيرنا في تلك اللحظة لم يكن مريحاً على الإطلاق، ومع ذلك وبلغة الواجب تحدثت معه في العديد من الأمور الخاصة بالعمل في السفارة ، وطلبت منه أن يتعامل مع الموظفين بحذر لأسباب تتعلق بالمعتقدات السياسية والسلوك الأمني والارتباطات الأخرى كما أبديت له استعدادي التام للتعاون معه في كل شيء يريده أو يحتاجه تنفيذاً لتعليمات وتوصيات الأخ الرئيس القائد العام أبو عمار، أما عن وجهة نظري في خطابه والمهرجان، فقلت له إنك تحدثت بلسان أمين عام لفصيل يساري " ماركسي" من فصائل اليسار في الساحة الفلسطينية وهذا لا يليق بك باعتبارك أمين سر المجلس الثوري لحركة فتح ، كان عليك أن تتحدث بلغة سياسية ودبلوماسية باعتبارك سفيراً فوق العادة لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وهذا رأي سمعته من بعض الأصدقاء السوفييت، كان الرجل يستمع ولا يجيب وكأنه يعيش في عالم آخر، اكتفى بالقول أنه سيعالج كافة الأمور وأن لديه من التجربة والخبرة الكثير من القدرات التي ستمكنه من التغلب على كافة العقبات والمكائد، ودعته ودون أن نتفق على لقاء آخر، فقط سألنى إن كنت أنوي السفر إلى تونس، فأجبته ربما يكون ذلك بعد عدة أسابيع، قال: أبلغني قبل سفرك ، فلربما أحتاج إلى بعض الأشياء من هناك أو إرسال بعض الأمور من هنا.
الغريب العجيب أن الرجل وفي ظهر نفس اليوم ذهب إلى السفارة واجتمع مع جميع الموظفين وبحضور الأخ رامي الشاعر القائم بالاعمال ، وقال لهم: بأن صديقكم وزميلكم " فلان وكان يقصدني يتهمكم بالتجسس لحساب المخابرات السوفييتية "كي جي بي " ولأجهزة عربية ودولية أخرى ، وقد طلب مني إبعادكم عن السفارة بالفصل أو النقل، كما حذرني من طموحات الأخ رامي الشاعر التي لا تعرف الحدود وأنانيته ، وبالنسبة لي كلكم إخواني وسوف أطلب من الأخ أبو عمار وفي القريب العاجل إبعاده عن ساحة العمل السياسي والدبلوماسي فهو طالب دراسات عليا ومهمته يجب أن تكون محصورة في مجال العلم والتحصيل الأكاديمي فقط" وقبل أن نغادر السفارة كان العديد من الأخوة العاملين والموظفين قد تسابقوا على إبلاغي بما جرى ، التقطت الرسالة وفهمت معانيها جيداً وإن كنت قد أصبت بنوع من الدهشة والإحباط من هذه التصرفات الرعناء لرجل في مقام السفير المأمول والمتأمل منه النجاح في إزالة الفتور والنفور الطاغي على علاقات القيادة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية مع الاتحاد السوفييتي ، فالمستوي ليس كما كنا نتوقع والانجازات المنتظرة ليست أكثر من حلم بعيد المنال وربما يجد "أبونزار" صخر حبش نفسه وأمام هذه المسلكيات العبيطة كريشة في مهب الرياح تتقاذفها التناقضات في كل اتجاه . لم أتصل به ولم أعاتبه على فعلته المشينة وإن كنت قد أبلغت القيادة السياسية ونقلت لها احتجاجي الشديد على هذا السلوك الأرعن لرجل يفترض به أن يكون ممثلاً فوق العادة للرئيس عر فات في موسكو وكما التقطت الرسالة وفهمتها التقطها أيضاً رامي الشاعر بذكائه المعهود وبدأ يعمل باتجاه تسخيرها لحساباته وباعتبار أنه الأحق من وجهة نظره في قيادة العمل الدبلوماسي الفلسطيني وأن الرئيس عرفات أخطأ عبر تعيينه للأخ صخر أبو نزار في هذا الموقع الحساس والخطير، نأيت بنفسي عن جدل هذه الحسبة الخاسرة في صراع الإثنين خاصة وأن الرئيس عرفات ينتظر بفارغ الصبر وعلى أحر من الجمر بارقة أمل تأتيه من موسكو عبر دعوة رسمية طال انتظارها  لزيارة الاتحاد السوفييتي في حين يواصل سفيره فوق العادة جولاته عبر الغابات بحثاً عن وميض اللحظات الإبداعية للفنانيين والشعراء والأدباء والكتاب الكبار نهاراً ومع طقوس حفلات الفودكا والكفيار والأنس ليلاً .
فهو يتشبه بالعظماء على طريقتهم الخاصة به وبدون أن يعلم وبدون أن يدري بأن هناك من يحصي عليه أنفاسه قبل زلات لسانه وهفواته، ومنذ أن بدأت تتسرب عن سلوكياته الحكايات أيقنت على الفور بأن شيء ما سيقع وأن قرار طرده من موسكو واعتباره شخصية غير مرغوب فيها تلحق  الأذى بالعلاقات والمصالح السوفييتية والفلسطينية أصبح في حكم الجاهز وبانتظار لحظة الاعلان والتنفيذ، ولهذا فقد قررت أن أسبق الحدث، فنزلت إلى تونس على عجل وفي زيارة خاطفة وسريعة أبلغت فيها الإخوة بهذا الرأي والانطباع وطلبت من الأخ أبو الهول إبلاغ الرئيس عرفات الموجود في بغداد بالأمر والعمل بكل الجهد الممكن لتدارك هذا الانحدار الخطير في العلاقات الفلسطينية السوفييتية ، وبالفعل حدث المحظور فبعد عشرة أيام على عودتي من مقر القيادة طلب الأخ الرئيس من الأخ أبو الهول إبلاغي بضرورة الحضور فوراً إلى تونس وعند وصولي وقبل أن ألتقي ليلاً بالأخ الرئيس علمت بوصول الأخ "السفير خطاب أبو الرب" كذلك قادماً من رومانيا فذهبت مشتاقاً للسلام عليه ولمعرفة آخر أخباره فأبلغني بأن موضوع الأخ صخر حبش انتهى ، وأنه علم من الرومان بأن السوفييت طلبوا منه مغادرة البلاد، ودعته على عجل لإعتبارات تتعلق بموعدي مع الأخ أبو الهول في منزله، وعند لقائه قال لي وهو يبتسم توقعاتك كانت صحيحة مئة بالمئة وأرجو أن تحسن الكلام والشرح هذه الليلة ، فالموضوع خطير ولا يحتاج إلى العموميات والخطابة السياسية ، حاول أن توجز رؤيتك في برنامج عمل واضح وصريح وضمن رؤية استراتيجية غير قابلة للنقاش أو الاعتراض من أحد، سأرسل سيارتي مع المرافقين ليأخذوك من الفندق في تمام الساعة السابعة ومن ثم نذهب سوياً لمنزل الأخ "أبو مروان حكم بلعاوي" ونلتقي بالأخ الرئيس هناك في تمام الساعة الثامنة.















الفصل الثالث:-
"لحظات تاريخية مع الرئيس عرفات"

وصلت مع الأخ القائد أبو الهول عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومفوض جهاز الأمن المركزي والمعلومات إلى منزل الأخ " أبو مروان" حكم بلعاوي، كان ذلك في حدود الساعة الثامنة والربع لم يكن البيت منزلاًَ عادياً بل قصراً من الطراز الرفيع بكل معنى الكلمة، دخلنا معاً إلى قاعة الاستقبال الرئيسية وهناك طلب منى الجلوس لبعض الوقت في حين تقدم هو عدة خطوات باتجاة ممر ينتهي بدرج يهبط عبر درجاته باتجاه قاعة أخرى، وبينما كنت في انتظار دعوتي لمقابلة الأخ الرئيس ظهر أمامي وبشكل فجائي الأخ صخر أبو نزار، وقد جلس على مسافة غير بعيدة وكأنه يتابع أو يراقب شيئاً ما اكتفينا بتبادل النظرات العابرة ، وبعد برهة وجيزة جاءني أحد الأخوة وطلب مني الهبوط على الدرجات باتجاه القاعة حيث ينتظرني الأخ الرئيس، وما أن دخلت القاعة وإذا بالأخ أبو عمار ينهض من مكانه ويتقدم نحوي مسرعاً لعدة خطوات صافحني وشدني إلى صدره وعلى طريقته الخاصة كان يربت بيده على كتفي تارة ويشد شعري من الخلف تارة أخرى ومن ثم وضع يده بيدي وسار باتجاه الإخوة الجالسين وقال لهم/ "كامل ده حبيبي 0000 ده أبني 00 إحنا بنعرف بعض من أيام بيروت  " ومن ثم أجلسني بجواره وبالقرب من الأخوين أبو الهول وحكم بلعاوي، وما هي إلا لحظات وقبل أن نبدأ في الحديث وإذا بالأخ " صخر أبو نزار" يدخل بخطوات مرتبكة ويسير باتجاهنا، رمقه الأخ الرئيس بنظره استهجان غاضبة وسأله بإقتضاب ماذا تريد؟ عاوز إيه؟ فرد عليه الأخ صخر بأنه يأسف لاضطراره الدخول بدون استئذان وأنه فقط يريد أن يوضح مسألة واحدة لها علاقة بالجلسة، فرد عليه الرئيس ثانية وبحدة، اختصر وقل ما تريد قال الأخ صخر أبو نزار: " جئت لأقول لسيادتكم بأنني لم أخطئ في حياتي بحق أحد كما أخطأت بحق أخي الدكتور كامل فأرجو السماح والمعذرة " ومن ثم استدار خارجاً من القاعة ، سادت برهة من الصمت قبل أن يعود الأخ أبو عمار لابتسامته وتنفرج أساريره ويقول: فعلاً "الضرب في الميت حرام" كنت أريد منك بعض التوضيحات حول الأسباب التي أدت لطرده ولقد وصلتني رسالة وملف من الحكومة والخارجية السوفييتية في تمام الساعة السادسة من مساء هذا اليوم حول الموضوع ومن كل جوانبه، اعتبر أن موضوعه إنتهى وعلينا أن نبدأ من جديد".
قلت له ومن أين سنبدأ يا أخ أبو عمار؟ لدي الكثير مما يجب أن يقال وأكتفي اختصاراً بالآتي:- 
-منذ وفاة ليونيد إيلتش بريجنيف والاتحاد السوفييتي يعيش مرحلة انتقالية صعبة للغاية، وكما تلاحظ جاء يوري آندروبوف ومات، ليعقبه الرئيس الميت الحي سريرياً حتى هذه اللحظة كنونستنتين تشيرننكو، وسيعقبه مع نهاية العام رئيس جديد وبحسب ما ستفضي إليه الصراعات القائمة والمستورة بين مراكز القوى وهي المراكز التي أصبحت تؤثر وتتحكم في قرارات السلطة المركزية، كل ذلك تم ويتم في إطار زمني ضيق ومحصور للغاية لم يتجاوز في حدوده العامين ونصف.
- لدي مؤشرات قوية تدعمها بعض المعلومات بأن الرئيس القادم سيكون من الجيل الشاب، وهو جيل انقلابي على صعيد السياسات والمفاهيم والمبادئ وبحسب تأكيدات أصدقائنا والمقربين منه فإن الرئيس القادم هو ميخائيل سيرجفتش قربتشوف ، وربما يتم الإعلان عن موت تشيرننكو وتنصيب قربتشوف رئيساً للدولة وأميناً عاماً للحزب الشيوعي السوفييتي في غضون الأسابيع وربما الشهور القادمة.
- مراكز القوى مشتتة الولاءات وهي تعبث بالقرار المركزي للسلطة وبما يتوافق مع مصالحها، ولهذا سيجد الرئيس الجديد صعوبات هائلة لجهة حلها أو السيطرة عليها وربما يظل رهيناً لحاجته الماسة إليها في البدايات لتكريس زعامته  على صعيد الدولة والحزب.
-هناك إمكانية واعدة وكبيرة لحدوث تحسن كبير على صعيد العلاقات الفلسطينية السوفييتية ومع سيادتكم بالذات وعلى وجه الخصوص وربما تنتهي حالة البرود والقطيعة السائدة في العلاقات، وبهذا الصدد أنصح سيادتكم بعدم الاستجابة للضغوطات المتعددة الأوجه والأشكال والمطالبة بتوقيع اتفاق للتحالف الاستراتيجي بين م.ت.ف  والاتحاد السوفييتي ، فربما تسقط التجربة السوفييتية وينهار الاتحاد السوفييتي ويختفي من الخارطة الدولية للأمم في غضون السنوات الخمس القادمة وحتى مطلع التسعينات ، وباعتقادي أنكم يا أخ أبو عمار لن تقبلوا بتكرار خطأ وخطيئة الحاج أمين الحسيني عندما تحالف مع دول المحور ومع ألمانيا النازية وهتلر وهو الأمر الذي أدى إلى النهاية المأساوية للقيادة الفلسطينية وللشعب والقضية الفلسطينية في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية.
-أما بالنسبة لمشاريع التسوية المطروحة كحل للقضية الفلسطينية والخلافات المتفجرة في الواقع الفلسطيني، فإن للسوفييت موقفين ، موقف يحتمي بالمبادئ الكلاسيكية المكررة ويجري تعميمه إعلامياً وعبر لجنة التضامن وقسم الشرق الأوسط في المخابرات وفي إطار توسيع شبكة العلاقات العامة والمناورات السياسية، وموقف آخر وهو الموقف الرسمي للدولة والسلطة المركزية الحاكمة، وهو موقف براجماتي يعتمد على لغة المصالح والتوازنات السائدة في صراع المنطقة وباختصار فهم يقبلوا بتسويق المواقف الفلسطينية الخاصة بالحلول والتسويات المطروحة من خلالهم دولياً وعلى صعيد الموقفين الأمريكي والأوروبي، ولن يقبلوا بهذه المواقف إذا ما قام الجانب الفلسطيني بتسويقها مباشرة أو عبر القنوات العربية والصديقة الأخرى، ولهذا ومنذ هذه اللحظة أقترح على سيادتكم تجاهل وإهمال الموقف الأول الخاص بلجنة التضامن وقسم الشرق الأوسط في مخابرات وأجهزة الاعلام واعتماد الموقف الثاني وهو الموقف الرسمي المعبر عنه في علاقات واتصالات ووثائق الدولة والسلطة المركزية في البلاد، هذا ما ينصح به الأصدقاء ويتمنون على سيادتك الأخذ به واعتماده كقاعدة ثابتة للعلاقات السوفييتية الفلسطينية مستقبلاً.
كنت أتحدث وكان الأخ "أبو مروان" حكم بلعاوي يغدو ويروح حاملاً بيده بعض الأوراق والبرقيات العاجلة بينما يواصل الأخ أبو الهول صمته المريح وبدون أن يخفي من ملامحه علامات البهجة المؤيدة لما يسمع من أفكار ومقترحات.
استأذن الأخ أبو عمار من الأخ أبو الهول والأخ حكم ، نهض من مكانه وشدني من يدي، نهضت واقفاً بجانبه ومن ثم وضع يده على كتفي وبدأنا معاً بالسير داخل القاعة قال لي: استوعبت كل شيء قلته إلا أنني بحاجة ماسة لمعرفة رأيك في احتمالية انهيار الاتحاد السوفييتي والدولة السوفييتية وفي غضون السنوات الخمس القادمة، إذا كنت متأكد من ذلك فهذا يعني بأننا في حاجة لاستحداث انقلاب في مفاهيمنا السياسية وعلاقاتنا الدولية والإقليمية ، بالنسبة لي لن أكرر خطأ وخطيئة المرحوم الحاج أمين الحسيني، منذ الآن سأبلغ وبطريقتي الخاصة كافة الجهات السوفييتية بأنك الممثل الخاص والشخصي للرئيس عرفات في الاتحاد السوفييتي وعليك أن تحدد الرقم الذي تحتاجه لموازنة العمل الخاصة بك.
قلت له: ولماذا الموازنة، وضعي المالي جيد وراتبي يكفي فرد قائلاً: الموازنة ضرورية ولسوف تزيد احتياجاتك وتتضاعف بعد هذا التكليف، وعندما أحس وهو اللماح الشديد الذكاء بأنني غير قادر على هضم موضوعه الموازنة شدني من يدي وعاد بي لنجلس من جديد في أماكننا ونظر باتجاه الأخوين حكم وأبو الهول وقال وهو يبتسم " كامل مش عاوز يأخذ موازنة، يعني مش عاوز يشتغل" قلت له: يا أخ أبو عمار سأكون معك في الكبيرة والصغيرة والراتب يكفي، فقط أريد الآن أن أستمع منك إلى توجيهاتك بخصوص المكتب والسفارة بعد طرد الأخ "أبو نزار صخر حبش" وبقاء الأخ رامي الشاعر، قال بعد أن قطب حاجبيه وعلامات الحزن والغضب تبدو على وجهه "صخر حبش كان يمثلني ويمثل المنظمة وهو أمين سر المجلس الثوري لحركة فتح، وما جرى وبسبب الأخطاء والخطايا التي وقع فيها وحيث تمكن رامي الشاعر وعبر علاقاته الوطيدة مع لجنة التضامن والمخابرات "كي جي بي " من استغلال هذه الأمور لحساباته وتسبب في طرده وهو الأمر الذي يلحق المهانة بحركة فتح وبالمنظمة وبالقيادة الفلسطينية وبالرئيس، سوف نمتص هذه الضربة ونعمل بكل الوسائل على استرداد السفارة وإبعاد رامي الشاعر عنها وبدون المساس بعلاقات الصداقة التي تربطنا مع الدولة السوفييتية".
نهض ونهضنا جميعاً واقفين معه ومن ثم نظر للأخوين أبو الهول وحكم بلعاوي وقال: كامل منذ هذه اللحظة في حمايتكم، وهو أمانة في عنقك على وجه التحديد يا أبو الهول غداً سألتقيه مرة أخرى صباحاً في مكتبي. خرج معي الأخ أبو الهول بعد أن ودعت الأخ الرئيس ليأمر مرافقيه بإيصالي بسيارته إلى الفندق وأثناء سيرنا باتجاههم نظر نحوي وقال: أوجزت، فأحسنت ، كنت أراقب ملامح وتعابير وجه الرئيس أثناء مداخلتك وكان يبدو متأثراً واثقاً من كل كلمة نطقت بها، عليك باستثمار هذا النجاح وسأكون معك وإلى جانبك في كل صغيرة وكبيرة ، وغداً في المساء أنتظرك في مكتبي للاتفاق على صيغة العمل المطلوبة في المرحلة القادمة.
صبيحة اليوم التالي وفي تمام الساعة التاسعة رن هاتف الغرفة وفي الجانب الثاني من الخط تحدث معي أحد سائقي مكتب السفارة الفلسطينية في تونس، أبلغني أنه ينتظر مع سيارته لإصطحابي معه إلى مكتب الأخ أبو مروان ، نزلت على الفور وبعد خمسة دقائق وصلنا كان الأخ حكم يجلس على مكتبه، وبدون مقدمات وبعد أن رد على تحيتي قال : كيف تجرأت بالأمس على الأخ الرئيس برفضك أخذ موازنة العمل، أقسم بالله العظيم لن تدخل تونس بعد اليوم إذا لم تراضيه بالموافقة على أخذ الموازنة، إنه في مكتبه ينتظرك إذهب مع السائق إلى هناك وحاول أن تتفاهم معه ، ذهبت على الفور استقبلني الأخ الرئيس والذي بادرني قائلاً : إسمع يا بني لعلك تكون الشخص الأول في حياتي الذي يرفض أخذ موازنة للعمل وهي ضرورية بالفعل وليست ترفاً ، ويا ليت يوجد لدينا الكثير من أمثالك ، بإمكانك أن تحدد الرقم الذي تحتاجه من العشرة آلاف وحتى الثلاثين ألف دولار: قلت له لا هذا ولا ذاك يكفي ثلاثة آلاف ضحك وقال : الله يسامحك يا كامل حذفت الصفر الكبير وأبقيت الأصفار الصغيرة على العموم اسمعني جيداً، إن سر نجاحنا في علاقاتنا الجديدة مع الأصدقاء السوفييت سيعتمد أولاً وبالدرجة الأولى على المصداقية فالكذب ممنوع بتاتاً وبالمطلق في مثل هذه الأمور هذا من ناحية أما من الناحية الثانية فلا داعي لتقديم الاستنتاجات وكأنها معلومات خاصة في إطار العلاقة معهم، نحن فقط سنزودهم بالمعلومات ونرد على استفساراتهم ونترك لهم حرية استخلاص العبر والنتائج ، أما على الصعيد الشخصي فلي رجاء ونصيحة ابتعد قدر الممكن والمستطاع عن شرب الكحول ولا تعاشر النساء وحتى لا يجدوا أي ثغرة ينفذون منها لاصطيادك وإسقاطك في شراكهم وبعد أن ابتسم واصل حديثه مازحاً " معلش يا خويا تحملني" ضحكت وتشجعت على مخاطبته بكامل الصراحة : اسمع يا أخ أبو عمار، كما تعرف فإن الله سبحانه وتعالي فرض علينا الصوم شهر رمضان وهو شهر في كل عام ، وأنت تدعوني لصوم متواصل ومديد لا نهاية له عن الكحول والنساء، والحياة في الاتحاد السوفييتي بدون هذه الأشياء لا معني ولا طعم ولا رائحة لها ، فرد ضاحكاً من كل قلبه "يا خويا اعتبر حالك في السجن ما أنت عشت أربع سنوات في السجون الإسرائيلية، اعتبر نفسك في السجن ولمدة عامين أو ثلاثة على حساب الرئيس " بعد ذلك نهضت مستأذناً بالانصراف لتحضير نفسي للسفر وبطريقة عفوية وجدته يتقدم نحوي ، ضمني إلى صدره وأخذ يربت على  كتفي لأكثر من دقيقة وهو يتمتم الله يحميك 000 الله يحميك وفي تلك اللحظات المؤثرة أحسست وكأن تياراً من الدفء الكهربائي يسري في جسدي وأن هذا الرئيس مخلوق غير عادي مليء بالنفحات الإيمانية. ومن جديد عدت مع السائق إلى مكتب الأخ أبو مروان حكم بلعاوي وقد أبلغته بما جرى ، فقال أنه علم من الأخ الرئيس قبل لحظات بواسطة الهاتف، وأن جملة من الهدايا الرجالية والنسائية بالإضافة إلى كرتونتين من التمور التونسية الفاخرة من نوع "دجلة " سيتم شحنها معي في الطائرة ، قلت له ولماذا؟ وماذا سأفعل بها؟ فأجابني وهو يبتسم ، وهذه أيضاً من ضرورات العمل ، أنت لن تتعب في شيء سيذهب معك من يساعدك في المطار، ولا تبخل على أحد من الأصدقاء السوفييت بشيء فالدنيا أخذ وعطاء وإن شاء الله دائماً سنسمع منك أخبارك الطيبة .
كان لقائي الأخير مساءاً وقبل سفري بيوم مع الأخ أبو الهول في مكتبه ، استمعت منه إلى الكثير من النصائح المتعلقة بعملنا الجديد وتوقفت طويلاً عند طلبه بضرورة حصر علاقاتي من الآن فصاعداً فقط معه ومع الأخ الرئيس للعديد من الاعتبارات المتعلقة بالخلافات والأوضاع الداخلية وقد شدد وبإلحاح على اقناعي بأهمية وقف كافة علاقاتي مع الإخوة أعضاء اللجنة المركزية وبالذات وبشكل خاص مع الأخ القائد صلاح خلف أبو إياد، وأن ذلك وفي هذه الفترة بالذات سيؤدي إلى كسب ثقة الأخ أبو عمار، وهو اللازم والمطلوب لمواصلة المهمة بنجاح وبدون أية مشاكل أو عقبات.
عدت إلى موسكو وقد كان للهدايا والتمور التونسية الفاخرة وقعها الطيب على النفوس ليس بسبب قيمتها المادية أو المعنوية، وإنما بالأساس بإعتبارها إشارة واضحة على ثقة ودعم الرئيس عرفات لي من جهة ، وتمسكه بالعلاقة مع الأصدقاء السوفييت من جهة أخرى، على الرغم من الإحجاف الذي وقع بحقه من قبل بعض الجهات السوفييتية والحادثة المؤلمة والتي تجسدت بطرد الأخ "صخر حبش أبو نزار" من موقعه كسفير فوق العادة لمنظمة التحرير الفلسطينية في الاتحاد السوفييتي ، وبعد شهرين من ذلك التاريخ تم الاعلان رسمياً عن وفاة الرفيق المريض رئيس الدولة والأمين العام للحزب الشيوعي كونستنتين تشيرننكو ، ليتم بعد ذلك وبعد الانتهاء من المراسيم الجنائزية الكلاسيكية تنصيب الرفيق ميخائيل سرجفتش قربتشوف رئيساً جديداً للدولة وأميناً عاماً للحزب الشيوعي السوفييتي، وعلى الفور وبدون إبطاء أو تأخير بدأت ورشات للحراك السياسي والأمني وعلى الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي تبحث عن سبل للخروج من الأزمة التي تعصف بالبلاد وتهدد في العمق وحدة الجمهوريات السوفييتية ، إعادة البناء والشفافية أي " البيروسترويكا والقلاسنست" أصبحتا معاً العنوان الرئيسي للانقلاب الأيديولوجي على ثوابت النظام الشيوعي للدولة الاشتراكية ، أركان النظام الإداري القديم والمستند على جمود بيروقراطي قل نظيره بدأت تهتز أمام رياح التغيير والديمقراطية مراكز القوى تفقد جزءاً من هيبتها ومكانتها القيادية تحت ضغط التوازنات الناشئة فهي غير قادرة على البقاء في ثوبها القديم وتبدو عاجزة عن التكيف مع المستجدات في نفس الوقت ولا خيار أمامها إلاّ خيار الاندثار والفناء أو الدوران من أجل البقاء في فلك النظام الجديد.
كما أصبح الحديث عن المبادئ الثابتة للسياسة الخارجية للدولة والحزب والبلاد السوفييتية جزءاً من الماضي ، إعادة النظر في كل شيء وعلى قاعدة القوانين والمنطلقات الجديدة لتوازن المصالح بين الأمم والشعوب كان بمثابة القنبلة الحرارية التي تسببت وعبر انفجارها في تذويب ثلوج وجليد الحرب الباردة بين الشرق والغرب وبين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وبين الاتحاد السوفييتي من جهة والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى أساساً وبشكل خاص ، وفي مثل هذه الظروف وتحت خيمة هذه المناخات، كانت فصائل اليسار القومي والشيوعي الفلسطينية والعربية تبحث عن ذاتها بين أنقاض المبادئ المنهارة للماركسية اللينينية ومن خلال الإمعان في إيجاد المبررات اللازمة لستر عورة النظام الأبوي المتغير بفعل عوامل الشيخوخة وتقدم السن ، فالمنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي العظيم أصبحت وبحكم تكرار التجارب التاريخية أحياناً كالإمبراطورية العثمانية في سنواتها الأخيرة وعندما قيل عنها وصفاً "برجل أوروبا المريض" ، والآن جاء دور الإمبراطورية السوفييتية لتأخذ دور رجل العالم المريض بامتياز .
كان ما يهمنا في تلك الفترة من وجهة نظري طبعاً وعبر لقاءاتي المتكررة مع الأصدقاء ،هو العمل وبأقصى سرعة للدفع باتجاه وضع قراءة وتصور جديد للعلاقات الفلسطينية السوفييتية وعلى قاعدة نقض تركة السنوات الثلاثة الأخيرة وهي سنوات الجمود والبرود في العلاقات بين الجانبين ومع الرئيس عرفات على وجه التحديد وباعتبار أن كل شيء أصبح ممكناً في عهد التحولات الجارية، وقد طلبت وبنعومة وقف حملات التشهير التي يقوم بها ممثلي الفصائل اليسارية عبر تكويناتهم الحزبية والطلابية ضد السياسات الرسمية للرئيس وباعتباره يمثل الشرعية الفلسطينية، فالمصالحة مع الرئيس حسنى مبارك أصبحت في حكم الماضي مع أنها أثبتت صوابية موقف عرفات وقدرته الخارقة على المناورة وحاجة الشعب الفلسطيني للثقل المصري ولدعم الحكومة المصرية، وعبر انحيازها القومي والصريح للحقوق الوطنية الفلسطينية وقدرتها الفاعلة على حماية الكيانية السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، كما أن اتفاقية عمان الموقعة بالأحرف الأولى بين الزعيمين الأردني والفلسطيني ليست بهذا القدر من المساوئ حتى تصبح شماعة جديدة في لعبة الهجوم الحاقد والمستمر على الأخ أبو عمار ، وهي عملياً اتفاقية للمبادئ غير قابلة للترجمة والتنفيذ على أرض الواقع بسبب التعنت الإسرائيلي وربما تصبح فقط مدخلاً لتطبيع العلاقات الأردنية الفلسطينية وخطوة مشجعة للولايات المتحدة الأمريكية لفتح نوع من الحوار الإستراتيجي مع منظمة التحرير والرئيس عرفات، وقد سمعت كلاماً مغايراً ومختلفاً عن لغة الخطاب السياسي الموجه إعلامياً نحو الهجوم على الاتفاقية 0000 قيل لي أن الموقف الرسمي للسلطة السوفييتية الجديدة لا يعترض ولن يعترض على اتفاقية عمان ، كما أنهم أي السلطة السوفييتية الجديدة وعبر توجهاتها في إطار السياسة الخارجية للبلاد تعتقد "أن الرئيس عرفات هو القادر الوحيد والمؤهل الوحيد لتوقيع أي نوع من اتفاقيات التسوية للسلام الإسرائيلي الفلسطيني ومن خلال قدرته الخارقة على إقناع شعبه بمنافع مثل هذه الاتفاقيات ، ونحن بصدد طرح هذا الموقف من خلال حواراتنا الاستراتيجية القادمة مع الولايات المتحدة الأمريكية ". وحتى يتم الإسراع في تذويب حالة الجمود السائدة في العلاقات مع الرئيس عرفات فإننا نقترح عليه ولإحراج فصائل اليسار وقوى المعارضة الأخرى القيام بتنفيذ سلسلة من عمليات المقاومة الناجحة في الداخل الفلسطيني باسم حركة فتح ونحن بدورنا سنقوم بنشر عمود إخباري عن مثل هذه العمليات من خلال التركيز على حركة فتح ودور الرئيس عرفات فيها في صحيفة "البرافدا" وهي الصحيفة المركزية الأولى والناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوفيتي وحتى يستكمل الرئيس قربتشوف الإلمام تماماً بحالة الوضع الفلسطيني ميدانياً وبعيداً عن سيل التقارير الكاذبة والتي تمارس التحريض والنميمة العلنية والمبطنة ضد حركة فتح والرئيس عرفات. وعليه فقد أصبح هناك ضرورة ملحة للنزول مجدداً إلى تونس للقاء الأخ الرئيس والتفاهم معه، بعد نزولي إلى تونس توجهت فوراً وبسيارة خاصة كانت في انتظاري مع بعض المرافقين إلى منزل الأخ "أبو الهول" هايل عبد الحميد وقد أهديته نسراً محلقاً بجناحين وضعه في زاوية الصالة وقال: كلما سأجلس هنا مع بعض الأخوة في القيادة أو مع الأخ الرئيس سوف أتذكرك " يا ملعون"  فهذه هدية معنوية يمكن الاحتفاظ بها ولفترات مديدة . حدثته عن آخر التطورات وما سأنقله من مقترحات للأخ الرئيس ، فأثني عليها وقال ضاحكاً هذه مهمتك وعليك إقناعه وإن كنت لا اشك في قدراتك على ذلك، سوف نلتقي مجدداً بعد أن تلتقي به، وسيكون لنا لقاء جماعي معه قبل سفرك أيضاً. وفي مساء ذلك اليوم التقيت بالأخ  الرئيس على انفراد ولمدة نصف ساعة وقد كان في حالة معنوية جيدة ، أبلغته تفصيلياً بكل شيء ووجدته يتفاعل بصدق وحرارة وبدون انفعال مع المقترحات المنقولة إليه ، قال: "سأطلب من الأخ أبو جهاد القيام بسلسلة من العمليات المثيرة وعلى امتداد الأسابيع القادمة، لقد أحسنت صنعاً بحضورك فمثل هذه المسائل لا يمكن تبليغها بواسطة اللاسلكي أو الهاتف، وإياك أن يعلم أحد بذلك " قلت له: ولكنني أبلغت الأخ أبو الهول بها عندما التقيته ظهيرة هذا اليوم في منزله ، ابتسم بهدوء وطمأنينة وقال : "أبو الهول وفقط "، وكلما تنشر صحيفة البرافدا خبراً عن الموضوع سارع في إرساله لي مترجماً وبشكل حيادي، اذهب وجهز نفسك وكل أمورك للسفر، وعندما تكون جاهزاً نلتقي من جديد بحضور الأخ أبو الهول، وهو ما تم بالفعل وحيث ذهبت في اليوم السادس من وصولي للعاصمة التونسية مع الأخ أبو الهول لوداع الأخ الرئيس في مكتبه، جلسنا معه لمدة ربع ساعة وبعد أن اطمأن على أموري من جميع النواحي طلبت منه إرسال برقية تهنئة للرئيس ميخائيل سرجفتش قربتشوف بمناسبة توليه لمقاليد الحكم في  الدولة السوفييتية وانتخابه أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوفييتي ويستحسن أن تتضمن البرقية بعض العبارات المؤيدة لسياسة إعادة البناء والشفافية والتي تعبر عن وعيه العميق وحكمته وشجاعته في الدفاع عن مصالح الشعوب السوفييتية وبعد أن وعدني بصياغة البرقية وإرسالها نهض ليودعني على طريقته المعتادة ودون أن ينسى حركة واحدة من حركاته شدني إلى صدره وأخذ يربت على كتفي بيديه ويقول متمتماً الله يحميك 00 الله يحميك .
عُدت إلى موسكو محملاً كالعادة بالعديد من الهدايا المتنوعة وبالتمور الفاخرة وبشحنات معنوية عالية التركيز وبإصرار مليء بالأمل على مواصلة المهمة خاصة وأن الرئيس قد وافق بطيبة خاطر وبوطنية عالية على المقترحات المقدمة ، وهو الأمر الذي أحدث نوعاً من الطمأنينة والارتياح كذلك في أوساط الأصدقاء السوفييت، كانت موسكو تغلي، وكان جمرها المختبيء تحت رماد الثلوج ينفض عن بريقه غبار السنين فهي القوية المهابة، وهي التي تحاول نفض تركة العواجيز من قادتها والذين فرضوا عليها أشكالاً وألواناً من القيود البالية واعترف بأنني وبقدر ترحيبي بعمليات الإصلاح والتغيير الجارية، كنت شديد الخوف على التجربة السوفييتية من الانهيار، فالخروج المفاجئ من سراديب الظلال والعتمة نحو النور وبدون مُقدمات وبدون التمهيد اللازم والضروري لمثل هذه المفاجآت ربما يُعطي نتائجاً سلبية على صعيد النظر والرؤيا، وقد يؤدي إلى دوار عنيف يهز الجميع ويُطيح بالرؤوس المتعبة والعقول الشابة بسبب افتقارها للخبرة، فالاتحاد السوفييتي الآن واليوم وفي هذه اللحظات يقفز في الفراغ المجهول، ولا ندري بأي اتجاه نحو القمة الواعدة 0000 أم نحو حضيض الهاوية؟!.
مرت الأيام سريعة وكأنها هي الأخرى تسابق زمانها في هذا الخضم القدري العجيب، ثلاثة أسابيع انقضت على زيارتي الأخيرة لمقر القيادة في تونس، الإشارة الوحيدة التي صدرت عن موسكو تمثلت فقط في نوع من الاهتمام الإعلامي بالبرقية التي وصلت باسم الرئيس عرفات يهنئ فيها الرئيس قربتشوف بمناسبة توليه قيادة الحزب والدولة هذا الاهتمام بحد ذاته وبالرغم من تواضعه على صعيد صناعة الأحداث إلاّ أنه يرتدي أهمية فائقة باعتباره الإشارة الإيجابية الأولى التي تصدر عن موسكو بعد فترة من التجاهل والقطيعة.
أحد الأصدقاء السوفييت اتصل بي مستفسراً عن حالات الطعن التي جرت بالأمس على يد أحد الشبان الفلسطينيين لعدد من الإسرائيليين في مدينة القدس، وعدته باستيضاح الأمور بالسرعة الممكنة، حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح تبنت العملية وتوعدت المحتلين بالمزيد، الإشارة القادمة من القيادة أكدت على ذلك والقطاع الغربي يتحدث عن عدد من عمليات إلقاء القنابل باتجاه دوريات جيش الاحتلال في عدة مناطق، صحيفة البرافدا تؤكد على صحة البيانات الفلسطينية وتتحدث عن دور إيجابي وفاعل لحركة فتح التي يتزعمها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في أعمال المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وعلى الفور قمت بإرسال خبر البرافدا مترجماً للرئيس في تونس، توالت عمليات الطعن حتى أصبحت ظاهرة مرعبة بالنسبة للإسرائيليين في مدينة القدس وبدأت الصحف وأجهزة الإعلام تتحدث عما أسمته في حينه " بانتفاضة السكاكين " وبالتأكيد كان يقف وراء هذا التخطيط المثير والمؤثر الأخ القائد "أبو جهاد" خليل الوزير، صحيفة البرافدا السوفييتية تعود من جديد للكتابة عن انتفاضة السكاكين وتعتبرها شكلاً من أشكال المقاومة المشروعة للشعب الفلسطيني الذي يُكابد من ويلات الاحتلال الصهيوني ومُنذ أمد بعيد وتشيد بشجاعة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وبدوره الفاعل على صعيد تنظيم أعمال المقاومة الشعبية والمسلحة ضد المحتلين، وكالعادة قمت بترجمة خبر البرافدا وأرسلته للأخ الرئيس، وهكذا بدأت عوامل الثقة تزداد رسوخاً وتجدد نوعاً من الطمأنينة في علاقة الأخ أبو عمار مع القيادة السوفييتية الجديدة في حين تراجع كتبه التقارير المغرضة والمدلسين خطوات عديدة للخلف أمام هذه التطورات المفاجئة والتي مرغت مصداقيتهم في وحل الدسائس والأكاذيب وأفقدتهم جزءاً مهماً من عوامل السطوة والنفوذ التي كانوا يحتمون خلفها تارة ويتسلحون بها تارة أخرى في صراعهم المديد ضد ياسر عرفات بشكل خاص والشرعية الوطنية للقيادة الفلسطينية بشكل عام .
وعملياً فقد جاءت الترجمة الفعلية لعوامل التغيير الايجابي في العلاقات السوفيتية الفلسطينية من خلال إصرار الرئيس السوفييتي ميخائيل سرجفتش جربتشوف وفي أول لقاء يجمعه مع الرئيس الأمريكي رونالد ريغن في جنيف على بحث ملف صراعات الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية بالذات، وحيث طلب مني الأصدقاء السوفييت التوجه فوراً إلى مقر القيادة الفلسطينية في تونس لإبلاغ الرئيس عرفات بأهمية إعداد عريضة سياسية معنونة باسم الرئيسين السوفييتي والأمريكي ومرسلة إليهما في لقاء قمة جنيف " تؤكد على شرعية ووحدانية م.ت.ف كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني وعلى زعامة الرئيس عرفات باعتباره القائد التاريخي للشعب والمنظمة، وعلى أن يتم توقيعها من قبل خمسة آلاف شخصية فاعلة وعاملة في عموم أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة".
وبدون تأخير أو إبطاء سافرت إلى تونس وبعد أن التقيت بالأخ هايل عبد الحميد "أبو الهول" في منزله تم الاتفاق على اللقاء بالأخ الرئيس بعد مُنتصف الليل في منزل الأخ " أبو مروان" حكم بلعاوي، وقد وجدته يستعد وعلى عجل للسفر، أبلغته باقتراح الأصدقاء حول موضوع العريضة المعنونة باسم الرئيسين السوفييتي والأمريكي وقد أثني على الاقتراح ووعد بإنجاز العريضة بأقصى سرعة. ثم قال لي ظننت أنهم سيطالبونني بالمزيد من العمليات في الداخل، على العموم نحن قررنا تهدئة الأمور في الجانب العسكري لبعض الوقت وحتى نتمكن من امتصاص الغضب الإسرائيلي بسبب حرب السكاكين الأخيرة في القدس، لقد أجبرت الأخ أبو جهاد على مغادرة الأردن ليقضى بعض الوقت عند الرئيس هونيكر في ألمانيا الشرقية لأن وحدة كوماندوز إسرائيلية كانت ستغتاله في عمان بسبب حرب السكاكين وأتوقع أنهم ربما يغدروا بنا في تونس ولدي معلومات تؤكد أنهم سيقومون بقصف مقراتنا في مدينة حمام الشط في غضون الأيام القادمة وربما خلال الثماني والأربعين ساعة القادمة على وجه التحديد، بامكانك استخدام أي خط جوي تستطيع من خلاله العودة إلى موسكو غداً وحتى تتمكن من إبلاغ الأصدقاء السوفييت حول جدية وخطورة النوايا الإسرائيلية.
عدت إلى موسكو على جناح السرعة وقبل أن أخلد للراحة طلبت لقاءاًَ عاجلاً مع بعض الأصدقاء السوفييت أبلغتهم بتوقعات الرئيس عرفات حول إمكانية قيام الطيران الإسرائيلي بقصف المقرات الفلسطينية في مدينة حمام الشط التونسية، سادت لحظة من الوجوم والصمت وبدأت على ملامحهم علامات الاستغراب، بادرتهم بالقول : إن مصداقية الرئيس عرفات لا تشوبها شائبة ويبدو أنكم غير قادرين على استيعاب المعلومة من شدة المفاجأة، اتفقوا في النهاية على صياغة المعلومة ورفعها فوراً لمكتب الرئيس جربتشوف ، ودعتهم وانطلقت باتجاه السفارة، كان الأخ القائم بالأعمال ينتظرني ، فقد كان متلهفاً لسماع أخباري، كان ذلك في تمام الساعة السادسة مساءاً وبعد سؤاله عن أحوالي وصحتي قال: سمعت أنك عائد من تونس وعلى عجل وبحيث أنك لم تنتظر رحلة الطائرة      السوفييتية. قلت له: هذا صحيح فالموضوع لا يحتمل الانتظار لمدة أسبوع بانتظار رحلة "الأيروفلوت"، والأخ أبو عمار اقترح البحث عن أي خط جوي آخر يختصر الوقت والمسافة وبهدف الوصول السريع إلى مطار موسكو. ضحك الأخ رامي الشاعر بانفعال وبصوت مرتفع بعض الشيء وقال: إنه كما هو كل شيء عنده مهم عندما يريد ، وكل شيء عنده غير مهم عندما لا يريد، اسمع يا صديقي تقديرات جهاز المخابرات السوفييتية "كي جي بي" تقول أنه انتهى وسيتم إبعاده وتنحيته في القريب العاجل عن قيادة م.ت.ف وربما يفقد دروه أيضاً على صعيد الزعامة في حركة فتح، أنصحك بالابتعاد عنه فهذا أنفع وأجدى بالنسبة لك ولمستقبلك ، ولكن قٌل لي  لماذا طلب منك العودة بهذه السرعة؟ أجبته بطريقة توحي بالشك والاسترابة المقصودة ، الأخ أبو عمار يتحدث عن غارة إسرائيلية قريبة ومتوقعة في غضون الأيام القادمة ضد المقرات الفلسطينية في مدينة حمام الشط التونسية . ضحك الأخ رامي من كل قلبه وقال: الله يسامحك وهل تساوي هذه الكذبة العرفاتية مشقة السفر بتغييرك لخط العودة وعدم انتظار الرحلة الأسبوعية لطائرة "الأيروفلوت"، هذا كذب وهراء ودليل ساطع على إفلاس سياسة الأخ أبو عمار بلاش فضائح ولا داعي لإبلاغ السوفييت من أصله بهذه الكذبة، نهضت من مكاني وبعد أن ودعته بأدب عدت متهالكاً إلى غرفتي المحجوزة لمدة أسبوعين في الفندق أبحث عن حمام دافئ وبعض ساعات من النوم المريح، وفي صبيحة اليوم التالي استفقت على رنين هاتف الغرفة، كان على الخط أحد الأصدقاء السوفييت قال لي: يبدو أنك كنت في ضيافة رامي الشاعر مساء أمس وقد أبلغته بتوقعات الرئيس عرفات بخصوص موضوعه احتمال قصف الطيران الإسرائيلي للمقرات الفلسطينية في حمام الشط وبطريقة خبيثة توحي بأنك غير مقتنع بالأمر، قلت له: نعم هذا ما حصل بالضبط، قال: وهو بعد ذلك التقى فوراً مع "ألكسندر دروجن" وأبلغه بالموضوع وحيث تمت صياغة تقرير مختصر يكذب هذه الأخبار ويعتبرها نوعاً من الافتراء والتضليل الذي يمارسه ياسر عرفات ويحاول تمريره عبر الدكتور كامل على الجهات السوفييتية المسؤولة ، على العموم نحن سنعيق وصول تقرير سكرتير لجنة التضامن "ألكسندر دروجن" لبعض الوقت بينما سنُبقي على تقرير المعلومات المستند لأقوال عرفات على طاولة الرئيس فإن حدثت الغارة على حمام الشط فربما لن تقوم له ولبطانته قائمة بعد ذلك وباعتبار أننا وبالتأكيد سندفع بالتقرير في تلك اللحظة المناسبة على الطاولة الرئاسية لاتخاذ المواقف والإجراءات، وبعد مرور ثمانية وأربعون ساعة على هذا الحراك السياسي والأمني المليء بالكمائن والمصائد الخطرة حدثت الغارة الوحشية الإسرائيلية وبشكل فاق كل التصورات والتوقعات وأحدثت معها مجزرة مروعة في صفوف الكوادر والضباط والجنود العاملين في هذه المقرات وقد تجاوز عدد الشهداء المئة وخمسين شهيداً بينهم عدداً من الإخوة والموظفين التوانسة ، وبالنسبة لي فقد علمت بخبر الغارة والمجزرة بعد نصف ساعة من حدوثها وحيث طلب الأصدقاء السوفييت مني نقل تعازيهم الحارة للأخ الرئيس أبو عمار ، وبالفعل فقد وجدت نفسي أبكي من شدة الحزن وأعيش لحظات رهيبة وكئيبة في قسوتها الظالمة إنه الموت الإسرائيلي الفاشي يلاحقنا في كل مكان فمن نجى من مجازر أيلول في عمان وكتبت له حياة جديدة بعد حرب لبنان وحصار بيروت يستشهد من أجل فلسطين في حمام الشط وفي شمال أفريقيا ، وعملياً فقد خسرت مؤسسة الرئاسة الفلسطينية عدداً لا يستهان به من كوادرها ومن الطواقم الإدارية المدربة ولذلك وربما لهذا كانت فاجعة الرئيس عرفات بهم كبيرة وكان حزنه على فقدانهم عظيم وكان عزاؤه الوحيد المريح والمؤلم إلى حد البكاء في نفس الوقت أنه حذر الجميع وطلب منهم الاستنفار والانتشار وعدم الدوام في المكاتب والمقرات. وبينما كان الرئيس عرفات يتقبل العزاء بالشهداء في تونس لم يجد دروجن وبطانته من يعزيه أو يعزيهم في محنة سقوطهم المدوية ودخولهم الإجباري كالملفات البالية للحفظ في أرشيف التاريخ على الطريقة الكلاسيكية السوفييتية . سقوط سكرتير لجنة التضامن الأفرو آسيوية والمسؤول الأول عن الملف الفلسطيني ولعهد مديد من السنوات " ألكسندر دروجن " مع بطانته أربك حسابات العديد من المنتفعين ومن كتبة التقارير الكيدية كما ألحق نوعاً من الأذى البليغ بالمصداقية الأمنية الخاصة بقسم الشرق الأوسط في المخابرات السوفييتية "كي جي بي" . قبل عام كان هذا الرجل الدكتاتوري المستبد يتصرف في علاقاته مع القيادات الفلسطينية كالطاووس ففي يده كل شيء وهو المسؤول عن كل شيء، تنكر للعميد السفير محمد الشاعر وهو على فراش المرض والموت بطريقة مثيرة للألم وللهواجس المريبة، كما لعب دوره في ترتيب عملية طرد "صخر حبش أبو نزار" باعتباره شخصاً غير مرغوب في بقائه كممثل وسفير فوق العادة لمنظمة التحرير الفلسطينية في موسكو وحاول المستحيل لعرقلة نشاطي تمهيداً لطردي وإغلاق نافذة الأمل الوحيدة المتبقية للرئيس عرفات حفاظاً على صداقته مع الاتحاد السوفييتي، وقد بلغت به الوقاحة وأثناء زيارة الأخ القائد محمود عباس "أبو مازن " إلى موسكو أن يطلب منه وبصريح العبارة شحن الدكتور كامل في واحدة من حقائبه عند العودة إلى تونس وباعتبار أنه قد ضاق ذرعاً من وجودي في موسكو ، وخطورة هذا الرجل اليهودي الأصل والفصل لم تقف عند هذا الحد وإنما تجاوزته إلى ما هو أبعد وأخطر وعبر استغلاله لموقعه الكبير والمؤثر في هرم السلطة السوفييتية للتأثير على فصائل العمل الوطني وفصائل اليسار الفلسطيني بالذات ومن خلال تأليبها وتحريضها لمواصلة قطيعتها مع الرئيس عرفات والمطالبة بتغييره وتنحيته عن قيادة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وتشاء الصدف ومن خلال منطقها القدري العجيب وبطريقة نادرة وغير متوقعة أن ألتقي وجهاً لوجهة مع هذا الرجل ، كان هذا مساءاً وفي حدود الساعة التاسعة ، وحيث ذهبت وكان معي الأخ نمر إسماعيل للسلام على الأخ القائد أبو مازن في فندق " سوفيتسكيا "، وفي قاعة الانتظار المواجهة لغرفة وجناح الأخ أبو مازن كان يجلس رجل وعلى رأسه قبعة مستديرة، نهض من مكانه بأدب وبعد أن خلع قبعته انحنى أمامي بادلته التحية بكبرياء وبدون انحناء ثم دخلنا على الأخ أبو مازن في حين بقي الرجل في قاعة الانتظار ينتظر السماح له بالدخول ، ضحك نمر إسماعيل وقال للأخ أبو مازن أن دروجن وعندما شاهد الدكتور كامل نهض من مكانه وانحنى بعد أن خلع قبعته ، ابتسم الأخ أبو مازن ثم قال: اسمع يا دكتور الرجل أصبح في عداد المنتهي إدارياً، إلا أنه سينفعني في بعض المسائل الخاصة بعملي. قلت له: ولكنك يا أخ أبو مازن ، تذكر جيداً بطشه وجبروته وتجبره وكيف طلب من سيادتكم تحميلي في حقائبك وكأنني لست إنسان ولست من بني البشر، فرد ضاحكاً "هذا كان زمان" أما الآن فإنه يبحث عن الطمأنينة والشفقة، قلت له هكذا هم اليهود يغّيرون جلودهم وبأقصى سرعة لحماية أنفسهم عندما يشعرون بالأخطار الداهمة ومن ثم يعودوا إلى سابق عهدهم كلما سمحت الظروف لهم بذلك ، على العموم أعتبر كلام سيادتك أوامر وتعلميات، ولكن فقط وبعد إذنك سوف أبلغ الأخوين أبو عمار وأبو الهول بهذه الحادثة ، فقال: حسناً لك هذا وأتمنى عليك أن تنساه وتتركه لي ، وبالفعل ومُنذ ذلك التاريخ تركته وشأنه وباعتبار أن أمامنا مهام شاقة وصعبة ونحن مازلنا وحتى هذه اللحظة في وسط الطريق وعلى مسافة غير بعيدة من أحداث جسيمة تنتظر البلاد والعباد في وطن يعيش على الحب وينام مع زجاجة الفودكا ويصحو على صياح الديك ليواصل كده وجده عملاً وفي كل الأوقات لبناء مجتمع العدالة والحلم الاشتراكي المتداعي تحت ضغط الواقع والأزمات .













الفصل الرابع :
"الذئب وأبن الذئب وأبو السعيد خالد الحسن"

كان " أبو السعيد" خالد الحسن فيلسوف وحكيم الواقعية الثورية في الساحة الفلسطينية وكان عضواً فاعلاً ومؤسساً على صعيد اللجنة المركزية لحركة فتح، ولهذا فأن زيارته للاتحاد السوفييتي وفي إطار وفد حركي عالي المستوى مع بداية شهر نوفمبر من عام 1984م ربما تعني الكثير لمن يفهم ويُحلل بواطن الأمور، فهو اليميني المتهم دائماً وأبداً من قبل فصائل اليسار الفلسطيني بالانحياز للأنظمة الرجعية العربية والتفريط السياسي على صعيد القضية الفلسطينية وهو صاحب المذكرات الشهيرة والتي أحدثت ضجة بعد نشرها مُنذ مدة وتحت عنوان مذكرات " حمار وطني " كما كانت له المساهمة الرئيسية في إنجاز مسودة مبادئ اتفاق عمان والذي تم توقيعه فيما بعد بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والملك حسين بن طلال ملك المملكة الأردنية الهاشمية، ذهبت للسلام عليه وعلى بقية أعضاء الوفد مع لفيف من الكوادر الطلابية والحركية المتواجدة في ساحة الاتحاد السوفييتي ، وقد أطلعته في حينه على المذكرة الدفاعية التي أعددتها للدفاع عن أطروحتي كما قدمت له الدعوة لحضور مناقشة الأطروحة في يوم التخرج وأبلغته بأنني قدمت دعوة مماثلة للأخ القائد محمود عباس " أبو مازن "، وفي اليوم التالي اتصلت به للتأكيد على موعد الدعوة وضرورة حضوره وحتى يتمكن مسؤولي معهد آسيا وأفريقيا من تحضير أنفسهم لاستقبال الضيوف الفلسطينيين ، أبلغني الأخ أبو السعيد خالد الحسن بأن الأخ أبو مازن اضطر للسفر بشكل مُفاجئ وأنه سيحضر شخصياً لينوب عن الأخ أبو مازن وعن نفسه مبدياً في نفس الوقت إعجابه بالنصوص السياسية الواردة في المذكرة الدفاعية وخاصة لجهة تأكيدها على المكانة الريادية والقيادية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح في قيادة النضال الوطني وتركيزها على م.ت.ف كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني ودفاعها الواضح والصريح عن مكانة وزعامة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بالإضافة إلى رفضها لسياسات العبث السورية في الشأن الداخلي الفلسطيني واعتبار أن العدوان الإسرائيلي ضد لبنان في عام 1982م لم يستهدف فقط القضاء على قوات الثورة الفلسطينية وترحيل م.ت.ف وقياداتها السياسية من بيروت وسائر الأراضي اللبنانية وإنما بالأساس يحمل في أهدافه ونتائجه خطة أمريكية إسرائيلية لبلقنة منطقة المشرق العربي " وبلاد الشام" على وجه الخصوص وعبر هدم المنظومة الكيانية القائمة لحساب منظومة جديدة مكونة من عديد الدويلات الطائفية وعلى أسس عرقية ودينية تبدأ بالعراق وتنتهي بسوريا ولبنان وشرق الأردن وحيث تخضع هذه الكيانات الطائفية والدينية والعرقية الهزيلة لسطوة الكيان الصهيوني في إطار مشروع الهيمنة الأمريكي المعد لعموم المنطقة ، فمن يسيطر على منطقة القلب يسهل عليه الزحف والسيطرة على منطقة الأطراف ومنابع النفط في شبة الجزيرة العربية ومنطقة الخليج.
طقوس عملية الدفاع عن الأطروحة وبهدف نيل شهادة الدكتوراة ليست بالسهلة أو اليسيرة فهي تخضع لمجموعة من الشروط والمراحل التي يجب تنفيذها واجتيازها فقبل موعد الجلسة بثلاثة شهور أي قبل التئام شمل المجلس العلمي المكون من أربعة وعشرين أستاذ كرسي من البروفسورات وحملة شهادة الدكتوراة المتخصصين بالدراسات الشرقية وسياسات الشرق الأوسط والمنطقة العربية والصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية تمت طباعة الملخص الشامل والجامع عن الرسالة وبحدود الخمسين صفحة من الحجم المتوسط باسم الباحث أي طالب الدراسات العليا المتقدم بالبحث لنيل الشهادة "أي باسمي " بالإضافة إلى أسماء الدكتور المشرف والدكتور المساعد وكذلك أسماء الدكاترة النقاد لأهمية وقيمة العمل المقدم هذا بالإضافة لمشاركة معهد موسكو للعلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية.
ولهذا ولذلك كان لحضور الأخ أبو السعيد خالد الحسن أهمية خاصة وأهمية كبيرة فهو سيشارك ومن موقعه القيادي في حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة وسيتعرف عن قرب على صانعي السياسات الاستراتيجية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية من جهة أخرى وسيعتمد في حوارا ته اللاحقة مع القيادات السوفييتية على المذكرة الدفاعية التي أعددتها في حال إقرارها من قبل أعضاء المجلس العلمي.
حضر الأخ أبو السعيد خالد الحسن في تمام الساعة العاشرة صباحاً وبرفقته عدد كبير من الكوادر الفلسطينية وموظفي السفارة وفي مقدمتهم جميعاً الأخ القائم بالأعمال رامي الشاعر وكان في استقباله حشد كبير من طلبة المعهد وموظفو الإدارات وعلى رأسهم مدير عام المعهد رئيس اللجنة العالمية للحفاظ على التراث الفلسطيني التابعة للأمم المتحدة وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي البروفسور " اَخراموفتش". استمر  المجلس العلمي في انعقاده لمدة سبعة ساعات متواصلة تخللتها نصف ساعة فقط للراحة، وبالنظر لوجود الأخ القائد " أبو السعيد " خالد الحسن فأن رئيس المعهد الرفيق " اخراموفتش" ظل ملتزماً في حضوره حتى النهاية ،كانت النقاشات حادة وشديدة في بعض الأحيان وسلسلة عبر السرد ألمعلوماتي للنتائج المبنية على واقع الأحداث في أحيان أخرى ، وأخيراً تمت عملية التصويت وفازت الأطروحة بإجماع الحاضرين من أعضاء المجلس العلمي وبدون أي معترض وبدون أي ممتنع عن التصويت ، وأمام هذه المفاجأة السارة وقف الأخ خالد الحسن ليلقي كلمة فلسفية مُعبرة عن كفاح ونضال الشعب الفلسطيني وعن العباقرة الفلسطينيين المنتشرين بحكم واقع التشرد القسري المفروض عليهم وعلى شعبهم في كافة إرجاء الكرة الأرضية ، في حين تمنى الرفيق              " أخراموفتش " في كلمته القصيرة والمقتضبة على الطلبة السوفييت والروس الدارسين في المعهد أن يحتذوا بهذا المثال المتجسد في كفاح ونجاح وتفوق هذا الطالب الفلسطيني، بعد ذلك خرجنا من قاعة المجلس العلمي وحيث التقى الرفيق                  " أخراموفتش " في مكتبه بحضوري وحضور الأخ القائم بالأعمال رامي الشاعر مع الأخ أبو السعيد خالد الحسن ولمدة ساعة أخرى تحدث فيها عن المعاناة الشديدة التي يتعرض لها الجنود السوفييت في أفغانستان ، وباعتبار أنه قد حضر قبل يومين من هناك وحيث أمضى في " كابول " مدة أسبوع وقال: مختتماً حديثة انه رفع تقريراً بوجهة نظره للقيادة المركزية يوصي فيه بضرورة الإسراع في الانسحاب من المستنقع الأفغاني . وهو الأمر الذي توقف عنده الأخ أبو السعيد خالد الحسن عديد المرات في حواره اللاحق معي فانسحاب القوات السوفييتية  ومن وجهه نظره تعني أن هناك تحولات استراتيجية كبيرة تنتظر مجمل السياسات الخارجية السوفييتية وربما أيضاً وكذلك على الصعيد الداخلي . وعند عودته إلى مقر القيادة في تونس علمت أنه تحدث مطولاً في اجتماع اللجنة المركزية للحركة عن الأطروحة والمعهد والسياسات السوفييتية الجديدة ، كما أشاد بالدكتور كامل  قائلاً: " انه اكتشف فيه عقلاً ذكياً ولامعاً بل وربما يكون من انضف وأذكى العقول الفلسطينية على الإطلاق" ولهذا ولذلك لم يكن من اللائق بتاتاً أن لا أقوم بزيارته والسلام عليه كلما تتاح لي الفرصة بالسفر إلى تونس وقد حدث هذا بالفعل عديد المرات الاّ أن زيارتي له في منتصف عام 1985م حملت طابعاً أخراً بل وكادت أن تكون نقطة تحول كبيرة في مسار المهمة التي أقوم بها مع الرئيس عرفات في الاتحاد السوفييتي ، قال لي وبالحرف الواحد اسمعني جيداً يابُني .... أنت دكتور كبير وأكاديمي لامع وعقل استراتيجي ليس من السهل الاستغناء عنه أو تعويضه ، ولذلك لا أريد لك الاستمرار في تنفيذ مهمات المشاكل العويصة في الاتحاد السوفييتي ، ياسر عرفات يريد منك العمل معه وبكل الوسائل لإبعاد رامي الشاعر وبعض الموظفين عن السفارة وهذا من حقه ولكن ليس من حقه أن يزج بك في هذه المعركة بالذات وأنت العقل والطاقة والفكر الاستراتيجي المتنور والمنفتح على كافة السياسات الإقليمية والدولية ، وعليه أن يُكلف أناس آخرين للقيام بما يريد من أعمال ومهمات هناك، أن مكتب وسفارة فلسطين في موسكو والذي لا يزيد حجمه عن حجم الجهاز التناسلي للعقربة يحوي بداخله معادلات كل جواسيس الكون وأنت تقف في وجه هذه المعادلات وحيداً وبلا سند حقيقي وهي المعادلات التي تلاحق الرئيس عرفات نفسه ولا مقارنة بالتأكيد بين حجمك الصغير والمتواضع وحجم الرئيس عرفات فهو أقدر منك على المواجهة والتحمل، وعليه أن يتدبر الأمر بطريقة أخرى إذا كنت تريد الزواج فلك هذا مني وعلى نفقتي وحسابي ، وإذا كنت تحتاج للنقود فخذها من عندي علماً بأنني متهم بالبخل كما يشاع عني، يجب أن نعمل سوية ونبحث لك عن موقع لائق نعتمد من خلاله عليك وعلى قدراتك العقلية المستنيرة فألى متى سنظل نسخر طاقة المثقف والمتعلم في خدمة الأمي؟ وهو واقع الحال الذي نعيشه على صعيد الثورة ومنظمة التحرير . أخي أبو عمار ومع احترامي الشديد لشخصه تعود أن يعد الشهداء وأنت أصبحت مشروع شهادة مع وقف التنفيذ، وفي كل يوم وفي كل ساعة يمكن أن تنجح بعض هذه القوى الشيطانية في اغتيالك، سيبكيك عرفات على طريقته الخاصة ويؤبنك ويقيم على روحك الطاهرة عدة ولائم ويعلق لك ملصق فوق رأسه ولمدة ثلاثة أيام فقط ومن ثم ينساك ولا يتذكرك تحت ضغط وقائع الحياة .أنصحك بالاعتذار عن إكمال هذه المهمة ودعه يغضب منك وعليك لبعض الوقت فنحن سنكون معك ولن نخذلك إلى أن يستفيق من غضبته وتعود المياه إلى مجاريها "كالعادة وزيادة". ودعته وخرجت مصدوماً وملخوماً مما سمعت وعند لقائي الأخ هايل عبد الحميد أبو الهول مساءاً صارحته بحقيقة الأمر وما جرى ودار من حديث بيني وبين الأخ أبو السعيد خالد الحسن.
امتقع وجهه من شدة المفاجأة ، كان غاضباً وقد بدأت على ملامحه علامات الحنق بالرغم من ابتسامته الظاهرة وقال لي بصوته الخفيض الناعم وماذا ستفعل على ضوء ذلك مع الأخ الرئيس؟ فأجبته على الفور يا أخ أبو الهول جئت إليك وانتظر منك حلاًَ لهذه الألغاز، فأنت الأدرى والأعلم بما يجري قال لي وهو يضحك بعد أن تمالك نفسه: يبدو أن "أبو السعيد" خالد الحسن قد تمكن منّي قبل أن يتمكن منك، أقواله منطقية وصحيحة إلى حد كبير، فأنت تعيش في الخطر وتكابد ويلاته لحظة بلحظة وأبو عمار يقودنا تاريخياً عبر قوافل من الشهداء، ولكن لماذا الخوف؟ ونحن جميعاً مشاريع شهادة، أنت يا دكتور تؤدي واجبك في مهمة عظيمة وليس من المعقول أو السهل عليك وعلينا أن نتراجع في مُنتصف الطريق، سأبلغ الأخ أبو عمار اختصاراً بما جرى وحتى نمنحه الفرصة الكافية للتفكير في الأمر، قبل أن تمر عليه وتسمع منه الإجابة ، ولكن إياك ثم إياك أن تهتز أو تجبن أمام المصاعب ، وما يهمني في النهاية هو أن تبقى علاقتك القوية مع الأخ الرئيس وهو بالمناسبة يعزك كثيراً ويعتز بك أكثر وخاصة في غيابك فهو دائماً يذكرك بالخير وبنوع من الحنان الأبوي الصادق . في اليوم التالي وفي ساعة متأخرة من المساء التقيت مع الأخ الرئيس في مكتب الأخ " أبو جهاد " خليل الوزير، جلسنا في غرفة معزولة  صغيرة على أريكتين متقابلتين تفصل بينهما منضدة صغيرة كان هناك أيضاً "حربي المالية " وقد طلب منه الأخ أبو عمار إحضار فنجانين من القهوة ومن ثم إغلاق الباب نظر إليّ بنوع من الرجاء والعطف وطلب مني إشعال سيجارة ، اعتذرت وامتنعت وقلت له: احتراماً لسيادتك لن أدخن أمامك، قال لا خذ راحتك وأشعل السيجارة قبل أن نبدأ حديثنا ، وهو ما تم بالفعل أشعلت السيجارة بينما بدأ هو بالحديث قائلاً: لقد علمت كل شيء من الأخ هايل عبد الحميد "أبو الهول" أنت على حق والأخ أبو الهول على حق والأخ أبو السعيد سامحه الله إلى حد كبير على حق ، ولكن فلسطين تنتظر مني ومنك ومن الأخوين أبو السعيد وأبو الهول انتصاراً لها بالحق ونحن جميعاً مشاريع شهادة ولن نخذلها وأرجوك أن تستمع مني جيداً لهذه القصة، كان هناك ذئب يسطو ليلاً على حظائر القرية مع ابنه بحثاً عن وليمة من الدجاج وفي إحدى الليالي استفاق عليه أهل القرية فخرجوا بالنبابيت والعصي مهرولين للامساك به مع ابنه ، وبينما كان يركض أمامهم طلباً للسلامة والنجاة تعب الابن وصاح بوالده، لقد تعبت يا أبتي من الركض ولا أعلم ولا أدرى لماذا يركض كل هؤلاء الناس وراءنا بكل هذه العصي والنبابيت؟ فرد عليه الأب قائلاً: " من كثرة ما أكلنا من دجاجهم" لا تستسلم للتعب وحاول الفرار معي قبل أن يفتكوا بنا . ابتسمت وقلت له  لقد فهمتك يا أخ أبو عمار كما يجب وكما تريد وبدون تشبيه أنت الذئب وأنا ابن الذئب ، قال نعم وعليك أن تفهم أن التباطؤ والتراجع يعني هلاكنا فليس أمامنا من خيار إلاّ السير وبخطوات حثيثة ومُتسارعة إلى الأمام والآن قل لي لماذا تُصر دائماً على إحضار الفواتير لتغطية المبالغ المقرة لموازنة العمل؟ نحن يا كامل لا يوجد بيننا حساب، قلت له : بمناسبة الموازنة والاحتياجات هناك حاجة ماسة لمساعدة عدد من الطلبة وهم حوالي ثلاثين طالب من أبناء الحركة تم فصلهم من دراستهم للعديد من الأسباب ويرفض مكتب السفارة وبتعليمات من الأخ رامي الشاعر مساعدتهم على حل مشاكلهم الدراسية أو تقديم عون مالي طارئ لهم حتى تنتهي مشاكلهم سأحاول المساعدة على حل مشاكلهم جميعاً من خلال أصدقاءنا ولكن يلزمهم عون مالي وبواقع ثلاثمئة دولار لكل طالب وباعتقادي أن هذا المبلغ يكفي حتى ينتظموا مجدداً في دراستهم وتعود إليهم منحهم المالية المستحقة من وزارة  التربية والتعليم السوفييتية عبر المعاهد والجامعات التي سيعودوا إليها، وبعد أن أطلعته على كشف الأسماء وقع كتاباً بالصرف العاجل بكافة المبالغ المطلوبة، نهضت مستأذناً من سيادته بالمغادرة بعد أن عاهدته على مواصلة مشوار المهمة وعلى طريقة الفاتح العربي "طارق بن زياد" عندما خاطب جنوده قائلاً: العدو من أمامكم والبحر من خلفكم ومالكم والله من سبيل غير النصر أو الشهادة.
عدت على وجه السرعة لمكتب الأخ أبو الهول وأبلغته بتفاصيل الحوار والاتفاق الذي جرى بيني وبين الأخ أبو عمار فوجدته يضحك من كل قلبه على التوصيف المتعلق بدجاج القرية وقال: منذ الآن أنت ابن الذئب والأخ أبو عمار الذئب ، وعليكم أن تتخلصوا بأي شكل من الأشكال من نبابيت الفلاحين وأرجو في نهاية المطاف ألا ينطبق علينا وتحت ضغط خلافاتنا الداخلية المثل القائل يا دكتور " ناس بتاكل دجاج وناس بتوقع في السياج" اذهب ورتب أمورك للسفر وتوكل على الله .
قلت له حسناً هذا ما سوف أفعله ولكن الأخ الرئيس طلب مني لقاء الأخ "أبو اللطف" فاروق القدومي رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية صباح الغد وإبلاغه سراً وبدون حضور أحد عن الموقف الرسمي للدولة السوفييتية من اتفاق عمان وعن رؤيتي وتوقعاتي حول احتمالية انهيار الاتحاد السوفييتي في غضون السنوات الخمس القادمة تحت ضغط الأزمات وصراعات مراكز القوى والتي تعصف بالبلاد، وقد كان ذلك وحيث التقيت مع الأخ أبو اللطف أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وأحد أبرز القادة التاريخيين والمؤسسين على صعيد اللجنة المركزية لحركة فتح ، أبلغته على انفراد وعلى امتداد نصف ساعة برؤيتي حول واقع التناقضات المستفحلة التي يعاني منها الاتحاد السوفييتي والتي قد تؤدي إلى انهيار السلطة المركزية في نهاية المطاف وبروز عدد من الجمهوريات المستقلة على انقاضه كما أكدت له وبالتشديد على أن الموقف الرسمي للدولة اتجاه اتفاق عمان يختلف وإلى أبعد الحدود مع المواقف السوفييتية التي يجري تسويقها إعلامياً وعبر مؤسسة لجنة التضامن الأفروآسيوية وقسم الشرق الأوسط في المخابرات السوفييتية "كي جي بي" ، وعملياً فأن لديهم موقف واقعي مبني على استراتيجية توازن المصالح وهو أقل بكثير من اتفاق عمان نفسه ألاّ أنهم وفي إطار صراع الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وبينهم وبين الولايات المتحدة الأمريكية يحاولون وعبر تمرير المواقف الإعلامية المتصلبة توسيع شبكة النفوذ والمصالح الخاصة بالدولة على الصعيدين الدولي والإقليمي وفي إطار ما يمكن تسميته بشبكة العلاقات العامة التي يحاولون توسيعها وفي كل الاتجاهات وبقدر الممكن والمستطاع وهم وبلغة الواقع أسياد في لعبة الإمساك بالعصى من الوسط بين الخصوم والفرق والتيارات والقوى المختلفة، وللأمانة والموضوعية فقد تفاعل الأخ أبو اللطف وبعمق مع هذه الرؤيا الجديدة حول الموقف السوفييتي ، كما ضحك كثيراً ومن كل قلبه على موضوعه شطارتهم في الإمساك بالعصى من الوسط بين الخصوم وقال: كان لدي إحساس بهذا من خلال خلافاتي مع الأخ أبو عمار بسبب رفضي لإتفاق عمان ، ولكن الملعون رامي الشاعر ومن خلال موقعه المؤقت كقائم بالأعمال يبلغني بمواقف نقيضة لكل ما سمعته منك، ومواقفه هذه تزيد من شقة الخلافات الداخلية حول المواقف السياسية فيما بيننا في بعض الاحيان عندها تشجعت وقلت له إن الأخ رامي الشاعر ليس كوالده، ومواقفه تأتيكم بتعليمات من لجنة التضامن ومن قسم الشرق الأوسط في المخابرات، وهي ربما تكون نسخة كربونية على ورق فلسطيني لما يقوم بتعميمه وتسويقه عليكم ضابط محطتهم في السفارة السوفييتية في تونس "نيكولاي نيكولايفتش " خطأ وخطيئة رامي الشاعر في موقعه الرسمي كقائم بالأعمال أنه يرى الدولة السوفيتية فقط من خلال عيون فئة محددة ربما تفقد أهميتها وتأثيرها على الصعيد الاستراتيجي داخل الهرم الإداري للسلطة ا لحاكمة في المستقبل القريب، التفت إلى الأخ أبو اللطف وقال: سأجمع لك الآن بعض كوادر الدائرة  السياسية لتتحدث معهم برفق ولطف عن كيفية توسيع شبكة علاقاتنا مع الاتحاد السوفييتي وعلى ضوء المتغيرات الجارية وبدون أن تتطرق إلى أي شيء عن المواضيع التي تحدثنا بها الآن على الإطلاق وحتى لا تلحق الأذى بنفسك ، وسنظل على تواصل وإن شاء الله دائماً نسمع منك الأخبار الطيبة وحاول من جهتك وقدر الامكان إبعاد الأخ القائم بالأعمال المؤقت رامي الشاعر عن مثل هذه التأثيرات الضارة بالمواقف الفلسطينية . وبالفعل فقد تحدثت مع بعض كوادر الدائرة السياسية في العموميات وبدون الخوض في المسائل الشائكة وكذلك عن الجهد الكبير الذي تبذله القيادات السوفييتية الجديدة في إطار عملية إعادة البناء والشفافية بقيادة  الرفيق الرئيس ميخائيل سرجفتش قربتشوف.
خرجت من المكتب بعد أن أنهيت حديثي وتوجهت مجدداً حيث يجلس الأخ أبو اللطف طمأنته على كل شيء وسلمت عليه مودعاً وعلى أمل اللقاء به في مناسبات أخرى.
مع بداية تموز يوليو عدت إلى موسكو محملاً بالمتاع الطيب من الهدايا إلاّ أنني توقفت طويلاً عند مجموعة من العطور والنظارات الشمسية النسائية ، من الذي اشتراها ودسها بين المشتريات الأخرى؟ ولماذا؟ على العموم لا بأس 000، فعند عودتي مجدداً إلى تونس سوف أعرف من كان صاحب هذه الفكرة الجهنمية ، وباعتبار أنني ممنوع من ملاطفة الجنس الآخر تحت ضغط المسؤولية وخوفاً " من فضيحة الإسقاط" وهو الفخ الذي حذرني من الوقوع في شراكة الأخ الرئيس، سأقوم بتوزيعها على بعض الأصدقاء السوفييت فمن له زوجة أو صديقة أو ابنة بالغة سيفرح ربما بمثل هذه الهدية خاصة وأننا في فصل الصيف، والنظارة الشمسية مع زجاجة العطر لها قيمتها لمن تريد أن تصطاف على ضفاف الأنهار والبحيرات والبحار والخلجان السوفييتية الجميلة ، أحد الأصدقاء أبلغني مازحاً وهو يضحك بأن زوجته التي غضبت منه قبل عدة شهور بسبب استضافته لصديق أجنبي في بيتها "وكانت تقصدني" أثناء فترة عملها وهي مسؤولة قسم في وزارة التجارة وكادت أن تشي به لاعتبارات تتعلق بالخصوصيات الأمنية السائدة في تلك الفترة والتي تمنع على الموظفين الكبار في وزارات ومؤسسات الدولة القيام بمثل هذه الأمور، قبلت الهدية خاصة وأنها كانت بحاجة لنظارة شمسية من النوع الفاخر لاستخدامها عند الاستجمام على الشواطئ وهي تنوي قضاء جزءاً من عطلتها في منتجعات سوتشي.
بعد عدة أيام من وصولي تم إبلاغ الطلبة المفصولين بالمنحة المالية المقدمة إليهم من الرئيس عرفات وبتوجيهاته الحاسمة بضرورة العمل وبكافة الوسائل والأساليب الممكنة مع الأصدقاء السوفييت لحل مشاكلهم الدراسية وبما يضمن عودتهم مجدداً إلى مقاعد الدراسة ، وكما يبدو وكما اتضح لاحقاً وبشكل مكشوف فإن تطور الأوضاع على الساحة الطلابية وباتجاه نجاح التنظيم الحركي لحركة فتح في استعادة عافيته ودوره الطليعي من جهة والتقدم المتنامي للعلاقات الرسمية السوفييتية الفلسطينية بعيداً عن الدور التقليدي لمكتب السفارة الفلسطينية في موسكو من جهة أخرى أثار نوعاً من الارتباك لدى خصوم عرفات في الساحة السوفييتية وقد انعكس ذلك بوضوح من خلال المواقف والتصريحات والأفعال المتناقضة وهو الأمر الذي شجعني على فكرة اللقاء مجدداً بالأخ القائم بالأعمال رامي الشاعر، وجدته يعلم مُسبقاً بلقائي مع الأخ القائد فاروق القدومي "أبو  اللطف" وبالمداخلة التي تحدثت فيها مع بعض كوادر الدائرة السياسية عن العهد السوفييتي الجديد والقيادة الشابة وسياسات إعادة البناء والشفافية التي تنادي بها وتعمل على أساسها وبأمانة وللحقيقة فقد كنت أشعر بنوع من الود والتعاطف مع عائلة العميد السفير المرحوم محمد الشاعر فهي عائلة مناضلة كريمة ومحترمة تستحق كل الرعاية والاحترام من القيادة الفلسطينية ولهذا كُنت أحاول وبقدر المستطاع والمتاح إقناع الأخ رامي الشاعر بالابتعاد عن وساوس أصدقاء السوء والعمل على تطبيع علاقته المتوترة مع الأخ الرئيس أبو عمار، وأذكر أنني ذكرته بحادثة وفاة والده وكيف تنامي لدي شعور داخلي خاص أثناء مراسم التأبين وكأنني في تلك اللحظة الحزينة أشارك في تشييع جنازة والدي رحمه الله مما دفعني وتحت ضغط هذه المشاعر الغريبة إلى الاتصال مع الأهل في دير البلح وإذا بهم وعند سؤالي عن الوالد يفاجئوني بنبأ وفاته قبل عدة أيام. بعد ذلك وعبر استرسالنا في الحديث والحوار سألني وباستغراب هل فعلاً أنك نجحت وكما أسمع بفتح علاقات للأخ الرئيس أبو عمار معبعض الجهات السوفييتية ؟! قلت له نعم وهي علاقات جيدة ومبنية على التعاون والثقة المتبادلة . قال لي: ولكنني استفسرت وسألت عن ذلك جهات سوفييتية صديقة بدون فائدة ، قلت له : هذا شأن الجهات التي تسألها أو التي تثق بها، أنت سألتني وأنا أجبتك بمنتهي الوضوح والصراحة وعليك أن تصدقني وتثق بنصيحتي فنحن أخوة ولا أريدك أن تبقى أسيراً تتخبط في دائرة الأخطاء والخطايا، وأخشى ما أخشاه في هذا الصدد أن تصبح يا أخي العزيز جزءاً من مصالحهم في لعبة صراع مراكز القوى الدائرة بصمت فيما بينهم ، وقد تنامت عوامل الاسترابة من المواقف السياسية التي ترسل بها إلى مقر القيادة الفلسطينية في تونس، وعليك أن تعرف بأن الأعمار بيد الله ولكن الإهمال المقصود لحالة والدك الصحية في آخر أيامه كان يعبر عن إستياء وعداء بعض هؤلاء الأصدقاء الذين تتحدث عنهم لأسباب تتعلق بنشاطه الصادق على امتداد الشهور الأخيرة من حياته في مجال مكافحة الصهيونية والهجرة اليهودية. صمت لبرهة من الوقت وعاد ليقول هذا شأنك فيما أنت تفكر فيه وإن كنت على يقين بأنك على خطأ وبالمناسبة لا يوجد للسوفييت عدة مواقف بل موقف واحد وهو الذي أخاطب القيادة السياسية به عند الضرورة ، مع نهاية هذا العام ستنتهي إقامتك ولن يتم تجديدها وباعتبار أنك قد أنهيت الدراسة ولن يكون بمقدور مكتب السفارة التدخل في هذا الشأن وعليك أن تتدبر أمورك منذ الآن ، وأنصحك بالمغادرة لأن البعض منهم لم يعد يطيق سماع اسمك وأحياناً يتهمونك بترويج أفكار ومواقف سياسية معادية للدولة السوفييتية وللحزب الشيوعي السوفييتي بسبب خلافاتهم مع الأخ أبو عمار. ابتسمت وقلت له: يبدو أنك نسيت الجزء الأهم في ديباجة هذه الاتهامات "فهو عنصري ومعادي للسامية والجنس اليهودي" على العموم شكراً لك على هذه الصراحة الأخوية وأتمني عليك أن نتواصل باستمرار لتبادل المعلومات وحتى لا يتم الضحك علينا خاصة وأن إدارات العسس أصبحت جزءاً من الأزمة وشريكاً غير مؤتمن على صعيد تمرير المواقف والمعلومات. واعترف هنا وبمنتهي الصراحة بأنني كنت وحتى تلك اللحظة أعمل جهدي على تطبيع علاقته مع الأخ الرئيس أبو عمار وكنت أقصد من وراء صراحتي معه أن أدفعه بهذا الاتجاه إلا أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن كما يقال، فهو عنيد ومليء بمشاعر الغرور والعظمة ويتصرف وكأنه يمتلك بين أصابعه كل مفاتيح اللعبة خاصة بعد فجيعتنا ونكستنا المريعة التي انتهت بطرد الأخ صخر حبش "أبو نزار" من موسكو وانتهاء مهمته كممثل وسفير فوق العادة لمنظمة التحرير الفلسطينية في الاتحاد السوفييتي بعد عدة أسابيع من تعيينه . ودعنا بعض بكل كياسة ولباقة وعلى أمل التواصل عند الضرورات إلا أنني أحسست في تلك الليلة بأن أشياء كثيرة قد تغيرت في قواعد اللعبة فهو يتحدث عن فترة وجيزة متبقية لي بحسب الإقامة الدراسية أي عدة شهور فقط وهناك من ينتظر بفارغ الصبر إنقضاء هذه المدة للمطالبة برحيلي عن البلاد وبمعني آخر فإن قضية الخلاص من وجودي المزعج أصبحت مطروحة وتنتظر الشكل المناسب والوقت والمناسب والتخريجة المناسبة في ظل توازنات الصراع المحتدم على المصالح بين مراكز القوى. أبلغت الأصدقاء بهذه الهواجس التي انتابتني فسارعوا جميعاً لطمأنتي بأن ذلك لن يحدث أبداً ، ولو كان بإمكان من يفكر بمثل هذه الأمور القدرة على تنفيذها لما تواني لحظة واحدة الاّ أنهم كانوا غير مرتاحين من شدة الحملة وشراستها التي بدأت تقوم بها شخصيات وتيارات بعضها محسوب على حركة فتح وبعضها على فصائل اليسار بغرض النيل من الرئيس عرفات من جهة وتشويه صورتي وبشكل غير لائق من جهة أخرى ، وعبر سيل من التقارير الكيدية والكاذبة، وأمام هذه المستجدات اتصلت مع الأخ أبو الهول في مكتبه فلم أجدة بسبب السفر ومن ثم عدت للاتصال مساءاً بالأخ المناضل لؤي عيسى وهو ابن أخت الأخ أبو الهول ومن الكوادر الطلابية النقابية الفاعلة والكبيرة فهو عضو اللجنة التنفيذية للاتحاد العام لطلبة فلسطين ولعدة دورات انتخابية وهو الاتحاد الذي كان في حينه مصنعاً للقيادات الشابة الفلسطينية وله عشرات الفروع المنتشرة في كافة القارات على الصعيد الدولي، وقد أوصاني الأخ ابو الهول وبالنظر لثقته العالية بقدرات الأخ لؤي عيسى الأمنية والسياسية الاتصال به عند الضرورة وباعتبار أنه يستطيع ايصال المعلومات والملاحظات المطلوبة في حال عدم تواجده في مقره في تونس، أبلغت الأخ لؤي بآخر المستجدات عن حملات الدبابير والزنابير التي تفرغ سمومها وأحقاد زيباناتها على أوراق التقارير الساقطة وبهدف الإساءة للأخ الرئيس عرفات وتشويه صورتي وعبر سيل من الاتهامات البغيضة وقد علمت منه أيضاً بأن لهذه الحملات قواعد ومكامن موجودة في العديد من مقراتنا في تونس وهي تعكس في نفس الوقت بعض أوجه الصراع الداخلي على صعيد اللجنة المركزية للحركة واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وباعتبار أن موقع السفير والممثل فوق العادة للمنظمة في موسكو يعتبر من المواقع الاستراتيجية الخطيرة بالنسبة إليهم جميعاً ، كما لفت نظري إلى أن بعض كوادر الدائرة السياسية من أصحاب العلاقات المصلحية مع رامي الشاعر يشاركون في هذه الحملة المسيئة، وعلى الفور وبعد انتهاء المكالمة استقر بي الرأي على ضرورة وأهمية النزول إلى مقر القيادة في تونس مع بداية شهر آب "أغسطس" لإستبيان حقيقة الأوضاع والمواقف المتوترة ومعرفة الأسباب التي تقف وراء حملات التشويه المغرضة وتبيان خطورة ذلك على واقع ومستقبل العلاقات السوفييتية الفلسطينية المهتزة أصلاً تحت ضغط الوقائع والمتغيرات التي تعصف بالكيانية السياسية للجانبين السوفييتي والفلسطيني.وقبل أسبوع من سفري التقيت بأحد الأصدقاء السوفييت المعروف بنشاطه السياسي الكبير وخبرته الأمنية الواسعة فهو وبالفعل يختزن في ذاكرته أرشيفاً من المعلومات المتعلقة بالأوضاع العربية والفلسطينية ، وقد بادرني بالاعتذار عن عدم تمكن البعض الآخر من الحضور بسبب الانشغال في عطلاتهم الصيفية، وشكرهم الجماعي على الهدايا التي حملتها معي في السفرة السابقة وخاصة قال : وهو يبتسم زجاجات العطور والنظارات الشمسية النسائية ، كان غير مرتاح للسرعة في عمليات التغيير وإعادة البناء فالموضوع يحتاج إلى قدر كبير من التروي وإلى حكمة السلحفاء وليس إلى روعنة  الأرنب" ففي العجلة الندامة وفي التأني السلامة كما يقول المثل العربي " وعبر حواراتنا الأخرى أفادني بأنهم وبدون إعلامي وبالنظر لكثرة التقارير الحقيرة والتي وصلت عبر أطراف فلسطينية مختلفة ، قاموا وبطرقهم ووسائلهم الخاصة بالتحري والاستقصاء عني وعن تاريخ حياتي وعن أهلي في فلسطين، وهم يأسفون لفعل ذلك إلا أن ضرورات حسم المسألة ووقف هذا اللغظ التافة والغير مسؤول اقتضت ذلك ، وقد تبين لهم بأنني ابن لعائلة كريمة وبسيطة تعيش في دير البلح وقد تشتت شملها بفعل ضغوط الوقائع المفروضة بقوة الاحتلال الإسرائيلي، ولا يوجد حالياً من أسرتي هناك وبعد وفاة والدي أحد سوى والدتي المسنة وأختي الغير متزوجة والتي تقوم على رعايتها ، كما يوجد لي أخت أخرى ترعي أحوال زوجها المقعد والمصاب برصاص الجيش الإسرائيلي مُنذ عام 1967م وأن سيرتي الاجتماعية والسياسية والأمنية ممتازة ولا غبار عليها من الناحية الوطنية ، وحيث تعرضت للسجن ولمدة أربعة سنوات ولملاحقة واضطهاد الإسرائيليين بعد ذلك ، وأن الجميع هناك مُشتاقون لي ويفتخرون بما قمت وأقوم به من أعمال في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
واعترف أنني ومن شدة المفاجأة أصبت بنوبة من الذهول والإشمئزاز وإن كنت أقدر لهم هذا الجهد الحريص، فهم يمثلون دولة عظمى تقود نصف العالم في مواجهتها مع الإمبريالية العالمية والولايات المتحدة الأمريكية وقد أصبحت بالنسبة لما يمثلوه حالة هامة وهامة للغاية وباعتباري حلقة الوصل الوحيدة المتبقية للرئيس عرفات مع السلطة السوفييتية والقيادة الجديدة منها على وجه الخصوص قلت له : وبعد أن تمالكت نفسي سأبلغ الرئيس عرفات والأخ أبو الهول بذلك فرد بالقول: وعليك أيضاً إبلاغهم بأنه ليس من اللائق أن يذهب الرفيق أبو جعفر وهو المساعد الأول لرئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية لسفارتنا في تونس ويسلم المسؤولين فيها رسالة تؤكد على رفضهم لكل مقترحات الرئيس عرفات بخصوص تعيينك ممثل أو سفير فوق العادة للمنظمة في موسكو وباعتبار أنك تعمل على تخريب العلاقات السوفييتية الفلسطينية ومن خلال أقوال منسوبة إليك حول احتمالية انهيار الاتحاد السوفييتي وزواله عن الخارطة السياسية للأمم في غضون السنوات الخمس القادمة . نحن أيها الصديق والأخ العزيز لم نعد بحاجة إليهم وللعلاقات المريضة والموبوءة معهم ، فهذا نوع تافة من اليسار العاجز تاريخياً وقد وجدوا في منظمة التحرير مظلة ملائمة يحتمون بها لستر عجزهم ، وبدون حركة فتح وبدون ياسر عرفات لا معنى ولا قيمة لوجودهم بالمطلق وعلى الإطلاق بهذه الطريقة نحن نعيد قراءة الواقع، لذلك أرجو تذكير الرئيس عرفات بأهمية إرسال رسالة كبيرة ومرتبة في أفكارها لتهنئة القيادة السوفييتية الجديدة والرئيس ميخائيل سرجفتش جربتشوف بمناسبة أعياد ثورة أكتوبر المجيدة وسنعمل بالتأكيد على نشرها وبشكل مٌلفت في وسائل الإعلام والصحف المركزية  السوفييتية . أما القضية الأخيرة والتي عليكم الانتباه لها مع إنني غير مخول بالحديث عنها بالنظر لخطورتها وسريتها معكم أو مع غيركم ولكنها تصيب في الصميم عملنا القائم على التعاون المشترك وهي: أنه يوجد لدينا حالة اشتباه خطيرة تتعلق بعمل شخصية أمنية مسؤولة في سفارتنا بتونس ولهذا: أطلب من الرئيس عرفات والرفيق أبو الهول الضغط على الجميع طرفكم لتقليص حجم الاعتماد على السفارة عند إرسال التقارير المتعلقة بالمعلومات والمواقف الأمنية والسياسية، ودعته بعد أن استمع مني الكثير من عبارات الشكر على هذا الجهد النبيل والشريف والذي يعبر عن روح المسؤولية الأخلاقية والحرص الأكيد على تكريس نوع جديد من علاقات التعاون المشترك بين م.ت.ف والاتحاد السوفييتي وبين الرئيس عرفات والرفيق جربتشوف على وجه التحديد.
نزلت إلى تونس وفي تونس هذه المرة بدأ غبار المعركة يتصاعد وهو يحمل في داخله نذر مواجهة شديدة وشرسة على الصعيد الداخلي بين أطراف وأقطاب اللجنتين المركزية لحركة فتح والتنفيذية لمنظمة التحرير، وقد كان لوضع السفارة الفلسطينية في موسكو والعلاقة مع الاتحاد السوفييتي مساحته الكبيرة في خلافات هذه المعركة ، بالإضافة إلى توابع اتفاق عمان الموقع بالأحرف الأولى بين الرئيس عرفات والملك حسين، وهذا ما تم توضيحه في لقائي مع الأخ أبو الهول والذي كان يبدي تفاؤلاً بتجاوز كل هذه العقبات والصعاب وعلى قاعدة خلق حالة من الوفاق الداخلي في صفوف حركة فتح تسمح في النهاية بلم الوضع في الساحة الفلسطينية في إطار منظمة التحرير من جديد وبالنظر لأهمية وخطورة المعلومات التي استمع اليها طلب مني التكتم عليها والاكتفاء فقط باعلام الأخ أبو عمار ، وهو لذلك اتصل هاتفياً أثناء وجودي معه بالرئيس وطلب منه تحديد موعد لمقابلتي على انفراد ، فكان ذلك في تمام الساعة السادسة والنصف بعد العصر وقبل المغرب في مكتب الأخ حكم بلعاوي" أبو مروان " أي في داخل السفارة الفلسطينية، ذهبت إلى هناك وبحسب الموعد وبدون أن أنسى وصية الأخ أبو الهول حول نتف وبر "أبو حجلة" أي الأخ أبو جعفر ، أمام الأخ الرئيس إذا سمحت الفرصة بذلك، وهو ما تم بالفعل فبعد أن سجل أبو عمار العديد من الملاحظات على ورقة صغيرة أمامه وبما في ذلك ضرورة إرسال رسالة ا لتهنئة بمناسبة أعياد ثورة أكتوبر الاشتراكية نظر إليّ وقال : الرسالة وبالتأكيد وبحسب علمي وفي مثل هذه المناسبة أهم بكثير من البرقية، ثم استطرد قائلاً : "الجواسيس عاوزين يعملوا منك جاسوس إسرائيلي بأي طريقة زي ما بحاولوا تصويري وكأني عميل إمبريالي مخضرم000 ولكن فشروا ،إحنا وياهم والزمن طويل" قلت له : ولكن يا أخ أبو عمار فعلة أبو جعفر تؤذينا وتؤذي علاقاتنا المتنامية مع الأصدقاء السوفييت فرد بسخط وهو يكتم موجة من الغضب بداخله، اتركه لي وغدا ستسمع وترى ماذا سأفعل به، المهم أن تعود أنت بسرعة إلى موسكو ولا تجعل من هذه المشاكل والخلافات قضية تؤثر على عملك ونشاطك . ودعته وخرجت وفي ساعة متأخرة من الليل التقيت مجدداً بالأخ أبو الهول وكان في حالة معنوية مريحة أبلغته بكل ما جرى فقال لي وبعد خروجك من عنده مباشرة انفجر على الهاتف في وجه أبو جعفر ولمدة نصف ساعة وبطريقة مؤذية للغاية المهم الآن أن تقوم بترتيب أمورك للسفر ونحن معك وتوكل على الله. في اليوم التالي التقيت مع الأخ حكم بلعاوي "أبو مروان" وأبلغته بقصة النظارات الشمسية والعطور فابتسم وقال: انت يا دكتور وجه خير وبتستاهل كل خير ويبدوا أن أحد " الزعران " اجتهد أكثر من اللازم عندما أمرتهم بتوضيب بعض الهدايا . الرئيس مرتاح جداً من عملك ونشاطك وأنا أتابع أمورك معه باستمرار، ودائماً خلي شعارك أمامك " الكلاب تنبح والقافلة تسير" وإذا مش عاجبك هذا الشعار استخدم شعار صاحبك أبو عمار "يا جبل ما يهزك ريح " لكن 000 يا دكتور " طيب في جبال بتخلعها الرياح العاتية من أساسها صاحبنا مش دارس جغرافيا كويس" المهم الحمد لله على سلامتك وإن شاء الله سوف نستمر في سماع أخبارك الطيبة، وبعد أن شكرته على حسن الضيافة ودعته وذهبت للراحة في الفندق وباعتبار أنني سأمكث في تونس عدة أيام بانتظار الرحلة الأسبوعية لطائرة " الأيروفلوت" السوفييتية ، وفي صبيحة ا ليوم قبل الأخير على موعد السفر والطائرة اتصل بي على هاتف الفندق الأخ عضو المجلس الثوري لحركة فتح والسفير فوق العادة لمنظمة التحرير الفلسطينية في عدن أي في "جمهورية جنوب اليمن الديمقراطية الشعبية" الأخ "أبو مشعل" عباس زكي وقال : أنه سمع بوجودي وسيحضر بعد نصف ساعة للدردشة معي والتعرف على أحوال البلاد السوفييتية، رحبت به ونزلت إلى قاعة ومقهى خاص بالزوار بغرض انتظاره والترحيب به، حضر الرجل وبعد تبادل عبارات الترحيب وتقديم واجبات الضيافة دخل في الموضوع وبدون مقدمات قائلاً: اسمع يا دكتور الاتحاد السوفييتي دولة عظمي وليس من المعقول أن " يبقى شاب مبتدئ " بمستوى وحجم رامي الشاعر يتحكم في العلاقات الفلسطينية السوفييتية لهذا فقد تحدثت مع الأخ أبو إياد بما يكفي في هذا الموضوع وهو عاتب عليك كثيراً لأنك وعلى امتداد العامين الأخيرين لم تتصل به ولو لمرة واحدة وأنت تعلم أنه يعتبر نفسه قيادياً في مستوى الأخ أبو عمار على صعيد الحركة والمنظمة، لا داعي للعتب فالرجل يحترمك كثيراً ويقدر لك موهبتك وشجاعتك وصمودك في وجه التحديات والصعوبات وهو ينتظرك الآن في مكتبه وعليك أن تتحرك معي لمقابلته، واعترف بأنني قد ترددت لبعض الوقت بسبب الخلافات المستفحلة على الصعيد الداخلي وفي النهاية قمت معه واتجهنا في سيارته إلى مكتب الأمن الموحد . استقبلني الأخ القائد أبو إياد بابتسامة عريضة وقال مازحاً وهو يرحب بي الحمد لله على سلامتك، في بيروت كنت تعرف عنواننا جيداً وهنا في تونس سقط منك سهواً وبعد ربع ساعة من الحوار الدافئ والمريح أمسك بدفتر من الحجم الكبير وقلم وبدأ يكتب وبعد أن وقع باسمه تحت نهاية السطور في الورقة قال لي: خذها وأقرأها جيداً ومن ثم ضعها في هذا المظروف، أنها رسالة مني لرامي الشاعر وأطلب منه فيها وبالأمر أن يتعاون معك في كل كبيرة وصغيرة تتعلق بأمور السفارة وأتمني عليك وعليه أن تكونا على قلب رجل واحد في مواجهة الصعاب والملمات من أجل فلسطين، وإذا رفض كلامي وتمرد عليه تصرف بصورة من الرسالة بالطريقة المناسبة والتي تعجبك وتقوي من وجودك هناك، اعتقد أنك لمّاح وذكي جداً وقد فهمت مقصدي ، ونهض من مكانه وصافحني مودعاً بحرارة وعلى أمل اللقاء وسماع الأخبار الطيبة .
عدت إلى الفندق بعد أن شكرت الأخ "أبو مشعل" عباس زكي على هذه المبادرة الشجاعة والجرئية، وفي مساء ذلك اليوم ذهبت لوداع الأخ أبو الهول وقد أبلغته بما جرى كما قرأ رسالة الأخ القائد أبو إياد المرسلة معي للأخ رامي الشاعر بتمعن وإمعان شديد ، ومن ثم ضحك من قلبه وهو يبادرني بالسؤال مستفسراً عن سر هذا التحول المفاجئ ، قلت له لا علم لي وربما أجد لديكم التفسير المناسب والجواب الشافي ، فرد بالقول أن الأخ أبو إياد في موقفه هذا يقدم لنا أحجية بعدة ألغاز بعضها يسهل تفسيره وبعضها الآخر سيبقى سراً غامضاً صعب التفسير ولفترة من الوقت بانتظار المتغيرات والمستجدات اللاحقة ، كل ما أستطيع قوله الآن أنه ربما سيعمل لاحقاً على قبول ترشيح الأخ عباس زكي لمنصب السفير والممثل فوق العادة للمنظمة في موسكو، وهو وإن كان مضطراً وللحفاظ على علاقته مع بعض الأطراف الأمنية السوفيتية المحتجة على عملك ووجودك يؤلب زبانيته للعمل العلني ضدك وباعتبار أنك تمثل الرئيس عرفات فقط فإنه وفي نفس الوقت يريد حمايتك منهم وقد سلحك بهذه الرسالة لهذه الغاية على وجه التحديد، عموماً عند عودة الأخ الرئيس أبو عمار من عمان سأقوم بعرض الموضوع عليه والاستماع لتوجيهاته بهذا الصدد، اذهب الآن ورتب أمورك للسفر فأمامك رحلة شاقة وطويلة وإن شاء الله نلتقي في القريب العاجل وفي ظروف أفضل من هذه الظروف الصعبة والقاسية علينا جميعاً، وعليك أن تفهم وتدرك دائماًَ حقيقة واحدة وهي أننا نختلف ونتشاجر فيما بيننا لكي نتفق ولا سبيل أمامنا في هذه المسيرة الشاقة إلا سبيل التفاهم والوفاق والتآخي والمحبة.




















الفصل الخامس:-
" الجمر يلتهب تحت رماد الجليد "

تعددت الإسفار على خط موسكو- تونس حتى صرت معروفاً لطواقم المضيفين والمضيفات العاملين على متن طائرة                 " الأيروفلوت " وكذلك الأمر وأيضاً لضباط وضابطات الجوازات والجمارك في" مطار شيرميتفا " الدولي وهو مطار ضخم وجميل أنجزت بناءه السلطات السوفييتية عشية انطلاق الدورة الأولمبية العالمية للألعاب الرياضية الصيفية وحيث استقبلت ضيوفها من الرياضيين والإعلاميين والوافدين بغرض السياحة والفرجة وتشجيع الفرق من مُختلف أنحاء دول العالم كان الاتحاد السوفييتي في تلك الفترة وعبر قياداته الجديدة يبذل جهداً غير عادي بصمت وبسرية للخروج والخلاص من المأزق الأفغاني وبأقل الخسائر والأضرار من الناحية المعنوية وعلى الأقل فيما يتعلق بهيبة ومكانة الجيش الأحمر السوفييتي وكانت أغاني أللاّبوقاتشوفا وتداعيات فيلم " موسكو لا تؤمن بالدموع " تثير نوعاً من العشق والحب المنهك والحزين لروسيا الأم " وهي تنوء بالحمل الثقيل الملقى على أكتافها فهي تتحمل المسؤولية المباشرة عن الجمهوريات الاشتراكية الاتحادية السبعة عشر بالإضافة لمنظومة دول حلف وارسو " أي لمنظومة دول المعسكر الاشتراكي " وهي المنظومة التي   تشكلت من عديد الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية هذا بالإضافة لمشاكل كوبا والفيتنام وجمهورية كوريا الشمالية والصين والأحزاب الشيوعية وحركات التحرير الوطني في العالم الثالث ونزاعات الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية ناهيك عن خسائر سباق التسلح المخيف بينها وبين الغرب والحرب الإعلامية وحرب الجواسيس السرية وبالرغم من تعاطفي الشديد مع موسكو ومع الاتحاد السوفييتي العظيم فإنني كنت أنظر في أعماق الوجه الأخر لصورة هذا المشهد بعيداً عن الايديولوجيا والأحلام الوردية  التي يجري تعميمها باسم الماركسية واللينينية ومجتمع الرخاء الاشتراكي المتطور في حتميته الفلسفية نحو الشيوعية ، وربما لهذا ولذلك كُنت أرى جمراً يلتهب تحت طبقات الجليد المتراكم ، وكنت أكره ومن أعماقي سياسات ذر الرماد في العيون تحت ضغط الحقيقة وهرباً منها في نفس الوقت . كان تمثال كارل ماركس الضخم القريب من الساحة الحمراء وعلى مسافة عشرات الأمتار من فندق الميتروبول يتحلق حوله في السابق العشرات والمئات من الزوار يومياً أما الآن فأنك تمر من هناك ومن أمامه فلا تجد أحداً غير بعض الطيور وطيور الحمام والغربان التي تبحث عن رزقها في المكان ، في حين تتسارع التجمعات العفوية أحياناً والمنظمة في أحيان أخرى للتجمع حول تمثالي شاعر روسيا العظيم ألكسندر بوشكين والموسيقار العبقري الشهير تشايكوفسكي لقد توحد الزمان والمكان في قصائد الأول وأنصهر المكان والزمان في موسيقى سيمفونية بحيرة البجع عند الثاني ، ولهذا لم تشيخ قصائد الغزل ولم تهرم راقصات الباليه الجميلات وهن يقمن بدور البجعات الراقصات على ضفاف البحيرة فوق خشبة مسرح " البلشوي تياتر ".
وصلت موسكو بينما كانت أيام الصيف  الأخيرة تهرب تحت وابل من زخات المطر ،كان في استقبالي وكالعادة بعض الأخوة من الأصدقاء والزملاء المقربين ، وعلى الفور اتجهنا سوية إلى شقتي الصغيرة الموجودة في عمارات طلاب الدراسات العُليا التابعة لجامعة موسكو الحكومية ، هذا المكان كنت أفضله على غيره من الأماكن وربما يكون الأكثر أمناً وطمأنينة في ظل الظروف السائدة ،ألاّ أنه يُثير في داخلي نوعاً من الحنين للماضي القريب، فهو سكن جماعي مُختلط يجمع بداخله طلاب الدراسات العليا ومن كلا الجنسين ومن مُختلف الجنسيات والأمم والقوميات، وعبر الهاتف اتصلت بالعديد من الأصدقاء وتبادلت معهم عبارات المجاملة المعهودة قبل أن أخلد للراحة بحثاً عن ساعات من النوم المريح والعميق ، وفي صباح اليوم التالي اتصلت هاتفياً مع القائم بالأعمال المؤقت الأخ رامي الشاعر وتواعدنا على اللقاء في مكتب السفارة قبل الظهر، وبعد تبادل عبارات الترحيب والاطمئنان أبلغته بما جرى من حديث وحوار مع الأخ القائد أبو إياد كما قمت بتسليمه الرسالة ، وبعد أن قرأها بتمعن تغير لونه وهو يحاول أن يتمالك نفسه من شدة المفاجأة وقال: إنها منه وبخط يده وتوقيعه ، ولكنه يطلب مني التعاون فيما بيننا في كل شيء وفي المهام والصلاحيات بالدرجة الأولى ، وهذا لن يحدث ولن أقوى على القيام به للعديد من الاعتبارات وإذا كانوا يتهيأيون لتعيينك سفيراً فوق العادة أو قائماً بالأعمال للمنظمة بدلاً عني ، فلُيجربوا ... وعليهم أن يتحملوا النتائج الوخيمة التي ستحدث على ضوء ذلك، الرفاق والأصدقاء السوفييت وبعد تجربتهم المريرة في موضوعه تعيين الأخ صخر حبش " أبو نزار " وفشله المدقع والذر يع لن يقبلوا  إلاّ برامي الشاعر وفقط سفيراً فوق العادة لمنظمة التحرير الفلسطينية في موسكو ،  هذه المناورات والمداورات المُعلبة لن تنطلي عليّ ولن يقبل بها السوفييت ، ولكن قل لي يا صديق: كيف التقيت مع الأخ أبو إياد ؟ وهل كان الأخ أبو عمار يعلم بذلك ؟ أجبته بالتأكيد ففي مثل هذه المسائل يجب أن تكون الأمور واضحة، اسمعني جيداً يا عزيزي وخذ مني وعداً وعهداً بأنني لن أقبل بتعييني سفيراً أو قائماً بالأعمال في مكانك أو بدلاً عنك، دعنا فقط نتعاون فيما بيننا وبحسب نصيحة الأخ أبو إياد ولا داعي للاستقواء بالأصدقاء السوفييت ، بهذه الطريقة وعبر الاستمرار المؤلم للخلافات نحن نسبب لهم صداعاً غير معقول وربما ينتهي بهم الأمر إلى مواقف وإجراءات غير محسوبة وغير متوقعة ، سياسات الدول والدول العظمى بالذات تحكمها المصالح ، ومصالح الأفراد ومهما كانت وآياً كانت لن تفرض توا زناتها الشاذة في مواجهة الحسابات الاستراتيجية لسياسات هذه الدول، على العموم هذا ما عندي وكل ما أطلبه منك الآن هو تحرير رسالة رسمية باسم مكتب السفارة إلى إدارة           " فندق سيوز " وباعتبار أنني سأمكث فيه لمدة شهر بعيداً عن ضجيج المدينة والخلافات والحسابات السياسية، أشعر بالإرهاق والإنهاك والتعب المزمن والمديد وفي كل الأحوال سنبقى على تواصل فالخلاف وكما يقال لا يُفسد للود قضية .خرجت من السفارة واتجهت فورا إلى شقتي في سيارة خاصة وقد طلبت من سائقها الانتظار لبعض الوقت حتى يتم إحضار الحقائب ، ومن ثم اتجهنا سوية إلى الفندق ، وهو في مكان هادئ يتوسط المسافة الطويلة بين المدينة والمطار ، وتحيط به المساحات الخضراء المليئة بالعشب والأشجار، بالإضافة إلى تشكيلات مُختلفة ومتعددة الألوان من الورود والأزهار، وفي غضون نصف ساعة تم استكمال كافة الإجراءات الإدارية المتعارف عليها بالنسبة للأجانب والتي لا تخلو من السلوك البيروقراطي المعهود، بعدها اتجهت إلى غرفتي في الطابق الرابع بواسطة المصعد وبرفقة أحد الموظفين والذي تمنى لي إقامة سعيدة كما أبدى شكره الجزيل بسبب بعض النقود الروسية التي وضعتها في يده ، وفي عصر ذلك اليوم وبعد أن أحسست بنوع من الراحة تواصلت عبر الهاتف ببعض المعنيين من الأصدقاء  السوفييت وأبلغتهم عن وجودي وعنواني وهاتفي الجديد في الفندق وقد سارعوا في صبيحة اليوم التالي بالحضور إلى طرفي للاطمئنان وعرض ما يلزم من خدمات ، أبلغتهم بنتائج زيارتي لمقر القيادة في تونس كما سلمتهم نسخة من رسالة الأخ القائد أبو إياد المرسلة للأخ رامي الشاعر ، وقد توقفوا عندها طويلاً وباعتبار أنها مفاجأة من الوزن الثقيل خاصة وأنها ستحسم جدلاً حاداً يدور في أوساطهم حول موقف اللجنة المركزية لحركة فتح وحيث يدعي الأخ رامي الشاعر بأن أكثر من نصفها وعلى رأسهم الأخ أبو إياد يقفون إلى جانبه في الصراع الدائر بينه من جهة وبين الأخ الرئيس أبو عمار والدكتور كامل من جهة أخرى ، كما طلبت منهم متابعة موضوع رسالة التهنئة بعيد ثورة أكتوبر الاشتراكية والتي يعتزم الرئيس عرفات إرسالها على عنوان وباسم الرئيس السوفييتي ميخائيل سرجفتش جربتشوف ، وفي المساء وجدت نفسي أعيش حالة من الفراغ وحتى لا يتسلل الملل إلى داخلي تناولت الهاتف واتصلت على بيت السيدة " دينا فلاديميروفنا " للاطمئنان وسماع آخر ما عندها من أخبار ، إلاّ أنني تفاجأت بأنها قد غيرت سكنها وانتقلت إلى شقة جديدة بعد أن أوصت سكان بيتها القديم بإعطاء عنوانها ورقم هاتفها الجديد لي عند الاتصال . اتصلت بها مجدداً وقد كانت لطيفة وأليفه معي كعادتها ورحبت باستقبالي على الفور في شقتها الجديدة، نزلت على الفور بعد أن وضبت بعض الهدايا اللائقة لمثل هذه المناسبة واتجهت في سيارة خاصة بعد أن اتفقت مع سائقها على مبلغ مضاعف لقاء توصيلي إلى العنوان المطلوب ، وبعد أن وصلت صعدت في مصعد أنيق ومريح للطابق السابع وضغطت على جرس الباب الخارجي للشقة ، استقبلتني السيدة الفاضلة ببشاشة كاد أن يفسدها كلب ضخم من النوع الفاخر والمُعتبر يقف بجوارها ، قلت لها ما هذا ؟ شقة جديدة واسعة ومؤثثة في عمارة جديدة بالإضافة إلى كلب ثمين  يحتاج إلى مصاريف عالية خاصة لجهة إطعامه ، فردت وهي تبتسم قائله: أمسك الخشب أولاً خوفاً من الحسد وثانياً لا داعي للفلسفات البيزنطية العقيمة ، كنت أعيش وكما تعلم مع ابنتي " ناتاشا " وأمي المُسنة في شقة صغيرة وهي عبارة عن صالون وغرفة نوم " وحمام وبانيو صغير " على امتداد عقدين من الزمن ، ألا يحق لي الاستمتاع بما تبقى من حياتي ببعض وسائل الراحة الضرورية، قبل أيام احتفلت بعيد ميلادي الخمسين وبعد عقد آخر من السنوات سأدخل مرغمة وبدون إرادتي في سن الشيخوخة، ماذا تريدون منا ؟ أن نبقى طيلة عمرنا ومن المهد إلى اللحد ونحن نضحي بالمقومات الضرورية لحياتنا من أجل الشيوعية والاشتراكية والتحرر ونصرة الشعوب  المقهورة والمظلومة؟! كفانا عناء ومعاناة اتركونا نعيش أيها الأصدقاء ، لقد قلت لك وقبل عام على وجه التقريب بأن رئيسنا القادم سيكون ميخائيل سرجفتش جربتشوف وهو من الجيل الشاب ويمثل في داخله طموحات الشباب للنهوض من كبوة المبادئ المتحجرة، ونحن اليوم نعمل معه بكل جد ونشاط لتغيير معالم حياتنا ، لاشك أنها مغامرة ولكنني أرجو ومن كل قلبي أن تكون محسوبة جيداً على صعيد النتائج، بهذه العبارات المليئة بالأمل والشك والتحدي والبساطة أفحمتني هذه المرآة المتصابية والرفيقة الحزبية المرموقة على صعيد الموقع السياسي والمكانة الإدارية في الهرم الوظيفي للسلطة السوفييتية ، قلت لها ضاحكاً: ولكن دعينا من هذه الاجتهادات التي لا تنتهي ، أين وحيدتك المدللة " ناتاشا " ؟ فأجابت أنها خرجت هذه الليلة مع صديقاتها للسهر مع راقصات "البلشوي تياتر " فمنذ عدة سنوات وهي تحاول الحصول على تذكرة للسهر هناك وأخيراً أصبح بامكاني تأمين ذلك لها ،وبالمناسبة يوجد لدي تذكرتين لحفلات قادمة بامكانك أن تذهب بهما مع من تشاء إلى هناك ، اعتذرت شاكراً لهذا الفضل والجميل  لأن ظروفي لا تسمح بذلك ، فقالت وهي تبتسم إنك أيها الرفيق تظلم نفسك أكثر من اللازم فأنت وعندما تُقبل صبية جميلة من جميلات موسكو الروسيات لا ترتكب جريمة يمكن أن يحاسبك عليها قانون الرئيس عرفات ، الحياة جميلة وعليك أن تعيشها قبل أن تهرب من بين يديك تاركة في أعماقك لوعة الندم والحسرة ، السياسيون الكبار من القادة والزعماء يبحثون دائماً عن المثاليين المتحمسين للهدف والفكرة للوصول إلى مآربهم وأنت واحد من هؤلاء ، انزع عصبة الرفيق أبو عمار المثالية عن عينيك لتكتشف أنه إنسان يحب ويكره ويعشق ويبغض ولدية من المعجبات الكثير الكثير ، لا تقل لي أغنيتك البالية عن زواجه من فلسطين ، لأن المغتصبة لا تتزوج من أحد تحبه أو تعشقه إلا بعد تحريرها من مغتصبيها ، وعليه : لابد أن تكون هناك في مكان ما وفي لحظة ما أمرأة جميلة يعشقها ويذوب ولعاً في هواها ، بعيداً عنكم وعن عيون الناس وأعترف بأن الحديث مع هذه المرأة الغير عادية لا يُمل وأنه يسرق الدقائق والساعات منك وأنت تستمع إليها ، فهي ساحرة ماهرة تجيد العبث بالمقدسات والمبادئ المحرمة وتقرأ ملامح المستقبل في خطوط الكف وأنامل الأصابع بعيداً عن لغة البصمات المعهودة ، استأذنت منها مودعاً وعلى أمل اللقاء بها في القريب العاجل وفي ظروف أفضل، وكما حضرتُ، عُدتُ ثانية ومن حيث أتيت إلى فندق  السيوز للاستجمام والراحة . 
وبعد أيام على وجودي في الفندق اكتشفت بأن الفراغ لعبة قاتلة يمكن لها أن تُطيح برأسك عبر الدوار الناشئ عن انعدام الوزن فأنت في الفراغ تجد نفسك تعيش في حالة متجددة من الملل وعبر عجزك الإرادي عن تنسيق حضورك المادي الذي تعيشه في المكان والزمان ، تذكرت إن لدي مكتبة صغيرة تحتوي على بعض الكتب داخل شقتي المتواضعة في السكن الجامعي ، ذهبت إلى هناك وهناك وقعت عيني على كتاب العهد القديم " التوراة " وكذلك على القرآن الكريم، تناولت القرآن وتناولت " الكتاب المقدس " ووضعتهما في حقيبتي ، وبعد أن تسامرت مع أصدقاء وزملاء الدراسة ، خرجت بالتواعد مع بعض الأخوة لزيارتي في المساء وتناول وجبة العشاء معي ومعاً في مطعم الفندق،   " الرستوران "، فاليوم السبت وفيه مساءاً تبدأ ليلة العطلة الأسبوعية وهي الليلة الوحيدة التي يسمح فيها الناس لأنفسهم بالسهر ولا بأس أن تمتد في تأثيرها لتأكل جزءاً من صبيحة ونهار أجازة يوم الأحد لمن ينام متأخرا وأحياناً حتى مساء ذلك اليوم. بهذه الطريقة وعلى شاكلتها كانت الأيام والليالي تمر، كنت أقرأ القرآن في الليل وعلى فترات مُتقطعة من النهار صباحاً وبعد العصر أقرأ أساطير ومتناقضات التوراة أي كتاب العهد القديم وهو كتاب يجمع في داخله بين الذكاء والدهاء والخبث والكذب والخداع في جدلية أسطورية تقوم على تمجيد الجنس اليهودي دون سواه من بني البشر كما كنت أتصل مع مقر القيادة في تونس صباحاً وفي المساء للاطمئنان وفي معظم الأوقات مع مكتب الأخ أبو الهول إذا تعذر الحديث معه لسبب أو لآخر ، ومع مرور الأسبوعين الأول والثاني من هذه الأجازة الطوعية اتصل أحد الأصدقاء السوفييت معي وعبر الهاتف ليبلغني بأن الأخ رامي الشاعر يقول: بأن الرسالة التي حملها الدكتور كامل من الأخ أبو إياد مزورة ولا علم للأخ أبو إياد بها،وعليه فهو يرفض تنفيذ ما جاء بها، وقد طلب مني إبلاغ الأخوين أبو إياد وأبو الهول بالموضوع وبأنه كان من الممكن وعلى ضوء توجيهات رسالة الأخ أبو إياد إيجاد حل عملي لمشكلة التمثيل السياسي والدبلوماسي الفلسطيني ، وأن الموقف الرسمي للدولة السوفييتية وهو الموقف المتعاطف مع عائلة العميد المرحوم محمد الشاعر لأسباب أخلاقية وإنسانية لا علاقة لها بالمواقف السياسية التي يعمل رامي الشاعر على تسويقها ضمن حسابات ومصالح شخصية وفئوية غامضة وغير مفهومة لنا جميعاً، فنحن نتجه وبتعليمات واضحة لفتح صفحة جديدة من التعاون الرسمي مع الرئيس عرفات ولن نقبل لأي كان التشويش لاحقاً على هذه العملية.
شكرته على هذه التوضيحات ومن ثم قمت بالاتصال مع مقر الأمن المركزي ومع الأخ أبو الهول بالتحديد والذي طلب مني بعد استماعه لهذه التوضيحات بصياغتها في نقاط محددة وقراءتها على الضابط المناوب ليقوم بكتابتها على شكل برقية سرية وعاجلة ليتم إرسالها بعد ذلك للأخ الرئيس ، وهو ما تم بالفعل ، كانت الأيام تمر وكانت موسكو تتزين استعداداً لاحتفالات عيد ثورة أكتوبر الاشتراكية وكان فصل الخريف في أسابيعه الأخيرة يواصل جهده الإبداعي الخارق وبسرعة فائقة لاستكمال تلوينه لأوراق الأشجار باللون الذهبي الأصفر والنحاسي المائل للاحمرار وقد قمت بتمديد إقامتي في الفندق لشهر آخر وكأني أرغب في رؤية هذه الأوراق وهي تتساقط مع هبوب الرياح وأنتظر موسم الشتاء والثلج وهو يكسو الأغصان بلونه الأبيض وعبر تراكمه المستمر والجميل، هذه المرة موسكو ستحتفل بالأمل الجديد على أنغام " البيروسترويكا والغلاسنست " أي على إيقاع موسيقى إعادة البناء والشفافية وسوف تستمع وبإصغاء شديد لخطاب التوجهات الاستراتيجية الجديدة لزعيم الحزب والشعب والسلطة السوفييتية الرفيق ميخائيل سرجفتش جربتشوف وهي التوجهات التي أثارت عناوينها موجات شديدة من الاعتراض والمعارضة داخل الاتحاد السوفييتي نفسه وعلى صعيد دول وحكومات الكتلة الاشتراكية من جهة وتحظى بالتأييد الواسع والمتنامي على الصعيد الشعبي في عموم هذه البلدان من جهة أخرى.
وأذكر أنني كنت أجلس مع مجموعة من الأصدقاء السوفييت في جلسة حوار مفتوحة داخل قسم الشرق الأوسط في معهد آسيا وأفريقيا التابع لجامعة موسكو الحكومية حول آخر المستجدات على الصعيدين السوفييتي والفلسطيني وفي تمام الساعة السادسة مساءاً بدأت إذاعة موسكو باللغة الروسية تبث نشرتها الإخبارية وكان في طليعة وصدر النشرة خبر اجتماع المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي فنهض البعض منهم وتحلقوا وبقلق بالغ حول سماعة المذياع المعلقة في جدار القاعة وكأنهم ينتظرون بياناً حاسماً يصدر عن نتائج الخصومة المحتدمة بين الرفاق ، كان الجمر يلتهب حقاً تحت رماد الجليد المتراكم وكانت الحرارة المنبعثة من لهيب الجمر تجتاح طبقات الجليد طبقة بعد أخرى وهي تبحث لها عن متنفس باتجاه الفضاء الخارجي وكان الخوف كل الخوف أن يُصبح الاحتمال واقعاً عبر اختراق الحرارة للطبقات العُليا ، وهو الأمر الذي سيهدد في الصميم لاحقاً قدور الكيانية السياسية للسلطة السوفييتية. خارج نطاق الأيديولوجيا وشعارات الماركسية اللينينية الجذابة يمكن رؤية ملامح ومؤشرات الفوران المكتوم تحت طبقات الجليد ، وعبر هذه الشعارات ومن خلالها فأنك لن ترى شيئاً غير الوجه المشرق للتجربة الاشتراكية وهي تواصل زحفها على هدير المبادئ نحو مجتمع العدالة والازدهار والرخاء الشيوعي ، وبين هذا وذاك أي بين الواقع ونقيضه كانت موسكو تفرش سجادها الأحمر الفاخر عبر المطارات لاستقبال زعماء الدول الاشتراكية الحليفة القادمين من عواصم بلدانهم للتهنئة بعيد انتصار ثورة العمال والفلاحين السوفييتية الاشتراكية أي بعيد ثورة أكتوبر المجيدة بحسب التوصيف السياسي للمفاهيم السائدة في تلك الفترة ، وبحكم الواقع والعادة اتصلت بالجميع من الأصدقاء فرداً فرداً لتقديم التهاني بهذه المناسبة وبدون أن أنسى الرفيقة والصديقة دينا فلاديميروفنا مع كلبها المدلل،كان أسبوع الاحتفالات حافلاً بالفعل الحشود والتجمعات البشرية تملأ الشوارع وتصل الليل بالنهار، والساحة الحمراء حيث يرقد جثمان فلاديمير إيلتش لينين المحنط تعج بالزوار، قلت لنفسي وأنا أشاهد هذه المناظر المليئة بالهيبة والفرح كأن الناس بدأوا يستفيقون من الحلم أو كأنهم ما زالوا يحاولون الاقتراب عبر تعبهم من المستحيل البعيد  والذي يقترب منهم أكثر وأكثر مع فرقعات زجاجات الشمبانيا ومع النغمات الصادرة عن احتكاكات أقداح الفودكا الروسية الشهيرة ، عموماً أنه العيد بالنسبة لعامة الشعب، وأنها المناسبة العظيمة بحسب القناعات الراسخة في أذهان الملايين المؤمنة بخير وعدالة النظام الاشتراكي وحتمية انتصاره، وبينما كنت أحاول السيطرة على سيل من الذكريات الجارفة وأتهيأ للنوم عاد هاتف الغرفة المزعج في بعض الأحيان للرنين رفعت السماعة لتبلغني موظفة الإدارة في قاعة استقبال الفندق وباللغة الروسية بأن تونس معي على الخط، وبعد الاطمئنان على أحوالي وصحتي تم إبلاغي وعلى لسان الأخ القائد " أبو الهول " هايل عبد الحميد: بانه قد تم إرسال رسالة التهنئة المطلوبة من قبل الأخ الرئيس ، للعلم والمتابعة وإعلامنا فيما بعد بالنتائج، وبتقديري وكما أعلمتهم مباشرة، بأنه لن يكون هناك نتائج طوال أيام أسبوع العيد وحتى مُنتصف الأسبوع الذي يليه. وبالفعل ومع نهاية الأسبوع التالي بعد العيد نشرت صحيفة الأزفستيا السوفييتية وهي الصحيفة المركزية الأولى في البلاد الناطقة باسم الدولة وفي صفحة الشؤون الدولية العشرات من أسماء زعماء الدول المهنئين وعبر برقياتهم القيادة السوفييتية بعيد الثورة الاشتراكية كما نشرت فقرات مُختصرة من رسائل زعماء دول المعسكر الاشتراكي بالإضافة إلى رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا وبريطانيا العظمى ، ألاّ أن الملفت للنظر وبطريقة غير معهودة قيام الصحيفة بنشر رسالة الرئيس عرفات المطولة وبدون اختزال أو اختصار وعلى مساحة تقترب من سُدس الصفحة على وجه التقريب وتحت إمضاء " رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والقائد العام لقوات الثورة الفلسطينية "، وبالتأكيد فقد كان بامكان الصحيفة أن تنشر فقرة مُختصرة من الرسالة باسم الرفيق أو السيد ياسر عرفات فقط، وكان يمكن لها أن تمر على الموضوع مرور الكرام بالإشارة إلى وصول رسالة تهنئة من القائد الفلسطيني ياسر عرفات ، إلا أنها وبهذا الشكل تضعه في مُقدمة صفوة الزعماء الكبار  وهي لن تجرؤ على فعل ذلك بدون إشارة واضحة وتعليمات رسمية صريحة ، وفي تلك اللحظة تملكني شعور كبير بالفخر والاعتزاز وبعد أن شكرت الأصدقاء السوفييت على الهاتف اتصلت فوراً مع مكتب الأخ أبو الهول ومع مكتب الأخ الرئيس وأبلغتهم بالموضوع، استقبل الجميع الخبر بنوع من الفرح والارتياح الشديد ولكني وللأسف فؤجئت بعد أسبوع بأن بعض أطراف القيادة ممن تربطهم علاقات مصالح مع الأخ القائم بالأعمال رامي الشاعر ينفون على لسانه حدوث ذلك الأمر بل ويعتبروه تلفيقه تورط فيها الدكتور كامل، ولهذا كان لابد من السفر ثانية إلى تونس بالإثبات وباليقين وحتى يتم وضع النقاط على الحروف، رحب الأخ أبو الهول بالفكرة وبعد أسبوع كنت في تونس وكان معي عدة أعداد من صحيفة " الأزفستيا " السوفييتية وفي تمام الساعة الخامسة بعد العصر وصلت مع الأخ أبو الهول إلى منزل الأخ " أبو مروان " حكم بلعاوي ، كان الرئيس يجلس على أريكة في الصالة الكبيرة وبين يديه صحن صغير " من الايسكريم " وملعقة صغيرة وعند اقترابنا منه وضع الصحن والملعقة على المنضدة الصغيرة التي أمامه ونهض لمصافحتنا ومن ثم أجلسني بجواره، فتحت حقيبتي " السامسونايت " وأخرجت منها المتوفر من أعداد الصحيفة ، وبعد أن شاهد كل شيء بأم عينه وأطمأن على الصفات التمثيلية لتوقيعه قال لي: لماذا لم يكتفوا فقط بلقب رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية؟ فأجبته على الفور بأن ذكر الصفة التمثيلية الثانية وهي " القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية " تحسم لغطاً كثيراً كنا نعاني منه على امتداد العامين الأخيرين فأنت الآن ومن وجهة نظر السوفييت القائد العام لجميع الفصائل المسلحة العاملة في نطاق وإطار الثورة الفلسطينية قال: هذا ما كنت أرغب بالاستعلام عنه تفسيرك يتطابق مع ما فكرت به بصدد هذه المسألة ، بعد ذلك أخرجت من الحقيبة شهادة دكتوراه الدولة التي تخصني وإذا به وبحركة مفاجئة وبعد أن قرأ النصوص الإنجليزية الواردة في الشهادة يمسك بقلمه الأحمر ويكتب بخط يده على ظهر الشهادة وفي الأماكن المخصصة للتصديقات عبارة مبروك لأجل فلسطين 6/12/1985م ويوقع عليها بطريقته المعهودة والشهيرة ياسر عرفات .عندها ضحك الأخ أبو الهول وقال: " خربت الشهادة يا دكتور أخوك أبو عمار وقع عليها وكأنها شيك للصرف يعني هيك أممك لحسابه الخاص ولن تستطيع بعد اليوم استخدامها للعمل الأكاديمي في أية جامعة "، وأثناء حوارنا المازح وبينما كانت الساعة تقترب من السادسة مساءاً بدأ أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح بالتوافد الأخوة أبو إياد وأبو اللطف ومن ثم أبو جهاد وأبو مازن والأخوين أبو ماهر وأبو السعيد خالد الحسن ، للوهلة الأولى اعتقدت بأنهم يتوافدون ربما استعداداً لعقد جلسة خاصة باللجنة المركزية للحركة ومن خلال الحديث فهمت أنهم يتجمعون للذهاب إلى حفل خاص " رسبشن " بمناسبة وطنية تخص السفارة العراقية ، وبعد برهة من الصمت ناولني الأخ أبو عمار الصحيفة وقال لي : أعطيها للأخ أبو مازن فهو ملم بعض الشيء باللغة الروسية، وبعد أن شاهد الرسالة الخاصة بالرئيس عرفات في صفحة الشؤون الدولية قال: كالعادة لقد كذب علينا رامي الشاعر، استأذنت ونهضت للسماح لي بالمغادرة وإذا بالأخ أبو عمار ينهض هو الآخر من مكانه وهو الأمر الذي دفع الجميع للنهوض معه ودعني بحرارة وقد سلمت على جميع الأخوة أعضاء اللجنة المركزية مودعاً وعند خروجي وكان بجواري يسير الأخ " أبو مروان " حكم بلعاوي قلت له مازحاً : ربما أدفع ثمناً باهظاً لهذه أللفتة التي أقدم عليها الأخ أبو عمار ، كان بامكانه أن يودعني ببعض الكلمات وهو في مكانه وبدون أن ينهض، لقد نهضوا معه وصافحتهم واحداً بعد الأخر وكأنني زعيم لدولة في ضيافتهم، فضحك وقال: يادكتور " اللي معهم حلو يطبخوه مالح أو بالعكس، ولا يهمك وسيبك من هذه الهواجس ... زلمتهم طلع كذاب " ، وبالمناسبة علمت من الأخ هايل " أبو الهول  " بوجود والدتك في دولة الأمارات العربية المتحدة في زيارة عند أحد أخوتك وانك وبعد هذه الغربة المديدة تفكر في السفر إلى هناك لرؤيتها ، أرسل جواز سفرك غداً وحتى نضع لك علية تأشيرة دخول إلى     أبو ظبي صالحة لمدة ثلاثة شهور بالإضافة لتذكرة سفر على خط تونس  أبو ظبي – موسكو ، وحتى تستطيع متى شئت السفر إليها. وللأمانة وعلى الرغم من تزايد عدد الناقمين عليه بسبب ديكتاتوريته إلاّ أنه أي " الأخ حكم " كان يمتاز بالحيوية والنشاط وبروح عملية من الطراز الرفيع هذا بالإضافة لكونه ضمانه موثوقة ومعتمدة من الجانب التونسي والذي كان يصر على حصر كافة التسهيلات الممنوحة للجانب الفلسطيني من خلاله.
لم أمكث طويلاً في تونس هذه المرة وكان حرصي على اختزال المسافات والوقت والزمن يبدو ظاهراً للعيان وحتى أتمكن من توفير واقتناص أسبوعين للبقاء بجوار والدتي الموجودة في أمارة رأس الخيمة، وبذلك أستطيع العودة إلى موسكو من هناك وعبر مطار أبو ظبي الدولي قبل نهاية الشهر ، ولكي أتمكن من تقديم التهاني وبعض الهدايا للأصدقاء بمناسبة عيد رأس السنة الميلادية ، فهم فيه جميعاً ومع جموع الشعب وعن بكرة أبيهم يحتفلون ويفرحون بهذه المناسبة ، فهو عيد قومي جامع تشارك فيه كافة فئات وشعوب الأمة الروسية بالإضافة إلى شعوب الجمهوريات الاشتراكية المنضوية تحت لواء الاتحاد السوفييتي ، فرحت بي والدتي كثيراً وقد مرت الأيام كالساعات من شدة الشوق والحنين، فبعد عشرين عاماً من السجن وغربة المنفى الإجبارية تلتقي بي ، وعدتها بتكرار الزيارة وفي أقرب فرصة، ولكن للعمل ضروراته وأحكامه ، ومن هناك وعبر مطار أبو ظبي ركبت الطائرة عائداً إلى موسكو عاصمة الُدنيا ونصيرة الشعوب والأمم المظلومة وصديقة كل المكافحين من أجل السلام والحرية ، وبينما كانت الطائرة تقترب رويداً رويداً من أرض المطار ، كان صوت الكورس الجماعي يُردد على مسامعنا أغنية البلاد الشهيرة عنواني ليس بيتاً ، وليس شارعاً، عنواني هو الاتحاد السوفييتي ، وباللغة الروسية وبحسب اللفظ اللغوي الدارج في لحن الأُغنية " موي أدرس ني دوم. ني أولتسا، موي أدرس سوفيتسكي سيوز " .  
















الفصل السادس:-
" الرسالة بالقلم الأحمر "

الثلج يتساقط على موسكو في الشوارع وعلى أغصان الأشجار، وفوق أسطح المنازل والعمارات الضخمة وبتواصل عجيب وكأنه أسراب مؤلفة من الفراش الأبيض تتسابق فيما بينها وهي تمهد طريقاً في الفضاء الفسيح استعداداً لنزول "بابا نويل" وأميرة الجميلات القادمة بالبشرى والخير للناس في عامهم الجديد، مؤشرات الأرصاد الجوية وعبر محطات الأثير تتحدث عن طقس بارد وبحدود العشرين درجة مؤية تحت الصفر مساء هذه الليلة وهي ليلة العيد، كنت في تلك اللحظات أتناول طعام الإفطار في قاعة مطعم الفندق وحيداً وبلا أنيس أوجليس ، وإذا "بالشيف الكبير" وهو الموظف المسؤول عن تقديم وجبات الطعام يقترب مني حيث أجلس ويبادرني بالسؤال، أين ستقضى هذه الليلة ... يا صديق؟ قلت له لا علم لي ، ربما عندكم في هذه القاعة وربما في مكان آخر وفي قاعة أخرى وربما أستسلم للنوم بعد الساعة الواحدة وحيداً في غرفتي ، قال: اسمح لي بأن أمازحك وأصارحك القول: بأنك إنسان غريب وغير عادي، فأنت تأكل الكفيار يومياً مع وجبة الإفطار، ومع وجبة العشاء في الكثير من الأحيان، ولم أشاهدك تغازل أو تراقص أو تستضيف أي فتاة من جميلاتنا المحبات للسهر والراحة، أين تذهب بكل هذا المخزون من الطاقة ؟ ابتسمت قبل أن أجيبه وتذكرت على الفور توصيات الأخ الرئيس أبو عمار بالابتعاد الضروري عن مثل هذه الأجواء وحتى تبادر لذهني بأن هذا الشيف يحاول الإيقاع بي لأغراض وأهداف مريبة ، شكرته على هذا الاهتمام وهذه الملاطفة ووضعت في يده عشرة " روبلات" بالإضافة لحساب وجبة الإفطار وهو مبلغ محترم بحسبة ذلك الزمان وانصرفت، بينما كانت عيناه تلاحقني بنظراتها المستهجنة ، وإلى حد أنني بعد ذلك وجدت نفسي أجلس في غرفتي وحيداً أتحسر على أيام الجامعة والدراسة والحرية الشخصية البعيدة عن مشاكل المسؤوليات والمهمات المعقدة، كما تذكرت تلك الفتاة الأمريكية والتي وقعت في غرامي صدفة في ليلة من ليالي أعياد رأس السنة، كان اسمها " إيليزا" وكانت مبعوثة لمدة عام وبغرض وهدف استكمال تحضيرها لأطروحة الدكتوراة التي ستنالها من إحدى جامعات ولاية نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية عن الأدب الروسي "الكلاسيكي" وقد علمت منها فيما بعد بأنها الابنة الوحيدة لأبوين من أغنى أثرياء مدينة نيويورك يمتلكان لوحدهما أكبر شركات انتاج الطاقة الشمسية في الولاية، وأنها زارت "إسرائيل" عديد المرات مع وفود الشبيبة كما عملت متطوعة في "الكيبوتسات" وتعرفت على أعضاء من " حركة السلام الآن" واكتشفت في نهاية المطاف بأن يهود إسرائيل ظلمة وقساة القلوب والضمائر بسبب اضطهادهم الفعلي والحقيقي للشعب الفلسطيني، وأن والدها غير محق بسبب مساعداته السنوية للمنظمات الحكومية والغير حكومية في إسرائيل وبمبالغ تزيد عن المليون دولار في كل عام وبحجة أن اليهود مساكين وهم بحاجة للدعم لترسيخ وجودهم في موطئ القدم القومي الذي انشأوه في بلاد التوراة القديمة ، كنت أحترمها ولا أقوى على ملاطفتها بعيداً عن العواطف والمحبة ، وقد أنهت عامها الدراسي في فترة كنت فيها خارج الاتحاد السوفييتي وانتظرت مع والديها لمدة عشرة أيام وعلى آمل عودتي وحتي يتعرفوا عليّ كما كانت تأمل وتريد وأخيراً تركت عنوانها ورقم هاتفها في نيويورك مع أسرة فلسطينية كانت صديقة لها ولي وعلى آمل أن آخذ الهاتف والعنوان للاتصال بها بعد عودتي وهو مالم يحدت أبداً، حيث قامت العائلة الصديقة بإخفاء الأمر عني وخوفاً من أن يلعب الشيطان برأسي والتحق بها وأنسى مع كثر الرفاهية والمال وطني وديني وقوميتي أي عروبتي وفلسطينيتي ولهذا قرر أصدقائي في العائلة الكريمة اخفاء عنوان وهاتف "إيليزا" عني لأن "فتح وفلسطين" في انتظاري وأمريكا حوت كبير يبلع القيم والأخلاق والمبادئ فالداخل إلى بطنه مفقود والخارج منه موجود، وقليل من تكتب له النجاة والحياة من جديد، بهذه العبارات وبهذه الكلمات كانت الدكتورة سليمة وهي جزائرية الاصل كلما التقي معها ومع زوجها الفلسطيني تستقبلني وتردد على مسامعي .
ولكن مالي ومال هذه الذكريات التي تعبث بي في الساعات الأخيرة من نهاية هذا العام فربما يأتي يوم يلفظ فيه الحوت الأمريكي عندما يتجشأ بعض الضالين والمشردين الفلسطينين من أحشائة فيستظلوا باليقطينة الفلسطينية لتحميهم من أهوال الطقس وأنياب الحشرات المفترسة وإلى أن يلتقطوا أنفاسهم ويشتد عودهم فيرتدوا ثياب الأنبياء ويبيعونا أوهام الدجل الأمريكي على أنغام مارلين مونورو والكابوي وألحان مايكل جاكسون وخزعبلات أبراهام لينكولن عن الحرية والديمقراطية وعبقريات اليهود في اكتشاف الأسواق والبورصات التجارية وبركات الدعاء المكتوب نصاً على ورقة الدولار الأمريكي "فليبارك الرب أمريكا "، عندها يصبح الجاسوس قائداً والديوس إماماً ويتجمع المنافقين من إخوة الشياطين بأنيابهم الحادة لينهشوا الأسد المسن من قفاة تماماً وكما تفعل كلاب وثعالب الغابة مع سيد الوحوش وهو يحتضر ، ولهذا ولذلك لا أتمني للرئيس عرفات هذه النهاية ولا أقبل لنفسي أن أكون شاهداً على قراءة تفاصيل هذه الفجيعة ، فنحن نحتمي بموسكو التي نختلف معها في بعض الأحيان ونخاف من غدر العواصم التي نتفق معها في أحيان أخرى، لقد مر العام ومرت معه عشرات التقارير والدسائس الشيطانية التي كادت تعصف بالعلاقات الفلسطينية السوفييتية وبالفعل وباليقين فإن صراعات الأخوة الأعداء " كانت وستظل أشد هولاً وفتكاً من قتال الأعداء، لقد قال لي أحد الأصدقاء وفي معرض تبريره لبعض المواقف السوفييتية المسيئة للعلاقة مع الرئيس عرفات"، نحن بشر ولسنا بالملائكة ضع نفسك في مكاننا وانظر عندما نتلقى حوالي التسعين تقرير وفي يوم واحد وقد حصل هذا بالفعل وكلها تهاجم وتشوة صورة ومواقف الرئيس عرفات، فلو أخذنا من كل تقرير كلمة واحدة فقط سيصبح عندنا تسعين كلمة ولفظة معادية ضده أو تثير الشك والريبة حول سياساته، ولهذا أعذرونا وتحملونا عندما نخطئ بحقكم أو نشك في موقف ما يخصكم ، ولو لم يتم تدارك الأمر وعبر ابتداعنا المشترك لهذه القناة السرية للتواصل الصادق والأمين فيما بيننا ربما لانتهى كل شيء منذ مدة طويلة000 وحتى نكون أكثر التصاقاً مع حقيقة الوقائع انظر أيها الصديق إلى وضعك أنت، قبل عامين لم يكن وضعك يهم أحداً من هؤلاء، ومنذ عامين ولحتى الآن تحاول ماكيناتهم تشويهك والإساءة إليك ولتاريخك وباعتبارك أصبحت تمثل خطراً عليهم وعلى مصالحهم بسبب وقوفك وانحيازك التام إلى جانب الرئيس عرفات". كانت الساعة تقترب من مساء ليلة العيد وكنت لوحدي في غرفة الفندق لا يقطع حبل أفكاري وسيل الذكريات المتناثرة إلا صوت الهاتف وهو يرن بين الفينة والأخرى لاستقبال المكالمات العادية من الأصدقاء والمهنئين وأحياناً ممن يبحثوا لأنفسهم عن ليلة سهر مجانية على مائدة الحساب المدفوع، نزلت من الفندق وخرجت إلى الشارع لاستنشاق هواء الثلج البارد والابتعاد قليلاً وقدر المستطاع عن هموم وهواجس حياتنا المليئة بالتراكمات السياسية والنفسية المعقدة فنحن وكما يبدو كتب علينا أن نعيش في دوامة من المتناقضات طوال حياتنا ومن المهد إلى اللحد بسبب ظروف المنفى الإجباري والحنين إلى الوطن الضائع والحرية المسلوبة ومسلسل الخيبة والإخفاقات التي تحاصر مشروعنا الوطني تحت ضغط موازين القوى الظالمة وظلم ذوي القربى وصراعات "الإخوة الأعداء" ودجل القادة والسياسيين الكبار عبر تقلباتهم المزاجية شكلاً والخاضعة إلى تأثيرات مواقف ومصالح الآخرين والغير في المحتوى والجوهر، فهل سيكون العام القادم أفضل من سابقه ؟! لا أعتقد ولهذا ستظل مسحة من التشاؤم والحزن تظهر على قسمات وجوهنا ومن خلال ابتساماتنا بالرغم من عوامل الفرح الطارئة التي قد نُصيب منها شيئاً على الصعيد الشخصي في بعض الأحيان وفي بعض الأوقات والمناسبات، وكما يبدو فأننا نحن الفلسطينيون لم نعد نمتلك من عادات وتقاليد هذا العيد غير مخزون الذاكرة والمرتبط بتاريخ وميلاد السيد المسيح عليه السلام، ولهذا ربما جاءت محاولة حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" وعبر انطلاقتها المؤرخة بالساعات الأولى من العام الجديد وكأنها تعيد لهذا العيد اعتباراته المرتبطة بالوجود الفلسطيني المستباح قهراً وبالقوة على أيدي شياطين العصر ،  إنه عيدنا الذي اخترعته عبقرية المكان والزمان الفلسطينية وقدمته هدية منها لشعوب الكرة الأرضية، فنحن أول من أضاء شمعة للعدل والتسامح والحرية والسلام ولن نكون غير ذلك في مواجهاتنا المستمرة ضد قوى القهر والظلام الإسرائيلي المستبد، سأشارك الناس فرحتهم رغم حزني الدفين ولسوف أرسل ليلاً وقبل دخولي لقاعة الاحتفالات المعدة في الفندق وعبر الهاتف ببرقية تهنئة للرئيس عرفات بمناسبة العيدين عيد رأس السنة الميلادية وعيد انطلاقة الثورة الفلسطينية وسأقول له في بدايتها "أن المجد لله في الأعالي وفي الناس المسرة وعلى الأرض السلام " وفي نهايتها مع الخاتمة: كل عام وأنتم بألف خير مع تمنياتي لشعبنا الفلسطيني العظيم بالمزيد من الصبر والصمود حتى النصر بإذن الله .
وأذكر بمناسبة هذه البرقية أن الضابط المناوب وهو أخ عزيز وتربطني به علاقات ثقة متنامية بسبب تلقيه للعشرات من المكالمات السابقة المتعلقة بالعمل قال لي ممازحاً: " مالك يا دكتور 000 يبدو أنك تنصرت ، على العموم هذه البرقية تريد فقط إرسالها للأخ الرئيس ، أم كذلك "للمعلم عندنا " وكان يقصد تحبباً الإشارة للأخ أبو الهول ؟ فقلت له للاثنين معاً. وبعد ذلك وبينما كنت أتهيأ للنزول إلى القاعة أبلغتني موظفة الفندق على الهاتف بأنه يوجد ضيوف في انتظارك ، هبطت مسرعاً نحوهم ، فكانوا جميعاً من كوادر التنظيم الدارسين في جامعات ومعاهد المدينة ، فسألتهم ضاحكاً ما هذه المفاجأة 000 سهرتكم إذن ستكون عندي ومعي ، قالوا بالتأكيد ، فنحن جئنا لنصطاد عصفورين بحجر واحد ، نهنئك بالعيد، وقضاء السهرة معك وعلى حسابك بالتأكيد بسبب الفلس ، وعلى الفور طلبت من "الشيف" المسؤول عن الحجوزات في القاعة أن يجهز طاولة لسبعة أفراد ، سهرنا معاً في تلك الليلة وعلى فرقعات زجاجات الشامبانيا المرفوعة للأعلى بأيدي المحتفلين انتهت الدقيقة الأخيرة من العام المنصرم ، وبدأت الدقيقة الأولى من العام الجديد، بهذه الطريقة وهذه البساطة المتناهية ينسحب الماضي لحساب الحاضر ، ويتم تجاوز العديد من الفواصل والموانع والممنوعات من قبل الناس هنا أملاً في المستقبل ، وحيث يحقق البعض منهم أمنية عن عهد أو وعد طالما انتظره بفارغ الصبر، كما يخرج البعض الآخر ليمسح وجهه بالثلج وينثر ما تبقى منه بين يديه في الفضاء الفسيح، هكذا انتهت السهرة ومعها أيضاً ستنتهي أيام الإجازة وإلى أن تستفيق المدينة ويبدأ الناس نشاطهم المعهود غير عابئين بتساقط الثلج والبرودة المتزايدة ، ومع نهاية شهر يناير اتصل بي الأخ القائم بالأعمال المؤقت ليطلب مشورتي في إمكانية سفره إلى تونس وعلى أمل إنهاء كافة  المشاكل والإشكاليات المتعبة على صعيد العلاقات مع الأصدقاء السوفييت، وللأمانة فقد شجعته على ذلك واعتبرت أن نزوله ربما يساعد وبشكل حاسم في تطبيع علاقاته مع الأخ الرئيس ومع بعض أطراف القيادة من المستائين منه أو المحتجين على سلوكه ومواقفه السياسية والإدارية ، إلا أن الوقائع جاءت بعكس التوقعات وقد هالني ما سمعت وأشعرني بنوع من الألم والحرج حيث التقى الأخ رامي مع الأخ أبو الهول في مقر قيادة الأمن المركزي والمعلومات وبنوع من التحدي والمكابرة عرض موقفه السياسي والإداري وبدون أن يقدم تبريراً واحداً بغرض الإقناع أو أن يبدي نوعاً من الأسف على ما بدر منه من انتقادات ومواقف ألحقت الأذى بالموقف السياسي العام للشرعية الفلسطينية وبالرئيس عرفات بشكل خاص ومن ثم تهديده المباشر والصريح بعرقلة نشاطي والعمل على إبعادي مما أدي إلى توتر الأخ أبو الهول وإصداره أمراً بحجز الأخ رامي الشاعر وإلى أن يعود الرئيس من سفره للبت في الموضوع وقد تدخل الأخ القائد أبو مازن بحكمته المعهودة لتسوية الوضع،   كما اتصل الأخ أبو إياد في حينه من الكويت مساهماً في حل المشكلة عبر ضغطه على الأخ أبو الهول وإقناعه بتسليم الأخ رامي الشاعر لمكتب الأخ أبو مازن استعداداً لتسفيره وقبل مجيء الأخ الرئيس أبو عمار من جولته الخارجية، وهو ما تم بالفعل، وقد وصل الأخ رامي الشاعر غاضباً من القيادة وناقماً عليها ، كما أقسم وأمام أحد الإخوة المسافرين معه على متن الطائرة السوفييتية بأنه سيقضى مضاجعي وسيعمل على زلزلة الأرض من تحت أقدامي ، وأمام هذا التصاعد الغير مُنتظر لعوامل الأزمة بدأت على الفور استعداداتي للسفر إلى تونس لاستبيان حقيقة الموقف والمرور مجدداً على دولة الإمارات العربية المتحدة في طريقي لزيارة والدتي الموجودة عند أخي الأكبر ، وهكذا وبعد أن مكثت مدة أسبوعين في إمارة رأس الخيمة توجهت بالطائرة إلى تونس، التقيت مع الأخ أبو الهول  وفهمت منه حيثيات وتفاصيل المشكلة مع الأخ رامي الشاعر، كما أبلغته بعبارات التهديد والوعيد التي وصلتني، وبأن الأصدقاء السوفييت المحسوبين على خانة التعاون مع الأخ أبو إياد لن يقبلوا منه ترشيح الأخ عضو المجلس الثوري عباس زكي لمنصب السفير والممثل فوق العادة للمنظمة في الاتحاد السوفييتي تمسكاً منهم ببقاء مصالحهم مربوطة مع بقاء الأخ رامي الشاعر كمرشح وحيد لهذا المنصب، كما بدأوا في إثارة شائعات غير مريحة حول علاقاته مع تجار الأسلحة في السوق السوداء وعقده لصفقة أخيرة بحدود مبلغ خمسة عشر مليون دولار، وقد أبلغت هذه المعلومات كذلك للأخ الرئيس عندما التقيته على انفراد في مكتبه مع تأكيدي على أنها: حملة مقصودة واستباقية وبهدف التأثير في الموقف الرسمي الفلسطيني ومنعه من اعتماد ترشيح الأخ عباس زكي، وأذكر أن الأخ أبو عمار وبعد أن قطب حاجبيه وارتسمت على ملامح وجهه علامات الغضب قال لي : الأخ عباس زكي لا يتصرف بأي شيء إلا بعلمي ومعرفتي ، ولكن بلّغ أصدقاءنا بأن لديهم مخابرات فاشلة في عموم المنطقة وفي عدن على وجه التحديد، والمعلومات التي بحوزتي تتحدث عن حرب أهلية وقبلية طاحنة يجري الإعداد لها بين أطراف الحكم في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وربما يحدث ذلك بعد أسبوعين أو ثلاثة على وجه التقريب.
عدت إلى موسكو وبعد يوم على عودتي كان هناك لقاء جماعي مع عدد من الأصدقاء، أبلغوني بآخر التطورات على صعيد الإصلاحات الجارية، في حين قمت بإبلاغهم برسالة الرئيس عرفات الشفوية حول الأوضاع المتوقعة في اليمن الجنوبي واحتمالية نشوب حرب أهلية وقبلية شرسة في عدن وسائر المحافظات الأخرى وفي غضون عدة أسابيع وبسبب الخلافات الطاحنة على الزعامة بين الفريق الموالي للرئيس علي ناصر محمد والفريق الآخر المؤتلف والملتف حول سياسات الرفيق عبد الفتاح إسماعيل، هذا بالإضافة للطموحات الخاصة التي تغلي في صدر الرفيق على عنتر وزير الدفاع والرفيق علي سالم البيض الطامح للقفز نحو سدة الحكم هو الآخر . نظر إلّي أحد الأصدقاء وقال : عرفات لا يكذب وهو محطة أمنية دولية شاملة لديه قدرة عجيبة على اختراق مصادر المعلومات والوصول إلى أدق التفاصيل، سوف نضع رسالته هذه وبالتأكيد على مكتب الرئيس جربتشوف، وإن كنا سلفاً نعلم علم اليقين بأن قسم الشرق الأوسط في المخابرات سينفي صحة هذه المعلومات وسيؤكد على قدرته الفائقة في متابعة وضبط أوضاع الرفاق في قيادة  اليمن الجنوبي، وإذا حدثت هذه المصيبة واندلعت نيران الحرب الأهلية فلسوف يكتوي بنيرانها رئيس القسم الرفيق "بولاد الكسيفتش" شخصياً وباعتباره الصديق الأول والموثوق من قبلهم جميعاً كما يحاول دائماً وأبداًَ تصوير نفسه أمام القيادة السياسية، وبذلك وإذا حدث هذا يكون عرفات قد تسبب بالإطاحة بأهم شخصيتين من الشخصيات التي تعبث بالوضع الداخلي الفلسطيني "الكسندردروجن " سابقاً " وبولاد الكسيفتش " لاحقاً ، وبعد أسبوع على هذا اللقاء كنت في ضيافة قسم الشرق الأوسط في معهد آسيا وأفريقيا التابع لجامعة موسكو الحكومية وهناك التقيت مع الدكتور الطموح الرفيق " فيتالي نعومكن"، كان الرجل منهمكاً في المراجعة الأخيرة لكتابة الجديد الذي قريباً سيصدر وباللغة العربية عن المجتمع الاشتراكي المتطور في جمهورية جنوب اليمن الديمقراطية الشعبية، طلب مني تصفح الكتاب والتعليق أو إبداء الرأي قلت له: يا رفيق، أنت صديق كبير وبحسب علمي للرئيس على ناصر محمد والكتاب بالتأكيد سيكون جيد وممتاز من وجهة نظره ، وهذا ما يهمك بكل تأكيد، ولهذا ولذلك أرجوك أن لا تغضب مني إن قلت لك أنه لا يوجد اشتراكية متطورة أو علمية في عدن، إنك تحاول إسقاط مجموعة من الأفكار الجميلة على واقع قبلي وعشائري لمجتمع متخلف باسم الاشتراكية، وبالتأكيد وكما توقعت لم يعجبه رأيي فهو يستعد لإنجاز وتسويق الكتاب هناك بعد عدة أسابيع، كما لم يكن بمقدوري مفاتحته أو مصارحته بما لدي من معلومات عن الخلافات التي تعصف بالبلاد والتي قد تؤدي إلى اندلاع نيران الحرب الأهلية بين "قبائل البلاد الاشتراكية " ، وأخيراً إندلعت الحرب وبأقصى درجات الحقد والشراسة والهمجية المقيتة تقاتل الأخوة الأعداء ، انقسم الجيش وانقسم الحزب وانقسمت الدولة وتبعثر الشعب بين العشائر والقبائل وانقسم عبر هذه التقسيمات الظالمة مئات الضباط والخبراء العسكريين السوفييت ممن يعملون هناك، فوجدوا أنفسهم مرغمين يتقاتلون فيما بينهم عبر الوحدات المتمردة أو الوحدات الموالية، وقد سقط من بينهم حوالي السبعين ضابط وخبير بالإضافة لعشرات الجرحى ، واضطر "بولاد الكسيفتش" إلى السفر والبقاء ولمدة تزيد على الخمسة أسابيع للمساهمة في إعادة ترتيب بيت السلطة المتداعي في عدن وسائر المحافظات، في حين كانت موسكو وعبر مطاراتها العسكرية تستقبل جثامين أبناءها العائدين من كارثة اليمن الجنوبي على أنغام النشيد الأممي ، وأمام هذه المتغيرات والمستجدات بدأ صوت الأخ الرئيس أبو عمار يعلو عبر مصداقيتة الرزينة على أصوات الآخرين، فبعد تطبيع علاقاته مجدداً مع الاتحاد السوفييتي، فقد نجح أخيراً في بناء ومد رأس جسر للحوار العلني مع الولايات المتحدة الأمريكية وأصبحت لقاءا ته العلنية مع مساعد وزير الخارجية الأمريكي " ريتشارد مورفي" في عمان وقناة الاتصال المفتوحة مع السفير الأمريكي 
"بوليترو الإبن " في تونس تثير النقمة لدى فصائل اليسار وبعض أعضاء اللجنتين المركزية لحركة فتح والتنفيذية لمنظمة التحرير وهي نقمة ليس لها ما يبررها بعيداً عن الاحتكام المعهود " للجمل الثورية" ، وبالمقابل فقد كانت "إسرائيل" تبذل جهداً حثيثاً ومستوراً لترطيب علاقاتها وعبر القنوات الجانبية والسرية مع السلطة السوفييتية الجديدة، فمع بداية فصل الربيع كنت أجلس في "كافيتريا" فندق "الإنتر كونتيننتال" وكان يجلس على مقربة مني رجل وسيم وأنيق في نفس الوقت ويتابع بشغف حركات الديك "الأمريكي" النحاسي اللون وهو يفرد جناحيه ويصيح مع دقات الساعة المبرمجة بحسب توقيت موسكو، قال لي وهو يبتسم إنها فكرة جميلة أليس كذلك ؟ قلت له أجل وتستحق الاهتمام ولكن دعنا نتعارف أولاً من أين أنت ؟ فأجاب بعد تردد من أورشليم 000 وأنت من أين ؟ قلت له من دير البلح ابتسم وقال : يعني أنت فلسطيني من "دير شالوم" وماذا تفعل هنا؟ قلت له : طالب دراسات عليا في جامعة موسكو وأنت؟ قال: " بزنس مان " أي رجل أعمال وقد حضرت إلى هنا بقصد التجارة، وعبر حوار وحديث استمر قرابة الساعة اكتشفت بأن هذا الرجل لا يمكن أن يكون من النوع العادي، ولن يكون كذلك من فصيلة التجار ورجال الأعمال، كان شديد التعصب لحزب الليكود ويرى بأن منظمة التحرير ليست أكثر من مشروع إرهابي سيتسبب في حرق الشرق الأوسط، كنت أستمع إليه بإصغاء شديد وكان يقدم فهماً سياسياً ينم عن حالة من الوعي المؤطر والثقافة الواسعة ، وربما لو قال لي أنه محاضر أو أستاذ جامعي يعمل في جامعة بار إيلان أو الجامعة العبرية مثلاً لصدقته ، ولما تنامي عندي الشك في شخصيته ، إنه فعلاً ليس برجل الأعمال ولا يشبه التجار في شيء، ثم أين هي المشاريع التجارية التي يبحث عنها في موسكو المقيدة بقوانين التزمت والفكر الشيوعي المعادى أصلاً لكل مظاهر العبث الرأسمالي والتجارة الحرة ، ودعته بأدب وانصرفت ، وفى اليوم التالي ومع العصر عدت إلى نفس المكان فوجدته يحتسى فنجاناً من قهوة "الكابتشينو" ويقلب في صفحات جريدة " البرافدا " بلا تمعن، وكأنه يستهلك وقتاً فائضاً قبل حلول ساعة اللقاء المنتظر ، لم أثقل عليه، تبادلت معه بعض عبارات المزاح والمجاملة واعتذرت منه بدعوى أن قدومي اليوم وفى هذه الساعة بهدف أخذ حمام " الساونة " وجلسة المساج المعتادة "، وبينما كنت متجهاً إلى القسم الخاص بهذه الأشياء كان عقلي يحاول استيضاح ملامح الحقيقة عبر باقة من الاحتمالات المنطقية والتي لا يمكن التأكيد على بعضها أو نفي البعض الآخر منها بدون الإجابة الاستباقية والدقيقة من هو هذا الرجل " السوبرمان الإسرائيلي " وماذا يفعل هنا في موسكو ؟
للإجابة على هذا السؤال وبدون الغوص في التفاصيل الافتراضية لابد من الاتصال مع الرفيق " فلاديمير نوسف " أو " سيرجي ديمتروفتش " فهما الأكثر التصاقاًً ومعرفة بهذه الأمور المتعلقة بالنشاطات الإسرائيلية داخل البلاد، التقينا على مائدة العشاء في مطعم فندق السيوز وقد قررت التشاطر عليهم بالحديث عن شائعات تفترض وجود وفد رسمي دبلوماسي وآمني إسرائيلي يجري مباحثات سرية مع جهات حكومية سوفييتية في موسكو ، ضحك الرفيق " ديمتروفتش " وقال: يبدو أنك تستعجل الأمور أكثر من اللازم، الموجود فقط شخصيات من كوادر الخارجية الإسرائيلية المختصين بالعلاقات السوفييتية الإسرائيلية وبأوضاع اليهود الراغبين بالهجرة من البلاد، وقد يكون لديهم خلفيات أمنية سابقة حقاً وبالفعل، ولكي يستطيع الاتحاد السوفييتي من تسجيل حضوره النشط والفاعل على صعيد التسوية المقترحة للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي استجابت حكومتنا لنصائح الضغط الأمريكي في هذا الشأن ، ونحن بصدد انشاء شعبة في وزارة الخارجية السوفييتية لمتابعة شؤون هذه التسوية ورعاية الشؤون الإسرائيلية، والشخصيتان الموجودتان في موسكو بشكل غير رسمي وقد تم الاتفاق عبرهما على التحضير لعقد سلسلة من الاجتماعات السرية للحوار بعد شهر في "هلسنكي"، وبإمكانك إبلاغ الرئيس عرفات بهذه القضية بدون استخدام الهاتف أو ذكر مصدر المعلومات  إذا ما قررت إعلامه في رسالة خاصة ، وبعد أسبوعين من هذا اللقاء وبينما كنت أتابع كافة المؤشرات المتعلقة بهذا الحدث المرشح للظهور العلني في فترة لاحقة علمت بوجود سفيرنا الجديد في رومانيا الأخ فؤاد البيطار في موسكو وفي فندق "الإنتركونتيتال "، ذهبت للسلام عليه فاكتشفت أنه أصبح جاهزاً للسفر إلى تونس ولسوف يتوجه مع حقائبه إلى مطار "شيرميتفا" الدولي بعد ساعة على وجه التقريب، وباعتباره على تماس مباشر مع الأخ الرئيس طلبت منه الاهتمام بموضوع الرسالة التي سأقوم بكتابتها فوراً وإرسالها معه للأخ أبو عمار، ولم أجد في تلك اللحظة في حقيبتي أوراق خاصة بكتابة الرسائل، فقط كان بها ظرف أبيض صغير وقلم أحمر، أحضرت ورقة بيضاء من إدارة  الفندق وكتبت الرسالة بالقلم الأحمر، وقد أبلغته وبنقاط محددة ومختزلة عن كل ما سمعته من الأصدقاء حول النشاط الإسرائيلي السرى باتجاه تطبيع العلاقات مع الاتحاد السوفييتي وكذلك عن لقاء "هلسنكي" المقترح والشعبة التي يجري استكمال ترتيباتها في وزارة الخارجية لمتابعة مسار التسوية ورعاية المصالح الإسرائيلية ، وبعد أن وقعت الرسالة وضعتها في المظروف وبدون إغلاقه احتراماً مني للرجل، استأذن مني بأدب أن يقرأ ما بها إذا كنت لا أمانع ، وقد كان ذلك، ألا إنه أبدى استغرابه واستهجانه من هذه المعلومات وقال لي: إنه على علاقة جيدة بالعديد من المسؤولين السوفييت، وأن أحداً منهم لم يتحدث معه بمثل هذه الأمور الهامة، وقد أبدى نصيحته بأن لا أقوم بإرسال الرسالة للرئيس وحتى لا أتورط معه إذا ثبت عدم صحتها . قلت له شاكراً اهتمامه بي: خذها وسلمها للأخ أبو عمار وتوكل على الله وهو ما تم بالفعل، وحيث أبلغني مكتب الأخ أبو الهول وعبر اتصال هاتفي معي بعد عدة أيام بضرورة النزول إلى تونس لمقابلة الأخ أبو الهول والسيد الرئيس للضرورة. نزلت إلى تونس وفي تونس وكالعادة التقيت أولاً بالأخ أبو الهول في منزله وقد كان مهتماً بالمحاولات الإسرائيلية لتطبيع العلاقات مع الاتحاد السوفييتي ومن ثم قال مازحاً هل تحب أن أذهب معك لمقابلة الأخ الرئيس، فهو متوتر لكونك كتبت إليه الرسالة بالقلم الأحمر، الأخ يعتبر نفسه المفوض الوحيد من الشعب الفلسطيني باستخدام هذا القلم، علماً بأننا عندما وافقنا عليه بأن يكون الناطق الإعلامي والقائد العام لقوات الثورة الفلسطينية كتب أخوك أبو إياد هذا القرار بقلم حبر أزرق وقام بتوزيعه على الصحفيين في عمان، يعني أخونا أبو عمار لديه نرجسية عجيبة تدفعه أحياناً للاستحواز على ألوان الطيف إذا تمكن منها، سأشرح له الأسباب العاجلة والطارئة التي جعلتك تكتب له هذه الرسالة وبهذا اللون، وغداً في تمام الساعة العاشرة تلتقي به لوحدك في مكتب المنظمة عند الأخ حكم بلعاوي . وفي صبحية اليوم التالي وبحسب الموعد التقيت بالأخ الرئيس وبدون مقدمات بادرني مازحاً " إيه يا خويا عاوز تصادر صلاحياتي، أنت مش عارف إنه القلم الأحمر ده بتاعي "، تمالكت نفسي وأنا أبتسم وأخرجت القلم من جيبي وناولته له فرد مستغرباً إيه ده ؟ قلت له : القلم الأحمر الذي كتبت فيه الرسالة لسيادتك . وإذا به يلاطفني قائلاً : خذ دة ، وكان يمد علي قلم أحمر من النوع الجيد وأكتب به ما تريد سواء رضي حكم أو غضب الأخ أبو الهول، رسالتك كانت خطيرة للغاية وكنت أريد الاستماع منك شخصياً عن تقديراتك للأمور المتعلقة بهذا الجانب، فأجبته يا أخ أبو عمار، إطمئن ولا يوجد ما أضيفه عن الذي بعثته إليك في الرسالة سوى شيء واحد وهو أن المعلومات حصلت عليها من الأصدقاء ولم أذكرهم كمصدر في الرسالة بسبب حساسية الموضوع، أما تقديري الحقيقي لما يجري فهو: أن إسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية لن توافق على دور  سوفييتي نشط على صعيد التسوية وفي إطار المؤتمر الدولي المقترح بدون الفوز بورقة الهجرة اليهودية "أي السماح ليهود الاتحاد السوفييتي بالرحيل إلى إسرائيل"، عندها تسيد الصمت والوجوم الجلسة وبعد برهة من الوقت نظر نحوى الأخ أبو عمار قائلاً: أحسنت وهذا هو لب القصيد ، إسرائيل تريد هجرة اليهود إليها من الاتحاد السوفييتي ، ولا بأس أن تستخدم قطار التسوية وفكرة المؤتمر الدولي في تحقيق ما تصبو إليه ، فهي لن تعطينا السلام حتى بالمفاهيم السوفييتية ، فكيف ستعطينا حقوق شعبنا إذن ؟! إنها تبيع الأوهام لتكسب بعض النقاط على صعيد الحقائق، ولهذا ربما أرسل رسالة للقيادة السوفييتية بقصد التنبيه من الوقوع في شراك وحبائل هذه اللعبة الإسرائيلية الخبيثة ، المهم الآن أريدك أن تنتبه وتحرص على نفسك جيداً ، لا تستخف بصغائر الأمور ولا تحاول التقليل من إمكانيات الخصوم ، ضريبة النجاح أحياناً تكون كبيرة وباهظة الثمن، ولقد أصبحت أخاف عليك من محاولات الغدر الخسيسة، ويا ريت عندي العشرات من أمثالك، ويكفيني فخراً فيك أن قسم عريق ومخيف في جهاز "كي جي بي " وهو قسم الشرق الأوسط يقف مذهولاًَ أمام قدراتك، ويحاول الإستغاثة بأنصاره في الساحة الفلسطينية لتشويه صورتك وإقتلاعك من موسكو دون فائدة ، قاطعته بالقول: إنك تشعرني بالخجل يا أخ أبو عمار وإنني ومهما تعاظم نجاحي سأظل الجندي المخلص والمطيع لسيادتكم ومن أجل فلسطين إن شاء الله ، نهض من مكانه وعانقني بحرارة وقال: ياريت يمتد بي العمر حتي أكتب مذكراتي الشخصية والذاتية فقد صار لك فيها جانباً مهماً، ويكفيني فخراً بك أنك ابتلعت السوبرمان الإسرائيلي ولفظته بذكاءك بعد أن اكتشفته واكتشفت حقيقته وبدون أن يدري، اذهب الآن لكي يطمئن الأخ أبو الهول عليك، فهو يحبك ويعتز كثيراً بك، وإن شاء الله ستسمع أخباراً طيبة وكما تريد وأكثر على ضوء الاجتماعات التي سنعقدها مع المجلس الثوري أولاً واللجنة المركزية للحركة فيما بعد، وأعترف أنني خرجت مرتبكاً بعض الشيء، فالرئيس يوصيني بنفسي ويحذرني من غدر الخصوم ويتحدث عن اجتماعات حاسمة للمجلس الثوري واللجنة المركزية لحركة فتح، هذه الألغاز ربما فقط أجد عند الأخ أبو ا لهول التفسير الدقيق لحقيقتها، ولهذا وفي مكتبه وعندما التقيته أبلغته بتفاصيل المقابلة مع الأخ الرئيس وطلبت منه النصيحة والمشورة، فضحك وهو يقول : يا دكتور، الأعمار بيد الله وشخصياً لم أعد أخاف عليك، فأنت بالنسبة لي مثل القط بسبعة أرواح، إذهب الآن ورتب أمورك للسفر وأترك مشاكل المجلس الثوري واللجنة  المركزية لنا ، الأخ أبو عمار وبعد النجاحات الأخيرة التي حققتها على صعيد عملك والمهمات التي تقوم بها أصبح يحس بقيمتك ومدي أهمية الدور الذي تقوم به، وللأمانة فهو دور كبير وخطير من جهة ويثير الإعجاب بك والخوف عليك من جهة أخرى ، فأنت تناطح خصومه في عقر دارهم وتسجل فوزاً بالنقاط عليهم ، انتبه لنفسك جيداً وحاول تبريد وتهدئة الأمور قدر الإمكان، وكما يقول المثل "ضربتين في الراس بيوجعن"، لقد كذبوك وكذبونا في موضوعة المعلومات عن مجزرة حمام الشط قبل حدوثها، وكذبوك وكذبونا حول احتمال اندلاع الحرب الأهلية في اليمن الجنوبي، ومن يخطئ مرتين في حق قيادته السياسية وفي قضايا أمنية ذات وزن استراتيجي خطير وبهذا المستوى، سيفقد توازنه بالتأكيد  وربما يفقد دوره ومكانته الادراية فيما بعد، ولهذا نحن نخاف عليك منهم ونخاف من عبثهم المؤثر والمؤلم على صعيد أوضاعنا الداخلية في نفس الوقت، إنهض ورتب أمورك للسفر وتوكل على الله ، وتذكر دائماً وأبداً، أنه وفي نهاية المطاف لن يصح إلا الصحيح ، وحاول أن تكون على اتصال دائم وفي كل يوم معنا ، فنحن نحب دائماً سماع أخبارك الطيبة والإطمئنان عليك وعلى أوضاعك ومن جميع النواحي.























الفصل السابع:-
"نهاية  المهمة "

اجتمعت اللجنة المركزية "وبقيت دار لقمان على حالها" الخلافات تعصف بالجميع والرئيس أبو عمار يبرز أمام اجتماع المجلس الثوري للحركة برهانه المزلزل والساطع والمتمثل في رسالة رسمية بعث بها الأخ القائد صلاح خلف أبو إياد للقيادة السوفييتية "يحث فيها الأصدقاء السوفييت على استخدام نفوذهم للضغط على الرئيس عرفات وبهدف فرملة اندفاعاته المتساوقة مع السياسات الأمريكية ووضع حد لتفرده المتزايد بالقرارات المصيرية المتعلقة بوجود ومستقبل الشعب الفلسطيني، مع تلميح صريح بأنه بذلك يعبر عن قناعة غالبية الأعضاء في اللجنة المركزية "، غضب الأخ أبو إياد من هذه المفاجأة المذهلة واستشاط به الغيظ حتى تخيلني كالطيف الشيطاني الذي يمر من أمام عينيه أثناء الاجتماع" على حد قوله لي فيما بعد" وقد قرر على الفور استخدام كل ما لديه من وسائل وأساليب مشروعة وغير مشروعة للعمل على حصاري وتدميري والتفكير جدياً وملياً باغتيالي ، فهو يعتقد ومن خلال شياطين اللعبة الاستخباراتية التي وقع فيها: بأن الدكتور كامل وعندما حضر قبل عشرة أيام إلى تونس، أحضر معه نسخة من الرسالة عن طريق أصدقائه من المسؤولين السوفييت، وسلمها للأخ الرئيس أبو عمار، وعملياً: وفيما بعد فقد علمت بقصة الرسالة ومحتوياتها ولم أعلم شيئاً عما يدور في خلد الأخ أبو إياد ، فقط استهجنت واستغربت من مواقفه المتصاعدة ضدي وباعتبار أنه قاد فريقاً من أغلبية اللجنة المركزية للتصويت ضد رغبة الرئيس عرفات ومن يؤيده في موضوعه تعييني سفيراً فوق العادة أو قائماً بالأعمال لمنظمة التحرير الفلسطينية في موسكو، وتحت شعار "الشيطان ولا الدكتور كامل "، وللحقيقة فقد كانت لعبة الشياطين محكمة ومحسوبة من قبلهم جيداً ، وهي ضربة مؤلمة للجميع تمكنو عبرها من تحقيق عدة أهداف انتقامية بشعة ومنها: توتير الأوضاع بين أطراف القيادة الفلسطينية وبين الأخوين أبو عمار وأبو إياد، والانتقام من الأخ أبو إياد بسبب رسالته المحُرجة لهم والتي أرسلها معي للأخ رامي الشاعر، وفسخ أية امكانية لتنامي العلاقة بيني وبينه من جديد، ومن ثم وكذلك دفع الأخ أبو إياد للوقوف الحازم ضدي والعمل على تخليصهم من وجودي المزعج في موسكو، هذا بالإضافة لخلق الموانع والعراقيل اللازمة لمنع الأخ الرئيس من استصدار القرار الذي يرغب في إصداره حول تعييني سفيراً وممثلاً فوق العادة للمنظمة في موسكو، وهم بذلك أيضاً يهيئوا المناخات لبقاء الأخ رامي الشاعر في موقعه. هالني الأمر كثيراً وقد أصبت بنوبة من الذهول والحيرة وبدأت استجمع قواي العقلية والنفسية بقدر المستطاع وحتى أتمكن من مواجهة مسلسل العواصف والأعاصير القادمة نحوي لا محالة، ولكن كيف ومتى وصلت الرسالة للأخ الرئيس أبو عمار؟! ومن الذي أوصلها ؟ وهل كانت القيادة السياسية السوفييتية تعلم بها ؟! لقد تصرف " بولاد الكسيفتش " كالثور الهائج بعد أن اشتد عليه الحصار وهو المدير العام لقسم الشرق الأوسط في المخابرات السوفييتية "كي جي بي" بعد أن كادت الاخفاقات والخيبات الاستراتيجية توشك على خنقه ، وربما يحاول أن يفتح علاقة جديدة من التعاون مع الرئيس عرفات على حسابي وعلى حساب مجموعات الأصدقاء السوفييت المتعاونين معي ومع الأخ الرئيس إلى أبعد الحدود، الهواجس والظنون تكاد أن تفتك بهدوئي المعتاد000 ولدي احساس بأنني أصبحت طريداً لأنياب الوحوش المفترسة، ولن يتم حل هذا اللغز بالمصارحات والمكاشفات والبساطة المعهودة فهو لغز معقد وينم عن خبث ودهاء استخباراتي شديد الوطأة والتأثير، إنه يتشابه حقاً مع السم الزعاف عندما تنفثه حية الكوبرا اللعينة من فمها باتجاه الاعداء والطرائد، وبضمن هذه الاحتمالات والأبعاد والمناورات سيكون من الصعب على الأخ الرئيس القائد العام أبو عمار كشف المصدر الذي سلمه رسالة الأخ القائد صلاح خلف أبو إياد، وأخشى ما أخشاه أن يكون الأخ الرئيس أبو عمار وقع هو الآخر في مصيدة وشراك لعبة الشياطين ، فليس من السهل والمعقول أن يقدموا إليه عنفوان ومصداقية صديقه اللدود ورفيق دربه المخلص على طبق من ذهب المؤامرة ، لقد دسوا بدهاء السم في عسل الاغراء المثير وقدموه للأخ الرئيس، فهم لا يجرؤا على كشف نواياهم الشريرة كما أنهم يحسبوا ألف حساب لاحتمالات المواجهة مع الأخ أبو إياد ، إنهم فقط يخدعوه ويضللوه بدهاء منقطع النظير، وحتى يقف معهم وينوب عنهم في العمل للخلاص مني من جهة ولتكريس مصالحهم عبر بقاء رامي الشاعر في موقعه من جهة أخرى، وحده الأخ أبو عمار وفي الزمان والتوقيت المناسب يستطيع البوح بسر هذا اللغز وإطفاء غليل ونيران الغضب المتصاعد يوماً بعد يوم في صدر الأخ أبو إياد، وبينما كنت أعيش في حيرة من هذه الهواجس اتصل بي سكرتير مجلس الطلبة الأجانب في مدينة فارونج "الرفيق كزبك" وبدعوى اشتياقه لي وبمناسبة وجوده في موسكو، اقترح عليّ استضافته في الفندق، رحبت به واتفقنا على اللقاء قبل حلول المساء، كنت أعلم أنه من الكوادر الأمنية المخضرمة وعلى علاقة وطيدة مع جماعات قسم الشرق الأوسط في المخابرات ، استقبلته بالترحاب وعبارات الامتنان، وباعتبار أنني كنت في يوم من الأيام وقبل عهد من السنوات تلميذاً من تلاميذ جامعة المدينة التي يعمل فيها، وبدون مقدمات بادرني بالقول: لعلك تعرف حقاً وبالفعل السبب الذي دفعني للاتصال بك000 وأرجو أن تفهمني كصديق وأن لا تغضب مني ، قلت له: لقد فهمتك يا صديق قبل أن تكمل حديثك فأنت قادم بعد سلسلة من الاجتماعات الخاصة بنشاطكم الأمني وهناك من اغتنم فرصة بوجودك، وباعتبار أنك تعرفني تمام المعرفة ، وطلب منك اقناعي ببعض الأمور المطلوبة قبل فوات الأوان، أليس كذلك؟ ضحك وقال: دائماً كنت لا أشك بما لديك من ذكاء ومواهب وقد كانت زوجتي نادية تتنبأ لك بمستقبل كبير في إطار العمل الوطني الفلسطيني ، وهي بالفعل محقة ، ولكن دعنا من هذا : لقد طلبوا مني وبصريح العبارة إبلاغك بضرورة مغادرة موسكو وسائر البلاد السوفييتية، وهذا أفضل من تصاعد الأمور وتفاقم الأزمة، فهم لن يتنازلوا عن رامي الشاعر ولن يقبلوا بوجود المزعج إلى جانبه حتى وإن كنت الممثل الخاص للرئيس عرفات، إنهم جهاز جبار وقوي ولن يتنازلوا عن قناعاتهم ومطالبهم بسهولة ، أقترح عليك أن تتخلص من هذه الورطة وتنجو بجلدك ، قلت له لا بأس ولكن دعنا أولاً أن نتناول وجبة العشاء فأنت هذه الليلة ستكون على سفر وأمامك رحلة شاقة بالقطار ، ومع أنني وكما تعلم لا أحتسي أقداح الفودكا إلا أن للضرورة أحكام ، سأشرب معك الممكن والقليل أيها الأخ والصديق العزيز ، وعلى أمل أن تدرك أن الدخول بلا حسابات إلى أتون المعارك ليس من شيم العقلاء، ولو كانوا أقوياء كما تعتقد لما لجأوا إليك ولغيرك للضغط عليّ ولما استنجدوا بأذنابهم لملاحقتي وتشويه صورتي على الصعيدين السياسي والمعنوي ، موسكو عاصمة للشعوب السوفييتية الحرة والمتآخية وليست ملكاً لهذه الزمرة المتهالكة والتي تلحق الأذى بالسياسات الخارجية للبلاد ، لن أقول لك دعهم " يبلطون البحر" ، وإنما بوداعة الصديق وثقة الإنسان المخلص والمحب لوطنه ، أتمني عليهم أن يتركوني وشأني ، لأن وجودي هنا تحميه الشرعية السياسية للدولة السوفييتية ، ولن أغادر إلا بعد أن تنتهي مهمتي وبقرار واضح وصريح من الرئيس ياسر عرفات ، خرجت معه لوداعه وقد كان الرجل متأثراً للغاية مما يحدث وكانت آخر عبارة يقولها لي أنهم أشرار، وأتمني لك الحماية من الله والفوز عليهم أيها الأخ والصديق الفلسطيني الشريف والمخلص، وبعد أيام على هذا اللقاء المُربك اتصل بي بعض المقربين جداً من بين الأصدقاء السوفييت طالبين لقائي وبشكل عاجل ولإبلاغي بأن لقاء هلسنكي بين الوفدين السوفييتي والإسرائيلي قد نجح في إزالة بعض العقبات والعراقيل، وأن تطبيع العلاقات تدريجياً أصبح بحكم المؤكد ، كما ستقوم السلطات السوفييتية بتخفيف القيود التي تفرضها على نوعيات محددة من المهاجرين اليهود الراغبين بالسفر إلى إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية ، وحول خلافات القيادة الفلسطينية وقصة الرسالة المثيرة للجدل والخلاف بين الأخوين أبو عمار وأبو إياد أكدوا:" بأن الرئيس عرفات وعلى طريقته الخاصة سيقوم بكشف المصدر وحمايته في الوقت المناسب وعند الضرورة " أما فيما يتعلق باللقاء المطلوب والمرتقب بين جربتشوف والرئيس عرفات: فإنه أصبح من الأمور المقررة في الجدول السنوي للقاءات الرئيس السوفييتي المبرمجة مع زعماء العالم والدول الكبرى، وإنهم يتوقعون أن يتم اللقاء في برلين الشرقية عاصمة " جمهورية ألمانيا الديموقراطية" مع نهاية العام وعشية أو بعد الاجتماع الجماعي لزعماء دول حلف وارسو، وقبل اللقاء المنتظر بين الرئيسين السوفييتي والأمريكي في واشنطن، وفي نهاية الحوار واللقاء ، اعتبروا أن العد التنازلي لبقاء رامي الشاعر في موقع السفير والقائم بالأعمال لمنظمة التحرير الفلسطينية في موسكو قد بدأ ، وأن اجتماعاً للقيادات السياسية والأمنية المتابعة والمهتمة بالشأن الفلسطيني توصل وبالغالبية إلى صيغة تقضي بعدم التدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني، وإن استقواء الأطراف الفلسطينية في صراعاتها وخلافاتها الداخلية ضد بعضها البعض بالاتحاد السوفييتي، أصبح جزءاً من الماضي وهو لن يحدث ولن  يتكرر في المستقبل ، كما طلبوا عدم استخدام الهواتف لنقل مثل هذه المعلومات وباعتبار أنها لم تعد وسيلة مأمونة للعديد من الأسباب التي فضلوا عدم ذكرها ، وعليه وعلى ضوء ذلك اتصلت مع مكتب الأخ أبو الهول وأبلغتهم نصاً ولإبلاغ الأخ الرئيس والأخ أبو الهول بأنني للضرورة والأهمية الخاصة سأكون بطرفهم بعد عدة أيام وعلى متن الرحلة الأسبوعية لطائرة "الإيروفولت" السوفييتية . وصلت إلى تونس وكالعادة تم إيصالي مباشرة إلى منزل الأخ أبو الهول وقد أبدى سروره من السياسات السوفييتية الجديدة والترتيبات المتوقعة للقاء الرئيس أبو عمار مع الرئيس السوفييتي ميخائيل سرجفتش جربتشوف في برلين الشرقية . كما استوقفته مسألة امتناع السوفييت عن التدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني والقول : بأن العد التنازلي لوجود الأخ رامي الشاعر في السفارة قد بدأ ، ابتسم وبدت على وجهه علامات الارتياح وقال : ولهذا يا دكتور تصاعدت حملة العصابة ضدك لقد أرسلوا وعبر عملاء لهم ملف طبي مزور للأخ الرئيس أبو عمار يفيد بأنك مجنون وقد خضعت للعلاج ولمدة ستة شهور في مستشفي للأمراض العصبية والنفسية في موسكو ، كما وصل إسمك لقسم "الإنتربول " في وزارة الداخلية التونسية ، وباعتبار أنك ملاحق ومطلوب بتهمة الضلوع في نشاطات إرهابية على الصعيد الدولي. الأخ "حكم أبو مروان" عالج الموضوع مع وزير الداخلية ، وربما يقتضي الأمر مقابلتهم في القسم وحتى يتم إغلاق الملف حسب النظام والأصول المتبعة ، وهو سيرسل معك من يساعدك على إتمام المسألة ، وبعد يومين وعند حضور الأخ أبو عمار من عمان نلتقي به معاً ، ولا داعي للنزول كالعادة في الفنادق فالأوضاع صعبة وتقتضى قدراً كبيراً من الحيطة والحذر، ستظل مع الشباب في المضافة الخاصة بي فهي ممتازة وسوف تعجبك بالتأكيد ، ولن ينقص عليك فيها أي شيء ، قلت له حسناً 000 المضافة أكثر أمناً في هذه المرحلة الصعبة، ولكن متي سيكشف الأخ الرئيس عن المصدر الذي نقل إليه رسالة الأخ أبو إياد وحتى نرتاح جميعاً من هذا العناء المضاعف؟ نحن الآن وبدون استثناء نجد أنفسنا محشورين في عنق الزجاجة، وبالمناسبة وردت في حوارات الأصدقاء السوفييت معي جملة مفيدة يمكن البناء عليها والخروج بتقدير موقف شبه أكيد، لقد قالوا لي وبالحرف الواحد: عرفات سيقوم بكشف المصدر وحمايته في الوقت المناسب وعند الضرورة ، وهذا يعني أن هناك طرف سوفييتي في السفارة السوفييتية قام بتسليم نسخة عن الرسالة للمصدر الفلسطيني الذي نقلها بدوره للأخ الرئيس وقد يكون الطرف السوفييتي مدير محطة المخابرات "كي جي بي " في السفارة أي المعلم الأكبر المسؤول عن" نيكولاي نيكولا يفتش "، وبهذا يمكن حصر المصدر الفلسطيني ومعرفته بحسب كشف المتعاونين الموثوقين عندهم والموجود لديك. ضحك الأخ أبو الهول وقال: يبدو أنك أصبحت مثلي قريب من الحقيقة ، فأجبته ليس المهم يا أخ أبو الهول الاقتراب من الحقيقة، وإنما الأهم والذي تعلمه أنت ويعلمه الأخ الرئيس بأنه يوجد في المحطة شخص مضروب وعلى مستوى كبير وهذه لعبة خطيرة تستهدفك وتستهدف الأخوين أبو عمار وأبو إياد، وإن كان هدفها الظاهر والمكشوف للعيان هو الخلاص مني ومن وجودي في موسكو عن طريق الأخ أبو إياد ومناصريه في الساحة الفلسطينية ، وبعد صمت قليل أضاف معلقاً على وجهة نظري: إنهم بذلك ربما يحاولون فتح علاقة للتعاون مع الأخ أبو عمار على حسابنا وبعيداً عنا ليسهل عليهم تضليله في الكثير من الأمور، على العموم لا تتحدث مع الأخ الرئيس بهذه الأفكار والهواجس ودعني لوحدي أقوم بهذه المهمة، وفي النهاية سأطلب منه كشف المصدر لحماية الأخ أبو إياد في علاقاته المستقبلية معهم وحمايتك من هذه المصيبة، فليس من المعقول وبعد هذا العناء والجهد المضني أن تصبح مطارداً وطريداً للإنتربول الدولي أو مجنوناً يعاني من الأمراض النفسية في مستشفيات موسكو، فالملف الصحي المزور قد يكون التمهيد اللازم لما سيفعلوه بك لاحقاً ، المهم اطمئن ولا داعي للقلق ولن أتركك تغادر ثانية إلى موسكو إلا بعد حل هذا اللغز المثير والخطير، وفقط إياك أن تضعف أو تجبن أمام الأخ أبو إياد وجبروته وتحاول الاتصال به ومعه لشرح موقفك من هذه القضية وحتى لا يغضب منك ومني الأخ أبو عمار ، ويعتبر أننا تصرفنا في الموضوع بدون علمه، وبعد عدة أيام ذهبت مع الأخ أبو الهول للقاء الأخ الرئيس كان يبدو مرتاحاً وقد بادرني بالقول: لا تغضب ولا ترتبك مما يحدث، الأخ أبو إياد عندي وقضية "الانتربول" الملفقة انتهت، فقط أريدك أن تنتبه لنفسك جيداً في المرحلة القادمة من المصائب والمكائد التي يدبروها لك "دول عاوزين يعملوا منك مجنون" إذا شعرت بالخطر أو بعدم قدرة الأصدقاء في موسكو على حمايتك ، أترك البلد فوراً وتوجه إلى طرفنا في تونس ، المهم الآن وعلى ضوء المواقف السوفييتية الجديدة والتي تعتبر أن العبث في الشأن الداخلي الفلسطيني أصبح جزءاً من سياسات الماضي الخاطئة، سأوقع قراراً بعزل الأخ رامي الشاعر من مناصبه في السفارة، وسأترك المجال للأخ "سعيد أبو عمارة" ليدير أوضاعها وحتى يتم الاتفاق على تسمية السفير والممثل الجديد للمنظمة هناك،  والأهم من المهم هو أن يقبل السوفييت بالقرار، لأنهم أبلغونا وبعلم الأخ أبو الهول وعلى لسان الأخ العزيز أبو مازن أنهم لن يقبلوا بعزل رامي  الشاعر وربما يضطروا إلى إنزال العلم الفلسطيني وإغلاق السفارة على ضوء ذلك . فأجبته وبلا تردد مؤكداً على أن الأخ أبو مازن بالفعل نقل لسيادتكم الحقيقة التي سمعها ولكن أصحاب هذا الرأي لن يكون بمقدورهم فعل أي شيء أمام المتغيرات التي تحدث بالبلد ، وقع القرار وتوكل على الله، ابتسم وقال: سأوقع القرار غداً ، وغداً هناك طائرة ألمانية تقلع من تونس في السادسة مساءاً، سنرتب رحلتك عليها وعلى أن تستقل طائرة أخرى من مطار برلين تتجه إلى موسكو بعد منتصف الليل ، وبحسب توقيت موسكو ستكون هناك إنشاء الله في حدود الساعة السابعة صباحاً، ضحك الأخ أبو الهول من كل قلبه وقال للأخ الرئيس"، يعني إنت مرتب كل شيء قبل حضورنا، وكمان عارف مواعيد الطيران على خط برلين الشرقية – موسكو " ، فرد الأخ أبو عمار :" يا هايل يا خويا ، الموضوع كبير وخطير وإللي حيحصل في الثماني والأربعين ساعة القادمة سيحدد مصير ومستقبل علاقاتنا الرسمية مع الاتحاد السوفييتي ، د. كامل لازم يكون هناك في قلب الحدث ويتابعة أولاً بأول ولحظة بلحظة ، نهضت مستأذناً من الأخ أبو عمار والأخ أبو الهول بالخروج وحتى أتمكن من توضيب شؤون السفر ، فقال لي الأخ أبو الهول : غداً صباحاً سأكون في انتظارك في حين ودعني الأخ أبو عمار بالحرارة المعهودة والتمتمات ودعاء الله يحميك 000 الله يحميك ، وفي نفس اليوم وبحدود الساعة السابعة مساءاً كانت أموري جاهزة من جميع النواحي وقد حضر أحد الموظفين العاملين في مكتب المنظمة ومعه جواز السفر والتذكرة الجديدة على خطوط شركة " الانترفلوك " الألمانية الشرقية مع تحيات الأخ " أبو مروان " حكم بلعاوي وتمنياته لي بالتوفيق والنجاح، وفي صباح اليوم التالي حضر مرافقي الأخ أبو الهول واصطحبوني معهم في سيارته الخاصة إلى المكتب، وقد طمأنني هناك بأن الأمور ستسير على ما يرام، كما طلب مني إبلاغه بنتائج قرار الأخ الرئيس المرسل للخارجية السوفييتية وباعتبار أنه سيتم تعميمه وإرساله بعد ذلك بواسطة جهاز اللاسلكي العام للأخ رامي الشاعر ومن يعنيه الأمر بحسب التسلسل والأهمية ، وبعد أن ودعته خرجت لأتصل ببعض الأخوة ولكي يقوموا بانتظاري واستقبالي في مطار "شير ميتفا " الدولي بحدود الساعة السابعة صباحاً وعلى الطائرة الألمانية القادمة من برلين ، وقد كان ذلك ، وصلت الطائرة وفي غضون ساعة تم استكمال كافة الاجراءات الروتينية من قبل موظفي الجوازات والجمارك وتوجهت على الفور مع الإخوة المستقبلين إلى فندق السيوز ومن هناك وفي حدود الساعة التاسعة والنصف صباحاً اتصلت مع الأصدقاء السوفييت وأبلغتهم عن وصولي ونزولي في نفس الفندق، كما طلبت الحديث مع "سرجي ديمتروفتش" وحتى أبلغه برسالة وقرار الأخ الرئيس أبو عمار المرسل إلى وزارة الخارجية بخصوص تنحية الأخ رامي الشاعر، وإذا به يفاجئني بالقول : أنه وقبل خمسة دقائق حضر السيد رامي الشاعر للاحتجاج على قرار الرئيس عرفات وبأمل أن لا نأخذ به أو نعمل بحسب الواردة فيه نصاً ، وقد أبلغناه وهو يتحسر " بأن هذا شأن داخلي فلسطيني لا علاقة لنا به "000 وقد خرج من عندنا وهو في حالة من الوجوم والصدمة والحزن الشديد ، أقترح عليك أن تذهب للسفارة لمتابعة الأوضاع وإذا لزم الأمر اتصل بنا من جديد ، وبعد هذه المكالمة ، طلبت مكالمة عاجلة للحديث مع تونس وقد تركت برقية عاجلة للأخ أبو الهول مع الضابط المناوب حول سير الأمور واتجهت مع الأخوة إلى مكتب المنظمة، كان بعض الموظفين يتحلقون بنوع من الذهول حول الأخ رامي الشاعر وهو يجلس على أريكة، نهض من مكانه وصافحني بالعناق وكانت حبات الدموع العزيزة تتساقط من عينيه وقال لي : لقد خدعوني الأصدقاء السوفييت بك، قالوا لي بأنك تكذب ولا علاقة لهم بك ، وبأنك تخادع الرئيس عرفات عبر علاقات افتراضية ووهمية 000 وأعترف برجولة ، أنك كنت الأكثر صدقاً وإخلاصاً وأمانة من الجميع ، وأن مكانتك عند بعض القيادات السياسية السوفييتية كبيرة وأكبر من منصب السفير والممثل فوق العادة 000 لقد اكتشفت كل هذا بعد فوات الأوان للأسف الشديد00 ما أرجوه منك كأخ وصديق وأنت الوحيد القادر على ذلك، أن تطلب من الأخ الرئيس أبو عمار أن يسمح لي وللعائلة بالبقاء في بيت السفارة لمدة ثلاثة شهور وإلى أن نتدبر أمورنا العائلية، وأعترف أنني شعرت بالحزن والصدمة والتأثر الشديد، وقد استأذنته لاستخدام جهاز اللاسلكي العسكري الموجود في السفارة لإرسال برقية بهذا الخصوص للأخ الرئيس فقال لي : ولماذا تستأذن مني أيها الأخ العزيز؟! لقد انتهى كل شيء بالنسبة لي، وعلى الفور كتبت نص البرقية وعلى النحو التالي:
 من الدكتور كامل – موسكو 
 إلى الأخ الرئيس القائد العام / حفظه الله 
تحية الثورة وبعد ،
يرجى تعليماتكم الأخوية لبقاء الأخ رامي وعائلة العميد المرحوم محمد الشاعر في بيت السفارة ولمدة ستة شهور وإلى أن يتمكنوا من تدبير أمورهم العائلية ، علماً بأن الخارجية السوفييتية وبناء على قرار سيادتكم تعتبر أن الأمر برمته شأن داخلي فلسطيني ولا علاقة لها به. 
مع خالص الشكر والوفاء
أخوكم الدكتور كامل 
وبعد ساعة وقبل أن أغادر مكتب السفارة جاء رد الأخ الرئيس أبو عمار بالموافقة على بقاء العائلة في بيت السفارة ولمدة ستة شهور، بعدها ودعت الأخ رامي وعدت إلى الفندق، ومن هناك اتصلت مع الأخ أبو الهول، وقد أبلغته بتفاصيل كل ما جرى، وقد شكرني من أعماقه على برقيتي للأخ الرئيس، ولبقاء عائلة الشاعر في بيت السفارة كما أبدى استياؤه الشديد من برقية للأخ سعيد أبو عمارة يطلب فيها من الأخ الرئيس بطرد عائلة الشاعر من بيت السفارة وقال: "كنت دائماً أحب فيك شهامتك فأنت يا دكتور ابن ناس ، أصيل وكبير" ، ولكن قل لي هل كان بالفعل الأخ رامي الشاعر يبكي ، فأجبته نعم وقد كدت أن أبكي معه لشدة تأثري فقال: الرجال كالجبال، صلبة وعنيدة ، ولكنها تنهار في لحظة ما وتبكي 000 المهم دير بالك بعد اليوم ومن الآن على نفسك، وبلغ تحياتنا وشكرنا لجميع الأصدقاء ، وفي المساء اتصل أيضاً بعض الأصدقاء السوفييت ليشكروني على موقفي الأخلاقي والمحترم تجاه الأخ رامي وعائلة المرحوم العميد الشاعر وقالوا: أنك بهذه البرقية التي أرسلتها للرئيس عرفات جعلت خصومك يطأطئون رؤوسهم أمامنا خجلاً، لك منا كل الشكر والاحترام وتحياتنا للرئيس عرفات وللرفيق أبو الهول، ومع مرور الوقت في لعبة الأيام والأسابيع والشهور القادمة والمغادرة في قطار الزمان بدأت المتغيرات تظهر على وجه موسكو السوفييتية وهي ترتعش بكبرياء عجيب تحت ضغط الأزمات المتلاحقة، وكأن ماساً كهربائياً تسلل خلسة إلى شرايينها ، احتجاجات المنشقين على نظام السلطة السوفييتية وعبر الندوات العلنية والمترافق مع إحياء عملي وواقعي لهياكل المنظمات والأحزاب القديمة بعد إندثارها والارتفاع الملحوظ في نغمة أجراس الكنائس ، وعودة الروح الوطنية للقوميات وفي عموم جمهوريات الاتحاد السوفييتي الاشتراكية ونزول المراهق الالماني الصغير بطائرته الشراعية فجراً في الساحة الحمراء ليهزأ بكل وسائل الانذار المبكر ومنظومات الدفاع الجوي السوفييتية عبر اختراقه الأمني لحدود وأجواء البلاد، ترك لدي انطباعاً بأن شيئاً ما يدبر للخلاص من أعباء الماضي المتراكمة في تركة الحاضر والجاثمة بكل ثقلها على صدر العهد السوفييتي الجديد عهد "البيروسترويكا والغلاسنست " ، ولكن هذا الخلاص بحد ذاته لا يسير وفق خطة مدروسة وبشكل مبرمج، وإنما يأخذ أشكالاً ضارة من الفوضى والفلتان الاجتماعي والقومي وهو ما يحمل في داخله حقاً وبالفعل نذر الكارثة وبوادر الانهيار، وفي تلك الفترة وبصمت وبدون ضجيج حضر الأخ القائد "أبو جهاد" خليل الوزير إلى موسكو في زيارة رسمية ولعدة أيام، نزل في فندق "سوفيتسكيا" وهو الفندق الذي ينزل به عادة كبار الزوار من قادة حركات التحرر الوطني والأحزاب الشيوعية والفصائل التقدمية، ذهبت للسلام عليه ، وقد طلب أن يلتقي بي على إنفراد مساءاً في مكتب السفارة ، كان الرجل مهموماً ومشغولاً بالرغم من طبيعته الهادئة والرزينه، قدمت له عرضاً مختصراً عن المستجدات والمتغيرات التي تشهدها البلاد، كما أبديت له مخاوفي المبنية على الوقائع لجهة تحسن العلاقات السوفييتية الإسرائيلية واحتمال فتح باب الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي إلى إسرائيل، سألني إذا كنت أحتاج لأي مبالغ مالية أو أي احتياجات أخرى، قلت له شاكراً لا ، فأموري المالية جيدة، ولكنني أستشعر الأخطار في كل لحظة، ولم يعد وجودي في مأمن على الإطلاق، قال بهدوئه المعتاد لقد أحسست بذلك ولهذا تعمدت أن ألتقي بك على انفراد في مكتب السفارة، سأبلغ الأخ أبو عمار والأخ هايل أبو الهول بهذه التطورات وسأضم صوتي لصوتك حول ضرورة خروجك النهائي من موسكو وباعتبار أننا قد كلفناك بمهمات محددة وقد تم انجازها وبنجاح فاق كل التوقعات، ولكن قل لي من الذي أمر سعيد أبو عمارة مسير الأمور في السفارة بالذهاب لحضور مؤتمر الحوار من أجل السلام مع صهاينة ويهود إسرائيل في بودابست؟! قلت له لا علم لي. فقال : يبدو أننا سنصبح وكالة بلا بواب في القريب العاجل ، نحن يا دكتور تعودنا ومن شدة المحن على فقدان أجمل الفرسان وحتى لم يتبقى لنا في خلية النحل الفتحاوية إلاّ القليل، في حين تزايدت الدبابير اللعينة واستشرست وهي تحاول بناء أعشاش لها على حساب وجودنا المهدد بالمؤامرات في كل لحظة ودعت الأخ أبو جهاد واستأذنت منه بالخروج، وفي طريقي أثناء الخروج من مكتب السفارة ، التقيت مع بعض الأخوة والزملاء الأعزاء ، ومعاً توجهنا للنزهة وللذهاب بعد ذلك للعشاء في شقة "البيريلوفا" وهي شقة مفروشة قمت باستئجارها قبل شهرين وبواقع مائة وخمسين روبل في الشهر أي بخمسين دولار ، بحسب مضاربات السوق السوداء في تلك الفترة، وتشاء الصدف وبعد عدة أيام أن أكون في مطار "شيرميتفا" الدولي مع بعض الأخوة وبغرض استقبال أحد الإخوة القادمين من تونس، وكان الأخ نبيل اللحام هو الآخر ينتظر طائرته للسفر إلى مدينة "طشقند" التي يدرس فيها وقد قال لي مازحاً: بعد عدة دقائق سيظهر الرفيق " نيكولاي نيكولايفتش" قادماً من تونس، إنها فرصة جيدة وسأحضر معه للسلام عليك وربما يفرح الأخ أبو إياد مني كثيراً إذا حدث ذلك، وبعد العشرة دقائق على وجه التحديد ظهر نيكولاي نيكولايفتش مع الأخ نبيل اللحام وقد تقدما معاً نحوي ، مد يده ليصافحني وهو يرسم ابتسامة غامضة على شفتيه ، صافحته ولم أترك يده وخاطبته قائلاً : لقد فشلت يا نيكولاي حملتك القذرة ضدي، وكما تلاحظ فإنني أخاطبك هنا في موسكو التي كنت تحاول اقتلاعي بكل الوسائل منها، لقد انتهي رامي الشاعر وستنتهي أنت مع مدير محطتك في سفارة تونس، وسيذهب بولاد ألكسيفتش معكم أيضاً إلى الحضيض، ولسوف أبلغ الأخ أبو عمار والأخ أبو إياد عن لعبتكم القذرة بخصوص الرسالة وبامكانك أن تشتكيني لقيادتك هنا ، فربما يستعيدوا أنفاسهم ويتمكنوا من طردي، تركت يده وقد أدار ظهره غاضباً من هول المفاجأة.في حين أخذ الأخ نبيل اللحام يصيح بي ، لماذا فعلت به ذلك؟  لقد أحرجتني أمامه، ولسوف أبلغ الأخوين أبو عمار وأبو إياد بهذه الحادثة ، وقبل أن يشتكيك هو ويتسبب لك بمصيبة لا تحمد عقباها، وبأمانة الحقيقة فقد أحسست بنشوة من الفرح المعنوي تغمرني، فهذا "البعبع" الذي يعبث على مزاجه وبحسب أهوائه ومصالحه بأوضاعنا الداخلية، كان لا بد من كسر شوكته ووضعه في حجمه الطبيعي ، وأمام أحد المقربين المحسوبين على الأخ أبو إياد بالذات، وعلى ضوء هذه الحادثة ، تطايرت البرقيات الهاتفية إلى مقر القيادة الفلسطينية في تونس وباتجاه مكتب الأخ الرئيس ومكتب الأخ أبو إياد وبعد يومين آخرين رن هاتف غرفتي في فندق السيوز ، وقد طلب الضابط المناوب مني توضيحاً مفصلاً لملابسات الحادث بناء على تعليمات الأخ أبو الهول، فأبلغته بكل التفاصيل وفي اليوم التالي عدت مجدداً للاتصال وكان صوت الأخ أبو الهول المبتسم على الهاتف مريحاً بالنسبة لي ، تحدث معي عن لقاء برلين في ألمانيا الشرقية بين الأخ الرئيس أبو عمار والزعيم السوفييتي ميخائيل سرجفتش جربتشوف ، وطلب مني متابعة انعكاسات هذا اللقاء داخل الاتحاد السوفييتي كما أوصاني "مازحاً " بعدم إثارة المشاكل كتلك المشكلة التي حدثت في المطار مع الرفيق "نيكولاي نيكولايفتش" ، وبعد مضي عدة اسابيع على هذه الحادثة شعرت بتزايد ملحوظ في وتائر التهديدات الأمنية المبطنة، هاتفي في شقة "البيريلوفا" مراقب وكذلك هاتفي الموجود بشقتي الصغيرة بالسكن الجامعي وفي غرفة الفندق هناك من يتابع خروجي ودخولي ، وقد اشتكيت الأمر للأصدقاء السوفييت ، فأكدوا هم أيضاً وجود هذه المراقبات وأنهم لا يستطيعوا منعها أو الاحتجاج عليها طالما أنها تبقى مبررة في إطار العمل الروتيني للأجهزة الأمنية ، إلا أنهم لن يسمحوا لأحد ولأي كان المساس بي وباعتباري ضيفاً عليهم طوال سنوات المهمة التي أقوم بها مع الرئيس عرفات، اعتبرت هذه التوضيحات كافية من الناحية المنطقية ولكن عبارة " لن نسمح لأي كان المساس بي" جعلتني أكثر يقيناً من قبل بأن هناك من يفكر بالانتقام مني غدراً بعد انهيار شبكات المصالح الامبراطورية الخاصة بالقيادات الأمنية في قسم الشرق الأوسط، وبدون إبطاء أو تأخير أرسلت برقية للأخ الرئيس أبو عمار أستأذنه بالمغادرة فجاء الرد بالتأكيد على البقاء وحتى إشعار آخر، وعلى امتداد الشهر ونصف الشهر أرسلت برقيات على عنوان الأخ الرئيس ولم يتغير الرد ولو بحرف واحد عن الردود السابقة ، وهو ضرورة  البقاء في الموقع وحتى إشعار آخر، كان الأخ الرئيس يتحين الفرصة المناسبة لتمرير قرار تعيني وبشكل رسمي في منصب السفير والممثل فوق العادة فهو لا يحب لأحد أن يكسر توجيهاته وقراراته ، فالموضوع أصبح بالنسبة له موضوع تحدي وكرامة خاصة بمكانته القيادية والرئاسية، وبالنسبة لي إحساس بالخطر الداهم والملاحقات الأمنية الدنيئة والموت الذي يتربص بي غدراً من حيث لا أحتسب، ولهذا فلقد قررت المغادرة والنزول إلى تونس وبدون إعلام أحد من الأصدقاء في موسكو ، وهكذا كان، وصلت إلى مطار " تونس قرطاج" الدولي وبدون أن يكون لي اسم على كشف القادمين وقد تدخل على الفور ضابط الارتباط التونسي المسؤول عن الجانب الفلسطيني وهو العقيد "النوري بوشهالة" وباعتبار أنني اعرفه بسبب كثرة لقاءاتنا في مكتب الأخ الرئيس، قام بتوضيب أمور الدخول وبسرعة فائقة قائلاً للموظفين التوانسة: بأنني مستشار وممثل للأخ الرئيس أبو عمار في الاتحاد السوفييتي ولقد حضرت بشكل مفاجئ لأسباب طارئة ومهمة، وبعد ذلك توجهت إلى مضافة الأخ أبو الهول وأنزلت حقائبي وبسرعة وبنفس السيارة اتجهت إلى مكتب المنظمة وحيث كان الأخ أبو عمار يترأس اجتماعاً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ولقد تفاجأ الأخ "أبو مروان " حكم بلعاوي من حضوري المفاجئ وبعد أن سلم عليّ صاح بي غاضباً ومحتجاً لماذا جئت ؟ لقد أرسل لك الأخ الرئيس سبعة برقيات متلاحقة وبعلمي يطلب فيها منك البقاء في موسكو وحتى إشعار آخر ، غضبت من حديث الأخ أبو مروان حكم بلعاوي وأخرجت ورقة بيضاء من حقيبتي السمسونايت وكتبت عليها رسالة استقالة للأخ أبو عمار على النحو التالي:
الأخ الرئيس القائد العام / حفظه الله 
تحية الثورة وبعد :
وصلت قبل ساعة ونصف إلى تونس ونزلت في مضافة الأخ أبو الهول ، علماً بأنني أقدم لسيادتكم استقالتي التامة والخالصة من حركة فتح والثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأتبرأ من انتمائي للأمتين العربية والإسلامية  ولكي يرتاح الأخ حكم بلعاوي "أبو مروان " من مشاكلي .
مع فائق الاحترام والتقدير
 أخوكم الدكتور كامل 
وعدت فوراً لطرف الأخ أبو الهول وقد أبلغته تفصيلياً بكل شيء ومن ثم ذهبت للاستراحة في المضافة وفي حدود الساعة الثانية بعد الظهر، اتصل بي الأخ أبو العبد العكلوك مبدياً احتجاجه الشديد بسبب رسالة الاستقالة العنيفة التي أرسلتها للأخ الرئيس وقال: أن الرئيس طلب منه وبالنص تعليقاً على الرسالة / للعمل على تهدئة الأخ الدكتور كامل ومعرفة أسباب غضبه وإعلامي بانتظاره لي  مساءاً في حدود الساعة السادسة والنصف في مكتبه ، شرحت للأخ أبو العبد الأسباب التي أدت لثورة الغضب التي اجتاحتني فضحك وقال: أولاً الأخ حكم صاحبك ، وقد فهمته أنت بطريقة خاطئة ، وباعتبار أنك تمردت على توجيهات برقيات الأخ الرئيس المرسلة إليك ، وقد شرح بوجودي للأخ أبو عمار موقفه وهو يعتز بك وبجهودك الجبارة على العموم الرئيس ينتظرك في الموعد المحدد، وبعد أن تنتهي من مقابلته اتصل بي للاطمئنان، وقبل أن أذهب للموعد وفي تمام الخامسة والنصف ذهبت مع مرافقين الأخ أبو الهول إلى منزله وتحدثت معه بآخر التطورات وسألته لماذا يرسل الرئيس كتاب استقالتي للأخ أبو العبد العكلوك ولم يتصل بكم على وجه التحديد فقال لي وهو يبتسم بحزن، لقد أتعبني وتعبت منه ومنذ عدة أيام لم أتحدث معه،  إنه متعب للغاية يا دكتور يتصرف بدهاء وذكاء أحياناً وفي بعض الأحيان تصيبه لوثة من البلادة والغباء نحن بحاجة إلى ترتيب ولم بيتنا الداخلي وسياسات التفرد والأنانية ستقودنا للهلاك والضياع ، على العموم بعد مقابلتك له سأكون بانتظارك في مكتبي وبعدها سيكون لكل حادثة حديث، انتهي حواري مع الأخ أبو الهول الحزين الغاضب وقد طلب من مرافقيه إيصالي لمكتب الأخ الرئيس،  ومنذ لحظة وصولي أدخلوني عليه بحسب توصيته لمرافقيه وبعد سلامات المجاملة الاعتيادية سألني عاتباً عن سبب حضوري وعدم امتثالي لتعليماته بالبقاء وبحسب نصوص البرقيات المرسلة،  قلت له : لم يعد بالإمكان الصمود وبالبقاء، البلاد بدأت تأكل بعضها بعضاً والأمور تتغير في كل لحظة وفي كل دقيقة،  ومن تسببنا في انهيار مصالحهم ونفوذهم السلطوي والإداري لن يتسامحوا معنا ولن يسامحونا، ولم يعد أمامي إلا حل من اثنين إما الارتباط معهم لحماية نفسي أو الهروب من معركة الانتقام الشخصي التي يحضروا سكاكينها لذبحي، وأنتم الأعلم من غيركم بأن تكويني الأخلاقي والنفسي لا يؤهلني بتاتاً وبالمطلق للقيام بدور العميل أو الجاسوس في خدمتهم، كما أن وضعي الشخصي وعلى ضوء المتغيرات الجارية لن يساعدني على الاحتفاظ بشبكة فاعلة من الأصدقاء قادرة على الحماية المطلقة من الأخطار الداهمة، ولهذا ولذلك قررت المغادرة ، نظر نحوي بعد أن وضع القلم والأوراق التي بين يديه وقال :  أنت محق مئة بالمئة وقد كنت أريدك أن تصمد أكثر وحتى أتمكن من تمرير قرار تعينك قلت له: كنت أدرك ذلك وأدرك أن المسألة ستطول وعلى ضوء توازنات خلافات وضعنا الداخلي، وحتي يتم لسيادتكم ذلك ، ربما أكون في عداد الشهداء، قال: لقد أبلغني الأخ أبو جهاد بخطورة المسألة ونبهني لهذا الأمر، قلت له : إذن يا أخ أبو عمار بالنسبة لي وبدون إحراجات اعتبرني ورقة رابحة في صراع المساومات ، قال كيف وماذا سيقال عني ... أنني تخليت عنك وأنني عديم الوفاء، فأجبته بعقلانية هادئة، لقد قالوا الكثير وربما سيقولوا الأكثر بعد ذلك المهم أن تفرض معادلتك في نهاية ا لمطاف وبعيداً عن حقوق الأفراد والأشخاص سواء كانت مشروعة أو كانت محقة ، لقد قالوا لك: عين من تريد سفيراً في موسكو باستثناء الدكتور كامل، ولديك الكثير من الأرقام التي يمكن تعيينها، أرجو أن تقبل بهذه المساومة دفاعاً عن المصلحة العامة فهم أول من سيندم عبر النتائج على هذه المواقف الظالمة والمتشنجة، وبحساباتي الفلكية فإن نهاية الاتحاد السوفييتي العظيم وللأسف اقتربت وقد بدأت القدور تغلي وستشاهد بأم عينيك كيف تتبخر الانظمة والكيانات السياسية وتنتهي من خارطة الزمان والمكان وكأن شيئاً لم يكن ، وأنني وكما تعلم أحب الاتحاد السوفييتي ولا أحب له هذه النهاية المنتظرة، فنحن أول المتضررين من اختفاء منظومة الدول الاشتراكية على الصعيد الاستراتيجي 000 أنهم وكما فهمت بحاجة ماسة لمئة مليار دولار لإنقاذ أوضاعهم من الغرق وهو مبلغ صغير بالنسبة للأمة العربية وعرب النفط في الخليج، ولكن من يدفع لهم هذا المبلغ؟ وهو مبلغ زهيد في مقابل ما ستأخذه الولايات المتحدة الامريكية إبتزازاً من أموال النفط العربي والخليجي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي واختلال منظومة توازن الرعب الاستراتيجي السائدة بحكم الواقع في عالمنا المعاصر  ، نظر إليّ مجدداً وقال : إنك تشدني وتأسرني بأقوالك يا دكتور، سأبذل قصارى جهدي مع الكيانات الخليجية وبعلم الأصدقاء في القيادة السوفيتية لتأمين المبلغ، وفيما يخص السفارة فسوف أعمل بنصيحتك ، وبالنسبة لك فأنت تبقى معي وبجواري في تونس ولن ينقص عليك شيء إنشاء الله ما دمت حياً ، ودعته واستأذنت منه بالخروج وفي ساعة متأخرة من المساء أبلغت الأخ أبو الهول بما دار من حديث بيني وبين الأخ الرئيس، فشعرت منه بأنه غير موافق على مسألة تركي للسفارة في موسكو وقد عبر بغضبه الحزين عن ذلك بقوله : ألم أقل لك يا دكتور أن معادلتنا قائمة وبالأساس على الخطأ وعلى قاعدة المثل القائل "ناس بتاكل دجاج وناس بتوقع في السياج" . وبينما كنت في تونس أحاول اقتناص فترة من الراحة بعد عناء السنوات السابقة ويحاول الأخ أبو الهول إقناعي بالعمل معه وإلى جوارة في قيادة الأمن المركزي ولحين حسم موضوع الساحة السوفييتية كان الأخ الرئيس يخطط هو الآخر لإصدار قرار بتعييني مباشرة للعمل في مكتبه، وقد احتج الأخ "أبو مروان" حكم بلعاوي على ذلك وبدعم مباشر من الأخ أبو الهول وكانت حجتهما منطقية وبليغة وإلى حد أنها أوقفت الأخ الرئيس عن تنفيذ فكرته إذ قالا له : لا يمكن لرجل نظيف ومثالي مثل الدكتور كامل أن يعمل مع فريقك المكون من لاعبي السبعة أوراق ومحترفي اللعب بالبيضة والحجر، سيحاولوا بكل الوسائل التمشكل معه وتشويه مكانته وعمله وإلى أن يسقطوه من عينيك، اتركه يبقى كبيراً في عينيك وهو يعمل معك عن بعد وعن قرب وبدون الارتباط الإداري المباشر مع جماعتك ، في تلك الفترة وبشكل مفاجئ وغير متوقع انفجرت فضيحة الدبلوماسي السوفييتي الكبير العامل في السفارة السوفييتية، فهو جاسوس أمريكي كبير ومدير المحطة الأمنية في المخابرات المشرفة على النشاطات في الشرق الأوسط وعلى الشؤون الفلسطينية وهو ضابط التنسيق المعتمد سوفييتياً للاتصال مع القيادة الفلسطينية ، وقد هرب في زورق أمريكي كان ينتظره بالقرب من ميناء مدينة "سيدي بوسعيد" التونسية ليلة أمس ، بهذه الطريقة وعلى شاكلتها كانت التغطية الإعلامية للصحافة التونسية وعلى صدر صفحاتها الأولى، وعبر التقارير المتطايرة عن الموضوع جاءت بعض الاجتهادات لتتحدث عن علاقة الجاسوس الهارب "بالموساد" الإسرائيلي، وباعتبار أنه يعمل في مجال التنسيق الأمني والسياسي مع القيادات السياسية والأمنية الفلسطينية منذ عهد مديد من السنوات وقبل انتقال مقرات القيادة الفلسطينية إلى تونس، وكما كنت أتوقع اتصل بي الأخ أبو الهول وطلب مني الحضور إلى مكتبه، جلس معي على انفراد كان يضحك وكانت علامات الشماتة بادية على وجهه وبلغة هادئة وبسيطة قال لي: لا تتحدث مع أحد عن الموضوع فكل شيء سيكون محسوب علينا وباعتبار أنك ومنذ عام ونصف قد ابلغتنا بذلك وهذا رأي الأخ الرئيس أبو عمار أيضاً ، الصدمة كبيرة للغاية وهي تصيب قسماً واسعاً من القيادات ، وربما يظل أخوك أبو إياد صامتاً واجماً من هول المفاجئة ولعدة أسابيع، قلت له : ولكنني يا أخ أبو الهول ومنذ أسبوع كنت بمكتب التعبئة والتنظيم وبعد أن اشتكي مني أحد المتشوعين الأشاوس الكبار للأخ أبو ماهر وباعتبار أنني أعمل على تخريب علاقات المنظمة وحركة فتح مع الاتحاد السوفييتي العظيم تفوهت بألفاظ موحية وقريبة من المسألة وعبر حديثي عن نشاطات مشبوهة في الساحة الفلسطينية يقدم أصحابها التقارير لضباط السفارة باسم الصداقة والتضامن والتآخي والله وحده يعلم أين تذهب النسخة الثانية منها إلى أمريكا أو إلى إسرائيل، ضحك وقال : يا دكتور أنا قلت منذ هذه اللحظة وهذا اليوم يعني 000 يا دكتور لم تكن لا مرجلة فيهم ولا شطارة عندما أقدموا على حرق شقتك في موسكو قبل أسبوعين ، إنهم بالفعل يتصرفون بأخلاق عصابات المافيا المبنية على حسابات المصالح الشخصية ولا علاقة لهم بالتراث السياسي والأمني لدولة عظمى يغطي نفوذها جميع أنحاء العالم وقد بلغني أيضاً وبتسريبات صادرة عن "نيكولاي  نيكولايفتش" اعتزامهم الادعاء بوضع اسمك على قائمة "البلاك ليست" ... لمنعك من العودة أو السفر مجدداً للاتحاد السوفييتي ، نحن الآن بدأنا نربط الأمور فيما بينها ونفهم بعمق خطورة الصراع الدائر بين شرفاء  الاتحاد السوفييتي من جهة أخرى وصهاينته من اليهود المتنفذين على صعيد الإدارات المهمة وهو درس قاسي لجميع القيادات الفلسطينية وبدون استثناء وإن كان الأكثر تأثراً بالحدث هم أخوتنا في الدائرة السياسية وبالأمن الموحد وبشكل خاص الأخ العزيز القائد صلاح خلف أبو إياد. اذهب للفسحة والتنزه على شاطئ البحر وفي النهاية لن يصح إلا الصحيح.




















الفصل الثامن:-
" المصالحة في زمن التحدي مع القائد صلاح خلف * أبو إياد* "

كان اليوم الأول كاليوم الأخير في حياة القائد العظيم والشهيد المقيم دائماً وأبداً في القلب والذاكرة، إلتقيته خلسة وبعيداً عن عيون الأخوة الكبار، وعن آذان الوشاة والنمامين الصغار ، قال لي : وبعد أن صافحني بحرارة لعلك تعرف بفراستك لماذا اخترت هذا التوقيت وفي هذا الوقت بالذات موعداً للقاء بيننا، أجبته مازحاً ربما لأن قسوة الظروف الموضوعية التي فرضت علينا هذه الخصومة المديدة والمؤلمة تدفعك يا أخ أبو إياد وأنت القائد الكبير والملهم على تحويطي بسياج من الاحتياطات الأمنية البسيطة شكلاً والعميقة في محتوياتها الغير متوقعة، فلم يخطر ببالي أن يكون الموعد في تمام الساعة الرابعة بعد الظهر ، وقد تفاجأت من منظر الشارع المرشوش بالمياه، وتفاجأت أكثر عندما لم أجد أثراً للسيارات والحراسات أو المرافقين حول المقر ، وحتى ظننت همساً في داخلي بأنك ربما تكون غير موجود ، لولا أن لمحت  الأخ زكريا وهو يطل برأسه من النافذة فاتجهت صوبه سائلاً عنك ، فأبتسم وهو يقول لي : تفضل الأخ أبو إياد ينتظرك في مكتبه .
فرد بصوته الرخيم والابتسامة لا تفارق قسمات وجهه لقد اقتربت كثيراً من الحقيقة ، فلا أحد يا دكتور يتوقع أن نلتقي في هذه الساعات القائظة، كما أن ملائكة وشياطين حركة فتح ومنظمة التحرير تهجع في هذا الوقت بالذات، على العموم هذه المسألة من خصوصيات عمل صاحبك " أبو مروان " حكم بلعاوي ، المهم الحمد لله على سلامتك ، لقد كنت سعيد جداً بكل الإنجازات التي ساهمت في تكريسها وكنت أشعر بالفرح والسعادة وأنت تطيح برؤوس الأشرار ، وتدافع باستماتة وإخلاص منقطع النظير عن قدسية  القرار الوطني الفلسطيني المستقل، وكنت أشعر بالفخر كلما تصلني نداءات الاستغاثة من ضباط جهاز مخابرات الدولة العظمى المخيف وصاحب النفوذ والسطوة الدولية، وعلى آمل أن أخلصهم منك ومن مشاكلك التي دوختهم ، بل وأصبحت تقض مضاجعهم وفي عقر دارهم، وأقسم لك بشرفي إنني كنت خائف عليك كما يخاف الأب على ابنه العزيز، وكنت أهاجمك علناً وفي حضرة بعضهم بأغلظ الألفاظ لمراضاتهم وأتمنى من كل قلبي أن تمرغ أنوفهم في التراب، لأنك فلسطيني مخلص فرضت عليه الأقدار أن يقاتل طابوراً من الشياطين وحيداً ولوحدة ، وباعتبار أن صاحبك الرئيس أبو عمار كان فقط يقدم الدعم ويجني الثمار . وبعد هذه المداخلة المليئة بالعبارات الموحية عاد للمزاح وقال: " شايف وجهك احمر وأختلف لونه عندما ذكرت سيرة حبيبك أبو عمار ..... يعني مش هاين عليك ..... قلبك حنون مثلك مثل صاحبي وصاحبك أبو الهول " ابتسمت ومن ثم قلت له : يا أخ أبو إياد أرجو أن تستوعبني في عواطفي المتناقضة وصدقني أنني أحب الاثنين معاً الأخ أبو عمار والأخ أبو الهول ، ومن خلال حديثك الودود معي فأنني أشعر بالطمأنينة وعزة النفس، فنحن باسمك نفتخر وباسمك نتحدى الكيانات ونهدد الأنظمة ونتمرد على قيود الذل والعبودية، فأنت من صنع فينا وقفة العز وأنت القائل " بأن حياة الإنسان وقفة عز  وشموخ واحدة، فأما يقفها .... أو ينحني للأبد " فهل كنت تعتقد ولو للحظة واحدة أن أعود إليكم مهزوماً ذليلاً تسبقني رايتي البيضاء عبر تقارير المخبرين ؟! ولو حدث هذا ..... لما كان بيننا أصلاً هذا اللقاء ، فأنتم من يصنع التاريخ حقاً ولكننا نحن الأبناء المخلصين من سيكتب فصوله بالحرف والكلمة وبالعرق والجهد والتضحيات الجسيمة.
ولهذا تحملونا عندما نخطئ ولا تعاقبونا عندما نُصيب ولا تتركونا نضيع أو نتوه تحت ضغط حساباتكم في ساحة الاختلافات المؤقتة ، وصدقني وبأمانة ، أننا أصبحنا نخاف منكم عندما تختلفوا ونخاف عليكم عندما تتفقوا ، وفجأة اختفت عن وجهه ملامح الابتسامة ونظر نحوي وكأنه يريد أن ينتزع شيئاً ما بداخلي وقال: أفهم إنكم تخافوا من مشاكلنا عندما نختلف وقد يضيع بسببنا في جريرة ذلك أبناء وإخوة أعزاء يصعب تعويضهم ، ولذلك حاولنا أن نضع خطوطاً حمراء لحدود هذه الخلافات ، وهي حدود قانون المحبة الذي يتحدث عنه الأخ أبو الهول هذه الأيام، ولكن لماذا تخافوا علينا " من وجهة نظرك " عندما نتفق ؟ قلت له لأن شياطين المعادلات الدولية والإقليمية والعربية والمحلية لا يغمض لهم جفن عند اتفاقكم وكأنهم يفقدوا وزناً  ما أو دوراً ما لهم في ساحة العمل الوطني وعلى حساب القضية الوطنية ، وعبر وجودي ومن خلال عملي في نقطة التماس الخطيرة بالاتحاد السوفييتي تكرست عندي هذه القناعة العتيدة.
فرد بالقول: لدي إحساس عميق بأن كافة هذه الأطراف تعمل بدأب ونشاط على تكريس حالة من الخلاف والتشرذم والانحطاط السياسي والتبعية في صفوفنا ، ولهذا نحن ابتدعنا في المقابل لعبة توزيع الأدوار وصناعة الخلافات " الوهمية " في إطار عملية الدفاع الذاتي عن وجودنا المهدد بالمؤامرات والدسائس الخارجية، ولكن أريدك أن تحدثني فقط وبصراحة عن بعض المفاصل التي كانت تثير حفيظتي أحياناً وإلى حد الإعجاب الغاضب منك أو تلك التي كانت تثير حنقي وغيظي وتعاطفي معك في أحيان أخرى . فأنت لست بالمتدين المتزمت وكنت تعيش في مجتمع مُنفتح فلماذا ابتعدت وطوال السنوات الثلاثة الأخيرة عن الخمر والنساء وبقية وسائل الترفية الأخرى وهي في متناول اليد وعلى الأقل بالنسبة لك ؟ قلت له: بسبب تحذيرات الأخ الرئيس أبو عمار لي والذي طلب مني صياماً مديداً عن هذه الأشياء وحتى لا تتم عملية اصطيادي وإسقاطي في لعبة الضغوطات الفضائحية ، فضحك وهو يقول : لقد أبلغونا جماعة " نيكولاي نيكولايفيتش " بأنك قفل بلا مفتاح ويصعب الدخول إليك عبر هذه الأساليب ، ولكن وما هو سر قراءتك اليومية للقرآن الكريم ليلاً وفي الكتاب المقدس " التوراة " نهاراً؟ قلت له: يا أخ أبو إياد لا يوجد في هذه المسألة أسرار ، كنت أشعر بالراحة النفسية العميقة عندما أقرأ القرآن قبل النوم ، وفي النهار كنت أتعلم أساليب الخبث والدهاء والدسائس وكل أنواع الموبقات الأخرى من أساطير التوراة فمن يريد أن يأمن شر قوم تعلم لغتهم .ولم يكن بمقدوري في تلك الفترة تعلم اللغة العبرية ، فقرأت تاريخ اليهود بحسب الأساطير الروحية الواردة في كتابهم المقدس " يعني كان عندي نقص في وسائل الدفاع الذاتي. فالذكاء وحده لا يفي بالغرض بدون الخبث والدهاء"، حسناً هذه فهمتها الآن جيداً ولكنني لم أفهم السبب في هجومك القاسي والعنيف في مطار موسكو وأمام الأخ نبيل اللحام على نيكولاي نيكولايفتش؟! فأجبته ومشاعر الفخر والاعتزاز بالنفس مازالت تتملكني كلما تذكرت تلك الحادثة ، لأنني ببساطة يا أخ أبو إياد  كنت أغازلك وأغيظك عن بعد والمسألة برمتها كانت رسالة مرسلة مني إليك ، فأنت من يحب الفرسان في أوقات المحن والشدائد ، وقد جاءتني الفرصة وعلى طبق من ذهب في تلك اللحظة فعملت على استغلالها وعلى أحسن وجه، فأكمل هو حديثي مقاطعاً: أتدري عندما وصلني سيل من التقارير المحتجة على فعلتك ، بأنني كنت أتمنى التنازل للأخ أبو عمار عن أشياء كثيرة في مقابل أن يعيدك للعمل معي، فنحن نكبر بالكبار ونتعثر بأفعال الأقزام الصغار، لقد هزتني فرحاً شجاعتك في بيروت عندما دافعت بمسدسك عن فتاة القدس وخلصتها في " حرش حمد " من أنياب الدرك وقلت الحمد لله أنها متيمة بشاب فلسطيني قادر على حمايتها، وبالمناسبة كان الأخ العزيز العقيد نعمان معجب بها وإلى حد أنه كاد أن يصرف موازنة طلبة جامعة بيروت العربية لينال رضاها بدون فائدة ، والآن قل لي ماذا تنوي أن تفعل في تونس هل ستعمل مع الأخ أبو عمار ؟ أو مع الأخ أبو الهول ؟ فجاء ردي البديهي والبسيط وبتلقائية عجيبة وكأن قوة روحية خفية بداخل الإنسان تحركه وتحرك لسانه كما تشاء، لن أعمل مع الاثنين وإنما سأعمل مع الله من أجل فلسطين وكفى، انفجرت أساريره بالضحك المتواصل وبعد أن تمالك نفسه قال: لم أكن أتوقع منك هذه الإجابة، وبالمناسبة وحتى لا نضيع  في تفاصيل هذا اللقاء العجيب ، كان الأخ " أبو نضال " أحمد العفيفي على حق  مئة بالمئة ، عندما اقترح سراً علينا هذا اللقاء فله كل الشكر والمحبة ، لأنه تمكن من إقناعك، وله كل الاحترام على ذلك فهو وبالتأكيد وكما تعلم خالف رغبات الأخ أبو الهول في هذه القضية وربما يعرض نفسه لخصومة الأخ أبو عمار أيضاً، قلت له: أنني أعتز بالأخ" أبو نضال " و احترمه وقد جاءني متأثراً بعد علمه بنبأ موافقتكم الجماعية على ترشيح الأخ نبيل عمرو لمنصب السفير والممثل فوق العادة للمنظمة في موسكو وقال لي : لو كنت على تماس مع الأخ أبو إياد لما حدث هذا، فأنت الأحق بعد هذا العناء والكفاح والتعب بهذه المكانة ، وعليك أن تكسر دائرة الأخطاء والخطايا بالمصالحة مع الأخ أبو إياد وحتى تستعيد قدراتك على التوازن من جديد .
كانت الدقائق تمر كالثواني وقد تجاوز الوقت الساعة السابعة والنصف مساءاً، أحس بأنني أتململ للاستئذان بالخروج والمغادرة . قال لي: انتظر لا توجد لدي مواعيد هذا المساء والله يا دكتور أن شعرة منك تساوي كل كتبة هذه التقارير المخزونة في الأضابير التي خلفي وتشاهدها أمامك،فهي تقريباً كلها بخصوص مشكلة موسكو والدكتور كامل ، وفي تلك اللحظة وبشكل مفاجئ دخل علينا الأخ " عاطف بسيسو " وقد كان المساعد الأول والرئيسي للأخ أبو إياد في كافة المهام والنشاطات الأمنية على الساحة الفلسطينية ، نهضت من مكاني لمصافحته فقال له الأخ أبو إياد وهو يضحك ، أتدري يا عاطف من هو الذي تُصافحه الآن ؟؟!  قال: لا ولكني أشتبه في ملامحه فهو وجه مألوف بالنسبة لي فقال له الأخ أبو إياد وبنوع من الاعتزاز: إنه الدكتور كامل فرد عاطف: " مش معقول " كنت أعتقد بأن الدكتور كامل جبل كبير وكبير جداً لكثرة الملاحقات التي تعرض لها والمشاكل التي تصدى لها ، ناهيك عن تدويخه لجهاز المخابرات الخارجية السوفييتي " كي جي بي " في موسكو، ومطالبتهم الدائمة لنا بالمساعدة على الخلاص منه، هذه يا أخ أبو إياد مفاجأة من العيار الثقيل، فرد عليه الأخ أبو إياد بعد أن طلب منه الجلوس، منذ أربع ساعات ونحن نتحاور ولم نختلف في شيء فهو أقرب لي من قربه للأخ أبو عمار ، ولكن الظروف وقسوة العلاقات المفروضة بشروطها أحياناً علينا حالت بيني وبينه ، بعد هذا اليوم سنقاتل البشر " والتتر " دفاعاً عنه فهو أعز ما نملك من بين الأخوة والأصدقاء ، وبعد دقائق أخرى معدودة اكتملت المفاجأة الثانية بوصول وحضور الأخ أمين الهندي، وبنفس الطريقة مازحه الأخ أبو إياد قائلاً: أتدري من هذا الذي يسلم عليك يا أمين ؟ قال له لا ، قال الأخ أبو إياد ، إنه الدكتور كامل ، فرد الأخ أمين مازحاً ، " افتكرت أنه استشهد من زمان لكثرة الملاحقات التي تابعته ، إياك يا أخ أبو إياد تكون قد استدرجته لكي تخطفه وتسلمه للمخابرات الخارجية السوفييتية  فهم يبحثون عنه في كل مكان حتى بعد أن ترك لهم موسكو " فرد الأخ أبو إياد ، الدكتور كامل ضيفي وفي حمايتي وسيكون صاحب بيت كبير عندي إن شاء الله ولن أسمح لأي جهاز من أجهزة العسس بالتهويب نحوه ولا حتى مجرد الاقتراب منه. اقترب الوقت من الساعة التاسعة مساءاً ، نهضت مستأذناً للخروج ، نهض الأخ أبو إياد معي وبعد أن ودعت الأخوين عاطف وأمين وضع يده على كتفي وخرج معي ليودعني خارج باب مكتبه وبدون أن ينسى أن يعرض علي رزمة من النقود الأمريكية تقدر بعدة آلاف من الدولارات قلت له مستغرباً لماذا؟ قال علمت بأنك محتاج لبعض النقود وحتى تتمكن من تدبير أمورك والاستقرار في تونس ، قلت له: لقد كنت صباح هذا اليوم فعلاً بحاجة للمال، ولكني وقبل حضوري لموعدك استلمت كتاباً مرسلاً بالفاكس من الأخ الرئيس المتواجد في بغداد وبه قرار لصرف مبلغ خمسة آلاف دولار ، ضحك وقال: " ومتي سيعوفك هذا الأقرع؟"، بالمناسبة نسيت أن أسألك كم كانت موازنة العمل التي تصرفها شهرياً في معركة موسكو ؟ قلت له ثلاثة آلاف دولار وكان جزء منها يزيد فاتركه لبعض الطلبة المحتاجين ، قال للحديث بقية ، وإن كنت أعتقد بأن موازنة عمل في مثل ظروفك الصعبة كان يجب أن تتجاوز الخمسين ألف دولار ، إنك فعلاً زاهد ولا تعلم أو تدري كيف يسرق اللصوص باسم المهمات أحياناً مئات آلاف الدولارات وبدون فائدة، وعند خروجي النهائي أصر وبطريقة ضاغطة علي أن يتم ايصالي للمكان الذي اريده بسيارته الشخصية ، في حين كنت أبدي تردداً في قبول هذه البادرة الطيبة وعندها سألني لماذا ؟ لقد رفضت أن تأخذ النقود وباعتبار أنه قد وصلك مبلغ من المال والآن ترفض حتى مجرد توصيلك بالسيارة، أنت لست بالحقود ولم أحس بأنك تحمل ضغينة في قلبك بسبب خلافات ومشاكل الماضي ، قلت له بصراحة، لا أريد أن تشي السيارة بأخبار اللقاء والمصالحة التي تمت بيننا قبلي، فأنا من سيخبر الأخوين أبو عمار وأبو الهول بالموضوع بدون زفة السيارة ، ضحك بصوت مرتفع وقال مازحاً: أعرف أنك يا دكتور ذكي جداً ولماح ، ولديك فراسة تفوق الحاسة السادسة الموجودة عند بعض المتفوقين على غيرهم من بني البشر ، ولكنني أكتشفت فيك قدرة عجيبة من الدهاء الاستباقي ، فعلاً كنت أريد للسيارة أن تشيع الخبر وما دمت أنت من سيتولى الأمر فلك هذا ، ولكن سأنتظر منك ابلاغي بالنتائج بعد عدة أيام ، وفي غضون الأربعة وعشرين ساعة التي تلت هذا اللقاء التقيت بالأخ أبو الهول واعلمته بتفاصيل حوار المصالحة مع الأخ أبو إياد ، تغير لونه وبدأت علامات الذهول والغضب تتملكه ، وبلغة عاتبه لا تخلو من المرارة سألني، لماذا فعلت ذلك؟ ومن الذي أقنعك بهذه المصالحة ؟ وماذا سنقول غداً  للأخ أبو عمار عند مجيئه من بغداد ؟ فأجبته محاولاً تهدئته : إنه لا داعي للقلق تجاه موقف الأخ أبو عمار ، وباعتبار أنه طلب مني في أخر لقاء معه  باستغلال وجودي في تونس لتصفية حساباتنا مع كل من أساء لنا ولوضعهم حقاً في حجمهم الطبيعي  بعد هروب الجاسوس السوفييتي الكبير العامل في السفارة ، وقد قلت له حرفياً بأن ذلك ممكن ولكن على أسس وطنية وليس لأسباب وثأرات شخصية ، فرد في حينه وهو مقطب الجبين ، " سميها كما شئت المهم أريدهم أن يدبوا الصوت ويشتكو منك لي ولغيري واحداً بعد الآخر وأنت تعرفهم جميعاً وبدون تسميات " أبتسم الأخ أبو الهول بحزن وبنوع من الريبة سألني ، وما دخل المصالحة مع الأخ أبو إياد بهذه المهمة الجديدة؟ قلت له: حتى يأخذ دورة معك ومع الأخ أبو عمار في حمايتي عند الضرورة ويكفي أنه قال لي : " إن شعرة واحدة في جسدي تساوي كل كتبة التقارير والدجالين الذين حاربوني لحساب بعض الجهات الأجنبية ، وبعد أن ظهرت علامات الطمأنينة عليه قال الأخ أبو الهول : حسناً يا دكتور عليك أولاً أبلاغ وإقناع الأخ أبو عمار بجدوى هذه المصالحة وإعلامي لاحقاً  بالتوجهات وإن كنت غير قادر على التسامح مع هذه المصالحة لأنها تمت بدون علمي ولعلها تكون الخطوة الأولى التي تقدم عليها منذ أربع سنوات دون التشاور المسبق معي ، وبعد يومين وعندما حضر الأخ أبو عمار من السفر التقيت به وقد طلبت منه ألاّ يغضب مني مسبقاً وقبل إعلامه بالأمر ، فقال لي: قل ما تريد وأنت مطمئن لأنني لن أغضب منك ولن أغضب عليك، أنت بالنسبة لي حالة غير قابلة للكسر أو الانكسار،  عندها تشجعت وبطريقة هادئة للغاية أبلغته بلقائي مع الأخ أبو إياد وعن أجواء المصالحة، التي سادت بيننا، لم يبتسم ولم يضحك كما أنه لم يقطب حاجبيه ،  فقط توقف عن قراءة الأوراق التي أمامه ووضع القلم جانباً ونظر نحوي وهو يتحدث بجدية هادئة، ومن قال لك بأننا نعيش حالة حرب مع الأخ أبو إياد؟ نحن يا دكتور أخوة وخلاف الأخوة بالرغم من مرارتة ينتهي دائماً بالتوافق لصالح الأسرة ، أبو إياد بالنسبة لي شقيق وبالنسبة لك أخ كبير وهو في مشروعنا الوطني المشترك قائد فذ نحترمه عندما نختلف معه ونلجأ إلى سطوته وجبروته في أوقات الشدة وعندما نتخاصم مع الآخرين، استأذنت الأخ أبو عمار بالخروج  بعد أن شعرت بارتياح عميق من حديثه معي ، فهو حديث ينم عن روح الزعامة المتأصلة فيه وعن عقلية " براجماتية " قل نظيرها ومن خلال قدرته العجيبة على توظيف التفاصيل والاحداث في إطار مشروعه العام ، وأذكر أنه وبينما كنت أطمئن الأخ أبو الهول على موقف الأخ الرئيس قوله لي مازحاً: "  في المرة القادمة سيحولك إلى ساعي بريد وربما يحملك رسالة ود وغرام للأخ أبو إياد ". وهكذا وبالتدريج ويوماً بعد يوم أخذت لقاءاتي مع الأخ أبو إياد بالتزايد كما أصبح بامكاني التحرك في مساحات أوسع على صعيد مناطق النفوذ، وذات يوم وفي أحد اللقاءات قال لي الأخ أبو إياد: أن الأخ أبو فارس " مرعي عبد الرحمن " وهو من الكوادر الماركسية المحسوبة على اليسار داخل حركة فتح، ويدير إدارة حديثة النشوء في منظمة التحرير باسم مكتب المنظمات الغير حكومية، قد انتهى من تحضيره لكتاب ينوي توزيعه باسم " الامبريالية اليهودية " وباعتبارة نتاج لجهد وبحث أكاديمي باشتراك ومساعدة عدد من برفيسورات وأساتذة معهد الاستشراق في موسكو ، وهو المعهد الذي يسمح للكوادر الحزبية التقدمية والقادة السياسيين وقادة حركات التحرر الوطني بالانتساب إليه علمياً وأكاديمياً لإعداد الأبحاث والدراسات وبهدف وغرض نيل شهادة الماجستير أو الدكتوراه ، وباعتبار خبراتك المحترمة في المجال الأكاديمي ومعرفتك الدقيقة بالتوجهات والنشاطات اليهودية على هذا الصعيد في الاتحاد السوفييتي  ، أريد منك إعداد قراءة موضوعية نقدية والتوصية بنشره وتوزيعه أم لا ؟ مع ذكر الأسباب ، وقد تم ذلك حيث سلمته مسودة القراءة النقدية المكونة من  حوالي عشرة صفحات وبعد أن قرأها بتمعن استوقفته قضية الترويج لدور صهيوني إمبريالي سيوسع في قدراته المستقبلية ومن خلال الشركات المتعددة الجنسيات للسيطرة على العالم وربط مفهوم " الإمبريالية الصهيونية الوهمي " هذا بعجلة الإنتاج الرأسمالي لليهودية العالمية وبالمشروع السياسي للحركة الصهيونية المتجسد في الكيان الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية، ومن خلال التوصيات تم منع نشر وتوزيع الكتاب وباعتبار أنه يروج لدور صهيوني ويهودي مضخم وخطير وعبر مبالغات غير علمية وغير دقيقة ولا تستند إلى الوقائع بل إلى مجموعة من الافتراضات الوهمية والمقصودة بهدف تخويف الشعب الفلسطيني ونشر الاحباط واليأس على صعيد القيادات والكوادر الفلسطينية، وهو الأسلوب الذي يشتهر به تيار أكاديمي من يهود وصهاينة الاتحاد السوفييتي المنتشرين في الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث الاستراتيجية . وبعد أن أبدى الأخ أبو إياد إعجابه الشديد بالقراءة النقدية والتوصيات أمر على الفور بطباعتها وتصويرها ومن ثم توزيعها على أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح والتنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية،  أما نسخة الأخ الرئيس أبو عمار فقد سلمتها له بيدي وقد طلب مني الجلوس لحين الانتهاء من قراءتها ومن ثم أمسك بقلمه الأحمر وبدأ في وضع الخطوط الحمراء تحت بنود التوصيات وقال: هذه جريمة لا يمكن السكوت عليها سنناقش الموضوع هذه الليلة في اجتماع اللجنة المركزية للحركة ولسوف أوصي بعدم نشر وتوزيع الكتاب ومحاسبة من أوصى بعملية التمويل والطباعة، وبالفعل فقد تم وقف نشر وتوزيع الكتاب كما تقلص نفوذ الأخ أبو فارس وتراجع دعم الأخ الرئيس لنشاط وعمل هذه الإدارة، وهو الأمر الذي أثار ارتياحا عميقاً لدى الأخ القائد فاروق القدومي "أبو اللطف" والذي كان يرى في هذه الإدارة نوعاً من المضاربة المعكوسة والضالة عبر تناقضها المدروس والمقصود مع نشاطات الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية، وفي ظل هذه الأجواء المتنامية على قاعدة التطبيع الإيجابي للخلافات بين أقطاب اللجنة المركزية للحركة تم  عقد اجتماع موسع للجنة المركزية في مقر الأمن المركزي أي في ضيافة الأخ أبو الهول وقد تعمد الأخ أبو إياد بالإشادة بالنشاط المبدع والعقلية المتنورة للدكتور كامل وهو الأمر الذي فاجأ عدد من الأعضاء ومن بينهم الأخ أبو اللطف والذي قال: في السابق صورت لنا الدكتور كامل وكأنه الشيطان بعينه والآن تشيد أمامنا به، وبالنسبة لي فأنني احترمه وباعتبار أنه الأكثر تميزاً من بين جميع طلبتنا المبعوثين للدراسة وهو الأوعى وحتى يبدو لي وكأنه الوحيد الذي درس بجد وتفوق من بينهم جميعاً ، فقال أبو إياد : أعتقد إن من حقي كشف بعض الأوراق المتعلقة بنشاطنا الأمني في بعض الأحيان ، وبعد انتهاء مهمة الدكتور كامل في موسكو ، أعلمكم جميعاً بأنه كان يعمل بعلمي وهو من أنشط الكوادر الكبيرة والمتميزة في الأمن الموحد ومُنذ حوالي  الخمسة عشر سنة، أبتسم الأخ أبو عمار وهو يهز رأسه تأييداً لأقوال الأخ أبو إياد، في حين سيطر الوجوم على الأخ أبو اللطف كما بدت علامات الاستهجان والارتباك على الأخ أبو الهول وبعد انتهاء الاجتماع وفي ساعة متأخرة من الليل أرسل الأخ أبو الهول في طلبي لمقابلته فوراً في مكتبه، كانت علامات الحيرة بادية علية وفاتحني بالقول : هل فعلاً أنك كنت تنتمي لجهاز الأمن الموحد منذ حوالي الخمسة عشر سنة  وكنت على اتصال مع الأخ أبو إياد طوال سنوات مشاكل موسكو، أجبته بالنفي وبالقول: بأن هذه معلومات غير صحيحة، فقال هذا ما تم تأكيده من قبل الأخ أبو إياد وتثبيته في محاضر الاجتماع ، يعني كنت أنت وأبو إياد وبعلم الأخ أبو عمار " بتغشوني " قلت له مجدداً أطمئن هذا غير صحيح ولسوف أراجع الأخ أبو إياد وأفهم منه الأسباب التي دفعته للتأكيد على ذلك ، فضحك وقال : المهم أنه أربك الأخ أبو اللطف وبالذات عندما أخذ صاحبك أبو عمار يهز رأسه بالموافقة على أقواله " يعني بصراحة رفع عندي الضغط  والسكري أثناء الاجتماع وقد قررت أن لا أنام حتى أفهم منك الحقيقة " قلت له: الساعة الآن تقترب من الرابعة والنصف فجراً ، أذهب للراحة والنوم وتوكل على الله ، وحتى ولو كنت أعمل معه منذ البداية كما يقول ، فأنني لن أنسى وفاءك ودعمك لي  ما دمت حياً، فأنت من القادة الذين فعلاً وقولاً نعتز بصحبتهم وبالعمل معهم . وبعد مرور عدة أيام على هذه الحادثة اتصل الأخ أبو إياد يطلب رؤيتي فذهبت لمقابلته كانت الابتسامة لا تفارق شفتيه وبزهو القائد الكبير في تواضعه حدثني عما دار في اجتماع اللجنة المركزية بخصوصي وكيف تمكن من حسم المسألة بالتوافق مع الأخ أبو عمار، قلت له: وقد ذهبت أنت لتنام بعدها وتركتني للأخ أبو الهول الذي أقض مضاجعي حتى حدود الساعة الرابعة والنصف فجراً وهو يحاول استيضاح الأمور،  ويتهمني بخداعة طوال السنوات الأربعة الماضية ، وبالكاد حتى تمكنت من التفاهم معه من جديد ، وأخشى أن يكون الشك قد تسرب إلى داخله. قال ما عليك، المهم ارتفع لديه الضغط والسكري لبعض الوقت من شدة المفاجأة وقد تحدث معي في هذه الأمور بعد ذلك ، لقد أرسلت في طلبك لموضوع آخر ، فنحن الآن وفي الشهور القادمة بصدد إنشاء دائرة للعلاقات القومية والدولية في منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة الأخ أبو مازن وسيكون الأخ عباس زكي نائباً له ، وقد تحدثت مع الأخ أبو مازن في هذا الموضوع وطلبت منه أن تكون أنت المدير العام للدائرة، قلت له: موافق إذا كانت هذه رغبتك والمهم أن يكون الأخ أبو مازن قد اقتنع بذلك أيضاً قال: لقد أنهيت الموضوع معه ليلة الأمس ، عليك فقط إحضار قرار خطي من صاحبك أبو عمار بالموافقة ويستحسن أن يكون ذلك غداً أي قبل سفري المرتقب للكويت، فأنا مشتاق للأولاد والعائلة وربما أمكث هناك مدة تزيد عن الأسبوع.
وفي اليوم التالي وقبل الظهر إلتقيت بالأخ الرئيس أبو عمار، وأبلغته باقتراح الأخ أبو إياد وطلبت منه قراراً بالموافقة، نظر إليّ الأخ أبو عمار وبدون أن يخفي علامات الاستغراب والنرفزة وقال: " يا أخويا إنت بتفهم وعقلك كبير ، بس اللىّ أعطوك شهادة الدكتوراة حمير " ، ضحكت بصوت مرتفع فإزداد حدة في صوته وهو يقول وكمان بتضحك، فقلت له يا أخ أبو عمار أنت الأعلم والأدرى برأيي هذا فيهم منذ أمد بعيد، فرد قائلاً " علشان كدة يا خويا مش عاوزك تغضب ولا تزعل مني ، وكمان مش عاوزهم يطلعوني بلا وفاء وخاصة معك أنت بالذات " ، ثم أمسك قلمه وأقسم أن يكتب القرار كله ويوقعه أيضاً بالقلم الأحمر ، وبعد أن انتهى من الكتابة ناولني القرار، وبالفعل كان القرار من أول كلمة وحتى آخر كلمة بالقلم الأحمر مع توقيع رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات. شكرته على هذه اللفتة الأخوية الصادقة وباعتبار أنه ربما ولأول مرة في تاريخه يكتب قراراً بالخط الأحمر. فابتسم وهو يودعني وقال: أعمل إيه 000 "للضرورة أحكام" ولكن حاول أن تعلمني بسير الأمور معك بواسطة الفاكس لأنني مسافر إلى اليمن وسأبقى بعد ذلك عدة أيام في بغداد . وبدون إبطاء تحركت بورقة القرار إلى منزل الأخ أبو إياد فهو الآخر يستعد للسفر، وقد انفرجت أساريره وقال: كتب القرار بالقلم الأحمر" يعني الأخ أبو عمار بيقول مش عاوز حد يزاود عليه في علاقته الخاصة معك " ،غداً في حدود الساعة التاسعة سينتظرك الأخ عباس زكي لاستكمال الإجراءات وبحسب الاتفاق مع الأخ أبو مازن. وهو ما تم بالفعل وحيث وصلت إلى مقر الدائرة الجديدة في صباح اليوم التالي وبحدود الساعة التاسعة إلا ربع ، وعند نزولي من السيارة تفاجأت بالأخ عباس زكي وهو يخرج من الباب ليودع "نيكولاي نيكولايفتش "،  وبعد انصراف المذكور بادرني بالقول: نحن نأسف يا دكتور ولا داعي لتسليمي قرار الأخ أبو عمار بخصوص تعيينك ، لقد تم إبلاغنا بوجود "فيتو دولي " لمنعك من استلام أي منصب حساس في المنظمة، وقد تم تهديدنا بقطع العلاقات الدولية مع الدائرة إذا تم تنفيذ قرارك، تمالكت نفسي من هول المفاجأة وشدة الغيظ الذي أخذ يعصف بصدري وقلت له : فيتو دولي أم فيتو سوفييتي؟! أرجوك توضيح المسألة، فقال إنه سوفييتي بالدرجة الأولى ودولي بالدرجة الثانية ، شكرته على هذه الصراحة الأخوية وسألته في نفس الوقت ما إذا كان بوسعي إثارة الموضوع والتصرف على ضوء ذلك، فقال هذا من حقك وبإمكانك الاحتجاج وإبلاغ المعنيين بالأمر ، ودعته على عجل وتوجهت إلى مقر السفارة السوفييتية في تونس، وهناك طلبت مقابلة السفير لأمر هام، وبعد دقائق خرج مساعد السفير وهو أرمني الأصل ويتحدث العربية بشكل جيد ويُدعى " بالرفيق تجران" وقد سألني ما الأمر؟! فاعتذرت منه بأدب، وعبرت له عن احترامي الشديد لشخصه الكريم ، ومع هذا وبالنظر لحساسية المسألة فإنني لن أتحدث إلا بحضور سعادة السفير شخصياً، امتقع لونه وبدت عليه علامات الحيرة ومن ثم اتجه إلى داخل السفارة ، وبعد عدة دقائق عاد ومعه السفير، وقد جلسنا ثلاثتنا في غرفة صغيرة للغاية سميكة الجدران، وبدون مجاملات تحدث معي باللغة الروسية طالباً توضيح ما أريد، فأجبته متسائلاً وبحده هل هذه سفارة للاتحاد السوفييتي أم مقر لمجلس الأمن الدولي؟! قال: وما هذا السؤال ؟ ولماذا تسأل؟ قلت له : لأنني حصلت على قرار من القيادة الفلسطينية بأن أكون المدير العام لدائرة العلاقات القومية والدولية، وقد تفاجأت بالرفيق نيكولاي نيكولا يفتش " صباح هذا اليوم وفي حدود الساعة الثامنة والنصف وهو يخرج من هناك، وقد تم إبلاغي على ضوء ذلك وعلى لسان الأخ عباس زكي بوجود فيتو سوفييتي يمنع عملي في هذه الدائرة أو في أي مكان حساس داخل دوائر منظمة التحرير الفلسطينية، وأعتقد بأن الرفيق "نيكولاي نيكولا يفتش" لا يمثل نفسه ولا يمثل قسم الشرق الأوسط في المخابرات الخارجية السوفييتية هنا فقط،  وإنما يتحدث باسم سفارة جمهوريات الاتحاد السوفييتي، وهذا ومع الأسف يعبر عن تدخل فظ في الشأن الداخلي الفلسطيني، ولا يليق بالاتحاد السوفييتي الدولة العظمى وصديقة الشعوب المكافحة من أجل السلام والعدل والحرية ،أن يمارس دوراً نقيضاً لمبادئه وسياساته الانسانية وإلى درجة المشاركة النشطة في ملاحقة وإضطهاد المناضلين الفلسطينيين ، وأخشى ما أخشاه أن تكون هذه العملية القذرة تهدف إلى إثارتي ودفعي لإتخاذ مواقف عدائية ضدكم ومن خلال استغلال معرفتي العميقة والمديدة بالنواقص والسلبيات التي تعانون منها في بلادكم ، وحتى أكون واضحاً معكم ، فإنني سأبلغ قيادتي الفلسطينية بذلك، وبشكل أكيد وخاص الرئيس عرفات والأخوة أبو إياد وأبو جهاد وأبو الهول ، استشاط السفير غضباً ألا أنه كان كمن يكتم ثورة من البركان في داخله، وقال: نحن نأسف لهذا الفعل ، ولك حرية التصرف فيما يخص قيادتك، ثم نهض من مكانه وطلب من "الرفيق تجران" وداعي  والاهتمام بالأمر، نهضت وعبرت له عن أسفي بسبب بعض الجمل الانفعالية التي صدرت مني، وقمت بتلطيف الأجواء معه بتقديمي لعبارات التهنئة الحارة بمناسبة ذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية المجيدة والتي تصادفت ذكراها مع هذا اليوم ، وحتى لا أقع في المحظور. توجهت مباشرة إلى مكتب الأخ "أبو مروان حكم بلعاوي " والذي طلب مني وبالنظر لخطورة ما جرى صياغة رسالة ليتم إرسالها فوراً للأخ الرئيس أبو عمار بواسطة الفاكس في بغداد، ومن ثم إبلاغ الأخوين أبو إياد وأبو الهول وكذلك الأخ أبو جهاد، وبعد أن تم ذلك أخذت القضية تتفاعل وبدأت أوساط محددة الدور واللون تطالب بوضع حد لي وبسبب تطاولي " الخطير من وجه نظرهم" على سفير وسفارة الدولة العظمي والصديقة المؤتمنة على حقوق الشعب الفلسطيني، إلا أن موقف الأخ أبو عمار والذي قام وبشكل إيجابي بتعميم رسالتي على أعضاء اللجنتين المركزية والتنفيذية بالإضافة للمواقف الساخطة على ما جرى والمؤيدة لموقفي من قبل الأخوين أبو إياد وأبو الهول والأخ أبو جهاد، لم تترك مجالاً لأحد من صيادي المياه العكرة ولا لعبث العابثين لفعل أي شيء ، وبعد عصر ذلك اليوم تزايدت الانعكاسات الناتجة عن الحدث خاصة بعد اللهجة العنيفة التي قذف بها السفير ومساعديه في وجه الأخ عباس زكي وبحضور الأخ أبو السعيد خالد الحسن عندما ذهبا معاً لينوبا عن القيادة الفلسطينية في حفل استقبال السفارة السوفيتية الذي أقامته بمناسبة ثورة أكتوبر الاشتراكية، وبمنطق الشامت المتشفي ، أشاع الأخ أبو السعيد خالد الحسن الخبر، وتحت عنوان السوفييت يعنفون أمامه أحد حلفاءهم الكبار في الساحة الفلسطينية ، وأمام تفاقم المسألة طلب الأخ أبو الهول حضوري مساءاً لمقابلته في مقر الأمن المركزي ، وعندما ذهبت إلى هناك التقيت فجأة بالأخ عباس زكي وقد كان غاضباً ومحتجاً على فعلتي بالتطاول على السفير والسفارة السوفييتية، كما سبقني بالدخول على الأخ أبو الهول ليشتكي فعلتي أمامه، وبعد عدة دقائق أرسل الأخ أبو الهول في طلبي، كان يجلس وبجواره الحاج إسماعيل ولمتابعة بعض شؤون الساحة اللبنانية كما يبدو، لم يسألني شيئاً عما جرى وباعتبار أنه ملم بتفاصيل الحدث من كل جوانبه ، فقط اكتفى بسؤالي ما إذا كنت قد أغضبت الأخ عباس زكي؟ فأجبته بالنفي ، وباعتبار أن الأخ عباس غاضب مني بسبب تهجمي على السفير والسفارة السوفييتية ووصفي لها بمجلس الأمن الذي يصدر القرارات ويضع الفيتوات الظالمة على المناضلين الفلسطينيين فقال: هو غاضب منك لذلك من جهة وكذلك لأنك تسببت له في بهدلة عنيفة من السفير ومساعديه في حضور الأخ "أبو السعيد" خالد الحسن من جهة أخرى أثناء الاحتفال بعيد ثورة أكتوبر الاشتراكية، ولا أدري من الذي يستحق منكم أن يكون في موقع القيادة ، الذي بهدل سفير الدولة العظمي ، أم الذي تبهدل من السفير ومساعديه في حفل سفارة الدولة العظمي؟! ثم نظر للأخ عباس زكي وطلب منه مصالحتي ، إلا أنه رفض بشدة أن يُلبي طلب الأخ أبو الهول، وبحجة أنني قمت بإبلاغ الأخ أبو عمار والأخوين أبو إياد وأبو جهاد بالموضوع مما أدى إلى توتير علاقته بهم جميعاً. فقال الأخ أبو الهول: افهم يا دكتور إنك أبلغتني وأبلغت الأخوين أبو عمار وأبو إياد ولكن متي أبلغت الأخ أبو جهاد؟ قلت له لقد أبلغ الأخ أبو جهاد ظهر هذا اليوم "فتي الثورة" الشاعر أبو هشام المزين ولست أنا ، وتفاجأ الأخ عباس في حينه برفض الأخ أبو جهاد تحيته والسلام عليه ، ولهذا أعتقد بأنني أبلغته ، ضحك الأخ أبو الهول وقال : مازحاً " يعني يا دكتور صار لك حوالي السنة في تونس ، وقد تمكنت من بناء شبكة أمنية خاصة بك، تحصي علينا حركاتنا وأنفاسنا "، انهض يا أخ عباس وتصالح معه ، فهو على حق وأنت على باطل، ويكفينا فخراً به ، إنه شجاع ومقدام بدليل ما فعله اليوم مع سفير وسفارة الدولة العظمي ، هذا هو رأيي ورأي الأخ أبو جهاد ورأي الأخ أبو السعيد خالد الحسن وكذلك الأمر بالنسبة للأخوين أبو عمار وأبو إياد، وبالمناسبة الأخ أبو إياد طلب مني مهاتفته عند حضورك وبعد لحظات وهو يضغط على أرقام الهاتف تحدث مع الأخ أبو إياد، كما طلب مني أن أكلمه وبعد أن انتهيت من حديثي معه وكان شديد التأثر والغضب أعدت سماعة الهاتف للأخ أبو الهول والذي قال له "أخوك أبو مشعل عباس زكي حابب يحكي معك" ومن ثم ناول الأخ عباس زكي السماعة، إلاّ أن الأخ أبو إياد الثائر الغاضب مما حدث أقفل الخط  من جانبه ، وهنا صاح الأخ عباس زكي" كل هذا بسبب الدكتور ومن تحت رأسه " لقد وتر  علاقتي مع الجميع ، وفي النهاية تصالحت مع أخي عباس زكي بوجود الأخوين أبو الهول والحاج إسماعيل واعتبرت أن الموضوع قد أنتهي عند هذا الحد، إلا أن الأخ أبو ماهر وهو عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومفوض التعبئة والتنظيم وفي اليوم التالي صباحاً وبحضوري اتصل مع الأخ عباس زكي، وتحدث معه بلغة قاسية قائلاً له : أننا نعتز بشبابنا عندما يكبروا بيننا ويتعلموا منا مبادئ ومفاهيم العزة والشجاعة ، ولا ندري كيف سمحت لنفسك سماع كلمات التأنيب من السفير السوفييتي ومساعديه ومن ثم جئت لتضع أمامنا كل الملامة على أخيك الدكتور كامل وهو يستحق كل التحية والاحترام منا جميعاً على شجاعته ، وبسبب تعنيفه المنطقي والاحتجاجي للسفير وموظفي السفارة السوفييتية . 
وللحقيقة والتاريخ فقد كان للموقف الجماعي لكبار اللجنة المركزية لحركة فتح أثره النفسي والبليغ في داخلي فلأول مرة أحسست بإنهم فريقاً من العظماء وأصحاب المبادئ الوطنية الصادقة، وأن غضبي على بعضهم وغضب بعضهم مني بسبب مشاكل وملابسات انحيازي التام في حينه إلى جانب الأخ الرئيس أبو عمار، أصبح جزءاً من الماضي في مساحة الخلافات الداخلية الصعبة وهو الأمر الذي شجعني لاحقاً على العمل في المقر المركزي لمكتب التعبئة والتنظيم في تونس، والمشاركة في النشاطات الخارجية المتعلقة بمتابعة عمل الاقاليم الحركية المنتشرة في كافة الدول والقارات، كما قمت وبتشجيع ودعم مباشر من الأخ القائد أبو ماهر بإعداد العديد من الدراسات التاريخية والمداخلات السياسية في إطار ورشات العمل التي قامت استعداداً للتوافق الوطني على صيغة وثيقة الاستقلال والإعلان الرسمي لقيام الدولة الفلسطينية  المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية، وكإستجابة موضوعيه لتطورات الأوضاع على ضوء التواصل المستمر للانتفاضة الشعبية الباسلة في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة أثر عدوان الرابع من حزيران عام 1967م ، وقد كان للصدمة القاسية المتمثلة في إغتيال وحدة كوماندوز إسرائيلية للقائد الشهيد أبو جهاد في تونس أثره البليغ في النفوس وكذلك على الصعيد المعنوي للقيادات التاريخية، كان "فتي الثورة الشاعر أبو هشام " في ضيافتي ولسبب قرب شقتي من المنزل الذي يسكنه الشهيد أبو جهاد وكان ينتظره وحسب اتفاق مسبق في حدود الثانية عشرة ليلاً ولكي يعرض عليه بعض القصائد القابلة للتلحين والغناء بخصوص الانتفاضة الشعبية المتواصلة وقد يكون آخر من قابله في تلك الليلة ، وحيث عاد من عنده ليحدثني بما جرى وما تم الاتفاق عليه وبعد ذلك وبمرور حوالي الساعة اقتحمت وحدة الاغتيال الإسرائيلية منزل الشهيد لتنفذ بباشعة منقطعة النظير وبروح انتقامية فاشية عملية الاغتيال الجبانة، كانت العملية بحد ذاتها جرس إنذار خطير لبقية القيادات التاريخية، وقد أرسل في طلبي الأخ أبو إياد وكان في بيته في منطقة سيدي بوسعيد ، وبدون مقدمات اقترحت عليه الانتقال إلى قلب العاصمة "فالحذر لا يغني عن القدر" ولكنه أصبح المطلوب الأول بعد اغتيال الشهيد أبو جهاد ، قال لي: لقد نشرت عدة كمائن باتجاه البحر وبحدود حوالي الخمسة والعشرين شاب من كوادرنا الأمينة والمدربة، فأجبته بأن هذا لن يكفي ولا بد من الانتقال نهائياً من المكان ، وهو ما تم فعلاً بعد ذلك وحيث انتقل الأخ أبو إياد من كل المنطقة، وأبلغني بعدها بأنه يعتزم زيارة الاتحاد السوفييتي وللوقوف على آخر التطورات وتحديد مستقبل السياسات خاصة وأنه قد بدأ يحس بالمتغيرات التي تعصف بالدولة والحزب والمؤسسات الإدارية السيادية وخطورة هذه المتغيرات عبر انعكاساتها الراهنة والمستقبلية على الوضع الفلسطيني، وبعد عودته من موسكو أرسل في طلبي ليتحدث معي وهو على يقين تام بأن سلطة الدولة السوفييتية فقدت هيبة العظماء، وأن صراعات الأجهزة ومراكز القوى ستؤدي لاحقاً إلى دمار البلاد وأنه وعلى ضوء ذلك بات مقتنع بالعمل وبكل الوسائل لفتح نافذة للعلاقات مع دول أوروبا الغربية ومع فرنسا بشكل خاص وعلى وجه التحديد ، كما أنه فقد الثقة في العديد من علاقاته  السابقة مع الأجهزة الأمنية السوفييتية وأجهزة الدول الاشتراكية الأخرى، فهي أجهزة مخترقة وفيها من يعمل لحساباته الخاصة ومن يعمل في خدمة مصالح وحسابات الآخرين كما أن استقطابهم لقنوات الاتصال الخاصة بعملنا بل وتجنيدهم لضباط بعض هذه القنوات قد بلغ حداً لا يمكن السكوت عليه ، لقد حاولوا تجنيد واستقطاب ضباط كبار عندي ومن بينهم صاحبك عاطف بسيسو وبغرض وهدف إضعاف سيطرتي على الأجهزة الأمنية ومن ثم تقليص نفوذي السياسي ، ولا أدري لحساب من؟ ولمصحلة من ؟ ولماذا يتم ذلك ؟! لقد علمت من بعضهم بهذه الأشياء والمسائل الحساسة الأخرى والتي سأكشف عنها في الوقت المناسب، كما وفهمت وعلمت وتأكدت كيف تم تسريب رسالتي الشهيرة المرسلة للقيادة السوفييتية للأخ أبو عمار وعلمت بأهدافهم ومقاصدهم الدنيئة من وراء ذلك ، وأصارحك القول : أننا بحاجة ماسة لنهضة أمنية تلغي الهياكل القديمة والخيول الهرمة والمتعبة أو تلك التي أصيبت بلوثة الإرتباط حفاظاً على مصالحها الخاصة، ولكي يطمئن الجميع على مستقبله وبدون استثناء يجب أن نوفر لهم ولعائلاتهم الحياة الآمنة الكريمة وبعيداً عن سياسة الخلاص البريطانية من الخيول المسنة والهرمة أو تلك التي ينتهي دورها في مجال الخدمة . على العموم لكل حادث حديث يا دكتور . المهم أنني علمت بأنك ستسافر مع الأخ أبو الرائد في مهمة للتعبئة والتنظيم تشمل إقليمي اليونان ويوغسلافيا لتقديم العون والدعم المالي لطلاب الأراضي المحتلة ، إياك أن تبخل على أحد فالجميع سواسية والمبالغ المرسلة معكم تكفي الجميع وزيادة ، فهي تزيد قليلاً عن المليون دولار، وباعتبارها جزءاً من مساهمتنا البسيطة في دعم صمود أهلنا المنتفضين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة . وكما وعدته فقد كنت على اتصال دائم معه طوال أسابيع المهمة وقد مرت أيام العمل في اليونان بسلام وبدون أية مشاكل تُذكر ، وكذلك الأمر في جميع الجمهوريات والمقاطعات اليوغسلافية ، إلاّ أن الأيام الأخيرة شهدت نوعاً من التوتر المفتعل بين الأخ أبو الرائد من جهة والأخ أبو العبد الطيب عبد الرحيم وباعتباره السفير والممثل فوق العادة لمنظمة التحرير الفلسطينية في يوغسلافيا، وقد حاولت جاهداً إخراج الأخ أبو الرائد من دائرة الخطأ التي أوقع نفسه فيها وعبر صراعه المفتعل مع السفير الفلسطيني ، فنحن في مهمة تنظيمية ومحصورة الأهداف وباتجاه تقديم العون والدعم المالي لأبناء الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة والاستماع إلى هموم  ومطالب لجنة الإقليم ولجان المناطق الحركية فقط. وعليه فقد أبلغت الأخوين أبو عمار وأبو إياد بأننا قمنا بتنفيذ العمل المناط بنا بنجاح، وليس هناك ما يبرر إطالة أمد الرحلة وزيادة عدد أيام وأسابيع المهمة المحصورة أصلاً بثلاثة أسابيع ، وعند عودتنا إلى تونس وبينما كنت أجلس في مكتب التعبئة والتنظيم مع شعور بالإفلاس وحيث صرفت ما توفر معي من نقود شخصية طوال أيام رحلة المهمة، حضر الأخوين أبو وسام روحي فتوح والعقيد نعمان لمقابلة الأخ أبو ماهر وقبل أن يأذن لهما بالدخول ، طلبت من العقيد نعمان سيجارة روثمن من العلبة التي بحوزته  ، فقال لي مازحاً " خليّ معلمك وحبيب قلبك أبو إياد يشتري لك ما تريد من سجائر " ولم تخرج المسألة برمتها عن إطار المزاح الغير منضبط وهو مزاح يشتهر به الأخ العقيد نعمان ،وفي مساء ذلك اليوم وفي حدود الساعة السادسة مساءاً أتصل على هاتف شقتي الأخ أبو إياد وقد طلب مني الحضور وبسرعة إلى مكتبة الشخصي داخل البيت في منطقة " المتيلفيل " كان الأخ أبو إياد يجلس مع الأخوين " أبو وسام روحي فتوح " والعقيد نعمان، وبعد أن جلست ، سألني مازحاً من أين تدبرت أمر سجائرك عن هذا اليوم ، فأجبته بأنني أخذت علبة من سجائر العقيد نعمان أثناء وجوده في مكتب التعبئة والتنظيم، فقال لا علمت بأنك طلبت منه سيجارة فرفض وقال لك ، " إذهب لمعلمك وحبيبك أبو إياد حتى يشتري لك ما تريد من سجائر " وسواء كانت مزحة من العقيد نعمان أو كانت كلمة جادة ومقصودة فيكفيك شرف أنك حملت ووزعت مليون دولار على طلبة الأرض المحتلة وعدت بعد أيام تبحث عن سيجارة من شدة الفلس ، هناك ظرف ستأخذه هذه المرة وبالرغم من أنفك ، وهو يكفي لشراء سجائر وتوزيعها على ضيوف مكتب التعبئة والتنظيم ولمدة سنة أو أكثر، ومن ثم نهض من مكانه وخرج لعدة دقائق قبل أن يعود ثانية وعند دخوله غرفة المكتب كان الأخوين أبو وسام والعقيد نعمان يضغطان عليّ لمعرفة كيف وصلته هذه المزحة، فضحك الأخ أبو إياد وقال :" إلليّ بلغني بالموضوع واحد من حبابيكم، فهز العقيد نعمان رأسه وقال:"خلاص عرفته وسأبلغ الأخ أبو ماهر عنه ، وبأنه يكتب لك تقارير يوميه عن سير أمور العمل في مكتب التعبئة ، إنه يا أخ أبو إياد إبراهيم المصري.
بعد ذلك وبعد عدة أيام تفاجأت بأن الأخ أبو عمار يبدي عتبه عليّ وعدم رضاه عن وجودي للعمل في مكتب التعبئة والتنظيم وقد عاد لنغمته القديمة الجديدة "الدكتور كامل ده إبني ده حبيبي أنا عاوزه يرجع للعمل معي " وبعد إلحاح عدد من الأخوة الناصحين بالامتثال لرغبة الأخ أبو عمار قمت بكتابة رسالة إليه وقد طلبت منه "تعييني رئيساً لدائرة أو إدارة المستشارين في مكتبه وباعتباره رئيساً للجنة التنفيذية والقائد العام لقوات الثورة الفلسطينية "، وقد علمت أنه استشاط غضباً من الرسالة وإلى حدود النرفزة وقال :" أنا عاوزه يعمل معايا مش عاوزه يلوي دراعي إحنا مفيش بيننا شروط سابقة ولا مسبقة " وفي حدود الساعة الواحدة ظهراً ذهبت لمقابلته في مكتبه وتشاء الصدف أن يكون قد أنتهى اجتماعه مع بعض أعضاء اللجنة المركزية وقد ألتقيته على باب مكتبه وبعد أن سلمت عليه تحدث معي بصوت مرتفع ،" مفيش حد يلوي دراعي إنت بتضع شروط على الرئيس وعاوز تكون كبير المستشارين أو مش عاوز تعمل معايا " فأجبته بنوع من الدعابة، أولاً يا أخ أبو عمار إنت فهمتني خطأ، لأنني وغيري كذلك لا نستطيع ولن نتمكن من لوي ذراعك الزئبقية ولن نسمح لأي كان بلوي ذراعك وتحت أي ظرف كان ، وثانياً لي الحق بالاقتراح ولك الحق بالرفض أو القبول فأنت الرئيس وأنت القائد العام، وعند ذلك التفت خلفه وهو يبتسم وبدون أن يترك يدي أخذ ينادي على الأخ "أبو طارق" هاني الحسن " ويمازحه قائلاً: الدكتور كامل عاوز يسرق الموقع بتاعك وعاوز يكون كبير المستشارين " ضحك الأخ "أبو طارق" هاني الحسن وقال:" يا دكتور شوف لك موقع ثاني غير هذا الموقع ، فقلت له: "يا أخ أبو طارق أمد الله في عمرك أنت لديك عدة مناصب وعدة مواقع ومسميات قيادية ، وعلى ضوء ذلك من حقي أن أسرق هذا الموقع منك، فانا سأكبر به ، في حين أنك لن تتأثر بخسارته لا في موقعك ولا في مكانتك " ضحك الأخ أبو عمار وأخذني عدة خطوات جانباً وهمس في أذني قائلاً: الآن أنا  مسافر لمقابلة العقيد القذافي وغداً في المساء نلتقي ونتفق على إصدار القرار "، وعلى امتداد فترة الأسبوع وعلى غير عادته أخذ الأخ أبو عمار يؤجل اللقاء معي وبدون أسباب واضحة، وفي مساء أحد الأيام اتصل الأخ أبو إياد بي وطلب حضوري إلى مكتبه وكان في حالة معنوية جيدة ومريحة وقد قالي لي: يا دكتور أنت لست بالخبيث ولكنك شديد الذكاء، منذ عشرة أيام وأنت تحاصر الاخ أبو عمار معنوياً وتطلب مقابلته صباحاً وفي المساء وهو يتهرب منك، لأنه غير قادر على تنفيذ ما وعدك به، لقد عمم الموضوع بطريقته لجس النبض ووجد أن الأمر صعب عليه في هذه المرحلة، ومن وجهة نظري وحتي أكون معك في تمام الوضوح والصراحة، فأن تكون أنت رئيساً لدائرة المستشارين يعني أنك ستكون رئيساً لمجموعة من مخبري القنوات الدولية والعربية والإقليمية ، وكل أصحاب هذه المعادلات والقنوات لن يسمحوا لك بذلك ، وعليه سيتم التخلص منك غدراًَ أو بأي طريقة تناسبهم، ونحن لا نريد لك هذا ولا نريد أن نخسرك لقد تحدث معي والدموع تكاد تسقط من عينيه فهو يحبك ويعتز بك ويريد أن يكون وفياً معك للأبد وحتي النهاية ، ولهذا فقد اتفقت معه على حل هذه المشكلة وبموافقته وهي الموافقة الأولي التي يسمح فيها بانتقال أحد كوادره العزيزة للعمل معي، وعليه سأقوم بإصدار قرار بتعيينك بمرتبة معتمد أقليم في قيادة الأمن الموحد ورئيساً لمكتب الأمن الخاص في الجهاز، وغداً سنبلغ الأخ أبو ماهر في مكتب التعبئة والتنظيم بالموضوع حتي لا يعتب علينا، وعندما وصل الموضوع للأخ أبو ماهر مفوض التعبئة والتنظيم رفض تنفيذ هذه التعليمات الشفوية وقال: أن الأخ الرئيس "حاسبك عليه وأنت عندنا في التعبئة وهو لن يقبل بالتنازل عنك لكي تعمل في قيادة الأمن الموحد مع صديقه اللدود الأخ أبو إياد " ، وبكل الوسائل حاولت طمأنة الأخ أبو ماهر وأعلمته بأن القضية متفق عليها بين الاثنين، وحتى يتم وضع النقاط على الحروف أصدر الأخ أبو إياد وبناء على تعليمات من الأخ الرئيس قراراً للتعبئة والتنظيم ولهيئة التنظيم والإدارة ولجهاز المالية المركزية وقد طلب من الأخ أمين الهندي تولي عملية التنفيذ ، وحيث ذهبنا معاً لمقابلة الأخ أبو ماهر والذي أصدر هو الآخر قراراً بالموافقة على نقلي وتحويل مرتبي إلى جهاز الأمن الموحد. وبعد عدة أيام أصدر أمراً باستلامي لمكتب ومقر الأمن الخاص وبدأت دواماً وعلى فترتين في الصباح وفي المساء كما أخذ يحيل لي بريده الأمني وكذلك البريد القادم من مكتب الأخ الرئيس للإطلاع وإبداء الرأي في بعض القضايا ذات الوزن الأمني والسياسي المهم، وبناء على هذه المتغيرات والتحولات ، صرت ألتقي به يومياً وفي بعض الحالات أكثر من مرة في اليوم الواحد، كانت علاقته تزداد متانة ورسوخاً مع الأخ الرئيس وكان يقول لي وهو يمازحني بأن وجودك بركة، فأنت يا دكتور قدمك قدم خير " يعني كعبك أخضر" وبالاتفاق مع الأخ أبو عمار قام بتسليمي نسخة مترجمة من تقرير أمريكي صادر عن معهد بروكنز في واشنطن وتحت عنوان "صناعة السلام في الشرق الأوسط" مع صورة ملخصة بتوقيع الأخ أبو نزار صخر حبش " المسؤول في حينه عن دائرة الشؤون الفكرية وطلب مني إعداد قراءة نقدية باسم الأخ الرئيس واللجنة المركزية وإبداء الرأي في التقديرات المرفقة من الأخ "أبو نزار وبشكل سري مما اضطرني إلى أخذ الملف برمته من المكتب إلى شقة السكن وهناك قمت بإعداد اللازم واكتشفت بأن الأخ أبو نزار صخر حبش لم يكن موفقاً في تقديره للأمور المبنية على التقرير، وأن الفقرة التي تتحدث عن التغيير اللازم والضروري لبعض العقبات السياسية المعيقة للموضوع تعكس تهديداً مبطناً لحكومة  اسحق شامير وعبر التلويح بحلها من خلال انتخابات مبكرة في إسرائيل هذا بالإضافة لإنتقادات لاذعة تتعلق بسياسات بعض الحكام العرب كما تحدث التقرير بشكل إيجابي عن المظلمة التاريخية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني ومن خلال تآمر بعض حكام وملوك المنطقة العربية مع الكيان الإسرائيلي الناشيء لإقتسام أراضي الدولة الفلسطينية المقترحة في خطة قرار التقسيم لعام 1947م وهو الأمر الذي أدى إلى عدم قيام الدولة الفلسطينية وإلى ضياع وتشتت الكيانية السياسية للشعب الفلسطيني، وعليه فقد قدم تلميحاً صريحاً بإمكانية التعويل على دور سلمي لمنظمة التحرير الفلسطينية ومن خلال المشاركة النشطة لقيادتها البراجماتية في التحضير لعقد المؤتمر الدولي وتجاوز كافة الصعاب والعراقيل المفترضة . كما لم يكن هناك أي تلميح غير مباشر أو صريح يتحدث عن امكانية استبدال قيادة الرئيس عرفات بقيادة فلسطينية أخرى . وقد كان لهذا التعليق المنصوص عليه في ورقة " تقدير الموقف التي قدمتها " صدى إيجابي عند الأخوين أبو عمار وأبو إياد وكذلك عند بقية الأخوة في القيادة التاريخية للجنة المركزية، وبعد مضي يومين على ذلك الأمر اتصل بي الأخ "أبو نزار صخر حبش" وفي مكتبه فاجأني بشجاعته الأدبية وحيث أشاد بورقة تقدير الموقف التي قدمتها للأخوة في القيادة وقال:" إنها كانت أكثر دقة وموضوعية من الورقة التي قدمها قبل ذلك باسم دائرة الشؤون الفكرية عن نفس الموضوع".
بعد ذلك وعلى ضوء التردي المتزايد في وضعي الصحي اقترح الأخ أبو إياد بتسفيري إلى ألمانيا الشرقية بقصد الاستشفاء والإستجمام ومتابعة الأوضاع المتفاقمة على صعيد دول المعسكر الإشتراكي ولمدة خمسة أسابيع، وهناك كان يتصل بي أحياناً للإطمئنان ويتصل وبشكل شبه يومي بالأخ العزيز                  " الدكتور محمد حجازي" ممثل الجهاز في ألمانيا الشرقية ليوصيه خيراً بي وللاطمئنان على أحوالي، وقد كان أطرف تعليق سمعته في هذه الرحلة وعلم به الأخ أبو إياد من الأخ "أبو حجازي" قوله لي : "بأنني قطعت رزقته بسبب سكني في شقته وحيث كان مندوبي ومندوبات جهاز المخابرات الخارجية السوفييتي ، يمرون عليه ويمكثون عنده ليلة أو ليلتين أثناء توجههم إلى برلين الغربية في ألمانيا الاتحادية، ومنذ أن علموا بوجودي أوقفوا اتصالاتهم به وبشكل نهائي " ، وبعد عودتي إلى تونس لمواصلة عملي في المكتب الخاص اتصل بي الأخ أبو إياد وعلى غير العادة في تمام الساعة السابعة إلا ربع صباحاً وطلب حضوري إلى مكتبه الشخصي في البيت ، وعندما التقيته كان أمامه عدة ساندوتشات صغيرة بشرائح الجبنة الصفراء مع كوب من قهوة " النسكافيه" وقال لي: مفيش نفس للأكل ، قلت له وبإلحاح يجب أن تأكل ولو قطعة واحدة وحتي لا يقال أنني عندما حضرت "انسدت نفسك" ضحك وتناول قطعة من الجبنة ومن ثم أشعل سيجارته وقال: أتدري أنك أصبحت الأعز لدي من بين الجميع لقد تعرضت بالأمس لموقف محرج وصعب وقد أنقذتني منه وشفيت لي غليلي وإليك القصة، حضر وفي حدود السابعة والنصف مساءاً وبشكل مفاجئ السفير السوفييتي لزيارتي وقد قال لي: أنه قادم من المطار ومتعب بسبب الازدحام الشديد في الطائرة وقد قرر الاستراحة عندي وشرب فنجان من القهوة قبل متابعة طريقه إلى البيت، وعند سؤالي عن سبب الزحمة في الطائرة قال: إنها كانت مُعبأة وبشكل كثيف بالمهاجرين اليهود من الاتحاد السوفييتي إلى إسرائيل، وقد فهمت من ذلك: إنه حضر لإبلاغي بالرسالة وحتي لا نعترض على سيول الهجرة الاستعمارية الجديدة التي تجتاح بلادنا مثل أسراب الجراد، ولم يكن أمامي إلاّ الاستعانة بك أيها العزيز فقلت له : نحن نعلم ومُنذ مدة بذلك ، ولهذا قررنا إنشاء دائرة مكافحة الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي إلى إسرائيل مجدداً وبرئاسة الدكتور كامل وقد منحناه كل الصلاحيات لمباشرة العمل ، ونأمل منكم السماح له بزيارة موسكو في القريب العاجل، عندها إصفر لونه وامتقع وجهه من شدة الانزعاج ونهض ليودعني مستأذناً بالخروج،  وحتي تصبح هذه التأليفة أقرب إلى الحقيقة، خذ جواز سفرك وأربعة صور واذهب اليوم إلى الأخ أمين الهندي بهذا الكتاب مني ليقوم بطلب تأشيرة لك من السفارة السوفييتية ، وقد قمت بفعل ذلك وبناءاً على تعليمات الأخ أبو إياد طلب مني الأخ أمين مهلة يومين حتي ينجز المسألة، وعندما عدت إليه بحسب الموعد أستقبلني بالصراخ: "يا دكتور خذ جواز سفرك وحل عني إنت وصاحبك أبو إياد، إنهم يتربصون بك ويريدون الخلاص منك وليس منحك تأشيرة للسفر إلى بلادهم ، هذا ما فهمته وعلمته من مندوب محطتهم الأمنية في السفارة"، تناولت الجواز وخرجت مسرعاً إلى مكتب الأخ أبو إياد وأبلغته بثورة الأخ أمين وأقواله المنفعلة فضحك وقال: المهم أوصلنا الرسالة المطلوبة ولسوف أوضح للأخ أمين فيما بعد حقيقة الموضوع، كما سأبلغهم كذلك وعبر الأخ عاطف برسالة قاسية وشديدة اللهجة ، لأن التعرض لك من قبلهم سيقود إلى مجزرة كبيرة وإلى تصفية جميع أدواتهم المحسوبة علينا في الساحة الفلسطينية بالإضافة إلى نشر كل فضائحهم التي تعرفها ، وسأقول له: بأنني أحتفظ بأربعة أشرطة مسجلة بصوت الدكتور كامل عن كافة المشاكل والفضائح التي يعاني منها الاتحاد السوفييتي ويبلغهم بذلك أيضاً وأنها جاهزة للنشر في حال تعرضوا لك بأي سوء. وبالمناسبة لقد نجحنا في الوصول إلى قلب المصالح الفرنسية وسألتقي في باريس مع وزير الداخلية الفرنسي ومسؤولين آخرين نهاية الأسبوع المقبل، وسيتم توقيع اتفاقية عدم إعتداء تقضي بالتعهد من جانبنا ومن جانب الإسرائيليين بعدم استخدام الأراضي الفرنسية في عمليات الملاحقة الأمنية الساخنة وأعمال التصفية وكافة أشكال العنف الأخرى. وقد تفاجأت بحضوره وبعد عشرة أيام على وجه التقريب مساءاً إلى المكتب الخاص وقال لي: وهو يبتسم بفرح غامر، وصلت من باريس قبل نصف ساعة، وقد طلبت من المرافقين أن يذهبوا باتجاه مكتبك ، " يعني أنا قادم من المطار" وهذه لفتة عرفان مني تجاهك ، وباعتبار أنك كنت السبّاق في إقناعي باتقاء أخطاء وخطايا الممارسات الأمنية السوفييتية وتحسباً لانهيار الاتحاد السوفييتي وبالتوجه الجاد لفتح علاقات تعاون وتنسيق أمني مع دول المجموعة الأوروبية ومع             فرنسا بالدرجة الأولى ، وقد أظهر الفرنسيون تجاهنا واجباً كبيراً من الاحترامات البرتكولية الرسمية وكأننا ممثلين لحكومة دولة كبرى كما قدم وزير الداخلية الفرنسية موقفاً رسمياً شديد التعاطف مع القضية الوطنية للشعب الفلسطيني ، كان الأخ أبو إياد مرهقاً من عناء السفر إلاّ أن غمرة الفرح المعنوي مازالت تشحنه بالقدرة على التواصل وقبل أن ينهض من مكانه ويهم بالخروج سألته إذا ما كان لديه أي ملاحظات على النشرة المتخصصة بمعالجة الشؤون الأمنية والسياسية الإسرائيلية ، فقال وهو يبتسم بالمناسبة ذكرتني، أخوك أبو عمار صار من المدمنيين على قراءة كل ما تكتبه وخاصة المتعلق بالقضايا الإسرائيلية ، وعندما كنت أتأخر في إرسال ما يصلني منك إليه ، يتحدث معي على الهاتف ويسألني، لهذا عليك الاهتمام وبشكل متزايد بالبريد الخاص والمحول منه وبالقضايا التي يطلب تعليقاً عليها أو لإبداء الرأي في جوانبها الغامضة، وبصراحة نحن نعيش يا دكتور معادلات قدرية عجيبة، فمن كان يصدق قبل أربعة سنوات بأنك ستصبح يوماً ما مديراً للمكتب الخاص بالأمن الموحد وبرضا وقبول ودعم الأخ الرئيس أبو عمار! قبل سنوات اختلفنا عليك، وها نحن نتفق على دعمك ونخاف عليك كما نخاف على الابن البار والأخ العزيز، وإن شاء الله سنبقى معك وإلى جانبك ولن نتخلى عنك تحت ضغط المحن والشدائد. قلت له تحملني لعدة دقائق قبل مغادرتك، لدي قصة مع بريد الأخ الرئيس وخاصة مع النشرة اليومية التي يقوم بتوزيعها على اللجنتين المركزية والتنفيذية أو للتعميم والنشر، وخاصة مع بعض المواد التضليلية والأخبار الملفقة، فقال: هذه مهمتك ومن حقك الانتباه لكل شيء فنحن وبحكم مشاغلنا وزحمة العمل المرهق، يتم تمرير أشياء كثيرة علينا وعلى الأخ أبو عمار بشكل خاص، عليك الانتباه لذلك ولفت نظري ونظر الأخ أبو عمار لمثل هذه المسائل الخطيرة والحساسة ، وسوف أبدأ وفي القريب العاجل بتعريفك وبالتدريج على عدد من الصحفيين والصحفيات ولكي يتم تقديمك لأجهزة الإعلام والصحافة التونسية بالشكل المناسب وحتي يكون لك حضورك المميز عند الحاجة وكلما اقتضت الضرورة ذلك.
وهكذا وعلى طريقته الخاصة وبالتدريج تعرفت على مجموعة من الاعلاميين التوانسة كان من بينهم الأستاذ عبد الحميد الرياحي والأخت فاطمة بنت عبد الله الكراي والأخت راضية الزيادي وجميعهم من صحيفة الشروق التونسية ذات الوزن والمكانة المهمة على الصعيد القومي والعربي بشكل عام، كما التقيت أيضاً وبنفس الطريقة مع الصحفي المتميز كمال بن يونس وعلى الكاتبة والصحفية الجريئة السيدة جنات بنت عبد الله من صحيفة الصباح التونسية وهي الصحيفة المركزية الأولى والمعتمدة رسمياً من قبل الدولة، وذات مرة وعبر بريد النشرة الخاصة بالأخ أبو عمار كان هناك ستة أوراق عن خبر واحد وقد تم إرساله عبر هذه الأوراق وبإشارة مختومة باسم الأخ بسام أبو شريف وتحت عنوان "فوري وعاجل" وهذه الأوراق تم تمريرها على امتداد فترة زمنية تمتد من الساعة التاسعة صباحاً وحتى العاشرة ليلاً من نفس اليوم، والأهم من كل هذا ، أنها تُلغي أو تنفي وعبر الصياغة الخبرية المرسلة بعضها البعض   " أو تكذب بعضها البعض"، وقد كتبت للأخوين أبو عمار وأبو إياد مداخلة انتقادية صغيرة وبعنوان " بين الفوري والعاجل مازال الأخ بسام أبو شريف يراقصكم على حبال المهازل" وإليكم التالي: وكان التالي بالتأكيد الإشارة للخبر المرسل ست مرات على امتداد نهار وليلة يوم واحد وبطريقة متناقضة ، وقد أرفقت رزمة أوراق هذا الخبر مع المداخلة النقدية المرسلة، وفي صبيحة اليوم التالي طلب الأخ أبو إياد حضوري إلى مكتبه الشخصي داخل المنزل، وكان يضحك بزهو وحبور كبير وقال: لقد خلصتنا منه وسيتم خجلاً وقف أختام الفوري والعاجل التي بحوزته ، لقد انفجر بوجهه الأخ أبو عمار وعنّفه ، إنك يا دكتور " ديك من الياقوت والذهب الخالص يثير عبر صياحه فينا كل عوامل الطمأنينة والإخلاص". والآن أريد منك أن تذهب للأخ العزيز أبو العبد العكلوك ، فهو صديقك ويثق بك كثيراً، وعليك إعلامه بالحقيقة : وهي أن صاحبه الأخ أبو عمار قد سحب ترشيحه من قائمة الإخوة المضمونين للتعيين في عضوية اللجنة المركزية ويكفيه بالفعل صدمة نتائج المؤتمر الخامس والكارثة التي تسببت بها طائرة الأردن والتي حضرت بحوالي المئتي عضو جديد تم إضافتهم لعضوية المؤتمر على كفالة الأخوين أحمد عفانة "أبو المعتصم " والحاج مطلق الزفت، والتي قلبت الأوضاع رأساً على عقب، وسمحت بصعود مجموعة من الأسماء انتخاباً لعضوية اللجنة المركزية منهم من يستحق ، ومنهم من لا يستحق بتاتاً وبالمطلق الفوز بهذا النجاح الانقلابي المفاجئ ، أبلغه على لساني بذلك وحتي لا تصدمه نتائج اجتماع اللجنة المركزية هذه الليلة ، فتحدث لديه صدمة مؤلمة وهو يعاني أصلاً من أمراض القلب والضغط والشرايين . جاء لقائي مع الأخ أبو العبد العكلوك صعباً للغاية، فقد أعصابه وهو الرجل الهادئ والرزين ، وقال :بأنه ومع الأخ أبو الأديب كان حتى ساعة متأخرة من الليل مع الأخ أبو عمار ولم يلاحظ مثل هذه التحولات ، وعلى الهاتف أبلغت الأخ أبو إياد بالنتائج، وبعد منتصف الليل تم نقل الأخ أبو العبد العكلوك إلى مستشفي التوفيق وهو يعاني من ارتفاع حاد في الضغط بسبب إضافة الأعضاء المعينيين لعضوية اللجنة المركزية ولم يكن بينهم وعلى القائمة المضمونة اسمه كما كان يعتقد استناداً إلى تطمينات سابقة من الأخ أبو عمار، وبعد مضي أربعة وعشرين ساعة على ذلك وإثر خروجه من المستشفي ، أرسلني الأخ أبو إياد إليه في حدود الساعة التاسعة صباحاً ، ولإبلاغة بالاستعداد لزيارة الأخوين أبو إياد وأبو اللطف، نظر إليّ بعيون حزينة وقال: هل سيحدث ذلك بالفعل؟ فأجبته بعد ساعة أي في تمام العاشرة ، قال لي : إذن تبقى في انتظارهم معي في البيت، فاعتذرت لأنني وبحسب الاتفاق ، سأحضر مع الأخ أبو إياد في سيارته وأثناء وصول موكب الأخ أبو اللطف، جلس الأخوين أبو إياد وأبو اللطف ولمدة تزيد عن الساعة والنصف مع الأخ أبو العبد العكلوك، وقد شعرت بارتفاع ملحوظ في معنوياته وأخذ يتبادل معهما الأحاديث المازحة وكأن شيئاً لم يكن وعندها نظر إليّ الأخ أبو إياد وقال: هل مازلت مصر يا دكتور على طلب حقك من الأخ أبو العبد؟ فابتسم الأخ أبو العبد وقال: يا أخ أبو إياد لعله يكون الأكثر نقاءاً من بين الآخرين في سريرته بسبب بياض قلبه، فهو لا يعرف الغش والخداع ولا يحمل ضغينة لأحد في داخله ، لقد أبلغني على لسانك بالموضوع فلم أصدقه من شدة المفاجأة، وثبت أنه كان على حق ، وكنت أنا وعبر ثقتي بموقف الأخ أبو عمار على باطل، ولم يعد في القول فائدة، ولا أملك إلاّ أن أقول: سامحه الله ، وألف مبروك لمن فاز بعضوية اللجنة المركزية من الأخوة المعينيين ، وأتمني لهم كل التوفيق والنجاح، نهض الأخ أبو إياد وكذلك الأخ أبو اللطف وبالتناوب تم توديع الأخ أبو العبد العكلوك والشد على يديه ، وبعد أن خرج الموكب وعدت مع الأخ أبو إياد إلى مكتبه الشخصي قال لي: لقد فعلنا كل ما نستطيع لإخراجه من هذه الأزمة القاسية ، فهو كادر قديم ومناضل عريق ، وهو جزء من تاريخنا الذي يجب أن نحافظ عليه ، خوفاً من الإندثار ومن كبوات اليأس والضياع، وتذكر أنني وعندما كنت على خلاف شديد مع الأخ أبو عمار قبل عام من هذا التاريخ وكان الجزء الأكبر من اللجنة المركزية يقف إلى جانبي لم أسمح لأحد من وسطاء السوء أو وسطاء الخير بالتدخل في هذه المشاكل، وحتي لا أكون أسيراً لمثل هذه الضغوطات المعنوية لاحقاً، قلت له : ولكنك يا أخ أبو إياد وبشكل مفاجئ أبلغتني مساء يوم المصالحة، بأنك ستلتقي معه هذه الليلة في مكان لن يعرفه أو يعلم به أحد، وستحل معه كافة المشاكل والخلافات العالقة، وقد تسببت لي بصداع عجيب من وراء هذه التسريبة المقصودة، عندما خرجت من عندك والتقيت فجأة عند مكتب الأخ أبو الهول بالأخوين الحاج اسماعيل " وأبو حازم فؤاد الشوبكي" ، وقد أعلماني بأنهما حضرا للتأثير على موقف الأخ أبو الهول ودفعه للتصالح مع الأخ أبو عمار، فقلت لهما ليلتها وبكل عفوية لا داعي لكل هذا الجهد والتعب، فالقضية برمتها ستنتهي بعد الساعة الواحدة ليلاً، في لقاء خاص وسري سيجرى بين الأخ أبو عمار والأخ أبو إياد، فأرسل في طلبي الأخ أبو الهول وبناءاً على ما سمعه من الاثنين، وحاول باستفاضة أن يعرف مني ، ما إذا كان ذلك مزحة أم حديث جاد؟، وحتى حدثت المصالحة واستفاقت كوادر المنظمة والحركة في تونس على هذا النبأ السعيد، وما دام الشيء بالشيء يذكر، لماذا قررت إبلاغي بالموضوع قبل أن يحدث وقبل علم الجميع به؟ فقال: لأنني كنت أريدك أن تكبر رغم أنف العديد من المعترضين ، وكنت أحاول تعويضك عن سنوات خلافات العذاب بهذه الومضات المعنوية الكبيرة .
إذهب إنت الآن إلى عملك في المكتب الخاص وانتبه جيداً "لنفسك" لأنني سمعت عن وجود سيارة من نوع "بيجو 504" تمر من هناك في أوقات دوامك في الصباح والمساء وبشكل متكرر ومريب ، أطلب من حراسات المكتب الانتباه جيداً لحركتها ، وحتي لا تبعد كثيراً في هواجسك ، علمنا بأنها تابعة لجماعة " نيكولاي نيكولايفتش " وقد طلبت من الأخ، عاطف بسيسو معالجة الأمر بالشدة المتفق عليها بيننا،  قلت له : يبدو أنك يا أخ أبو إياد قد عرفت كيف تثير غيظهم من خلال حديثك عن إعادة تشكيل دائرة مكافحة الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي بالإضافة لزيارتك الناجحة بكل المقاييس إلى فرنسا ، فرد بالقول: هذا صحيح مئة بالمئة، كما أن علاقتي المميزة معك ، وقربك الشديد مني بحكم الوقائع التي يفرضها عليك عملك الجديد، بدأت تحرك فيهم نزعة الانتقام وخاصة بعد فشل سياسة الحصار التي حاولوا أن يفرضوها عليك عبر التلويح " بورقة الفيتو الشهيرة" والتي تم كسرها من خلال قرار نقلك للعمل معي في قيادة الأمن الموحد، إنهم يحاولوا إلصاق تهمة العداء للسوفييت بك وبسبب أنك أبلغتنا وعلى لسان الأخ أبو عمار باحتمال انهيار الاتحاد السوفييتي وزواله عن الخارطة السياسية للأمم في غضون خمسة أعوام، ونحن وأنت وجميعنا لا نتمنى للاتحاد السوفييتي هذه النهاية البائسة، فهو السند والصديق الذي نحاول الاستناد إليه في معركة الدفاع عن الوجود الوطني لشعبنا الفلسطيني وكافة الشعوب العربية، وإن كنت أرى وللأسف بأنهم وعبر صراعات مراكز القوى والطغيان العبثي للأنانية السياسية والأمنية المقيتة التي تعصف بهم قد بدأوا وبالفعل عداً تنازلياً خطيراً بالصعود نحو الهاوية.
























الفصل التاسع:-
" الاتحاد السوفييتي في ذمة التاريخ "

انتهت الحرب العراقية الإيرانية وهي حرب السنوات العجاف بين الأشقاء وأخوة العقيدة في الإسلام ، وحيث تم هدر مئات المليارات من الدولارات بالإضافة إلى مئات الآلاف من الضحايا وهدم الأسس الكيانية للدولتين على الصعيد الاقتصادي، وعلى الرغم من نزيف الخسائر الهائلة اكتشفت الولايات المتحدة الأمريكية بأن العراق الذي لم يخرج مهزوماً من هذه الحرب، أصبح لدية جيشاً من الفرق النظامية المحترفة تجمع بين التسليحين الشرقي والغربي بالإضافة إلى ترسانة من الأسلحة الكيماوية المحظورة ، وقدرات نووية تقترب وبخطى حثيثة من صناعة أسلحة الدمار الشامل، وهي لذلك وعلى ضوء استعداداتها المتواصلة للتربع على عرش الزعامة العالمية، بدأت تجهز خططها ومشاريعها الاستراتيجية اللاحقة للسيارة في حقبة من الاستفراد الدولي بمصير الأمم والشعوب وعلى أساس سيادة قوانين سياسة القطب الواحد، وهكذا وعلى ضوء تفاعلات الحرب العراقية الإيرانية وما تعرضت له تجارة النفط الدولية من اهتزازات أصبحت السيطرة الأمريكية على منطقة الخليج العربي على رأس جدول الأولويات الأمريكية وقد تضاربت هذه التوجهات مع طموحات الرئيس العراقي صدام حسين والذي بدأ يهيئ نفسه وبلاده للعب الدور الإقليمي الأول في منطقة الخليج بل وفي عموم منطقة الشرق الأوسط وعلى صعيد الصراع العربي الإسرائيلي بشكل خاص. وبشكل سري وبدون ضجيج تقدمت إدارة البيت الأبيض الأمريكي بسلسلة من المقترحات المشروطة للنظام العراقي في مقابل منحه دوراً للمشاركة في عمليات الهيمنة والحماية الخاصة بالاستراتيجية الأمريكية ، وبمعنى آخر فأنها اقترحت وبصريح العبارة إعادة تأهيل النظام العراقي قبل أن تسمح له بالمشاركة في الترتيبات الإقليمية المنتظرة وعلى أساس.
أولاً:- أن يتم تسريح عشرات الفرق من الجيش النظامي العراقي والإبقاء فقط على حدود المئة ألف جندي .
ثانياً:- اعتراف النظام العراقي بإسرائيل والتوقيع معها على اتفاقيات للسلام والتعاون الإقليمي.
وبالتأكيد: فأنه وعلى ضوء نتائج الانتصارات التي حققها الجيش العراقي في حربه الضروس مع إيران لم يكن سهلاً أو ممكناً على النظام البعثي العراقي صاحب التوجهات القومية القبول بهذه الشروط التي تضرب في الصميم والعمق حالة الاستقلال والنهوض السيادي التي تحققت عبر التضحيات الجسيمة، فهو يريد أن يصبح "شرطي المنطقة الجديد" بعد أن تمكن من فرض نوعاً من التراجع على الثورة الإيرانية الإسلامية والتي أطاحت "بنظام الشاه" وهو الشرطي السابق والمعتمد من قبل الغرب والولايات المتحدة الأمريكية ومع فارق أساسي وجوهري "فالشرطي العراقي الجديد" لن يقبل بأي دور للكيان الإسرائيلي في هذه الترتيبات، بينما كان "الشرطي الإيراني السابق" حليفاً للكيان الإسرائيلي في لعبة الضغط والحصار المفروضة على الحركة القومية العربية وسائر حركات التحرر الوطني في المنطقة. كانت إسرائيل تراقب عن كثب تطورات الوضع وهي التي أقدمت على ضرب وتدمير المفاعل النووي العراقي قبل عدة سنوات عندما اخترقت طائراتها الأجواء الأردنية وتسللت عبر الحدود الغربية للعراق وصولاً للهدف ، وهي التي لاحقت العديد من العلماء العراقيين والمصريين العاملين في نطاق المشروع النووي العراقي وحتي تمكنت من تصفية وإغتيال البعض منهم، كما أنها أصبحت تنظر بنوع من الشك والريبة بسبب تنامي علاقات التعاون والتحالف بين العراق والأردن وبين الرئيس صدام حسين والملك حسين بشكل خاص، وحتى لا تحدث الخطوة المنطقية المنتظرة على الصعيد الإستراتيجي ومن خلال تقدم عشرات الفرق العسكرية العراقية للتمركز في الأردن وعلى امتداد الحدود الإسرائيلية الأردنية المحاذية للحدود الفلسطينية في مناطق الضفة الغربية المحتلة، تعاظم الضغط الإسرائيلي على واشنطن وعلى صناع القرار في إدارة البيت الأبيض الأمريكي وبهدف وغرض إيجاد حل عاجل وسريع للخطر العراقي الداهم وللخلاص من الآلة العسكرية العراقية وباعتبار أنها أحدثت خللاً في التوازنات العسكرية السائدة في منطقة الشرق الأوسط وعلى صعيد موازين القوى السائدة بين العرب وإسرائيل بالدرجة الأولى، وفي نطاق الجغرافيا السياسية للصراع العربي الإسرائيلي بالذات، وحول هذه التطورات وفي مجملها تم إعداد تقدير موقف استراتيجي يشتمل على احتمال قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتوريط النظام العراقي في صراع مكشوف مع دول مجلس التعاون الخليجي، وحتي تتمكن من تكريس وقائع الاحتواء والهيمنة من جهة وتقزيم قامة النظام العراقي عبر خلق المبررات اللازمة والكافية لضرب وتدمير ترسانة الجيش العراقي من جهة أخرى. وقبل أن تخرج على الملأ وتصبح المادة الأولى لأجهزة الإعلام، حاولت القيادة الفلسطينية وتحديداً الأخوين أبو عمار وأبو إياد وأد عوامل الفتنة بين العراق والكويت بكافة السبل والوسائل، كما قمت وبناء على توجيهات من الأخ أبو إياد بنشر التقرير وبعد اختزال بعض محتوياته في صحيفة الشروق التونسية المقربة من النظام القومي في بغداد وتحت يافطة من التحذير الصريح من وقوع العراق في الفخ الأمريكي المنصوب له في الكويت، وهو فخ ذو شراك استراتيجية خطيرة تضع في حساباتها تدمير الجيش العراقي وإضعاف الكيانية السياسية في العراق بالدرجة الأولى وتكريس وقائع الاحتلال الأمريكي المباشر لمنابع النفط وعبر نشر العديد من القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة بالدرجة الثانية،والدفع باتجاه إلغاء المشروع القومي للتحرر العربي واستبداله بمشاريع طائفية وعرقية ودينية لكيانات سياسية هزيلة وتابعة للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية المشتركة بالدرجة الثالثة. تصاعدت وتائر الأزمة وتصاعدت معها جهود الوساطات العربية بدون فائدة " وبدى وكأن الحذر لا يغني عن القدر". فالرئيس العراقي صدام حسين لديه ما يكفي من التسريبات الأمريكية المغشوشة والتي تتحدث عن عدم اكتراث أمريكي بمصير الكويت وهو لذلك لن يفوت الفرصة وسيقول للأمة العربية وعلى طريقته الخاصة المعبأة بالأنانية السياسية ودكتاتورية الرأي "أن الطريق إلى القدس يمر من الكويت". وهكذا وببساطة وكنتيجة لحسابات سياسية مبنية على الأوهام اجتاح العراق بقواته المجحفلة دولة الكويت فهرب الأمير وهربت الأمارة معه لتدخل المنطقة العربية بأسرها بعد هذا وعلى ضوء ذلك في أتون الأزمة الطاحنة، وبين التعريب والتدويل فشلت كيانات الأمة العربية المجتمعة في جامعة الدول العربية عن إنتاج حل عربي يُعيد الأمور إلى سابق عهدها ،وفي حين وقف الأخ أبو عمار ومن موقعه كرئيس للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى جانب العراق، اتخذ الأخ أبو إياد موقفاً انتقادياً صريحاً لخطوة النظام العراقي واعتبر أنها خطوة في المجهول وأن الطريق إلى فلسطين يمر عبر تحشيد فرق الجيش العراقي على الحدود الأردنية الفلسطينية في مواجهة العدو الإسرائيلي وليس عبر الاجتياح الخاطئ لدولة الكويت، ألا أنه وفي جدة وخلال لقاء أطراف القيادة الفلسطينية مع ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز لم يتحمل انتقادات الجانب السعودي للموقف الفلسطيني المنحاز إلى الجانب العراقي، وقد أغضبه وإلى حدود النرفزة في تلك الجلسة "اتهام الفلسطينيين بعدم الوفاء" مما دفعه وبحضور الأخ أبو عمار وبقية أعضاء الوفد الفلسطيني للرد بقسوة على هذه الاتهامات الباطلة والظالمة وباعتبار أن الشعب الفلسطيني هو الخاسر الأول بعد الشعبين الكويتي والعراقي من هذه المحنة والتي ستجلب الويلات والمصائب وتعرض استقلال شعوب الأمة العربية للأخطار والكوارث الجسيمة، غادر الوفد القيادي الفلسطيني جدة وهو على قناعة تامة ، بأن القضية الوطنية الفلسطينية وبحكم الوقائع المستجدة التي أفرزها الاجتياح العراقي للكويت قد وقعت بين " المطرقة والسندان" ، وأن العجز السوفييتي أصبح بادياً للعيان من خلال فشل المحاولات السوفييتية الضاغطة لمنع العراق من الوقوع في شراك الفخ الأمريكي المنصوب له في الكويت مع بداية الأزمة، وفشله أيضاً وفيما بعد بالضغط الإيجابي والفاعل لتخليص أقدام النظام العراقي من المصيدة التي وقع فيها ، كما أنه أظهر مستويات من العجز الغير متوقع على صعيد حماية العراق من التحالف الدولي والإقليمي والعربي الذي نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في تحشيده وقيادته تحت علم الأمم المتحدة ، وحتى بدى للعيان وبشكل جلي ، بأن عهداً جديداً من التوازنات الدولية أخذ يفرض نفسه وبقوة على قوانين وأنظمة الحرب الباردة وباتجاه الولادة الحتمية لنظام دولي جديد بديلاً عن النظام الدولي "البائد والمحتضر". وبتوجيهات دائمة من الأخ أبو إياد وبالاستناد إلى بعض المعلومات التي كان يقوم بطرحها وشرح أبعادها الخفية أمامي، قمت بطباعة ونشر بعض التقارير والمقالات بالإضافة إلى بعض التصريحات والمقابلات الصحفية ، وكان لصحيفة الشروق التونسية النصيب الوافر منها، وهي في مجموعها كانت ترتكز على تحذير شعوب وكيانات المنطقة الخليجية من أهوال الدمار الذي سينتج حتماً إذا ما أقدم النظام العراقي على استخدام قدراته الصاروخية والكيماوية والبيولوجية وأنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل التي بحوزته، وبهدف التأثير على شعوب وكيانات المنطقة لرفض سياسة التحشيد العسكري الأمريكية والتفاهم مع النظام العراقي بطريقة ما تسمح في نهاية المطاف بانسحاب الجيش العراقي من الكويت، وتسمح للشعب الكويتي بالعودة إلى ممارسة استقلاله وسيادته على تراب بلاده وبعيداً عن التداخلات الأجنبية أو العربية في شؤونه، وفي إطار هذا الجهد المتواصل على الصعيد الإعلامي تم إعداد تقرير شامل تحت عنوان "البنود السرية في محادثات بيكر – الأسد" وهو يتحدث تفصيلياً عن حوار الرئيس السوري حافظ الأسد مع وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر في مباحثات معمقة وخطيرة استمرت لمدة أربعة ساعات ، حول خطة ضرب الجيش العراقي وتحرير الكويت من جهة ، وإثارة القلاقل والانتفاضات الداخلية على الصعيد الداخلي العراقي عبر الأكراد في الشمال والتجمعات الشيعية في الجنوب من جهة ثانية، وقد كان لنشر المقاطع الرئيسية من الحوار السري أهميته في تلك الفترة، وفي حين تناوب العديد من الصحف والمجلات على نشره أو نشر فقرات منه، كانت إذاعة السلام الحكومية في بغداد تقوم ببثه يومياً ولمدة زادت عن الأسبوع، وهو الأمر الذي أثار زوبعة من الشكوك والاهتمام المبالغ فيه من قبل أركان القصر الجمهوري في سوريا وعلى قاعدة البحث الجدي عن كيفية تسريب هذه المعلومات من داخل ملفات القصر الرئاسي ووصولها إلى بعض القيادات الفلسطينية ، وعلى ضوء هذه التفاعلات والاهتمام الملحوظ في نشاطات السفارة السورية في تونس وبعض الأدوات المحسوبة عليها في ساحة العمل الفلسطيني، طلب الأخ أبو إياد منّي التكتم على الموضوع وعدم الإدلاء بأية معلومة تفيد الجهات المستفسرة أياً كانت عن كيفية الحصول على هذه المعلومات ، أو الاعتراف بحقيقة قيامي بصياغة التقرير المذكور بناءاً على تجميع العديد من المعلومات الإخبارية عن هذه المباحثات ومن ثم وضعها في ديكور خاص بالحوار بين الطرفين وعلى ضوء المتابعات السابقة لكافة المواضيع المتعلقة بموضوع اللقاء والحوار، كان الأخ أبو إياد يزداد شموخاً وفرحاً مع تزايد الاهتمام والقلق البادي على وجوه القنوات السورية وجاء دخول الأخ الرئيس أبو عمار على الخط ليجعل من هذا التقرير "قنبلة أمنية وإعلامية" تستحق الاهتمام والمتابعة ، وحيث قام وأثناء مشاركته مع الأخ أبو إياد في مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية المنعقد في المغرب لمناقشة أزمة الخليج والاجتياح العراقي للكويت بالطلب من أحد مساعديه بإحضار حقيبة أخرج منها عشرات النسخ المصورة وقام بتوزيعها على وزراء الخارجية والأعضاء الفاعلين عبر مشاركتهم في المؤتمر،وعند عودة الوفد الفلسطيني من الرباط حضر في مساء ذلك اليوم الأخ أبو إياد إلى المكتب الخاص وكان في مُنتهى السرور وقال: "أتدري000 أنني شعرت بالأمس وأثناء انعقاد الجلسة الختامية لمؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية وكأنني أكلت جملاًَ من شدة الفخر والفرح والاعتزاز 000 لأن صاحبك أبو عمار فاجأني وفاجأ الجميع بتوزيعه لعشرات النسخ على أعضاء المؤتمر من التقرير السري لمباحثات "بيكر – الأسد" ،لقد كنت دائماً وعلى الرغم من مكر ودهاء السياسات السورية على علاقة حسنة بهم، ولكنني شعرت بالألم والإحباط والحزن من هذا الأخ والحليف المفترض ، وهو يقوم باعتقال المئات من خيرة شبابنا  ممن ضحوا بالغالي والنفيس دفاعاً عن الشعب والوطن والحرية، ومازلت أذكر لهم بمرارة اعتقالهم للأخ العزيز والحبيب "أبو حسين" توفيق الطيراوي ولعدة سنوات بالرغم من الضغوطات التي مارستها عليهم عبر وساطات سياسية وأمنية سوفييتية وجهود ألمانية شرقية حثيثة للإفراج عنه ، لماذا يفعلوا بنا ذلك ؟ ولحساب من؟ لا أدري وإن كنت أعلم بأنهم يحاولون وعبر كافة الوسائل السيطرة على قرارنا الوطني المستقل، وبأنهم حاولوا المستحيل لتمزيق وإضعاف حركة فتح، بالانشقاقات تارة وعبر محاصرة وتشوية القيادات التاريخية للشعب الفلسطيني تارة أخرى ، لقد قال لي الرئيس حافظ الأسد وأمام وفد اللجنة المركزية للحركة وأثناء لقاء للمصالحة وتطبيع العلاقات المتوترة بيننا "بأنه يحترمني ولا يحبني"، فهل يتم تحديد مصائر الشعوب وحرية الأمم على أساس من العواطف التي يمكن عرضها في أسواق النساء، وهل كنت بحاجة لمحبة الرئيس حافظ الأسد كي أعطر بها وطنيتي وإخلاصي لوطني وشعبي؟!
وهل كان عليّ وعلى سبيل المثال ، أن أنحني بقامتي حتي أحظى بشرف التسليم علي العقيد القذافي المتكئ علي الأرائك في خيمته؟...وكما فعل الآخرين ... لقد أسمعته بعض العبارات الاحتجاجية الغاضبة على سلوكه المشين ، قبل مغادرتي الفورية للخيمة والعودة عبر المطار مباشرة إلى تونس، والآن وكما تلاحظ يجيء دور الرئيس العراقي صدام حسين والذي أدخل العراق والأمة العربية في حرب ضروس وظالمة وعلى امتداد عقد من السنوات تقريباً ضد الجمهورية الإسلامية في إيران، ومن أجل تحرير فلسطين بحسب اختراعاته السياسية الطائشة ! وهو اليوم يُدخل المنطقة بأسرها في لعبة جديدة وتحت شعار، إن الطريق إلى القدس يمر عبر اجتياح واحتلال الكويت، والأدهى والأمر أنه يطلب منا مواقف مؤيدة ومنحازة تماماً إلى جانبه ، وإلاّ تعرضنا للملاحقة بتهمة الخيانة العظمى، أي جنون هذا الذي يعصف بالمنطقة؟ وفي كل الأحوال كان الله في عون شعوب الأمة العربية التي تعاني الأمرين على أيدي مجموعة من الحكام المعتوهين ، لقد أرسلت في طلبك قبل مدة وكما تذكر لحضور اجتماعي مع القيادات المرشحة للنجاح في مؤتمر جبهة التحرير الفلسطينية المنعقد في تونس ، وعندما سألتني عن أسباب دعوتي لحضورك الاجتماع، قلت لك : أنني أريدك أن تتعلم وتتقن فنون اللعبة السياسية والأمنية على أصولها، فنحن ندعم هذه التنظيمات ونساهم في توحيدها وحل خلافاتها، ولكي تواصل دورها المعارض لفظاً لسياساتنا وتوجهاتنا الرسمية عبر سيل من الشعارات المتشددة، وباعتبار أن ذلك يجعلنا نقف دائماً في خانة الاعتدال المريحة لعلاقاتنا على الصعيدين الإقليمي والدولي، وكما أبلغتك وقتها أعيد عليك تكرار طلبي بضرورة أن تقوم بتسجيل نفسك في دورات المعهد الثقافي البريطاني لتحسين وتقوية لغتك الإنجليزية وسيكون لذلك أهميته الخاصة في عملنا اللاحق والمستقبلي وبحيث تصبح عملياً ملم بأصول اللغتين الروسية والإنجليزية .
وفي ساعة مبكرة من صبيحة اليوم التالي وفي حدود الساعة السادسة والنصف صباحاً، استيقظت على رنين جرس الهاتف، كان الحاج اسماعيل على الخط وبطريقته الهجومية المازحة قال لي: أين أنت يا دكتور عني ... صار لي يومين في تونس وغداً سأعود إلى بغداد، وقد حاولت طوال الأمس الإتصال مع صاحبك أبو إياد بدون فائدة، وهناك ضرورة خاصة لمقابلته والحديث معه، يبدو أن لديه خطوط ساخنة يصعب علينا معرفتها في هذه الظروف 
فقلت له: لا يوجد خطوط باردة أو ساخنة فقط هناك سوء تصرف أو عدم دراية أحياناً تصيب السكرتيرة والضباط المناوبين على هواتف مكتبه الشخصي في البيت، سأتصل به على الفور وفي غضون نصف ساعة سأعيد الاتصال بك، ولإبلاغك عن موعد اللقاء، وفي حدود الساعة السابعة صباحاً اتصلت مع مكتب الأخ أبو إياد وتحدثت مع الأخت سوسن عن رغبتي في الحديث مع الأخ أبو إياد، إذا كان موجوداً، فقالت: إنه موجود في المكتب منذ ساعة، وبعد لحظات تحدثت معه وأبلغته بوجود الحاج إسماعيل " والذي اتصل بي قبل نصف ساعة" يطلب مقابلتك للضرورة وبالسرعة الممكنة، وحيث فشل طوال الأمس من الوصول إليك والحديث معك ، بالرغم من اتصاله عديد المرات، وكما يبدو فإنه يعتبرني وبدون أن يقول ذلك: أحد مفاتيحك السحرية ، ضحك الأخ أبو إياد وقال: والله يا دكتور إنك بالفعل المفتاح السحري المفضل والمميز عندي، والحاج إسماعيل على حق في هذا وهو اخ كبير وقائد شجاع يستحق كل الاحترام والتقدير والمحبه، دعه يمر عليّ الساعة الثامنة صباحاً، بعد ذلك أعدت الاتصال مع الحاج إسماعيل وأبلغته أن الأخ أبو إياد ينتظره بعد ساعة أي في الساعة الثامنة صباحاً في مكتبه الشخصي داخل البيت.
وبعد عدة أسابيع وبينما كان العام يقترب من نهايته على وقع دقات طبول الحرب واستكمال الحشودات العسكرية الأمريكية والدولية والعربية استعداداتها لساعة الصفر المنتظرة لبدء الحرب ضد العراق العزيز وضد جيشه المنتشر في الصحراء الكويتية وعلى الحدود مع المملكة العربية السعودية، أجرت صحيفة الشروق التونسية وعبر نشاطها الإعلامي المتميز مقابلة صحفية معي،  تحدثت فيها صراحة بأن ما يجري سيكون له نتائج وخيمة على مجمل العلاقات الدولية والإقليمية وأن هذه الحرب المنتظرة ستكون فعلاً الحرب العالمية الثالثة على صعيد النتائج، وباعتبار أنها ستغير وجه العالم وسيدفع الاتحاد السوفييتي ومنظومة دول المعسكر الاشتراكي ثمناً باهظاً على صعيد البقاء والوجود في أعقابها، كما سيجري وعبر تكريس الهيمنة الأمريكية على منابع النفط العربي، تعويم حل ما وبدون المستوى المطلوب للقضية الفلسطينية وللصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام، وأن الرئيس العراقي صدام حسين يعيد إنتاج تجربة "محمد علي" مع الدول الاستعمارية وتجربة أحمد عرابي وجمال عبد الناصر فيما بعد، وهي تجارب مريرة انتهت بالفشل أمام تحالف الدول الاستعمارية الأقوى والتي فرضت على "محمد علي" القبول بوقف النهضة الصناعية التي أطلقها من عقالها وتجريد جيشه من عوامل المنعة والقوة والعودة بمصر إلى حضن السلطنة العثمانية ، والأهم من كل ذلك أنها أي هذه الحرب ستؤدي وعبر نتائجها إلى ولادة نظام دولي جديد يقوم على الاستفراد والسطوة الأمريكية ولعهد مديد من السنوات القادمة.
وقد أبدى الأخ أبو إياد إعجابه الشديد بمادة هذه المقابلة أمام عدد من الكوادر القيادية والحركية الكبيرة وأمر بتصويرها وتوزيعها على الجميع، وقال للأخ أبو العبد العكلوك ومن حضر معه هذا اللقاء: بأننا أخيراً وجدنا من يستطيع أن يُعبر عن مواقفنا بشكل دقيق ومنطقي ومقنع وأن الكوادر القيادية لا تصنعها النقود، وإنما تصنعها وقائع التجربة، وقد أيدني صباح هذا اليوم الأخ الرئيس أبو عمار في ذلك، وهو يبدي إعجابه الشديد مثلي بمادة هذه المقابلة الإستراتيجية الهامة، وبينما كنت عائداً من المكتب الخاص باتجاه بيتي الكائن في المنزة السادس التقيت صدفة بالأخ عاطف بسيسو والذي بادرني بالقول: "يبدو أنك أبن حلال" لقد كنت أنوي الاتصال بك والحديث معك في أمر هام يخصنا جميعاً فأنت الآن وفي وضعك الراهن ربما تكون الوحيد بيننا القادر على إقناع الأخ أبو إياد به، فهو يحبك بصدق ويثق بك إلى أبعد الحدود، إنها مهمة صعبة ولكنها ليست بالمستحيلة ، فأجبته باستغراب مستفسراً منه عن طبيعة هذه المهمة التي لن يقوى على مفاتحه الأخ أبو إياد بها؟ فقال هناك فرق كبير بين إعلامه بالموضوع وبين إقناعه بهذا الموضوع، وعليك أن تدرك جيداً بأن الأخ أبو إياد في خطر وقد يتعرض للتصفية والاغتيال ومن حيث لا ندري ولا نحتسب ، بسبب مواقفه المتميزة عن غيره في موضوعه احتلال الكويت وحرب الخليج الدولية المنتظرة ضد الجيش العراقي وضد نظام الرئيس صدام حسين، فأصحاب قرار الحرب من أسياد اللعبة الدولية وبحسب مخططاتهم الجهنمية وضعوا الجانب الفلسطيني " في خانة الطرف المهزوم" والذي عليه أن يدفع كغيره ثمناً سياسياً معيناً في أعقاب هذه الحرب، فالأخ أبو إياد ومن خلال مواقفه ألمعلنه يحرجهم ويضع نفسه مسبقاً كعقبة كأداء في طريق مخططاتهم السياسية اللاحقة، وهو يبدو وكأنه سيكون بديلاً عن الرئيس عرفات المهزوم في حرب صدام حسين الخليجية أمام جبروت الولايات المتحدة الأمريكية، وباعتبار أن الدول الخليجية مجتمعة ومع بقية الأطراف العربية الأخرى المشاركة في الحرب ضد العراق ستجد حرجاً كبيراً في الضغط على أبو إياد لدفعه لتقديم التنازلات السياسية المطلوبة لتمرير عملية التسوية الموجودة في قائمة الاهتمامات الأمريكية، فإنهم لذلك يفضلوا أن يقف الأخ أبو إياد صراحة وبدون مراوغات إلى جانب الأخ أبو عمار مع الرئيس العراقي صدام حسين، وفي تقديري أنه وبهذه الطريقة فقط يمكننا حماية الأخ أبو إياد من التصفية، وباعتبار أن له دور لاحق سيكون عبر تغطية التنازلات التي سيقدمها الأخ أبو عمار مرغماً أمام وقائع الهزيمة والمستجدات التي ستليها، وعليك أن تدرك جيداً بأن العد التنازلي للحرب قد بدأ وأمامنا فرصة ضيقة من الوقت لن تزيد عن الأربعة أسابيع لإنقاذ سفينة الأخ أبو إياد من الغرق الداهم ، وأتمنى أن ننجح معاً في إنقاذ الوضع وما يهمنا بالأساس وبالدرجة الأولى هو أن يبقى الأخ أبو إياد، وباعتبار أننا بدونه سنضيع جميعاً وستكون حالة البعض الآخر منا كحالة "الأيتام على موائد اللئام " . وبالنظر لخطورة وأهمية الموضوع وعدت الأخ عاطف بسيسو بالحديث مع الأخ أبو إياد وعلى انفراد في هذه المسألة وهو ما تم بالفعل مساءاً وفي مكتبه الشخصي داخل البيت، وقد سألني الأخ أبو إياد عن درجة اقتناعي الشخصي بهذه المعلومات والتحليل السياسي المدمج فيها في إطار من التوقعات المستقبلية، فأجبته بأن لدي قناعة شبه تامة بما سمعت وألاّ لما أقدمت أصلاً على نقل الموضوع برمته إليك، فقال: كان لدي هواجس بهذه الأشياء قبل سماعها ولسوف أعمل ومنذ الآن على ترطيب وتطبيع علاقاتي مع النظام العراقي وسأطلب من الأخ أبو عمار بالسفر معاً إلى بغداد وتحت شعار القيام بوساطة اللحظات الأخيرة، علماً بأنني قد أصبحت على يقين ، بأن إدارة البيت الأبيض الأمريكي لن تسمح ولن تقبل بتمرير أي حل سلمي للأزمة يقوم على انسحاب القوات العراقية من الكويت، فالمخطط الجهنمي يجب أن يصل إلى نهايته المطلوبة، وسواء وقفت مع الجانب المنتصر أو مع الجانب المهزوم فإنني لن أقبل لنفسي أو للأخ أبو عمار بالتنازل عن الثوابت الوطنية الخاصة بحقوق شعبنا، وعشية سفرنا إلى بغداد أريد منك تصريحاً في صحيفة الشروق التونسية يتحدث عن الكوارث المُحدقة بالشعب العراقي وشعوب منطقة الخليج العربي نتيجة الاستخدام المنتظر والمتوقع للعديد من أنواع أسلحة الدمار الشامل، وأن القيادة الفلسطينية وعبر محاولاتها التوسط في اللحظات الأخيرة تحاول المستحيل لدرأ الأخطار الجسيمة عن المنطقة والتي ستحصد في طريقها  أرواح الملايين من الشعوب المغلوبة على أمرها ، وبعد عدة أيام على هذا الحديث سافر الأخ أبو إياد برفقة الرئيس أبو عمار إلى بغداد وقد حظي الوفد الفلسطيني باهتمام بالغ ومن خلال إصرار الرئيس العراقي صدام حسين على مرافقتهم في جولة سرية لتفقد جاهزية غرف العمليات المبنية على مساحات واسعة تحت الأرض، بالإضافة إلى تقديمه لشروحات "خيالية" عن الإمكانيات الجبارة للجيوش العراقية المدججة بكل أنواع السلاح والعتاد المتطور وأنه لم يعد إلا مسافة زمنية قصيرة تقاس بعدة شهور فقط وحتى يتمكن العراق من صناعة أول سلاح نووي عربي ومع هذا وكل ذلك كانت علامات الشك تراود الأخ أبو إياد في إمكانيات وقدرات العراق الحقيقية وقد عبر عنها بشجاعة للرئيس صدام حسين بقوله: لست بالخبير العسكري وصاحب الدراية العسكرية الكبيرة حتى أحكم على هذه القدرات، فأنت ستواجه تحالفاً دولياً كبيراً تقوده الولايات المتحدة الأمريكية بجبروتها العسكري وفي حال هزيمة العراق لا سمح الله، فإن القضية العادلة للشعب الفلسطيني ستتعرض لأخطار جسيمة ونهايات لا يحمد عُقباها، ونحن في نفس الوقت غير مطمئنين على سلامة الأوضاع الداخلية عندكم، فرد الرئيس صدام حسين مؤكداً على سلامة الوضع الداخلي . وشاكراً القيادة الفلسطينية على نشرها للتقرير عن مباحثات جيمس بيكر والرئيس الأسد السرية حول خطة الهجوم على العراق ومحاولات تفجير أوضاعه الداخلية عبر الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب،  ثم وضع يده على نسخة من القرآن الكريم كانت بجواره وأقسم أغلظ الأيمان بأنه ومُنذ اللحظة الأولى للهجوم الدولي والأمريكي على القوات العراقية وعلى بغداد سيقوم باستخدام كافة الأسلحة الفتاكة وأسلحة الدمار الشامل ضد إسرائيل ومن خلال عمليات القصف الجوي والصاروخي المعدة للانطلاق والتنفيذ.
وبعد ذلك غادر الأخ أبو إياد مع الرئيس أبو عمار بغداد ، وفي مخيم الوحدات في عمان تم استقباله بحشود جماهيرية ضخمة تزيد عن العشرين ألف وحيث ألقى خطاباً سياسياً هاماً تحدث فيه عن المخاطر المحدقة بالشعب والوطن والقضية الفلسطينية، وطالب بحماية العراق وحماية الجيش العراقي العظيم من المؤامرات وحتى يحين موعد زحفه باتجاه فلسطين وللعمل على تحريرها من العدو الصهيوني الغاصب . وعند عودته إلى تونس كان نشيطاً مفعماً بالحيوية وبالأمل وقد قال:لي  بأن أهم ما في هذه الزيارة كان اللقاء الجماهيري الحاشد في مخيم الوحدات وأنه رجع بعمره وذكرياته إلى سنوات النضال الأولى وإلى أعوام 1969م و 1970م في عمان أثناء مرحلة النهوض الوطني الجبار ، كما تحدث عن قسم الرئيس صدام حسين على القرآن الكريم وقال : أتمني أن يبر بقسمه وأن يكون لديه بالفعل الإمكانيات الكافية لتأديب دولة الكيان العنصري الصهيوني، وعلى امتداد الأيام الأخيرة كان يحضر وباستمرار صباحاً ومساءاً في بعض الأحيان للمكتب الخاص، وكان دائم السؤال عن الاحتياجات اللازمة للحراسات وللطواقم التي تعمل معي وحتى يقوم بتلبيتها ، وكان يداوم في صالون الطابق الأرضي لاستقبال بعض الضيوف والزوار والصحفيين، بالإضافة لعدد من القيادات الفلسطينية ، وفي صبيحة ذلك اليوم وهو اليوم الرابع عشر من يناير لعام 1991م وصلت إلى المكتب في تمام الساعة الثامنة والنصف فوجدت الأخ أبو إياد موجود في المكتب منذ الساعة الثامنة صباحاً وعند دخولي عليه ابتسم وقال :لقد جئت مبكراً بعض الشيء وحتى أستطيع أن أتحدث مع الأخ العزيز "كمال بن يونس " وأجيبه بتوسع على كافة الأسئلة الخاصة بموضوع المقابلة الصحفية، فنحن نعيش في اللحظات الأخيرة من العد التنازلي لبدء الحرب المؤلمة ضد العراق الشقيق، جلست بجواره في حين استمر الأستاذ كمال بن يونس في تسجيل إجابات الأخ أبو إياد، ومع نهاية المقابلة سألني إذا كان قد نسي شيئاً لم يقله عبر ما سمعته من إجابات، فطلبت منه ومن قبيل الإبقاء على حالة التوازن الهشة في العلاقة مع الأخوة في سوريا بضرورة التنويه لدور القيادة السورية المحوري والمركزي في عملية التصدي المستمر للعدوان الإسرائيلي وعلى قاعدة حل الخلافات الطارئة والعمل الدأوب على إحياء جبهة الصمود والتصدي من جديد، فابتسم وقال: معك حق فلا يمكن أن نتحدث عن دور منتظر للعراق بدون التنويه للدور السوري، وبعد أن أضاف عدة جمل تتعلق بالموضوع، نهض ونهضت معه وخرجنا معاً لوداع الصحفي الأستاذ كمال بن يونس ومن ثم استأذنته بالصعود إلى مكتبي في الطابق الثاني فقال لا ، هذا اليوم ستبقى معي وبجواري في المكتب الأرضي ، كان يرد على المكالمات التي تصله بدون استثناء وعبر حديثه على الهاتف مع الأخ أبو المنذر وهو عضو اللجنة المركزية المنتخب في المؤتمر الخامس وسفير المنظمة في المملكة العربية السعودية، كان يحاول تهدئته ويقول له: يجب أن تتحمل وعليك أن تدرك بأن الأخ أبو عمار وعندما يغضب يقول أشياءاً كثيرة بلسانه وبدون أن يكون لها أي أساس في قلبه، على العموم من حقنا جميعاً أن نقلق على مصير إخوتنا الفلسطينيين في الكويت وفي عموم منطقة الخليج وسنحل هذه الإشكالية بعد أن نلتقي في تمام الساعة السابعة مساءاً في بيت الأخ أبو الهول، فمنذ سبعة شهور لم أزره في بيته، وهو غاضب مني ، ولهذا سيكون بصحبتي في هذه الزيارة حبيبه الدكتور كامل ، وبعد انتهاء المكالمة أقفل السماعة وعاد ليسألني إذا كنت بحاجة للمال لأن لديه ظرف لم يتصرف به بعد، فقلت له: قبل عدة أيام أخذت منك مبلغاً كبيراً ، فقال إذن نوزعه على بعض الأخوة العاملين في مكتبك وبحسب حاجتهم ، وقد تم ذلك بالفعل فمنهم من أخذ سبعمائة دولار ومنهم من أخذ خمسمائة دولار وحتى تم توزيع المبلغ عن بكرة أبيه، وحتى حدود الساعة الثانية من بعد الظهر كان قد استقبل العديد من الكوادر، ومن ثم نهض من مكانه ليذهب للاستراحة والغذاء في بيته ، وعلى موعد اللقاء مجدداً في تمام الساعة السادسة مساءاً في المكتب الخاص، وقد عدت في تمام الساعة الخامسة وعلى أمل إيجاد حل عاجل لموضوع التدفئة، فالطقس شديد البرودة وخاصة في الفترة المسائية ، وبعد نصف ساعة حضر الأخ أبو إياد وبينما كان يتابع اتصالاته الهاتفية استأذنته بالخروج لبعض الوقت لمتابعة سير العمل ومن ثم توجهت إلى المنزل تحت ضغط البرد الشديد ولأخذ حمام من المياه الساخنة ومن ثم العودة مجدداً للذهاب معه في زيارته لمنزل الأخ أبو الهول ، وفي حدود الساعة السادسة والربع مساءاً خرجت من الحمام على صوت رنين الهاتف كان على الخط الأخ أبو إياد وقد قال لي: بأنه سيذهب إلى الموعد بعد نصف ساعة ولهذا سأل عني ، فقلت له : أن شدة البرد دفعتني للتوجه بسرعة للمنزل لأخذ حمام بالمياه الساخنة وأنني بعد أن أجفف نفسي جيداً سأكون بطرفه وفي غضون ربع ساعة أو أقل، وبينما كان يتحدث معي وإذا به يقول : "خلاص يا دكتور " لقد حضر الآن بطرفي أخوك أبو محمد العمري ولسوف آخذه معي بدلاً عنك، لأن خروجك من البيت بعد حمام المياه الساخنة ربما يسبب لك وعكة صحية صعبة ، استمر في حمامك، ولسوف أنقل للأخ أبو الهول تحياتك الحارة والخاصة، أقفلت الهاتف وعدت إلى الحمام لأستمد بعض الدفء تحت رشات المياه الساخنة ومن ثم جففت جسدي واتجهت إلى المطبخ لتحضير كوب من الشاي الساخن ، وبعد دقائق معدودة ارتديت ملابسي وجلست في الصالون لاحتساء كوب الشاي ، وإذا بجرس الهاتف يعود للرنين من جديد كان على الخط أحد الإخوة الأصدقاء وهو يعمل في" مؤسسة صامد" وبدون مقدمات قال لي: كل التعازي القلبية لك لأن مصابك جلل وكبير أيها الأخ العزيز ، فقبل خمسة دقائق استشهد أعز الناس عندك وأقربهم إلى قلبك ، لقد تم اغتيال الأخ أبو إياد والأخ أبو الهول والأخ أبو محمد العمري في منزل الأخ أبو الهول .
سقطت سماعة الهاتف من يدي وقد شعرت بنوبة من الجنون والهذيان تعصف بي ، لم أتمالك أنفاسي من شدة الحزن، كانت الدموع تنزف من عيني بينما أخذت ذاكرتي تستعيد تفاصيل ذلك الحلم اللعين، فقبل حوالي الأربعين يوماً على هذه الفاجعة، شاهدتُ في منامي هذه الحادثة، كنت في صالة بيت الأخ أبو الهول وكان الأخ أبو إياد والأخ أبو الهول يجلسان على مسافة غير بعيدة مني، وكان هناك شخص يطلق النار من بندقيته الآلية عليهما وعلى صدري وحتى أصبح قميصي أحمراً بلون الدم النازف استيقظت من هذه المنامة المفزعة وحاولت السيطرة على ذاتي، واعتبرت أن الأمر لا يعدو عن كونه أضغاث أحلام وهيهات أن يكون كذلك، فقد تجسد واقعاً على مساحة من تاريخ الوقائع المريرة، قبل حوالي الأربعين يوماً وفي ليلة الحلم المفزع كنت أتلقى الرصاص في صدري دفاعاً عنهما، واليوم وفي هذا المساء البارد الكأيب أخذ مكاني الأخ العزيز أبو محمد العمري وهو يحاول المستحيل لحماية الأخ أبو إياد بجسده من رصاص الغدر الجبان المنطلق من بندقية المأجور العميل "حمزة أبو زيد" ، وهكذا استشهد العنفوان الفلسطيني المتجسد في شخصية ورمزية ومكانة الأخ القائد أبو إياد، واستشهدت معه قوانين التسامح والمحبة الداخلية المتجسدة في رمزية وروح القائد أبو الهول، وسجلت الشهامة الفلسطينية حضورها المنتصر على غدر رصاصات السفاح من خلال روح الفداء والتضحية التي تسامت في تجلياتها وهي تسبح في دماء الشهيد الشجاع القائد أبو محمد العمري، وقبل أن يستفيق الجميع من هول الصدمة، وبعد مرور خمس ساعات على حادثة الاغتيال المروعة ، بدأت براكين الحمم من الطائرات والصواريخ الأمريكية تنهال على بغداد، أي ليلة كأيبة هذه الليلة المرتبطة مساءاً بتاريخ الرابع عشر من يناير لعام 1991م ؟؟ ففيها تمكنت قوى الشر من تصفية رموز العنفوان الفلسطيني، وانطلقت منها وفي نفس الوقت لتدمير قواعد الشموخ القومي للأمة العربية المتجسد في النهضة الاستراتيجية الشاملة لكيان الدولة العراقية. وعملياً وبلغة المقاييس السياسية فقد أدى الغياب المفاجئ للشهيدين أبو إياد وأبو الهول عن ساحة العمل الوطني الفلسطيني إلى ظهور فجوة كبيرة من الفراغ الاستراتيجي على الصعيديين الأمني والسياسي وإلى تضييق الخناق على الرئيس عرفات المحاصر كذلك بفعل النتائج التي أحدثتها حرب الولايات المتحدة  الأمريكية الدولية في الخليج، وبهذا وبناءاً عليه فقد أصبحت الطريق ممهدة لفتح باب المساومات السياسية والبناء الممكن للتسويات الغير عادلة بين العرب وإسرائيل، وقد عبر عن ذلك بوضوح تام وزير الخارجية الأمريكي السيد جيمس بيكر، عندما أبلغ الرئيس حافظ الأسد: بأن على العرب تقع مسؤولية دفع الاستحقاقات المطلوبة بعد هزيمة العراق أمام التحالف الدولي المنتصر في حرب الخليج، وبشكل خاص وبالدرجة الأولي على صعيد الصراع المتواصل منذ عقود بين العرب وإسرائيل، وقد فوجئ الرئيس الأسد بهذه التوجهات الأمريكية وهو الذي أرسل بالعديد من الوحدات العسكرية السورية لمشاركة التحالف الدولي حربه في عملية تحرير الكويت. هذه الأقوال كانت أخف وطأة من تلك العبارات التي أسمعتها إدارة البيت الأبيض الأمريكي لنظام الملك حسين في الأردن وللجانب الفلسطيني وللرئيس عرفات وهما الحليفان الرئيسيان للنظام العراقي المهزوم، وتحت ضغط هذه المستجدات بدأ العديد من الطامعين والطامحين التحرك باتجاه الفوز بقيادة أجهزة الأمن، أي جهازي الأمن الموحد والأمن المركزي، وقد ساعدهم في ذلك انعدام العلاقة الإيجابية أصلاً بين الأخ الرئيس والأخوين أمين الهندي وعاطف بسيسو، وفي لقاء خاص جمعني مع الأخ عاطف بسيسو للتباحث حول مستقبل الجهاز على ضوء هذه المتغيرات قال لي: أن الأخ الشهيد أبو إياد ترك فينا "أعز وأجمل هدية" للحفاظ على تراثه وعلى وجود ومستقبل الجهاز وهي أنت يا دكتور ، وباعتبار أنك الوحيد بيننا القادر على حماية الجهاز من خلال علاقة العمل والمحبة والثقة التي تربطك مع الأخ الرئيس أبو عمار، وأعتقد أنك لن تبخل علينا بهذا الجهد وعليك أن تبدأ اليوم قبل الغد في حركتك هذه ولقطع الطريق على الجميع وفي لقاء خاص مع الأخ الرئيس أبو عمار حاولت جهدي السيطرة على عواطفي الحزينة أثناء الحديث معه وخاصة أنه وقبل أسبوع وعدني بدراسة الموضوع بعد سيل من النرفزات المتصلة بعلاقات الماضي الصعبة مع الاثنين وقد قاطعني بالقول: اسمع يا دكتور 000 رحم الله الأخوين أبو إياد وأبو الهول ولا داعي لاستمرار حالة الحزن والكآبة التي تسيطر عليك، أريدك أن تعود إلى سابق عهدك، وأنت كتلة من النشاط والحيوية والعطاء المميز كما عهدناك جميعاً، لقد كان الأخ أبو إياد وفي عامه الأخير يعزك مثل أولاده وأكثر، وكنت أشعر بالارتياح العميق لذلك، واليوم تقع عليك مسؤولية كبيرة بالتعاون معي للحفاظ على الجهاز من عبث العابثين ، اطمئن وطمئن الأخوين أمين وعاطف بأن المشاكل السابقة أصبحت بالنسبة لي جزءاً من الماضي الذي لن أعود إليه، فهم أبنائي ولن أسمح لأحد بتجاوز الصلاحيات الممنوحة لهم، وعليك تقع مسؤولية التعاون مع الإثنين وتسيس كافة المعلومات وإرسالها لي بالشكل وبالطريقة المناسبة وبحيث تبدو وكأنها اجتهادات في إطار معلوماتي، وحتي لا يتم كشف القنوات التي سيتولون المسؤولية عن إدارتها بعد غياب الأخوين أبو إياد وأبو الهول رحمهما الله.
كان لموقف الأخ الرئيس هذا ، أثره الإيجابي البليغ لجهة تهدئة النفوس وشحذ الهمم، ولحد أنه ساهم في خلق نوع من التنافس بين الأخوين أمين وعاطف في ميادين العمل من جهة والاستحواذ على مساحة أكبر في علاقاتهم الخاصة مع الأخ أبو عمار من جهة أخرى، خاصة وأن المنطقة برمتها بدأت تتوجه بحسب الارشادات الأمريكية والتغطية السوفييتية لهذه الإرشادات وعبر مواقف براجماتية لا علاقة لها بالأيديولوجيا والمبادئ القديمة نحو عقد المؤتمر الدولي لسلام الشرق الأوسط في مدريد، وعلى سبيل المثال فإن الموقف السوفييتي القديم المعترض على مبادئ  اتفاق عمان الموقع بين الرئيس عرفات والملك حسين أصبح يقبل بفكرة وجود الوفد الأردني الفلسطيني المشترك ضمن ترتيبات المؤتمر، وكبديل عن الإنسحاب الإسرائيلي الشامل وبحسب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 أصبح القرار بحد ذاته غطاءاً للتسويات داخل المؤتمر وعلى قاعدة "الأرض مقابل السلام" وحيث يتم الاتفاق على حجم وحدود الانسحابات في إطار المفاوضات الثنائية للمسارات العربية المتعددة مع الجانب الإسرائيلي. كما أصبح الاعتراف "بإسرائيل" أمراً واقعاً بالنسبة للأطراف العربية المشاركة في المؤتمر لا ينقصه إلا الاتفاقيات اللازمة لتبادل أوراق الاعتراف الرسمي المتبادل فيما بعد. وعبر التحليل العميق للخارطة السياسية الخاصة بالزعماء المشاركين بالمؤتمر يبدو جلياً للعيان بأنهم وفي معظمهم جاؤا لتسجيل حضورهم الإعلامي المدوي للتغطية على فشل حكوماتهم في التصدي للأزمات الداخلية وليس للتدخل المباشر وعبر المشاركة في المسارات التفاوضية لتمرير مشروع دولي للتسوية المتفق عليها، وعلى ضوء هذه المعطيات المتعلقة بالاختلال الواضح في موازين القوى على الصعيد الدولي لم تجد إدارة البيت الأبيض الأمريكي بزعامة الرئيس "جورج بوش" الأب أية صعوبة تذكر في نقل جميع المسارات التفاوضية المقرة بين الأطراف العربية المشاركة وإسرائيل إلى واشنطن، وفي حين تمكن الوفد الفلسطيني من تسجيل حضوره الفاعل ومن خلال تمسكه بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وضعت إسرائيل العديد من علامات الاستفهام المزعجة على النشاط المتميز للوفد الأمني الفلسطيني المشارك في ترتيبات حماية المؤتمر وعلى نشاط الأخ عاطف بسيسو بالذات بسبب علاقاته الأوروبية الواسعة والمثير للاهتمام.
وبالرغم من كونها الضامن الثاني في رئاسة المؤتمر بعد واشنطن. فإن حصة موسكو اقتصرت على احتضان اجتماعات بعض اللجان الفرعية. وكان ذلك يعكس نوعاً من الاختلال الحاد في موازين القوى بين إدارة البيت الأبيض الأمريكي التي خرجت مُنتصرة في قياداتها للتحالف الدولي من أجل تقزيم قامة النظام العراقي وتحرير الكويت وبين الاتحاد السوفييتي الذي خرج مهزوماً من أفغانستان وخسر جزءاً كبيراً من هيبته ونفوذه الواسع في منطقة الشرق الأوسط على ضوء معطيات ونتائج حرب الخليج ، وهو يبحث عن مساعدات الديون الدولية المشروطة للتخفيف من أعباء الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصف بالبلاد، وأمام هذه التداعيات وتحسباً لنتائجها المستقبلية رفعت للأخ الرئيس أبو عمار تقريراً يرصد الملامح الاستراتيجية للمتغيرات في الاتحاد السوفييتي وعلى قاعدة الانهيار المتسارع لمؤسسات الدولة المركزية وهي مؤسسات اتحادية، والذي أصبح ينذر باحتمال انهيار وشيك للسلطة السوفييتية، وعلى قاعدة من الاستقلال القومي للجمهوريات الاتحادية الاشتراكية السبعة عشر ومما سيؤدي لاحقاً وكذلك إلى اندلاع نيران الحروب والصراعات القومية بين بعض هذه الجمهوريات المستقلة، بسبب التداخل العرقي والقومي ومشاكل الحدود، كان التقرير على مساحة خمسة صفحات وبه ذكر تفصيلي لأسماء الدول والكيانات السياسية التي ستعلن استقلالها، ومع التأكيد على أن حدوث هذا الاحتمال سيؤدي لاحقاً وبشكل متسارع إلى انهيار منظومة دول المعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية، وعلى الرغم من كون التقرير موجه فقط للأخ الرئيس للإطلاع والعلم بما يجري ، فوجئت بقرار الأخ أبو عمار القاضي بتعميمه وعلى نطاق واسع وحتى على السفارات والممثليات الفلسطينية في الخارج، وقد حضر العديد من السفراء والممثلين الفلسطينيين في الخارج وهم يتساءلون عن صحة ومستوى دقة هذه المعلومات الإستراتيجية الخطيرة ، وكان من بينهم الأخ والأستاذ عبد الله الإفرنجي العضو المعين وقتها في اللجنة المركزية لحركة فتح والذي أبدى اهتماماً واسعاً بالتقرير عندما إلتقيته صدفة في مكتب "الأخ أبو مروان" حكم بلعاوي، وربما يكون سبب اهتمامه بهذه التقديرات الإستراتيجية يعود لكونه يشغل موقع السفير والممثل فوق العادة للمنظمة في ألمانيا الغربية وهي الدولة التي تنتظر بفارغ الصبر مثل هذه اللحظات التاريخية لتتمكن من إلغاء وجود ألمانيا الشرقية وتوحيدها في الوطن أي مع ألمانيا الموحدة من جديد ، وكما يبدو فإن أزمة الحكم على صعيد السلطة السوفييتية لم تعد خافية على أحد من المراقبين والمتابعين للشأن السوفييتي، وجاء التحرك الانقلابي لبعض قيادات الجيش وبالتحالف مع جهاز المخابرات السوفييتية "كي جي بي" والعديد من القيادات الحزبية في اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي ليصب الزيت على النار، كان الرئيس "ميخائيل سرجفتش جربتشوف" يقضي إجازته الصيفية في منتجعات مدينة "سوتشي" على البحر الأسود وقد تم إعلان نبأ إقالته بالترافق مع إجراء تعديلات على صعيد الحكم وبهدف وغرض ضبط الأوضاع المتردية في البلاد والعودة بالسلطة السوفييتية إلى جبروتها السابق دفاعاً عن الشعب وعن الاشتراكية وعن الحلم الشيوعي السعيد، وفي غضون الثماني والأربعين ساعة التي أعقبت هذه المحاولة تمكن عضو المكتب السياسي للحزب ومن موقعه كرئيس لجمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية "بوريس يلتسين" من تحشيد الجماهير والقوى المعارضة للانقلاب ومن احباط المحاولة ، وأمر باعتقال وملاحقة الانقلابيين وبعودة الرئيس جربتشوف لممارسة صلاحياته الدستورية كرئيس للجمهوريات الاتحادية السوفييتية، محاولة بوريس يلتسين لم تكن دفاعاً عن الوجود المنهار للاتحاد السوفييتي وإنما لمنع الانقلابيين من الاستيلاء على الحكم وتكريس وجود السلطة المركزية للاتحاد السوفييتي من جديد، وبعد عدة أيام أخرى وبعد رفض الرئيس "ميخائيل سرجفتش جربتشوف" إصدار مرسوم رئاسي يعلن فيه عن حل الاتحاد السوفييتي، أعلن البرلمان الروسي انفصال جمهورية روسيا الاتحادية عن الاتحاد السوفييتي، كما سارعت برلمانات الجمهوريات السوفييتية الأخرى باتخاذ نفس الموقف معلنة استقلالها السياسي والقومي وانفصالها عن الاتحاد المنهار، وهكذا وبهذه الطريقة انهارت السلطة المركزية للاتحاد السوفييتي العظيم واختفت وتبخرت كما يتبخر الماء تحت ضغط الحرارة ويذوب في الهواء وفي الفضاء الفسيح، ومن ثم دخل من بوابة التجارب المهزومة في أرشيف التاريخ وفي ذمته الأبدية، وأذكر في تلك الفترة أنني وهرباً من واقع الحزن والكآبة الذي ألم بي بسبب سقوط الاتحاد السوفييتي قد خرجت للتسوق في السوق المركزي للعاصمة التونسية، وقد عدت للبيت في حدود الساعة الواحدة والنصف ظهراً، فأبلغتني عاملة النظافة في البيت، بأنه قد تم الاتصال بي على الهاتف عدة مرات طوال هذه الساعات من مكتب الرئيس عرفات وهم يريدون حضوري فوراً لمكتب الرئيس، وضعت قليلاً من الماء البارد على وجهي ومن ثم خرجت بسيارتي إلى حيث مكتب الأخ أبو عمار، كان يجلس في غرفة صغيرة في الدور الثاني ويجلس بجواره عدد من القادة والمفكرين اليساريين وبعد أن صافحته، أصر عليّ أن أتناول نصف تفاحة كانت بيده الأخرى ثم قال: أين كنت ؟ منذ الصباح ونحن نبحث عنك، فأجبته أنني كُنت أتجول بلا هدف في السوق المركزي للعاصمة، وبعد ذلك نظر لضيوفه وقال: أتعرفون من هذا ؟ وبعد صمت أجاب أحدهم نعم يا أخ أبو عمار إنه الدكتور كامل، فرد عليه الأخ أبو عمار لا 000 أنه الدكتور كامل أبو عيسى بالاسم، وبالفعل إنه كريستوفر كولومبس الشعب الفلسطيني، فهو الذي أنقذني وأنقذ الشعب والمنظمة عندما رفض بشدة أن نقيم تحالفاً استراتيجياً مع الاتحاد السوفييتي وقد قال لي : بأن الاتحاد السوفييتي سيزول عن الخارطة السياسية للأمم في غضون خمسة أعوام، ولا أريدك أن تكرر خطأ الحاج أمين الحسيني عندما تحالف مع ألمانيا النازية إبان الحرب العالمية الثانية فألحق الضرر البليغ بالقضية الوطنية للشعب الفلسطيني على ضوء هزيمة ألمانيا وإنهيار دولة "أودلف هتلر" ولو وافقتكم الرأي وقتها لكنت سبباً في هزيمة ونكبة جديدة للشعب والوطن والمنظمة، لقد حاربتموه وألصقتم به أبشع التهم بسبب موقفه هذا، وقد جاء اليوم الذي سأرد له فيه هذا الجميل، وبعد ذلك مازحني قائلاً "شو رأيك تحللهم أمامي ؟" فأجبته بالقول: ماذا أحلل بهم؟ فهم جميعاً محلولي الوسط منذ مدة مديدة ومنهم من كان يخدم المخابرات الأمريكية "سي أي إيه" عبر تقمصه لدور الماركسي واليساري والشيوعي ولهذا السبب استحق الاتحاد السوفييتي هذه النهاية المأساوية المحزنة، عندها ضحك الأخ محسن إبراهيم بصوت مرتفع وبشكل متواصل وبعد أن تمالك نفسه قال: يا أخ أبو عمار 000 "صاحبك وبالرغم من صغر سنه كاشفنا وكاشف الطبخة من زمان"، بعد ذلك استأذن الأخ أبو عمار من الجميع ليأخذ قسطاً من الراحة وأثناء وداعي له أبلغني بأنه سيكون مساءاً في تمام الساعة السادسة بانتظاري في مكتبه، وعندما عدت في المساء وبحسب الموعد دخلت عليه مباشرة وبدون انتظار كان يجلس بكامل هيئته الرسمية على المكتب وكأنه يستعد للخروج أو المغادرة باتجاه موعد رسمي معين، فقلت له: يبدو أنك على موعد، فقال: هذا صحيح ولذلك طلبت منك الحضور في تمام الساعة السادسة وموعدي سيكون بعد الساعة السابعة، وبإمكانك أن تقول لي كل ما تريد ، قلت له : أولاً يا أخ أبو عمار اللهم لا شماتة فلو لم يهرب قادة وضباط المخابرات الخارجية السوفييتية إلى الصين لكان من الصعب عليك استقبالي مرتين هذا اليوم ظهراً وفي المساء، ابتسم وقال: إنت يا دكتور قلبك أبيض ولا تعرف المعاني الخبيثة للحقد والضغينة، لقد هربوا وهربت معهم ضغوطاتهم وأصبحت علاقتنا السابقة بهم جزءاً من الماضي الذي لن يعود، لقد أقاموا الدنيا ولم يقعدوها قبل مدة عندما قمت بنشر وتعميم تقريرك الذي تحدثت فيه عن الاحتمال الوشيك لانهيار الاتحاد السوفييتي وانقسامه المتوقع إلى عدد من الجمهوريات القومية المستقلة، لقد أصبحت كل كلمة تكتبها وترسل بها إليّ تثير الاهتمام الواسع والشديد من قبل كل القنوات الصديقة أو تلك المتربصة بنا ، وهناك من يعتقد بأن كل ما تكتبه لا يعدو عن كونه تسريبات معلوماتية مقصودة من الرئيس عرفات ويتم نشرها وتعميمها باسم الدكتور كامل، ولهذا أريدك أن تتوخى الدقة والأمانة والموضوعية وسيظل مكتبي مفتوح أمامك للتشاور في كل كبيرة وصغيرة وبدون أن تنسى ولو للحظة واحدة، بأن غياب الأخوين أبو إياد وأبو الهول عنا ونحن في خضم هذه التحولات الدولية والإقليمية الكاسحة، ترك فجوة من الفراغ الاستراتيجي على الصعيدين الأمني والسياسي في ظهورنا جميعاً وبدون استثناء يصعب إغلاقها، كما يصعب علينا الاستمرار في نهجنا السابق بوجودها، ولهذا سنعمل الممكن والمستحيل على تعويض خسارتنا في الشهيدين وخسارتنا في ضياع وانهيار الاتحاد السوفييتي وعبر استحداث أشكال جديدة من عوامل المرونة المطلوبة للتكيف مع الواقع الجديد.
وعلى أساس وقاعدة التكيف مع الواقع الجديد وبعد مضي فترة غير مديدة على هذه التطورات والتحولات الدولية والإقليمية الخطيرة وعلى صعيد الوضع الداخلي الفلسطيني كذلك قدم الأخ " أبو طارق " هاني الحسن عضو اللجنة المركزية لحركة فتح قراءة استراتيجية هامة عن هذه المستجدات وعلى قاعدة ترتيب الشأن الفلسطيني وعلى صعيد حركة فتح بالذات وعبر الدعوة الصريحة للتهيؤ بقصد الدخول في مرحلة الحصاد،إلاّ أن الملفت في هذه القراءة المطبوعة في حدود العشرين صفحة وتحت عنوان " العودة إلى الينابيع " كان التناقض الصارخ بين الأهداف والنتائج وبين الثابت والمتحول في إطار الحركة التاريخية للتناقضات ، هذا بالإضافة إلى تناقض العنوان مع المحتوى، فالعنوان يطالب بالعودة إلى الجذور والينابيع التي انطلقت منها وعلى أساسها حركة فتح في حين يتحدث المحتوى وعبر سطور الصفحات عن حصاد الممكن في لعبة التسويات المطروحة للسلام في المنطقة ، وعليه: فقد قدمت نقداً توضيحياً لهذه الورقة الاستراتيجية الهامة والمنقوصة، وباعتبار أنها تدعو للعودة إلى الينابيع وعند البحث في أوراقها وبين سطور الكلمات لم نجد ذكراً أو أثراً لأي نبع من هذه الينابيع، وكانت المداخلة النقدية المقدمة باسمي تحت عنوان " نقد البديع في العودة إلى الينابيع"   وهي التي أغضبت الأخ أبو طارق " هاني الحسن في حينه بسبب قيام الأخ أبو عمار باعتمادها وتوزيعها بشكل ملفت وعلى نطاق واسع ولكافة الجهات المعنية في اللجنتين المركزية لحركة فتح والتنفيذية لمنظمة التحرير بالإضافة إلى أمانة سر المجلس الثوري والسفارات الفلسطينية في الخارج، واذكر أنني وبعد أن هدأت ثورة الأخ العزيز " أبو طارق " هاني الحسن والذي توطدت علاقتي معه بعد ذلك، أنني كنت في لقاء مع الأخ أبو عمار وقد سألته عن سر اهتمامه بالمداخلة النقدية وبطريقة مثيرة أكثر من اللازم،فقال: أنت فقط وضعت يدك على أخطاء وتناقضات الورقة الاستراتيجية وبطريقة أكاديمية وسياسية راقية تسترعي الإنتباة والاهتمام ،ولكنك لم تدرك أنه وبهذه الورقة كان يريد أن يقلب الطاولة على رأس فريق بأكمله يعمل معي سراً في البحث عن مخارج تفاوضية لمرحلة الحصاد التي يتحدث عنها، وهو يدرك بأنه وعلى الرغم من علاقاته الدولية والإقليمية الواسعة ليس الشخص المطلوب لقيادة وتوجيه هذا الفريق لاعتبارات كثيرة تتعلق بموازين القوى،وبالمناسبة لقد أصبحت قلقاً على وفائي معك من خدش الضغوطات المتزايدة، ويا حبذا لو تقبل بهذا العرض وهو أنني سأقوم بتعيينك سفيراً وممثلاً فوق العادة للمنظمة ولدولة فلسطين في أعظم دولة في العالم،ولكي تبتعد قليلاً عن خطر السهام السامة والتي تحيط بنا من كل جانب،قلت له: لقد كان ذلك ممكناً قبل سبع سنوات، إن الوقت والزمن يجري يا أخ أبو عمار وأنت بذلك تريد أن تعيدني عدة سنوات للخلف، ونحن معك نكبر ولا نصغر ، فقال: والله معك حق ... وبالفعل، فأن الزمن يسرقنا بطريقة عجيبة ، ولكن ومن منطلق حرصي عليك ومحبتي لك، أريد أن أمنحك فرصة للراحة وعلى طريقة استراحة المحارب لبعض الوقت، وجمهورية روسيا الاتحادية تبقى دولة عظمى وسيكون لها شأن عظيم في السياسات الدولية بالرغم من الانهيار المؤسف للاتحاد السوفييتي، وبعد خروجنا من المكتب وبالقرب من الدرجات التي يصعدها وهو يتوجه للطابق الثاني بغرض النوم والاستراحة،عاد مجدداً وأمام جمع من الحراسات والمرافقين ليقول لي: " يا خويا فكر كويس في الموضوع فمنصب السفير وفي دولة عظمى شيء مهم، وهناك العشرات ممن يتمنون الحصول علية "، فأجبته بابتسامة : يا أخ أبو عمار أنت تعلم بأنني لا أكسر لك أي توجه أو قرار ولكنني أرغب أن تسمح لي بالبقاء إلى جانبك في منصب الجندي المعلوم كما تشاء والمجهول عندما تشاء، وهذا يكفيني في هذه المرحلة الصعبة، عندها بدأ يصعد الدرجات وهو يقول : لقد أصبحت بعد استشهاد الأخوين أبو إياد وأبو الهول زاهداً في طموحاتك أكثر من اللازم، في حين كان لسان حالي يردد في سري وبصمت: كان الله في عونك وفي عوننا معك على التركيبة الإدارية للأشخاص والتي سيتم فرضها بالتراضي عليك وعلينا لاحقاً في مقابل السماح لنا بالتعربش في قطار تسوية النظام الدولي الجديد لمشاكل الصراع في الشرق الأوسط.         


   






الفصل العاشر :- 
اتفاقيات أوسلو الممكن الهزيل في زمن المستحيل

كانت المفاوضات في واشنطن تراوح في مكانها بسب التعنت الإسرائيلي المراوغ، وفي حين كان الوفد الفلسطيني برئاسة الدكتور حيدر عبد الشافي يسجل حضوره اللافت على خارطة التعاطف الأمريكي الخجول ، كانت إسرائيل تضع في اعتباراتها الأولوية للفوز بضمانات القروض الأمريكية وبواقع عشرة مليارات دولار لأعمار النقب واستيعاب مئات الألوف من المهاجرين اليهود القادمين من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ومن إثيوبيا والهند وبعض مناطق أوروبا الشرقية ، وقد تصاعد الخلاف وبشكل تدريجي بين إدارة البيت الأبيض الأمريكي وحكومة إسحق شامير بسبب التواصل المتصاعد لعمليات الاستيطان الزاحف في المناطق الفلسطينية المحتلة أثر عدوان الرابع من حزيران لعام 1967م ، وهو الأمر الذي بدأ يساهم في زيادة وتائر الانتفاضة الشعبية الفلسطينية من جهة ويرفع من قيمة القيادة الفلسطينية ومن مكانه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والممسك بكافة الأوراق داخل وخارج الأرض المحتلة من جهة أخرى، وفي صبيحة أحد الأيام وبينما كنت في مكتب الأخ الرئيس لتقديم بعض الأوراق السياسية الخاصة بمتابعة الشأن التفاوضي وآخر المستجدات المتعلقة بالمواقف الإسرائيلية، طلب مني الأخ خلدون التوجه مباشرة لمقابلة الأخ أبو عمار كان اللقاء مباشر وبدون استعدادات مسبقة أو تحضير، جلست بجواره وبعد أن اطمأن على أحوالي وصحتي وأبدى إعجابه بالمواد السياسية التي أرسلها إليه طلب مني الانتظار قليلاً بصحبته وإلى أن حضر الأخ "أبو العبد فيصل الحسيني وهو المشرف العام على الوفد التفاوضي الفلسطيني في واشنطن وبعد تبادل عبارات المجاملة المعهودة قال الأخ أبو عمار للأخ "أبو العبد" فيصل الحسيني : لقد طلبت من الأخ الدكتور كامل أبو عيسى الانتظار معي حتى مجيئك فهو من أبناء الأرض المحتلة وسجين سابق ومن أنشط وأحب الكوادر الموثوقة والمؤتمنة عندي وقد أرسلت للأخ الدكتور حيدر عبد الشافي طوال هذا الأسبوع عدة مواقف تفاوضية ملزمة من إعداد الدكتور كامل، لهذا قررت تعريفه عليك، رحب بي الأخ "أبو العبد" فيصل الحسيني بطريقة راقية ومؤدبة حتى أشعرني بأنه مازال يحمل على أكتافه وفي داخله تراثاً عريقاً وإرثاً تاريخياً كبيراً لعائلة مقدسية كريمة ومناضلة، قدرها أن تستمر في حمل الهم الفلسطيني جيلاً بعد جيل، فهو وبكل المقاييس الابن البار للشهيد البطل القائد عبد القادر الحسيني، ومن ثم نظر للأخ أبو عمار وقال: نحن نعرف الدكتور كامل من خلال كتاباته التي تقوم بين الفينة والأخرى بتعميمها علينا ، وقد قرأت له العديد من المقابلات الصحفية والمقالات حول أزمة الخليج والحرب الدولية ضد العراق، ابتسم الأخ أبو عمار وقال: " المهم عاوزك تأخذ بالك منه" فهو يشكل الجزء الهام من عملي المتعلق بالشؤون الإسرائيلية والشأن التفاوضي. وبعد أن ودعت الأخ أبو العبد فيصل الحسيني استأذنت من الأخ أبو عمار بالمغادرة وحتى أترك له حرية الكلام مع ضيفه الكبير، وبعد مضي عدة أيام على ذلك كنت قد أرسلت مادة سياسية تتعلق بالنقد الشديد لسياسات الرئيس "جورج بوش الأب" تجاه مفاوضات الشرق الأوسط بسبب التراخي الملحوظ أمام سياسة التسويف والمماطلات الإسرائيلية المستندة على تعليمات شخصية من رئيس الوزراء المتطرف اسحق شامير، وعلى ضوء هذا التقرير وبسبب عبارات السخط المتعلقة بالمواقف الأمريكية ، أرسل الأخ الرئيس أبو عمار في طلبي وقد كان شديد الغضب، وبلغة عاتبة لا تخلو من النرفزة قال لي: لا داعي بتاتاً وفي هذه المرحلة بالذات التعرض بالنقد لمواقف الإدارة الأمريكية "وبلاش تكون مثل الجمل اللي بيحرثة بيعاود يخبصه من جديد " لقد واجهت صعوبات كثيرة حتى تمكنت من إدخالك تحت سقف وغطاء الحماية الدولية المطلوبة لوجودك من جهة ولعملك معي من جهة أخرى. على العموم لقد أرسلت في طلبك لسبب آخر عدى هذه القضية فمنذ مدة وصلتني عشرات المقترحات عن مشاريع اقتصادية ومالية يمكن استثمارها في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق وتحديداً في جمهورية روسيا الاتحادية، ولقد طلبوا مني تمويلاً لهذه المشاريع وبمبلغ إجمالي يزيد عن سبعمائة مليون دولار، وحتى لا نكرر تجربة استثمارات "صامد" الفاشلة في الدول الأفريقية أريدك أن تتوجه سراً إلى موسكو وأن تتابع هذه المقترحات على الأرض من خلال الأصدقاء المؤتمنين لدينا، فنحن وإن كنا ومن قبيل الوفاء لن نتخلى عنهم تحت ضغط أزماتهم الاقتصادية الخانقة إلا أننا نعاني مثلهم من الحصار المالي والاقتصادي بعد حرب الخليج، وقد بدأنا نستنزف جزءاً كبيراً من المدخرات أي من اللحم الحي، قلت له : ولكنني لا أمتلك في هذه اللحظات جواز سفر ساري المفعول لإتمام عملية السفر فأجابني بالقول: هذه ليست مشكلة سيتم صرف جواز سفر تونسي مؤقت لك ولسفرة واحدة تستخدمه في سفرك إلى موريتانيا وهناك ستحصل على جواز سفر موريتاني وبهذا فلسوف تسافر إلى موسكو عبر مطار الدار البيضاء في المغرب، وحتى تنجح في مقصدك وفي هذه المهمة عليك بالسرية التامة فهذه لعبة أموال تؤلب الصادقين قبل الكفرة على ارتكاب الموبقات وابتداع الأكاذيب في بعض الأحيان وللفوز بالغنيمة، وعليه فقد سافرت من تونس إلى موريتانيا وفي " نواق الشط" مكثت لمدة أسبوع حتى تم ترتيب الأوضاع المتعلقة بصدور جواز السفر الموريتاني ومن هناك اتجهت إلى الدار البيضاء ونزلت في فندق واشنطن وسط المدينة لعدة أيام بانتظار موعد الطائرة الروسية المتجهة في رحلتها الأسبوعية إلى موسكو، وفي مطار "شيرميتفا" الدولي وبتاريخ 19/12/1992م استقبلني صديق مؤتمن من الجالية الفلسطينية واتجه بي إلى فندق "نادي الخيول" وهو فندق جميل يقع في ضواحي المدينة ومن هناك بدأت التحرك باتجاه الأصدقاء، كان الحزن يسيطر على الجميع وكان البرد والفقر والجوع سيد الموقف وحتى تخيلت وكأن جموع الناس أصبحت أسيرة للقمة العيش وهي تحاول أن تتنفس من جيوبها الخاوية، فكل شيء مباح وكل شيء قابل للبيع والشراء إلا الإنسان وهو رخيص وإلى درجة يفقد معها توازنه تحت ضغط الحاجة وقوانين السوق الرأسمالية الظالمة، كانت الحسرة واللوعة على الماضي القريب والذي أفلت من بين الأصابع وتبخر مع الأحلام الوردية، ومن ثمة عاد في كثافة الثلوج لينزف برداً يقض المضاجع ويثير الذكريات في النفوس عبر هذه الجلسة الحزينة مع الأصدقاء، وقد طلبت منهم في نهايتها وعلى رأسهم "سيرجي ديمتروفتش" الاستيضاح عن حقيقة وجدوى هذه المشاريع المرسلة للأخ الرئيس أبو عمار وكذلك: إذا كان لديهم مقترحات أخرى أكثر جدوى للتعاون الاقتصادي المشترك كما استمعت منهم إلى تصورات عن المخططات الجهنمية لصهاينة ويهود الإتحاد السوفييتي السابق، وعن دورهم ألتآمري بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في هدم البلاد وتقويض الوجود الرسمي لدولة الاتحاد السوفييتي العظيم، وباختصار فقد كانت لديهم وجهات نظر غريبة ومثيرة للاهتمام في نفس الوقت " فالحكومة الدولية لليهودية العالمية " والتي تقودها الحركة الصهيونية ومركزها في مدينة نيويورك وهي العاصمة المالية ليهود العالم قامت وعبر مندوبيها بتقديم الوعود السخية للرئيس "بوريس يلتسين" ، وأنها وفي حالة القيام بحل الاتحاد السوفييتي، وإعلان استقلال وانفصال جمهورية روسيا الاتحادية ستقوم بضخ أموال الاستثمار في البلاد وبحدود خمسين مليار دولار كدفعة أولى ، بالإضافة لعودة كافة الأموال التي تم تهريبها من روسيا القيصرية بعد قيام ثورة أكتوبر الإشتراكية، كما سيتم اعتماد موسكو من جديد كأحد أهم مراكز التجمع المالي ليهود العالم ، وقد تبخرت هذه الوعود وانتهت من حيث بدأت في سلة الأوهام والمخادعات، وكبديل عن ذلك قامت العناصر الصهيونية واليهودية المتنفذة بضخ ما قيمته خمسمائة مليون دولار أمريكي للسيطرة على الوزارات وشراء الذمم داخل البرلمان وبهدف استقطاب النواب والكتل البرلمانية بالإضافة إلى السيطرة على الجزء الأكبر من المؤسسات الإعلامية، كما تحدثوا وبإسهاب : عن الصراع الخفي بين إدارة الرئيس جورج بوش الأب في البيت الأبيض وتجمعات اللوبي الصهيوني في واشنطن وباعتبار أن القيادات الصهيونية والمالية لليهود في الولايات المتحدة الأمريكية تنظر وبعين الشك والغضب والخوف إلى السياسيات الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط وعلى صعيد الصراع العربي الإسرائيلي والتي تهيئ الرأي العام الأمريكي ومن خلال حديثها عن مصالح الأمة الأمريكية وعن تغذية المشاعر القومية في أوساط الشعب الأمريكي لضرورة انتهاج سياسات أمريكية تستجيب لمصالح الشعب الأمريكي دولياً وفي منطقة الشرق الأوسط بعيداً عن الرغبات والمصالح والأطماع الإسرائيلية المدعومة من قبل صهاينة ويهود الولايات المتحدة الأمريكية. وهم بذلك ينتظرون وبفارغ الصبر معركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية ويأملون بنجاح الرئيس "جورج بوش الأب" لولاية ثانية وباعتبار أن نجاحه سيخدم المصالح الروسية من جهة والمصالح العربية والفلسطينية في منطقة الشرق الأوسط من جهة ثانية، فبسبب نجاحه سيتم ترحيل رؤوس الأموال اليهودية من نيويورك إلى موسكو في إطار لعبة تقويض الزعامات والإمبراطوريات التي يمارسها اليهود عبر التاريخ ،كما سيتم فرض حل أمريكي في الشرق الأوسط وعلى قاعدة القيام الحتمي للدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة بعيداً عن الأطماع والضغوطات الإسرائيلية. وهكذا وبعد أسبوعين قضيتهما في موسكو المتعبة والحزينة والمعبأة بكافة أشكال التناقضات الصارخة عدت إلى تونس، وفي صباح اليوم التالي لعودتي التقيت مع الأخ الرئيس أبو عمار، وقد سلمته تقريراً عن المشاريع الاقتصادية والمالية الوهمية أو تلك المبنية على تقديرات لا علاقة لها بتاتاً بالمستجدات التي تعصف بالأوضاع الاقتصادية في جمهورية روسيا وسائر الجمهوريات الأخرى المستقلة بفعل انهيار الاتحاد السوفييتي ، بالإضافة لتقدير موقف سياسي حول ما سمعت من خلافات إسرائيلية ويهودية وصهيونية مع إدارة الرئيس الأمريكي "جورج بوش الأب" والتوجهات الاقتصادية والمالية المنتظرة على ضوء نجاحه في ولاية ثانية والاحتمال الكبير الآخر في إمكانية فشله في الانتخابات بسبب الضغوطات اليهودية الصهيونية. كان الأخ أبو عمار ومع كل سطر يقرأه حول المشاريع الاقتصادية والمالية يعبر عن نرفزته بالشتائم تارة وبالاستغفار تارة أخرى وقد قاطعته قائلاً: يا أخ أبو عمار إذا كنت ستُبدى غضبك ونرفزتك بعد كل سطر تقرأه فمعنى  هذا إنك ستستهلك وقتاً طويلاً وبدون فائدة فقال: كانت لدي هواجس كبيرة بأن الموضوع برمته "أفلام لصوص" ولكنني كنت أريد أن أقطع الشك باليقين ولهذا أرسلتك إلى هناك ، لن أصرف أي فلس ومهما كانت النداءات المستغيثة من قبل البعض، وعليك أن لا تُبلغ أحداً ، بأنك قد كنت في مهمة سرية في موسكو وحتى لا تتعرض للأذى والانتقام، فقلت له: ولكنني التقيت في قاعة "الترانزيت" ونحن نستعد للمغادرة بالأخ أبو جهاد " فتحي البحرية "، وهو من المقربين منك وقد استغرب وجودي المفاجئ في مطار موسكو وباعتبار أن اسمي قد كان على قائمة "البلاك ليست" كما يعتقد عند السلطات السوفييتية ومُنذ ثلاثة أعوام، فأخبرته: بأنني قادم من الصين ولم أدخل موسكو بسبب المشاكل القديمة، وقد أهديته بعض الأسماك المدخنة وعلبتي كفيار بسبب تأخره عن الشراء من السوق الحرة، ابتسم الأخ أبو عمار وتناول حبة من الشوكولاتة وقذف بها نحوى وهو يقول: " خذ كل يا حمار" تغير لوني وقد لاحظ الأخ أبو عمار علامات الحيرة والاستياء على وجهي، فعاد ليقول : يبدو أنك فهمت عبارتي بطريقة خاطئة، فأنت وبالفعل من حمير فتح الكبيرة وأنا الحمار الأكبر بينكم، فنحن خلقنا في هذه الثورة لكي نحرث الأرض ونشقى طوال الليل والنهار بدون مقابل، في حين يأتي غيرنا ويستثمر جهدنا وتعبنا في الحصول على موقع أو وظيفة كبيرة بحكم المعادلات الصعبة التي نعيش في ظروفها المتناقضة، وبعد خروجي من مكتب الأخ الرئيس اتصلت مع الأخ عاطف بسيسو واتفقنا على اللقاء صباح الغد في منزله، وفي حدود الساعة التاسعة والنصف صباحاً من اليوم التالي التقينا بحسب الموعد، وكان يحاول بكافة السبل والوسائل ترويض طفليه التوأم ولإقناعها بشرب الدواء وبعد أن انتهى من هذه المهمة الصعبة ضحك وقال: كان الله في عون الزوجات لأن تربية الأطفال وكما تلاحظ تحتاج للصبر والخبرة وأمور كثيرة يصعب علينا كرجال إتقانها، ولكن أخبرني كيف كانت أمور الرحلة؟ المهم أنت عدت من جديد إلى موسكو وهي كما ألاحظ تُعيد إليك روح الحيوية والشباب، قلت له : ولكنني أحسست بالغصة والحزن على ضياع مجدها، فهي أم العواصم وحاملة مشعل الحرية الذي انهار صرحة بعد سقوط التجربة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفييتي ، نحن يا عزيزي أصبحنا بلا سند حقيقي وأصبح من السهل على الأعداء تصويب طعناتهم الغادرة إلى ظهورنا، فقال معك حق ولكن بعد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط دخلنا تحت سقف الحماية الدولية فأجبته هذا صحيح من جهة وغير صحيح من جهة أخرى لأن "إسرائيل" وكما تعلم لا تقيم وزناً لذلك وهي تتصرف أحياناً بطريقة غامضة، وعملياً فإن حكومة اسحق شامير مستفزة أساساً من نجاح المؤتمر ، وربما تحاول المستحيل لفعل بعض الأشياء بهدف نسف البرنامج الأمريكي المعد للتسويات في الشرق الأوسط ، وبعد أن خرجنا من المنزل واتجهنا سوية باتجاه المقر المركزي للأمن الموحد، وعلى آمل القيام بزيارة لأحد الأصدقاء من قادة جهاز أمن الرئاسة فيما بعد بحسب رزنامة المواعيد الثابتة، اتصل مكتب الأخ الرئيس به، فأعتذر مني واتجه إلى هناك وفي غضون ساعة من الانتظار ، عاد وهو يعتذر ويطلب مني الاعتذار نيابة عنه لمن كنا قد وعدناه بالزيارة لأنه سيغادر بعد ساعتين تونس في مهمة عاجلة، ودعته قبل أن ينطلق عائداً للبيت لترتيب حقيبة سفره وقد تمنيت له السلامة وقلت له مازحاً خذ حذرك لأن غطاء الحماية الدولية مليء بالثقوب .
وللأسف وبعد مرور عشرة أيام على هذه الرحلة ، عاد الأخ عاطف بسيسو في تابوت الشهادة ، فقد تمكن عملاء الموساد الإسرائيلي من اصطياده لحظة وصوله من ألمانيا إلى الفندق الذي سيقيم به في باريس ، وعبر صحافتها وبطريقة المنتقم والمتشفي قالت إسرائيل: بأنها اغتالت في عاطف بسيسو رجلاً كان تاريخه أسود من السواد نفسه مع الدولة العبرية ومع الشعب الإسرائيلي بشكل عام. أحس الأخ أبو عمار بثقل الخسارة وقد عانقني معزياً والدموع تملأُ عينية ، كما طلب مني الحضور لطرفه بعد الانتهاء من مراسم العزاء، ومع مرور الأسبوع الأول على هذه الفاجعة ، التقيت مع الأخ أبو عمار والذي قرر وبلا رجعه الاعتماد على الأخ أمين الهندي لمتابعة كافة النشاطات الأمنية من جهة ومحاولة تطبيع علاقاتي مع الأخوة في مصر وبأقصى سرعة ، فقلت له بأن الأخ عاطف بسيسو كان يحاول ذلك وإلى درجة أنه أقسم باليمين على الهاتف أمامي وهو يتحدث مع المسؤولين في أمن الدولة، بأنه لن يدخل مصر في أي زيارة قادمة للعمل إلاّ بصحبة الدكتور كامل، وللأسف فقد استشهد قبل أن يتمكن من اصطحابي معه إلى هناك ، والأخ أمين الهندي وكما تعلم فإن علاقاته معهم في أمن الدولة ليست على ما يرام بعد ملابسات قضية السلاح الموجود في شقته أثناء ظروف حرب الخليج الدولية ضد النظام العراقي ، فقال أترك الموضوع لي ولا تفكر به كثيراً، فربما تحين الفرصة المناسبة والملائمة في وقت لاحق، وبالمقابل وعلى خط حادثة الاغتيال المفاجئة للفرنسيين شعرت الحكومة الفرنسية بالحرج البالغ ، فالعملية تمت في باريس ، وضربت عرض الحائط باتفاقية عدم استخدام الأراضي الفرنسية من قبل الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني لتصفية الحسابات في حربهما المكشوفة، وفي حين كان اسحق شامير وعلى الطريقة الإسرائيلية يحاول توظيفها لخدمة أغراضه الانتخابية كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعيش حملتها الانتخابية الصاخبة للتنافس على زعامة البيت الأبيض بين الرئيس "جورج بوش الأب" الطامح لولاية ثانية عن الحزب الجمهوري والمرشح الديمقراطي الشاب "بيل كلينتون"، وبحسب استطلاعات الرأي والتقديرات الإستراتيجية الصادرة عن مراكز البحوث الأوروبية والأخبار المنقولة عالمياً وعلى الصعيد الإقليمي، كانت الأفضلية تصب في مصلحة فوز الرئيس جورج بوش الأب انتخابيا بولاية ثانية وباعتبار أنه صانع مجد وعظمة الولايات المتحدة الأمريكية على الصعيد الخارجي ومن خلال انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي من جهة ونجاحه في تجنيد وقيادة أكبر تحالف دولي وإقليمي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية من أجل تحرير الكويت وضرب وتدمير الجيش العراقي في حرب الخليج الثانية. وعملياً فإن هذه التقديرات أهملت العوامل الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية كما أنها استهانت بالتأثير الخطير للتجمعات المالية اليهودية وقدرة اللوبي الصهيوني على إدارة المعارك الإعلامية وشراء الذمم والعبث بالمؤسسات والمنظمات الأهلية الأمريكية، وعليه وبالاستناد على ما تقدم، قمت باعداد تقدير موقف استراتيجي مقدم باسم الأخ الرئيس أبو عمار وعلى امتداد خمسة صفحات وتحت عنوان "الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس بيل كلينتون" ومع مقدمة صغيرة وهي عبارة عن رسالة فلسطينية موجهة للرئيس بيل كلينتون تقول: بأن الشعب الفلسطيني ينتظر فوزكم بفارغ الصبر، وباعتبار أنه يرى فيكم الخليفة القادم لمواصلة طريق الرئيس المرحوم "جون كيندي" ، والذي كان أول من طالب بإنشاء هيئة سياسية لتمثيل ورعاية الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني قبل اغتياله بعدة شهور، وحيث قام الرئيس المرحوم جمال عبد الناصر بتبني هذه الفكرة وتحويلها إلى واقع ملموس عبر قيام مصر وفي مؤتمر القمة العربية المنعقد في عام 1964م بالإعلان عن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وهي المنظمة التي يترأسها اليوم الرئيس ياسر عرفات عبر نضال صعب وشاق من أجل السلام العادل وعلى أساس قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وبعد أن سلمته باليد للأخ الرئيس أبو عمار تصفحه بدون تعليق ومن ثم وضعه في درج مكتبه ، وبعد عدة أسابيع دخلت الانتخابات الأمريكية مرحلة الحسم ، وعلى وقع الإعلان الإعلامي والمباشر عن سير العملية الانتخابية في العديد من الولايات الأمريكية سهر الأخ الرئيس وسهر معه عدد كبير من المساعدين والمستشارين وبعض القيادات وكان من بينهم الأخ أبو العبد العكلوك، ومع بزوغ ساعات الفجر الأولى تم الإعلان رسمياً عن فوز الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون ، وسط ذهول الساهرين مع الأخ الرئيس والذين كانوا في انتظار الإعلان عن فوز " جورج بوش الأب" بولاية ثانية وبحسب توقعاتهم الحاسمة. سحب الأخ أبو عمار تقدير الموقف الاستراتيجي المخبأ في درجه بعد أن كتب عليه عديد العبارات للنشر والتوزيع والتعميم وأرسل نسخة منه إلى مكتب الرئيس الأمريكي الديمقراطي السابق "جيمي كارتر"، كما أرسل العديد من النسخ إلى عناوين أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم نظر لمن حوله وقال: "كالعادة لدي الدكتور كامل صاحب العقل المبدع والرؤيا الاستراتيجية الثاقبة في مقابل مجموعة من الأميين والجهلة والحمير"، وعلى وقع هذا الحدث ، وقبل أن يذهب للنوم إثر هذه السهرة الماراثونية ، اتصل بي الأخ أبو العبد العكلوك ليقول لي: إنك دائماً يا دكتور بترفع الرأس ودائماً في قلب الحدث، ونحن لن نفتخر بأحد سواك هذا اليوم، فالأخ أبو عمار أرسل تقدير الموقف الاستراتيجي حول حتمية انتصار الرئيس "بيل كلينتون" في الانتخابات الأمريكية للرئيس جيمي كارتر، ولعدد آخر من قيادات ومسؤولي الحزب الديموقراطي الأمريكي، فأنت بذلك خلصت القيادة الفلسطينية من إحراجات انحيازها الإجباري المسبق إلى جانب الرئيس "جورج بوش الأب" تحت وقع الضغوطات والخوف من المستقبل ، وأمام هذه المتغيرات العاصفة حدثت المفاجأة المتوقعة على الصعيد الإسرائيلي وهي مفاجأة مُريحة للعديد من الأوساط الإقليمية والدولية وعلى الصعيد الفلسطيني كذلك، وحيث تمكن اسحق رابين من قيادة حزب العمل الإسرائيلي وبالتحالف مع الجهات اليسارية الأخرى من تحقيق الفوز في الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية وحيث لم يعد حزب الليكود اليميني المتطرف قادراً وكالعادة على استثمار نجاحه في التوصل لاتفاقيات كامب ديفيد أمام التواصل المستمر للانتفاضة الشعبية الفلسطينية في المناطق المحتلة، وبعد عدة أيام فوجئت بالأخ أمين الهندي وهو يسلمني ملفاً ضخماً من الأوراق التفاوضية عن سير المفاوضات بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي في واشنطن، وقد علمت منه بأن الأخ أبو عمار يريد قراءتها بتمعن والخروج بنتائج واستخلاصات دقيقة حول المسار التفاوضي، وآفاق المستقبل ومدى كفاءة المفاوضين الفلسطينيين، كان الوفد الفلسطيني المفاوض برئاسة الدكتور حيدر عبد الشافي محط أنظار الجميع وكان يحظى بتعاطف شعبي عام بعيداً عن القناعات السياسية ، إلا أن عدم قدرته على إحراز أي نوع من التقدم في ظل الحفاوة الأمريكية والتكريم "البروتوكولي" اللائق الذي يحظى به والدعم المعنوي المبطن من الأركان المتنفذة في إدارة الرئيس "جورج بوش الأب" ومن وزير الخارجية الأمريكية السيد "جيمس بيكر" بالذات بدأ يثير نوعاً من الاستفسارات الإستراتيجية المحقة حول السلوك الإسرائيلي المتعنت والمختبئ وراء سياسات التسويف والمماطلة وكسب الوقت من جهة وحول مصير الوفد لاحقاً في حال سقوط الإدارة الأمريكية الراهنة وعبر فشل الرئيس "جورج بوش الأب" وعجزه عن الفوز بولاية أمريكية ثانية من جهة أخرى، وهو ما حصل بالفعل لاحقاً، وعليه وعلى ضوء هذه المستجدات على صعيد استبدال الزعامات كان لا بد من إعادة ترتيب الأوراق الفلسطينية، وقد كتبت للأخ الرئيس أبو عمار: بأن الوفد بدأ يفقد توازنه الإستراتيجي على صعيد علاقاته المميزة مع أركان الإدارة الأمريكية المنحلة، ولسوف تحاول عجلات المرونة الإسرائيلية اللفظية والتي يتقنها تاريخياً قادة حزب العمل الإسرائيلي من جذبهم باتجاه التعاطي الواقعي مع بعض الحلول والمقترحات مما سيؤدي إلى اتساع مساحة التباعد بين الوفد وبين القيادة السياسية والشرعية لمنظمة التحرير الفلسطينية على صعيد المواقف والنتائج اللاحقة، وحيث تتضح من السيرة الذاتية المستنبطة من تتابع تطورات الفكر التفاوضي لدى أفراد الوفد وعبر الجلسات السابقة وحتى الجولة التفاوضية العاشرة هذه الحقيقة والتي ستؤدي حتماً وفي حال استمرار المفاوضات إلى زيادة مساحة النفوذ الإسرائيلي الضاغط معنوياً وبشكل من التعاطي الإيجابي على نسبة مؤثرة داخل الوفد الفلسطيني، في حين ستؤدي التطورات اللاحقة على مستوى الترتيب الإداري في إدارة البيت الأبيض الأمريكي الجديدة إلى تراجع ملحوظ في مستويات الدعم والإنحياز للعلاقة المتميزة أمريكياً مع بعض أعضاء الوفد الفلسطيني، وعليه وفي الخلاصة لابد من إعادة ترتيب الأولويات التفاوضية وترتيب أوضاع الخارطة الإدارية للوفد وعلى صعيد الشخصيات والأفراد وتحديد المسؤوليات من جديد وبما يتناسب مع تصليب المرونة الفلسطينية في مواجهة التنوع الواقعي والمحتمل للضغوطات الأمريكية والإسرائيلية المتناغمة فيما بينها، وبالنظر لخطورة وأهمية التقرير المرفوع للأخ الرئيس أبو عمار فقد اقترحت على الأخ أمين الهندي توقيعه باسمه ، وبعد أن تم ذلك وفي تمام الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل اتصل بي هاتفياً يطلب حضوري لقراءة تعليق الأخ الرئيس أبو عمار على التقرير من شدة الارتباك. كان تعليق الأخ أبو عمار عبارة عن سؤال استفساري واضح ويحتاج إلى إجابة واضحة وبعبارة "كيف ومن أين تم تمرير هذه المعلومات إليك يا أخ أمين " ، أخذت منه التقرير وقلت له مطمئناً: الأخ أبو عمار يريد أن يتأكد فقط، هل هذه المعلومات حصلنا عليها من جهات خارجية أم نتيجة اجتهادات واستقراءات داخلية ، وبعد ذلك سيحدد موقفه ويتخذ القرار المناسب، على العموم سأقوم بكتابة رد توضيحي على هذا الاستفسار ، واقتراح التفكير الجدي بوقف المفاوضات وسحب الوفد الفلسطيني بعد نهاية الجولة العاشرة والعمل على فتح قنوات أخرى للاتصال والتفاوض السري مع حكومة "اسحق رابين" وبغرض وهدف شد قدمه ليتورط في علمية الاعتراف بالمنظمة رسمياً باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وربما يكون ذلك سهلاً على اسحق رابين بعد الاختراق الذي أحدثته مفاوضات مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط والتي فرضت على حكومة الليكودي واليميني المتطرف "اسحق شامير" ومن موقعه كرئيس للوزراء بحضور المؤتمر والتفاوض مع طرف فلسطيني يمثل منظمة التحرير حتى وإن كان بداية في إطار الوفد الأردني الفلسطيني المشترك، وبالتأكيد سأقوم هذه المرة بالتوقيع على صيغة هذا الرد المرفق مع التقرير، ولسوف أقوم بتسليمه باليد للأخ أبو عمار مساء هذا اليوم، وقد تم ذلك فعلاً ، وحيث طلب الأخ أبو عمار بإدخال جميع كوادر وضباط الأمن الكبار عليه دفعة واحدة، كان الأخ الحاج أبو أنور والأخ طارق أبو رجب والأخ زياد ضبان والأخ توفيق جبر وجميعهم من ضباط الأمن المركزي والمعلومات، وقد رفضت الدخول ، فعاد  الأخ خلدون ليقول لي: الأخ أبو عمار وبالأمر يطلب منك الدخول الآن عليه، وتنفيذاً للتعليمات استجبت وتوجهت مع الأخ خلدون لمكتب الأخ أبو عمار والذي استقبلني مازحاً وببشاشة وهو يقول : أهلاً بالأمن كله ، أهلاً بالأمن الخاص بالرئيس " جلست على مقربة من الإخوة المذكورين وانتظرت صامتاً حتى تقدم كل واحد منهم بما لديه من أوراق كان يوقعها ويعيدها إليهم وهي في معظمها تتعلق بأمور مالية ومن ثم سألني ماذا معك يا دكتور؟ نهضت من مكاني وسلمته نسخة التقرير مع الرد التوضيحي الموقع باسمي، ولعدة دقائق قرأ الرد بتمعن ومن ثم ابتسم وهو يردد قائلاً: أنا مندهش، أنا معجب ، أنا فخور بك وبقدراتك الذهنية والعقلية العجيبة وبهذا الذكاء الخارق" فرد عليه الأخ أبو أنور بالقول: يا أخ أبو عمار الدكتور كامل عقلية جبارة ومنها تعلمنا الكثير ، ثم تبعه الأخ توفيق جبر قائلاً : يا أخ أبو عمار الدكتور أستاذنا ومعلمنا جميعاً ولهذا كان يتميز عند الأخوين الشهيدين أبو إياد وأبو الهول بكل أنواع المعزة الخاصة ، كما أضاف الأخ زياد ضبان بعض الكلمات الإيجابية لحديث الأخوة ، والذين ونهضوا جميعاً وقد نهضت معهم للخروج إلاّ أن الأخ أبو عمار طلب مني عدم الخروج والاقتراب من مكتبه ليهمس في أذني بعد أن خرج الجميع " بأنه سيبدأ في العمل لتنفيذ هذه المقترحات المرفقة مع تقرير الاستنتاجات، وفي صبيحة اليوم التالي التقيت مع الأخ أمين الهندي في بيته وبعد أن شرحت له حيثيات ما جرى ليلة أمس أبلغته بتوجهات الأخ أبو عمار حول نيته سحب الوفد من واشنطن وفتح قنوات للتفاوض السري مع حكومة رابين، وقد بدت عليه علامات الاستغراب والاندهاش وقال وهو بين الشك واليقين: يا دكتور من الصعب علينا جميعاً أن نفهم الأخ أبو عمار فهو بسيط وغامض في نفس الوقت، المهم لقد اقترب موعد زيارتنا الرسمية إلى فرنسا، ولسوف نبقى في باريس لمدة خمسة أيام، وعليك أن تجهز نفسك جيداً فأنت ستكون المحاضر الوحيد طوال هذه المدة في كوادر وضباط وموظفين كبار من وزارتي الداخلية والخارجية وجهاز المخابرات، وأرجو أن تكون المواد والمواضيع المتعلقة بالمحاضرات جاهزة خلال الأسبوع القادم. كانت المرة الأولى التي أدخل فيها باريس،وكان ذلك بتاريخ 24/5/1993م وفي مطار أورلي الباريسي ومنذ لحظة خروجنا من الطائرة، بدأت إجراءات السلامة الأمنية تفرض نفسها على واقع الزيارة ، كان هناك وحدة خاصة للحماية والمرافقة تابعة مباشرة لجهاز المخابرات الفرنسي تولت عملية الانتقال بنا إلى الفندق، وهناك ازدادت الإجراءات تشدداً ففي الجناح الذي أنزلونا فيه بالطابق الرابع كان الضباط في الملابس المدنية يجلسون بالقرب من سلالم الدرج وعلى مسافة قريبة كذلك من المصعد، وبين غرفتي وغرفة الأخ أمين الهندي كان هناك غرفة تتوسط الغرفتين وبها عدد من الضباط بالإضافة إلى المترجمة والتي كانت وكما يبدو من أصول مغربية ، وفي حدود الساعة العاشرة صباحاً تم اصطحابنا في موكب من السيارات الرسمية إلى موعد الاجتماع في مقر المخابرات ، وبعد تبادل عبارات المجاملة قام الأخ أمين الهندي بتعريفهم علي شخصيتي الأمنية والسياسية ومكانتي العلمية وبدون أن يغفل التشديد أمامهم على كوني من أهم المستشارين الموثوقين للرئيس عرفات، ومن ثم أخرج ورقة صغيرة من جيبه ، وبدأ يقرأ أمامهم جملة ... جملة ردود الأخ أبو عمار وطلباته وتصوراته عن طبيعة المرحلة والمستجدات الطارئة ، وبعد أن انتهى من قراءة الورقة أعادها من جديد إلى جيبه وهو يقول: جميع الاستفسارات والإيضاحات التي ترغبون بمعرفتها سيقوم أخي الدكتور كامل بالإجابة عنها، وهو ما تم بالفعل وحيث استمر النقاش وتداول الحديث فيما بيننا لمدة ساعة ونصف تقريباً ومن ثم استمعنا منهم لبرنامج زيارة العمل المعد من قبلهم وترتيب أوقات المحاضرات، بالإضافة إلى آخر التطورات في متابعتهم الأمنية حول موضوعه اغتيال الشهيد عاطف بسيسو في باريس وإمكانية التعجيل باستبدال سفير وممثل المنظمة الدكتور إبراهيم "ألصوص" في باريس بالدكتورة ليلي شهيد، ومع صبيحة اليوم التالي بدأت ورشة المحاضرات والتي كان يتخللها فترة للغذاء ولمدة ساعة ومن ثم تستمر النقاشات والإجابة على الأسئلة وحتى حدود الساعة الخامسة مساءاً، وفي اليوم الرابع وبعد استكمال سلسلة المحاضرات حول الواقع العربي ومستقبل الحركات الإسلامية والقومية في المنطقة والأسباب التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي والفوز المفاجئ للرئيس الديموقراطي بيل كلينتون على الرئيس "جورج بوش الأب" وبعكس التوقعات قال: مدير المخابرات الفرنسية بأنه يقترح في الغد أن يكون اللقاء جلسة مفتوحة للحوار حول آفاق المستقبل وكيفية نجاح الجمهورية الفرنسية في بناء مواقف مستقلة ومتميزة لها على صعيد سياسات الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية بعيداً عن تأثيرات الاستفراد والهيمنة الأمريكية المنحازة للجانب الإسرائيلي وحول هذه المواضيع وخاصة الأتي منها:-
لماذا وهو السباق في ذلك توقع انهيار الاتحاد السوفييتي بعد خمس سنوات وقبل خمس سنوات من حدوث هذا الانهيار؟ وما هي الأسس والمنطلقات التي جعلته يُعد تقريره الإستراتيجي الشامل وقبل أربعين يوماً من الانتخابات الأمريكية وبتوقع جازم وأكيد بفوز الرئيس بيل كلينتون على منافسه القوى "جورج بوش الأب" وبعكس كافة التقديرات الدولية والأوروبية والإقليمية وتوجهات استطلاعات الرأي نفسها في داخل الولايات المتحدة الأمريكية؟ ولماذا أقدمت حكومة اسحق رابين على إبعاد كوادر وقادة حركة حماس إلى مرج الزهور في جنوب لبنان والأسباب التي تجعل الولايات المتحدة الأمريكية تتخذ موقفاً احتجاجياً مغايراً ، وهي تطالب بعودتهم من جديد إلى مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة ؟ وهل يمكن أن يتم لاحقاً تعميم نموذج الفتنة والصراع بين "الفيس" الحركة الإسلامية الجزائرية والسلطة في الجزائر في العديد من المناطق العربية وما هي الأسس المطلوبة لانتهاج سياسة فرنسية ناجحة في الشرق الأوسط بعيداً عن الضغوطات الأمريكية والإسرائيلية؟ وكيف يمكن التوصل للحلول المقبولة والمرضية للجميع فيما يتعلق بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وعلى قاعدة إنهاء النزاع والصراع الإسرائيلي الفلسطيني والدور المتوقع والمنتظر لمنظمة التحرير الفلسطينية في ذلك ؟ استمرت هذه الجلسة وعلى فترتين حتى الساعة السابعة مساءاً، وبعدها تم اصطحابنا لعشاء وداعي في مطعم مقام على أحواض السمك الزجاجية بالقرب من برج " إيفل "، وعبر تداول العبارات المازحة قال أحدهم: بأننا قررنا أن يكون العشاء هنا وحتى يتمكن الدكتور كامل من رؤية برج " إيفل " ولو من خلال الجدران الزجاجية فهو دخل مدينة النور وسيخرج منها وبدون أن يأخذ فرصته الكافية للتعرف على جمالها ومعالمها الأثرية والتاريخية ، وفي صباح اليوم الأخير وهو يوم المغادرة عصراً والعودة إلى تونس حضرت مع الأخ أمين اجتماع طارئ داخل الفندق ولمدة ساعة مع نائب مدير المخابرات الدنمركي وبحضور شخصية أمنية من النرويج وبترتيب فرنسي مُسبق كما أتضح ، وبينما كنا نتجهز للمغادرة فوجئنا بأننا وبعد أن نغادر الفندق مع حقائبنا سنتوجه أولاً لمبنى وزارة الداخلية لمقابلة وزير الداخلية بناءاً على طلبه العاجل لمدة نصف ساعة ومن ثم الانطلاق من هناك إلى المطار . جلسنا في غرفة جانبية صغيرة وقد حضر الرجل على استعجال وهو يبتسم وقال: هذا اللقاء ممنوع بيننا لأسباب برتكولية وأسباب سياسية تتعلق بالضغوطات الإسرائيلية ، ولكنني ومن خلال متابعتي اليومية لسير المحاضرات وقراءة ملخصات عنها قررت كسر الحواجز واللقاء معكم، لقد أعجبني منطق وفلسفة البروفسور الدكتور كامل أبو عيسى وهو يؤكد: بأن من يريد إنهاء ظاهرة الجهاد المتنامية على الصعيدين العربي والإسلامي، عليه أن يعمل بجد وبصدق على قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وبشرط أن تكون عاصمتها القدس الشرقية " أي القدس الشريف " وباعتبار أن ذلك يسحب البساط من تحت أقدام حركات الجهاد الاحتجاجي الإسلامية وهي الداعية للجهاد من اجل تحرير القدس من الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك سيرضي جميع الحركات الوطنية والقومية العربية على الصعيدين الشعبي والرسمي والتي تحلم وعبر برامجها بقيام دولة فلسطينية ، وهي الدولة التي اتفق معكم بأنها ستكون حجر الزاوية في معادلة الاستقرار المنشود والمطلوب في منطقة الشرق ق الأوسط ، ولكن لي سؤال أرجو أن أتلقى إجابة عنه، ماذا لو قررت إسرائيل الانسحاب من قطاع غزة هل ستقبل المنظمة باستلامه؟ فرد عليه الأخ أمين قائلاً هذا سؤال سياسي يحتاج إلى مراجعة القيادة السياسية، ولكنني اعتقد بأن لدى الدكتور كامل الإجابة عنه وباعتبار قربه الدائم من الرئيس عرفات،نظر نحوي الوزير وهو يبتسم بانتظار الإجابة ، فقلت له:أن إسرائيل تحاول الخلاص من مأزقها في قطاع غزة مُنذ مدة طويلة ونحن لا نستطيع أن نقبل بهذا بدون أن يكون هناك خطوات جغرافية مناسبة على صعيد الضفة الغربية وهي الأهم بالنسبة لنا، وعلى قاعدة الانسحاب من قطاع غزة وحتى يُصبح مقبولاً لدينا يجب أن يترافق ذلك بانسحابات إسرائيلية مماثلة من بعض مناطق الضفة الغربية كخطوة أولى على طريق إثبات حُسن النوايا، وليكن ذلك مثلاً بالترافق مع الانسحاب من منطقة أريحا والأغوار وتسليمها للجانب الفلسطيني في نفس الوقت مع قطاع غزة . نهض الوزير من مكانه وقال: لا أريد الإطالة أكثر فأنتما على سفر ولكنني سأكون في تونس مع نهاية الشهر القادم في زيارة رسمية وأتمنى من خلالها اللقاء بالرئيس عرفات وذلك بعد إتمام زيارة سريعة وخاطفة سأقوم بها إلى إسرائيل ، صافحنا مودعاً وخرج في حال سبيله بينما اتجهت مع الأخ أمين والمرافقين الفرنسيين إلى السيارات والتي انطلقت مباشرة إلى المطار ، وفي ساعة متأخرة من الليل توجه الأخ أمين لمكتب الأخ الرئيس أبو عمار ولإبلاغه بنتائج الزيارة في حين عدت إلى منزلي مُنهكاً أبحث عن قسط من الراحة والنوم العميق، وفي صبيحة اليوم التالي وفي حدود الساعة العاشرة والنصف صباحاً التقيت وعلى انفراد بالأخ أبو عمار والذي استقبلني بحفاوة بالغة ذكرتني باستقبالاته المميزة لي أثناء سنوات الصراع الساخن في موسكو، وقد طلب مني الجلوس على الكرسي المجاور مباشرة لمكتبه ومن ثمة قال: الحمد لله على السلامة أولاً، وثانياً حضر الأخ أمين الهندي في ساعة متأخرة من الليل وأبلغني عن نجاحك الرائع في إدارة سلسلة من المحاضرات تركت عميق الأثر الايجابي لدى الجانب الفرنسي وقد أعلمته بأن الجانب الفرنسي أرسل لي برقية شكر وتقدير بسبب الجهد المتميز للوفد الأمني الفلسطيني والمحاضرات التي حاضر فيها الدكتور كامل والتي نالت إعجاب كوادر وزارتي الخارجية والداخلية الفرنسية بالإضافة إلى كوادر جهاز المخابرات ، وقلت له: وقبل أن أستمع منك إلى ملاحظاتك الخاصة " بأن الدكتور كامل الذي بلع الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي سابقاً لم يكن صعباً عليه أن يبلع فرنسا في غضون أربعة أيام" والآن قل لي: ما هي أهم الملاحظات والمؤشرات التي استوعبتها أنت وعلى طريقتك الخاصة بعيداً عن السرد التقليدي المعهود ، ابتسمت وبدون أن أقوى على إخفاء نشوة الفرح بهذا الإنجاز الذي تحقق وقلت له: يا أخ أبو عمار لعل الملاحظة الأولى التي  استرعت انتباهي كانت وبالرغم من بساطتها شديدة الأهمية ، وهي أن الفرنسيين ومن بين شعوب الكرة الأرضية يتميزون بالإعراب عن مشاعرهم من خلال القسمات والتعابير التي ترتسم على وجوههم، وقد كان ذلك يبدو جلياً وبوضوح كلما كنت أقسو في انتقاداتي على السياسات العدوانية الإسرائيلية ومن خلال فضح الممارسات الصهيونية والعنصرية البغيضة بحق الشعب الفلسطيني وسائر شعوب الأمة العربية ، أما الملاحظة الثانية والتي استرعت اهتمامي فقد تمثلت في إصرار وزير الداخلية على مقابلتنا وفي الوقت الضائع كما يقال، وقد أحسست بأنه يقدم وبطريقة غير مباشرة عرضاً إسرائيلياً للخروج من قطاع غزة، وهو يأمل أن يكون له دور الوسيط الجانبي ومن خلال نقل وعرض بعض التصورات الإسرائيلية عن حلول وتسويات سياسية يمكن أن تشكل أرضية للمفاوضات اللاحقة، ولهذا فهو يأمل للقاء مع سيادتكم عند قدومه إلى تونس نهاية الشهر القادم وبدون أن يخفي نيته في القيام بزيارة سريعة وعاجلة إلى إسرائيل قبل ذلك، ولهذا ونيابة عنك اجتهدت بالرد على سؤاله حول موضوعه استلام قطاع غزة، بأننا لن نقع في هذا الفخ الإسرائيلي، وبحسن النوايا يمكن ربط موضوعه الانسحاب من قطاع غزة بانسحابات أخرى من بعض مناطق الضفة الغربية وفي منطقة أريحا والأغوار على سبيل المثال، وإذا قبلت إسرائيل بربط انسحابها من قطاع غزة بانسحابات متزامنة ولحساب منظمة التحرير الفلسطينية في الضفة الغربية، فربما تقبل القيادة الفلسطينية والرئيس عرفات بمناقشة هذا العرض المثير للاهتمام ، ابتسم الأخ أبو عمار وقال: لا تتحدث بهذه الملاحظات لأحد، لقد أبلغني الأخ أمين بهذا العرض على لسان وزير الداخلية، ولكنك أحسنت الإجابة عندما ربطت عرض الانسحاب من قطاع غزة بانسحابات متزامنة من بعض مناطق الضفة الغربية، استأذنت منه بالخروج، فقال لي إلى أين؟ أجبته بأنني أشعر بالإرهاق والتعب الشديد من قلة النوم، فضحك وهو يمازحني قائلاً: ومتي يعرف أمثالك النوم؟ أنت تتمنى أن تنام، ولكنك لا تستطيع ذلك إلاّ نادراً وبصعوبة لأن دماغك يعمل بشكل متواصل ويعمل بشكل مضاعف " يعني في الأربعة والعشرين ساعة يعمل ثماني وأربعين ساعة" وقد كنت أقول للأخ أبو إياد رحمه الله أحياناً ، بأنني أشعر وكأن الدكتور كامل يختبئ داخل درج أسراري عبر ما يرسله لي من تقارير ومعلومات، ولعل أجمل ما في تركيبتك النفسية هو عدم اقتناعك بالارتباط مع أحد 000 وحتى معي، ولهذا فأنت مادة بشرية عجيبة غير قابلة للاستيعاب أو للبيع أو الشراء، وهذا ما يجعلني أثق بك ثقة كبيرة وبلا حدود، وقبل أن أهم بالخروج قلت له: إنك تخيفني يا أخ أبو عمار فلم أتصور يوماً أنك تجيد التحليل النفسي وقراءة سيكولوجية البشر بهذا الشكل، فقال :           يا دكتور... لو لم أكن كذلك لما كنت ياسر عرفات، ولما استطعت الاستمرار طوال هذه المدة المديدة في قيادة شعب من الرؤوس المتنافرة، أسميه تحبباً وللتدليل على عنادته وشجاعته بشعب الجبارين، المهم اذهب الآن وحاول أن ترتاح بالطريقة التي تناسبك، فربما تكون على سفر جديد باتجاه القاهرة بعد عدة أسابيع فقد أوصيت بك خيراً، ولم يعد هناك ما يمنع من ذلك، وقد كان ذلك بالفعل وبعد عدة أسابيع وفي جلسة من العتاب والحوار الصريح داخل مبنى أمن الدولة انتهت المشاكل المزمنة والمديدة وقد أبلغوني بأن لي وثيقة سفر محتجزة في إدارة الحاكم باسمي كنت قد تقدمت بطلب للحصول عليها عام 1974م وأنه يمكن استخراج بديل عنها فوراً وقبل عودتي إلى تونس، فاعتذرت شاكراً لهم هذه اللفتة الطيبة وبسبب وجود عدة جوازات سفر معي صالحة للاستخدام آخرها جواز السفر الموريتاني، وفي حوار جلسة اليوم التالي تم التطرق لموضوعه استشهاد الأخ عاطف بسيسو وباعتبار أن غيابه قد ترك فراغاً هاماً على صعيد العلاقات الأمنية الفلسطينية مع مصر، فأجبت وبمنتهى الصراحة والشفافية وبدون مواربة ، بأنه فقط الأخ أمين الهندي وحده القادر على ملئ هذا الفراغ وباعتبار: أن لديه حقيبة المعلومات وحقيبة النقود وأنني وإن كنت أستطيع ملئ الفراغ السياسي فإنه لن يكون بمقدوري القيام بالجوانب الأخرى وعليه: فإنني أقترح أن يتم تطبيع العلاقات مع الأخ أمين الهندي والتصالح معه بتجاوز مشكلة الماضي التي عكرت صفو العلاقة، وهو ما تم بالفعل وحيث تم إبلاغي رسمياً بالموافقة على المصالحة وتطبيع العلاقة مع الأخ أمين وقد اقترحوا حضوره الفوري للقاهرة وأثناء فترة وجودي، وعليه فقد قمت بالاتصال مع الأخ أمين الهندي وأبلغته بالنتائج كما أبغلت الأخ الرئيس أبو عمار بهذا والذي علق قائلاً: " لقد عجز في السابق عن تأمين دخولك للقاهرة وأنت وفي أول زيارة لك نجحت في حل مشكلته مع أمن الدولة "وفي ساعة متأخرة من الليل اتصل بي الأخ أمين ليبلغني بوصوله غداً على الطائرة المصرية القادمة من تونس، وبالفعل وبحسب الاتفاق فقد تم استقباله من قبل ضباط أمن الدولة في المطار بشكل بروتوكولي لائق، وفي صبيحة اليوم التالي حضر عن أمن الدولة الأخ حسام سلامة إلى الفندق ومن هناك خرجنا معاً بالسيارة الحكومية التابعة لجهاز أمن الدولة إلى بيت الأخ أمين في المهندسين وعلى امتداد الساعة والنصف كان الحوار الدافئ والهادئ والمسؤول يؤسس لمرحلة جديدة من علاقات التعاون الإيجابي، وحيث تم بعدها مساءاً لقاء المصالحة النهائي بين الأخ أمين والمدير العام لمباحث أمن الدولة، وكان أطرف تعليق سمعته من الأخ أمين وهو يشكرني على هذه المبادرة المسؤولة وأثناء مغادرتي للقاهرة عائداً إلى تونس، بأنه قد تخلص من هواجس الإحساس بالمطاردة ، فكلما كان ينزل إلى القاهرة، كان يشعر وكأن الأخ "طارق ألموجي" مع بقية ضباط أمن الدولة يتابعوه حتى داخل حمام الشقة. كانت الأحداث تتسارع وكان التراشق التفاوضي عبر التسريب المتعمد لبعض الحلول والمقترحات يوحي بأن هناك طبخة معينة يجري إنضاجها في مكان ما وبعيداً عن العيون والأضواء، وقد جاءت التسريبة الملعوبة من قبل المطبخ الإسرائيلي لحكومة إسحق رابين وعبر مقال للمحلل الإستراتيجي الإسرائيلي "زئيف شيف" نشرته الصحافة الإسرائيلية وبه يؤكد : بأنه يوجد من بين مساعدي الرئيس عرفات الموثوقين من يتشكك وبعمق في النوايا الإسرائيلية المعروضة للانسحاب من قطاع غزة ويعتبرون ذلك بمثابة الفخ المنصوب لاصطياد القدم الفلسطينية، وبالمقابل فإن أطرف إسرائيلية متنفذة أصبحت لا تمانع من تنفيذ انسحابات محدودة من مدينة أريحا وفي منطقة أريحا والأغوار بالضفة الغربية بالتزامن مع الانسحاب من قطاع غزة وبهدف خلق قاعدة مشتركة من حسن النوايا بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني وعلى طريق استكمال مفاوضات الحل الشامل للتسوية السلمية بين الشعبين .
أخذت صورة عن المقال وبعد أن قمت باختزال بنوده الهامة وسلمته للأخ الرئيس أبو عمار باليد وهو الذي أخذ يؤشر بقلمه على بعض العبارات والجمل الواردة فيه وقال: " يبدو أنهم فهموا الرسالة بشكل واضح " فلا مجال للحديث عن انسحابات من قطاع غزة بدون الضفة الغربية ولن يكون هناك إقرار للتسوية الشاملة بدون عودة القدس الشريف للسيادة الفلسطينية. وبحسب التتابع المنطقي للأحداث جاءت المفاجأة الفرنسية وهي تعبر عن موقف شبة جماعي لدول المجموعة الأوروبية، بضرورة أن تشمل التسوية بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني انسحاباً إسرائيلياً تاماً من القدس للشرقية وباعتبارها العاصمة  السياسية للدولة الفلسطينية المقترحة، وهو الأمر الذي أغضب رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين وأضفى نوعاً من البرودة والإخفاق على زيارته الهامة إلى باريس، فإسرائيل ولأول مرة بدأت تستشعر بالتحولات السياسية الجديدة على صعيد الموقف الفرنسي والأوروبي وباتجاه التأييد المتزايد للمطالب الفلسطينية العادلة وللحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، ومع بداية شهر "آب أغسطس" من عام 1993م تحدثت بعض الصحف على احتمال التوقيع عن اتفاق وشيك "للمبادئ" في أعقاب مفاوضات سرية تجري بين وفدين إسرائيلي وفلسطيني "في أوسلو" وقبل أن يستفيق الواقع الفلسطيني من سباته المعارض لمثل هذه التوجهات، وبينما كانت بعض أطراف اللجنة المركزية لحركة فتح تبحث عن مصادر هذه التسريبات وتحاول الاقتراب من حقيقة الأمر ومعرفة الخفايا ، تم الإعلان وبشكل شبه يقيني وبتاريخ 20/8/1993م عن "اتفاق أوسلو للمبادئ" بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني وفي العديد من الصحف الرزينة وصاحبة المصداقية العالية، وهو الاتفاق الذي مهد الطريق لاعتراف إسرائيل رسمي بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وترك مسألة تنظيم بقاء وخروج الاحتلال الإسرائيلي من مناطق الولاية الجغرافية الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة للمفاوضات العلنية اللاحقة على تفاصيل قيام سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني المحدود في مناطق هذه الولاية.
كانت بنود الاتفاقيات المدمجة مع ورقة اتفاقية إعلان المبادئ بحاجة إلى تحديد وتفنيد والى جهد تفاوضي عالي المستوى وعلى قدر كبير من المهنية وإلمام عميق بأبجديات وأصول اللغة الإنجليزية بالإضافة إلى اللغتين العبرية والعربية ، ولكي يتم عبر ذلك وعبر كل هذا استخراج وطرد الشياطين المختبئة بين الحروف والكلمات والمنعرجات الخاصة بالتفاصيل، هذا بالإضافة إلى شحنات معنوية هائلة للحفاظ على قوة الدفع المطلوبة على صعيد إنجازات حسن النوايا، وقد كان الرئيس السوري المرحوم " حافظ الأسد " على حق عندما قال للوفد الفلسطيني الذي زار دمشق وهو يحمل معه ملف هذه الاتفاقيات : بأن كل بند من بنود هذه الاتفاقيات يحتاج إلى اتفاقيات جديدة، وبسرعة قياسية لا تعرف التأني تم تحديد مكان وزمان المفاوضات العلنية في منتجع طابا المصري على البحر الأحمر وبالقرب من ميناء " آيلات الإسرائيلي "، وقد شاءت الأقدار والصدف العجيبة حضوري لهذا المحفل التفاوضي وبصفة مستشار أمني في إطار تركيبة الوفد الفلسطيني وقد اعترض في البداية الأخ الرئيس أبو عمار على ذهابي إلى هناك في إطار الوفد ومن ثم تراجع عن هذا الاعتراض أمام إصرار البعض واللواء نصر يوسف بالذات على مشاركتي وحيث قال له الأخ أبو عمار : بأن أجواء ومناخات هذه المفاوضات ليست الأجواء والمناخات التي تلائم عقلية الدكتور كامل ولكن خذوه معكم، وخذ بالك منه جيداً هناك " يعني دير بالك عليه"، وفي " منتجع طابا " وعندما تهيأنا في تمام الساعة التاسعة صباحاً للدخول إلى قاعة المفاوضات كان عدد من كبار أعضاء الوفد الإسرائيلي يصطفون إلى جانب رئيس الوفد الجنرال " أمنون ليبكن شاحاك "للسلام على أعضاء الوفد الفلسطيني فرداً فرداً وأمام الكاميرات الإعلامية وعدسات الفضائيات، كان كل فرد منا وعندما ينتهي من التسليم يلج عبر الباب إلى قاعة " الريسبشن " وهي قاعة واسعة معدة لتناول المرطبات والقهوة ولإتمام عملية التعارف الشخصي والدردشة بين أعضاء الوفدين الإسرائيلي والفلسطيني ولمدة ثلاثة أرباع الساعة ، وفي هذه القاعة ومنذ أن دخلت من بوابتها دخل خلفي مباشرة رجل أشقر في نهاية الأربعينيات من العمر ويعتمر على رأسه طاقية " المتدينين اليهود "، وقد كان يقف قبل ذلك بجوار رئيس الوفد الإسرائيلي الجنرال " شاحاك " وعلى امتداد عدة دقائق كان يتابع خطواتي داخل القاعة ويهمس هنا وهناك مع بعض معارفه السابقين في الوفد الفلسطيني ، وعندها استدرت نحوه وفاجأته بالقول : هذه قاعة للمفاوضات السلمية وليست المكان المناسب للملاحقات والمتابعات الأمنية ، منذ عدة دقائق وأنت تلاحقني وتسأل مستفسراً عني، وكان بامكانك أن تأتيني مباشرة لتعرف ما تريده وتسأل عنه، تغير لون الرجل وامتقع من شدة الارتباك وحتى تدخل الدكتور " غابي زوهر " وهو مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي أسحق رابين لشؤون الإدارة المدنية في الضفة الغربية وقطاع غزة وقال وهو يضع يده على كتفي: معك حق لقد أخطأ طريقة التعارف وكان يجب أن لا يحدث ذلك، ومن ثم طلب منه الحضور ليصافحني وليقدم نفسه : فهو المستشار الأمني "أبراهام آفي كيتون" مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي لشؤون " الشين بيت " في المناطق الفلسطينية فقلت له: وبدون مقدمات اسمي الدكتور كامل أبو عيسى من مواليد فلسطين ومن مدينة دير البلح ومستشار أمني في الوفد الفلسطيني، وعندها رد بالقول: نحن نعرف مدينة دير البلح وهي " دير شالوم " بالنسبة لنا، ولا نعرف بلد اسمه فلسطين ، فأجبته: هذا شأنك ولكننا حضرنا إلى هنا لنتحدث باسم البلاد التي ترفض الاعتراف بها وهي فلسطين، وقد حاول الدكتور " غابي زوهر " ترطيب الأجواء بيننا من جديد بقوله: لقد اتفقنا على اسم المولود في     " أوسلو " ونحن هنا سنختار له لقباً يناسب علاقاتنا السلمية الجديدة، ومن ثم تنحى معي جانباً وقال: لقد كانت لك زيارة ناجحة جداً لفرنسا قبل عدة شهور، وقد منحوك الفرصة لتلقي عدة محاضرات على كوادرهم الأمنية والسياسية المتخصصة في مواضيع ومشاكل الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية ولكن قل لي : كيف ينظر الفرنسيون والأوروبيون عموماً لمستقبل علاقاتهم مع إسرائيل ويهود العالم؟ فقلت له بصراحة، إنهم مستاءون منكم جداً فقد كنتم في البداية مشروعهم الاستراتيجي للسيطرة على المنطقة وأصبحتم فيما بعد الحليف الأول والمشروع الاستراتيجي المعتمد للولايات المتحدة الأمريكية وعلى حساب المصالح الأوروبية والفرنسية ... ولهذا فأن هناك حجم من الكراهية الأوروبية يزداد اتساعاً مع مرور الوقت تجاه إسرائيل وتجاه من يؤيدها أو يقف معها من صهاينة ويهود العالم، فقال: معك حق إنهم يحاولون قدر المستطاع إخفاء كراهيتهم العميقة لنا ولكيان الدولة الإسرائيلية . ولكن وأرجو أن  لا تفهمني بطريقة خاطئة بسبب سؤالي هذا ، كيف ترى مستقبل دولة إسرائيل؟ فأجبته: بأنني ومن خلال فهمي العلمي والأكاديمي لحركة التاريخ ومسار التطور السياسي للأمم لا أرى أي مستقبل لها وباعتبار أنها نمت وترعرعت وتعملقت بسرعة بفعل الارادات الداعمة وعلى حساب التطور التاريخي المتفاعل والمرتبط بالحركة مع المكان والزمان ، وكما تلاحظ معي فأن إسرائيل تُعاني من مرض تاريخي ينعكس في قدريتها الحتمية، فهي تعيش على وقع صناعة الأحداث مع البدايات الصحيحة والنهايات الخاطئة، وحتى أبسط لك الأمور أنظر مثلاً وعلى سبيل المثال، إنكم تفاوضون اليوم الفتى الصغير الذي وضعتموه   لمدة أربعة سنوات في سجونكم بتهمة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بعد أن كبر وتعلم ونال أعلى الدرجات العلمية لتسليمه الأرض التي قمتم باحتلالها في مقابل البحث عن الاستقرار والسلام البعيد المنال، نظر نحوي وقال: يبدو وأننا انتقلنا من الجيتوات لنعيش في أبراج عاجية، وبهذا فقد ظلت عقليتنا مُغلقة وغير قادرة على استيعاب واحترام الغير والاستفادة من دروس الماضي، ولكن ما هو المخرج العادل والواقعي الذي تراه مناسباً لتعايش الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني ؟ فأجبته بالقول: هناك حل واحد ووحيد كبديل عن كومه هذه الاتفاقيات والاشتراطات والقيود الإسرائيلية المجحفة، وهو أن تتعاملوا مع الشعب الفلسطيني بعيداً عن لغة وموازين القوى السائدة، وعبر انسحاب إسرائيل التام من المناطق التي احتلتها في حزيران من عام 1967م وأن تساهم بجد ونشاط وسخاء في بناء دولة فلسطينية مستقلة وديموقراطية ومزدهرة اقتصادياً وعاصمتها وبكل تأكيد القدس الشرقية وأن تعمل مع دولة الشعب الفلسطيني على التوصل لحل عادل ومرضي لقضية اللاجئين الفلسطينيين عما أصابهم من ويلات ونكبات كانت السبب الأساسي والمباشر بها، عندها سيتحول الشعب الفلسطيني إلى صديق دائم ولن تكونوا بحاجة لتكريس ترسانات السلاح ولهذه الاتفاقيات المذلة التي تفرضوها علينا، فقال وهو يبتسم: إنك تتحدث بأسلوب بسيط ولكنه شديد العمق في أفكاره المتنورة ، واعتبر شخصياً بأنه معك حق في كل ما قلته، ولكن عليك أن تدرك أننا في مقابل الحفاظ على أمننا الخارجي وبالعلاقات الطيبة والمثمرة مع شعبكم سينفجر أمننا الداخلي، عندها قلت له: هذه إذن ليست ولن تكون بالمفاوضات الجادة والجدية بيننا وعليكم أن ترتبوا أوضاعكم الداخلية بالشكل المتناسب مع الحل العادل قبل أن تجلسوا معنا للتفاوض وألاّ فأن كل ما سوف تفرضوه علينا من حلول غير منطقية وغير عادلة ستذروه رياح الغضب الشعبي الفلسطيني ذات يوم وستجدوا أنفسكم تواجهون مقاومة فلسطينية أشد عمقاً وفتكاً وضراوة من سابقاتها، وهناك فرق شاسع بين البناء على الممكن الهزيل والبناء من أجل السلام. صافحني مودعاً وعلى آمل استكمال الحديث في فرصة أخرى وهو يقول مازحا ً: يبدو أن " أبراهام آفي كيتون " كان على حق عندما انتبه إلى وجودك المفاجئ في عداد الوفد الفلسطيني المفاوض.    
ومُنذ اليوم الأول بدت إسرائيل وكأنها تتفاوض مع نفسها أولاً ومن ثم تتفاوض مع نفسها نيابة عن الطرف الفلسطيني ثانياً ثم تقدم نصاً تفاوضياً لا يقبل القسمة على التعديلات وإنما يقبل وعبر المرونة التكتيكية الانفتاح على بعض الملاحظات وبوعد النظر فيها لاحقاً طالما أنها لا تعيق المسار المعد للتنفيذ على واقع الأرض ثالثاً، بهذه الطريقة تم تمرير الجلسة الأولى والثانية والثالثة وقبل الشروع في إنشاء اللجان الفرعية لاستكمال ملفات محددة في مفاوضات مجتزأة ، وقد ظهر ضعف الأداء التفاوضي الفلسطيني وظهرت معه عيوب كثيرة أخرى وعلى أكثر من صعيد، وفي "رسبشن" قاعة التعارف والدردشة وقبل الدخول إلى قاعة الاجتماعات من جديد، حضر سكرتير الجنرال "عوزي دايان" وهو مقدم يهودي من أصول يمنية وبحضور اللواء نصر يوسف قال لي: إن سيدي الجنرال "عوزي دايان" يستأذن بالحديث والحوار معك إذا كنت لا تُمانع؟ فأجبته لا مانع من الحديث والحوار معه مادمنا في قاعة المفاوضات ، وبعد مرور دقيقة على ذلك حضر الجنرال "عوزي دايان" مع سكرتيره ليساعده في ترجمة وتفسير بعض العبارات العربية، قدم الرجل عرضاً سريعاً عن تاريخ حياته وعن يُتمه منذ العام 1948م بسبب مقتل والده في حروب تلك السنة، وعن حياته التي عاشها في كنف عمه الجنرال "موشي دايان" صاحب الشهرة العسكرية الكبيرة، وعن حبه للسلام بالرغم من قيادته لوحدات المستعربين الدموية، وبدليل أنه يستعد لإكمال دراسته العليا في الجامعة العبرية، وبعد أن استمع لوجهه نظري في مشروع سلام التسوية المتفاوض عليه بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني قال: باعتباري سأكون طالب دراسات عليا في مادة التاريخ السياسي في الجامعة العبرية ، فهل ستقبل بمساعدتي علمياً وأنت أستاذ كبير في هذا التخصص كما أعرف لو حضرت إليك بعد عام أو عامين بعد عودتك إلى دير البلح؟ قلت له: هذا ممكن بكل تأكيد ولكن بشرط واحد وهو أن أعود إلى دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وليس فقط إلى دير البلح، عندها امتقع وجهه واختفت الابتسامة المرسومة على شفتية وسحب يده من يدي وأدار ظهره لنا ماضياً في سبيله بنوع من الغضب، وقد احتار اللواء نصر يوسف من سلوكه المفاجئ وسألني مستفسراً لماذا اغتاظ ولماذا فعل ذلك؟ فقلت له: لأنه جاء يعرض علينا وبطريقة مأدبة رأيه بأن هذه المفاوضات لن تتجاوز حدود جمع الشمل في إطار سلطة لحكم ذاتي محدود ،فكان ردي مزعجاً بالنسبة له عندما ربطت استعدادي لمساعدته بشرط العودة إلى دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وليس فقط إلى مدينة دير البلح . بعد ذلك وقبل أن نغادر القاعة على أثر انتهاء الجلسة التفاوضية وقف الجنرال "أمنون ليبكن شاحاك" معي ليتبادل بعض أطراف الحديث عن مستقبل روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وعن السلام الضروري للخلاص من مأزق الويلات المتراكمة للصراع العربي الإسرائيلي، وأنه يؤمن بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ولكنه يأمل أن يتم ذلك على مراحل ،  وحتى لا تحدث أية انتكاسة تطيح بآمال السلام ، وأن على المثقفين الكبار تقع المسؤولية الكبيرة لنشر ثقافة التعايش ونبذ العنف والكراهية المتأصلة في النفوس، قلت له: هذا من ناحية المبدأ صحيح، ولكنكم وكما ألاحظ تتصرفون معنا كما يتصرف الأستاذ مع مجموعة من التلاميذ، ولم أشعر حتى هذه اللحظة بالندية المطلوبة للتفاوض وهي سر النجاح لترسيخ قواعد المصالحة بين الخصوم، فقال: الندية تكون عندما تتوازن المصالح المتبادلة على طاولة المفاوضات، ولكنكم لا تملكون المقومات اللازمة لذلك ، ولهذا عليكم أن تقبلوا بما نقدمه لكم طالما أنه لا يوجد لديكم ما يمكن أن تقدموه لنا بالمقابل. فهمت الرسالة بوضوح تام فما سوف يقدم لنا لا يعدو عن كونه هبة مجانية من قبل دولة وسلطات الاحتلال الإسرائيلي وهو لن يتجاوز حدود سلطة لحكم ذاتي محدود غير قابل للتطوير أو التطور باتجاه قيام دولة فلسطينية مستقلة قادرة على النمو والازدهار ، وبأن كافة الاشتراطات والشروط المجحفة والتي يقوم الطرف الإسرائيلي بفرضها علينا تأتي في إطار هذه الاستراتيجية المعدة سلفاً، ولهذا وبعلم اللواء نصر يوسف وبدون تدخله السلبي أو الإيجابي تسللت ليلاً إلى غرفة الدكتور الخالدي وهو المسؤول عن صياغة الردود الفلسطينية باللغة الإنجليزية ، وقد ضغطت عليه بما يكفي وحتى يتم إدخال مجموعة من الردود المعدة معي سلفاً كبديل عن اللغة المهادنة والمتساوقة مع الطرح الإسرائيلي، وهو ما تم بالفعل وقد تفاجأ بها متأخراً رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض من خلال اجتماعنا الصباحي وعليه فقد تم الضغط بأن يقوم بقراءة الورقة الأخ اللواء "عبد الرزاق اليحيى " كبديل عن الدكتور نبيل شعث ، وقد أحدثت الردود امتعاضا غير منضبط على وجوه أعضاء الوفد الإسرائيلي المفاوض والذي طلب بعد الاستماع لهذه الردود برفع الجلسة للمزيد من التشاور وعلى أن يتم تحديد موعد الجلسة القادمة بالتشاور والتفاهم بين رئيسي الوفدين الإسرائيلي والفلسطيني ، وفي صبيحة اليوم التالي وبينما كنت أجلس في قاعة فندق طابا حضر مراسل القناة الأولى للتلفزيون الإسرائيلي "يوني بن مناحم" وهو برتبة عقيد في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" وقد طلب مني إجراء حوار معي لمدة ثلث ساعة للبرنامج الإخباري والذي يُبث كل يوم جمعة ولمدة ساعة باللغة العربية ، فاعتذرت منه بأدب وباعتبار أن ظروفي لا تسمح بإجراء مثل هذه المقابلة، إلاّ أنه أصر على ذلك وقد حاول بكل الوسائل إقناعي، وأمام إصراري على الرفض قال لي : بأن هذه المساحة الزمنية مخصصة لك بالذات وأنت لست أحسن من غيرك فالجميع يتمنى أن نجري معه مقابلة. تلفزيونية يتحدث فيها عن السلام والتآخي بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، وأمام رفضي المتواصل تركني ومضى في حال سبيله إلاّ أنني فوجئت بعودته من جديد بعد حوالي الساعة ليعيد العرض والمحاولة من جديد قائلاً : بأن والدتك ستفرح كثيراً عندما تشاهدك على شاشة التلفزيون وجميع أقاربك ومعارفك في دير البلح، فقلت له : أعلم ذلك ولكنني لست مخولاً لإجراء مثل هذه المقابلة ولا أستطيع القيام بها ، عندها وضع يده على كتفي وقال: تذكر ذلك جيداً فإسرائيل تقدم لك هذا العرض الجيد وأنت ترفض، ورفضك هذا سيصبح غصة في حلقك تعاني منها طوال حياتك، وفي المساء أصبحت شخصاً معادي للسلام وغير مرغوب ببقائه في ملعب المفاوضات، وعلى الفور بدأت في تجهيز حقيبتي للعودة إلى تونس مهدداً بالعمل على وقف هذه المفاوضات وسحب الوفد الفلسطيني  في غضون الثماني والأربعين ساعة القادمة، فمن لا يعرف جغرافية الأرض المتفاوض عليها ويقبل ببقاء الشريط الساحلي ومنطقة المواصي بأيدي الإسرائيليين ، وهي مناطق الرمال التي حولها الإصرار الفلسطيني على شاطئ البحر وتحت ضغط الجوع والفقر إلى مناطق خصبة يعتاش سكان القطاع على خيراتها غير جدير بالتفاوض باسمها، +ولقد قيل لي عندما أثرت الموضوع "هذه فلسفة زائدة عن الحد فالنواصي لن تعيق المشروع التفاوضي " وقد حزنت كثيراً لهذا القول غير المسؤول والذي ينم عن جهل مدقع بالأهمية الجغرافية والاقتصادية لهذه المناطق والتي لا يعرف من يتفاوض باسمي وباسم الشعب الفلسطيني اسمها الحقيقي وأهميتها الإستراتيجية وفي حدود الساعة الثامنة صباحاً وصلت إلى مطار القاهرة لأتوجه مباشرة وعلى متن الطائرة المصرية إلى تونس، وطوال ساعات الرحلة المديدة وفي الجو قمت بكتابة تقريري الشهير عن سير المفاوضات وتحت عنوان "مفاوضات طابا بين ضعف الأداء والإذعان لسياسة الإملاء" والذي بينت فيه للأخ الرئيس أبو عمار بأن الطرف الإسرائيلي يتفاوض معنا عبر ثلاث أشكال تفاوضية وهي : أولاً عبر الإملاءات التي يفرضها الجنرال أمنون ليبكن شاحاك على رئيس الوفد الفلسطيني وثانياً من داخلنا وعبر بعض الأدوات والشخصيات المحسوبة على الوفد الفلسطيني والتي تحاول وعبر نشاطها باقناعنا ببعض الطروحات الإسرائيلية  المقدمة وثالثاً عبر التفاوض المباشر في الجلسات التفاوضية للاتفاق على باقي الأمور ، هذا إذا تبقى منها أشياء تستحق الإهتمام، وبعد أن قدمت تحليلاً خاصاً بالشخصيات المحورية العاملة في نطاق الوفد الإسرائيلي وبالتركيز على كل من: الجنرال أمنون ليبكن شاحاك والجنرال عوزي دايان والدكتور غابي زوهر والمستشار الأمني أبراهام آفي كيتون والدكتور يوئيل زنغر، اقترحت على الأخ الرئيس بسحب الوفد الفلسطيني ووقف مفاوضات طابا والبحث عن طرق وأساليب تفاوضية أكثر جدوى وأقل ضرراً في معركة الدفاع عن الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي حدود الساعة التاسعة والنصف ليلاً في نفس اليوم قرأ الأخ أبو عمار التقرير على مسامع بعض الأخوة من أعضاء اللجنة المركزية المتواجدين في اجتماع مغلق معهم، وفي حدود الساعة العاشرة والنصف صباحاً من اليوم التالي، ذهبت مع الأخ أمين الهندي إلى مكتب الأخ الرئيس ليتبين لنا بأن الأخ أبو عمار المحتد والمتجهم الغاضب أوقف المفاوضات واتصل بالوفد هناك طالباً منهم العودة وفي غضون أربع وعشرين ساعة إلى تونس وبعد سيل من الضغوطات الشديدة وبعد القيام بإجراء بعض التعديلات على الخارطة الإدارية للوفد الفلسطيني المفاوض ، استجاب الأخ أبو عمار وأمر باستئناف المفاوضات المتوقفة مُنذ ثلاثة أسابيع وهذه المرة في القاهرة وليس في منتجع طابا السياحي الملاصق حدودياً لميناء إيلات الإسرائيلي، ولقد وجدت نفسي وعلى ضوء هذه التطورات خارج نطاق الوفد التفاوضي بحكم الملابسات السابقة واكتفيت بالمتابعة وتقديم بعض التفاسير و الاجتهادات الفلسطينية التفاوضية للأخ الرئيس وبدون التدخل المباشر فيها، وفجأة وبدون سابق إنذار وبينما كنت عائداً من مكتب الأخ أبو عمار كانت هناك سيارة تتابع مسير سيارتي، وقد مررت متعمداً على أكثر من مكان في محاولة للتضليل إلاّ أنني فوجئت بزوجتي وهي تقول لي : لا تدخل الشقة فهناك من يتابعوك بنية الغدر والاغتيال وقد تحدثوا قبل ثواني معي على الهاتف، فعدت أدراجي وبأقصى سرعة لإبلاغ الأخ الرئيس، كان ذلك في حدود الساعة الثانية عشر ليلاً ولقد تعامل الأخ أبو عمار بجدية وصرامة وعبر استنفاره لقوى الأمن التونسي والتي انتشرت في منطقة المنزل وفي العديد من شوارع المنزة السادس، وبعد الواحدة ليلاً تم قطع خطوط الهاتف وخطوط الكهرباء في مقر الأخ الرئيس وبطريقة فنية وأمنية يصعب تفسيرها، وعلى الفور تدخل رجال الأمن التونسي ليأخذوا الأخ أبو عمار من بين الجميع ويذهبوا به إلى مكان آمن حتى الصباح، وهو الذي غضب مني بعد ذلك لقولي: بأن ما حدث يثبت بأن الرئيس أبو عمار لم يعد قادراً على حماية أحد حتى ولو كان هذا الأحد الدكتور كامل، وعندما عاتبني على هذا القول بعد ذلك قلت له: يا أخ أبو عمار لقد حاولت حمايتي باستنفارك لقوى الأمن التونسي وهذا صحيح، ولكن أصحاب اليد الخفية والطويلة كما يبدو تمكنوا من قطع التيار الكهربائي وخطوط الهاتف عنك وفي نفس الساعة، وهذا الفعل بحد ذاته يعني الكثير ، وبعد مرور ما يقارب الشهر على هذه الحادثة وبينما كانت المفاوضات تراوح في مكانها بسبب تحديد المسؤوليات عن المعابر وبشكل خاص فيما يتعلق بالترتيبات على معبر رفح مع مصر ومعبر الكرامة في أريحا والخاص بحركة المسافرين والبضائع بين الضفة الغربية والأردن والتي كنت أطالب بسيادة فلسطينية تامة عليها بحسب التفسير الفلسطيني لبنود الاتفاق، اتصل بي الأخ لؤي عيسى في حدود الساعة السابعة والنصف صباحاً و، وباعتبار أن الأخ أبو مازن أرسل في طلبي للضرورة وهو بالانتظار وسيكون في تمام الساعة الثامنة والنصف في مكتبه ، وعليه فقد تحركت في سيارة الأخ لؤي إلى الموعد، كان الأخ أبو مازن يجلس على مكتبه وبعد أن رحب بنا بدون مقدمات نظر نحوي وقال: اسمع يا دكتور جيداً وأرجو أن تفهم أقوالي بشكل جيد ، فالأخ أبو إياد الذي كان يحبك ويحميك استشهد، والأخ أبو الهول الذي كان يحبك ويحميك استشهد، والأخ أبو عمار الذي يحبك لم يعد قادراً على حماية نفسه حتى يحميك، أقول لك هذا ، لأنك متهم بعرقلة سير المفاوضات وعبر تقاريرك عن التفسير الفلسطيني لاتفاقيات أوسلو وبنود إدارة المعابر، وعملياً فأنت من يعبث بالمفاوضات من تحت الطاولة، قلت له محتجاً: بأنني لم أفعل أي شيء وعملياً فقد التزمت في بيتي منذ أن تم إبعادي عن مفاوضات طابا، فقال وبإصرار الواثق من كل كلمة ينطق بها : " بامكانك أن تقول هذا الكلام لغيري وأنت تعرف بأن الأخ أبو مازن يعلم بكل شيء ولا داعي للإنكار وعليك أن تعلم بأنه لا يوجد تفسير فلسطيني ولا تفسير إسرائيلي للاتفاق فهناك اتفاق اسمه اتفاق أوسلو وسيتم فرضه على الجميع "بالكندرة" ولا أريد لك الأذية وأنت تعلم بهذا ، عندها فاجأته بأن قمت بشد أذني ، كما وعدته بعدم التدخل عبر التفاسير الفلسطينية في هذا الشأن بعد اليوم، فضحك وهو يقول حسناً لقد استوعبتني واستوعبت الدرس جيداً. أكبرت في الأخ أبو مازن هذه الصراحة وهذا الحرص المنطلق من واقع الحال ، فبعد استشهاد الأخوين أبو إياد وأبو الهول لم يعد هناك سقف وطني للحماية يمكن الاعتماد عليه، وتشاء الصدف أن أمر في نفس اليوم على منزل ومكتب الأخ نصر يوسف وقد تولى عملية توزيع المهام واستحداث وملئ الشواغر في هرم السلطة على الصعيدين الأمني والعسكري وعلى قاعدة وضع الرجل الغير مناسب في المكان المناسب وحتى تهيأ لي وقتها بأن الكيان كله وبرمته بدأ يتأسس على الأخطاء والخطايا وأن هذا التأسيس وبهذه الطريقة يتم تنفيذاً للجوانب الإدارية المطلوبة بحسب اتفاقيات اوسلو وكشرط من شروط القبول الأمريكي والإسرائيلي بتنفيذها وهو ما يفسر عملياً وعلى أرض الواقع رفض الرئيس عرفات التدخل في التوقيع على مسلسل هذه القرارات والتي تركها لقلم اللواء نصر يوسف وبدون منازع، وبينما كان يستمع إلى أقوال بعض ضيوفه من الضباط المتهيئين للدخول إلى أرض الوطن، سمع أحدهم يمازحه قائلاً: نحن بحاجة إلى ملابس خفيفة للغاية في أجواء حرارة مدينة أريحا اللاهبة ،  فقال له وهو يبتسم : سنعمل على تفصيل شرطات قصيرة للجميع هناك . عندها لم أتمالك نفسي من شدة الضحك وهو ينظر نحوي مستغرباً ومستفزاً ، فقلت له : لقد جاء وقتها ، فلقد قرأتها للأخ الشهيد أبو إياد فنهض من مكانه لشدة الغيظ خوفاً من هذه النهاية وقال لي : أتمني أن أستشهد ولا أعيش حتى ذلك اليوم، وإن حدث ذلك أوصيك بنشر هذه القصيدة، عندها أصر اللواء نصر على سماعها، فقرأتها أمامه وهي بعنوان "شو لاميت ألوني" وبها أقول: شولاميت ألوني ، شلحتني بنطلوني ، واللي فوقي واللي تحتي ، ليش صحتي يا مليحة ، قاعدة في روحي مثل قطة جريحة ، بسبع أرواح ، يا شيخة روقي راح اللي راح، خليني أعشق بنت ألوني شولاميت، وأكتب على الجسرين يا أم الزين عقد النكاح، راح اللي راح ، بلكي بياجينا صبي، بياخد بياض أمه وسواد عيوني ، والدم بيصير مشترك بس العقل صهيوني ، وهيك بنحل القضية يا ولية، لا ترقعيلي بنطلوني، ولا حتخافي على كلسوني بلبس شرط وبصير خواجة، مثلي مثل عمي ألوني" استشاط اللواء نصر يوسف غضباً وحبوراً في نفس الوقت وهو يقول: إذا علم بها صاحبك أبو عمار لن يبقى في صلعته أي مكان يدل على شعرة العقل وربما يؤذيك ضب هذه القصيدة ولا داعي لنشرها أو التحدث بقصتها لأي كان ومهما كان.


















الخاتمة
كنت أنوي كتابة الخاتمة وبالطريقة الكلاسيكية المتناسبة مع هذه الاضاءات ،إلاّ أنني لم أجد أفضل من اعتماد هذه الرسالة والتي تم إرسالها للرئيس ياسر عرفات بتاريخ 27/5/1995م في مكان الخاتمة وحيث لاقت الصدى والاهتمام الواسع من قبله في تلك الفترة وباعتبارها أنها ما زالت صالحة لتشخيص معالم الحالة الفلسطينية.

السلطـة الوطنيـة الفلسطينية                                      
الأمـن العـام الفلسطينـــي                        الرقـم: ………..
مديرية الأمــن السياســي                         التاريخ: 27 / 5 /1995 
________________________________________________


الأخ الرئيس القــائد العـــــام  /  حفظه الله ،،،
    تحيــة الوطـن وبعـد :         
    الموضوع : المشروع الوطني الفلسطيني بين أمن السلطة وأمن الدولة.
" ياوحدنــا "
الأخ الرئيس تحية وبعد
         أما بعد …

لماذا ولمن كل هذه التحالفات وهذه المحاور ومن يقود ويسير كل هذه التحالفات وهذه المحاور؟!
أسئلة ليست بريئة بالتأكيد وليست محايدة في موقفها الرافض لتشتيت شمل الشعب والسلطة الوطنية .
أمن الشعب الفلسطينى يبدأ ببناء المؤسسة ولاينتهى عند حدود صناعة الادارة الحديثة القادرة على إستيعاب الكفاءة ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
مايجرى بيننا وحولنا أصبح يثير غبارا "ممزوجا " بالألم والاحباط فنحن لسنا لاجئين ولسنا مواطنين ولسنا غزازوة ولسنا ضفاويين.
نحن أبناء الشعب الفلسطينى الواحد الأحد، فهل نفهم قبل فوات الأوان ان العداء للمؤسسة ليس أكثر من تكريس لروح الشللية ولكافة أمراض التحالفات المصلحية.
مجموعة المصالح الفردية للأشخاص ومهما علا شأنهم أو تدنى يجب أن لاتكون فى الكفة الموازية لمصالح الوطن والمصلحة الوطنية العليا التى يراها ويحددها ويضعها الأخ الرئيس أبو عمار.
فى السابق كنا نصرخ بشعار كنت تردده في أوقات الشدة "ياوحدنا"فالأعداء حولنا من كل جانب واليوم يبدو أننا سنصرخ مجدداً " ومن جديد"ياوحدنا" فالتحالفات والمحاور تحيط بنا من كل جانب أيضاً " 
كان الله فى عونك وأنت الأعلم منا جميعاً بمايجرى وبما يحاك ضد شعبنا وسلطتنا الوليدة فى السر والعلن وكان الله فى عونك فى عهد أصبح فيه الكرسى بالنسبة للبعض أهم من الهوية والإنتماء والوطن .
تحالفات النكد ومحاور التنكيد هدف جديد فى لعبة الصياغة الآنية لأطراف الضغط لاخراج عربة القطار الفلسطينى عن سكته، علماً بأنه ومنذ الاعلان عن قيام السلطة الوطنية كان يجب أن نبدأ ببناء المؤسسة، لكن كيف ‎؟! بالكم الهائل من التراكمات التناقضية والتحالفات الفئوية المتناحرة التى ورثناها فى بيروت وحملناها معنا الى تونس ومن ثم عدنا بها الى أرض الوطن!
الجميع وياللمهزلة يتحدث عن الأهمية القصوى والاستثنائية لبناء المؤسسة فى هذه المرحلة الإنتقالية الصعبة والجميع يعمل بوحى الهدم لا البناء ويعادى فكرة التجسيد المخلص لروح وهيكل المؤسسة وكأنها ستكون الضريح الذى سيبتلع مرة واحدة وللابد أحلامه وطموحاته الذاتية. 
أعداء الشعب الفلسطينى لايريدون لهذا الشعب أن يكبر ولايريدون لهذه السلطة أن تنهض خوفاً من تحولها بفعل العملية التاريخية وعبر ترابطها المصيرى والعضوى مع كيانات الجوار الى مشروع طموح لنهوض الأمة بأسرها.
إنهم يعرفون تماماً مايريدوا وماذا يريدون!
 ونحن نعلم ولا نعلم ندري ولاندري , نريد ولانريد، ومن حولنا تسن سكاكين التحالفات والمحاور أسنانها لكى تذبح فى لعبة الاهواء الشخصية والمآرب الضالة شعبها وسلطته الوليدة من الوريد الى الوريد. وحتى لانظلم أحداً ولانظلم أنفسنا نقول :ان منطق التحالفات والمحاور الذى كان قائماً باعتباره القانون الرئيسى لمرحلة الشتات وثورة بساط الريح لم يعد يصلح بتاتاً فى عهدنا الجديد ونحن على جزء من تراب الوطن، منطق المؤسسة هو القانون الرئيسى البديل الذى تجتمع الآراء عليه ولاتعمل به حتى فى حدوده الدنيا، فى حين يقول التاريخ وتؤكد التجربة أن الأفراد والأجيال لايخلدوا فى الذاكرة العامة للشعب مهما علا شأنهم بدون المؤسسة ولا تجد الشعوب مركباً يقيها من شرور فتنة الغرق إلا في المؤسسة , فأين نحن من المؤسسة ؟
وأين مشروعنا الوطنى البديل لبناء مؤسسات سلطة الحكم الذاتى بالمرونة المقننة والليونة الصلبة المؤدية حتماً لتجسيد قيام الدولة بإعتبارها الهدف المركزى للمشروع الوطنى الفلسطينى ؟ !
إتفاقية أوسلو بحد ذاتها لم تنص صراحة على قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ولكنها تركت الابواب مشرعه لتحقيق هذا الحلم باعتباره جزءاً من الرؤيا العامة لمستقبل الشعب الفلسطينى وكما هو معروف لنا ولغيرنا ممن حولنا فان أجهزة هيئة الأمن العام والشرطة التى ولدت عبر تفاسير الاتفاق ستظل محكومة للسقف المرحلى، ونحن عملياً لم نقل غير ذلك الا أن ذلك لايعطى هذه الاجهزة الحق فى تثبيت وضعها الراهن وكأنها حالة قدرية لا فكاك منها وحيث يقتصر طموحها على إختزال المشروع الوطنى الفلسطيني وكأن سلطة الحكم الذاتى ستكون ضمن وجهة النظر المذكورة نهاية المشوار الفلسطينى وليست بدايته كما كنا نعتقد أو كما نحن نريد صراحة وبكل وضوح.
حرب الأجهزة الخفية وصراعاتها الداخلية كانت إرثاً من تراثنا الماضى بكل تعقيداته ويجب أن لاتكون عنواننا الراهن وبوابتنا الى المستقبل . وجود فرع أو مديرية للامن السياسى أصبح من الضرورات التى أفرزتها حركة الواقع والحاجة الملحة، وكان يجب أن لا  يُعادى البعض وجود فرع أو مديرية للأمن السياسي في المخابرات العامة يحظى بإستقلالية نسبية بحكم ارتباطه الوطني مع مؤسسة الرئاسة الفلسطينية، فهو جزء من مشروع السيادة  الطموحة لدولة فى طور التكوين، فى حين تظل المخابرات العامة بوضعها الحالى جزءاً من الحالة الراهنة باعتبارها افرازاً مؤقتاً لإتفاقية أوسلو وملحقاتها، فالأمن السياسي وكما تعلمون قاعدة التهيئة الضرورية واللازمة لاستكمال مشروع السيادة الوطنية وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
المسألة وضمن هذه الرؤيا الواضحة يجب أن لاتكون صراعاً بين أشخاص أو تسابقاً للاستحواذعلى مواقع النفوذ. وفى التقدير العام والخاص فان عداء البعض أو رفض البعض الأخر لاى شكل من أشكال التكوينات السيادية الناشئة قد يكون عن جهل ولأسباب تتعلق بالبلادة الروحية ، وإنعدام القدرة على التخيل الممكن والواقعي ، وقد يكون كذلك لأسباب أخرى عديدة ومتعددة يستحسن عدم ذكرها.
الا أن المهم فى الأمر والاهم على الاطلاق يكمن فى ضرورة توخى الحذر والحيطة وإعادة النظر وبامعان فى واقعنا وما يدور حوله وحولنا حتى لايجد البعض منا نفسه وبدون أن يدرى وبدون أن يعلم يخدم المخططات الاستراتيجية للطرف الأخر ، والذى تعود وباقتدار على نصب الشراك الاستراتيجية للغير ودفعهم بذكاء لخدمة أغراضه وأهدافه وبدون قصد أو نية مبيته منهم ، فكثيرون هم الذين اعتقدوا صادقين بأنهم يقدمون خدمات للوطن وللقضية وصلت فى بعض الاحيان حد الشهادة ، وتعلمنا من التجربة فى منطق السياسة المعقد بأن المستفيد من ذلك لم يكن أحد غير الطرف الاسرائيلى .
دفع الخصم للعمل فى خدمة استراتيجية نقيضه ، أصبح علم أمني هام قائم بذاته في معاهد الباراسيكولجى ، وقد أبدع الطرف الاسرائيلى في سرقته وتعلمه لهذا العلم فى حين مازال البعض منا يخاف من الوعي ويحارب العقل المنفتح على تجارب الآخرين بسيف الجهل ، فالأمن  أصبح مدرسة ذات أبعاد أكاديمية فى بعض الدول المتقدمة يعمل على اجتذاب ألمع وأذكى العقول بينما يستمر البعض منا في تقديس لغة السوط والكرباج والعصا الغليظة ، فمن أين نبدأ وأنت الأدرى بالملمات والصعاب.
كان الله في عونك أيها القابض على الجمر في عصر انهيار المثل والمبادئ.
                           
                      ودُمتـــم والله يحفظكم ،،،
                                   مدير عام مديرية الأمن السياسي 
                                    الدكتور العميد كامل أبو عيسى
  27/5/1995م                                                
                 














ملحق خاص

بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية تم تقديم هذه التقارير الناقدة للأوضاع والمطالبة بالإصلاح خوفاً وتحسباً من النتائج الوخيمة التي تنتظر المشروع الوطني الفلسطيني في حالة الاستمرار في النهج الخاطئ وللأهمية وفقط نرفق هذه التقارير للعلم والإطلاع وتعميماً لروح المعرفة عند الجميع .

السلطـة الوطنيـة الفلسطينية                                    
قيـادة الأمــن الــعــام                            الرقـم: …………….
مديرية الأمــن السياســي                             التاريخ: 7 / 2 /1995
_____________________________________________________
 الأخ الرئيس .... القائد العام 
   أبو عمار ....حفظـه الله
      تحية الوطن وبعد  ,,,,                      
الموضوع / نحو صياغة جديدة للمشروع الأمني الفلسطيني :
                   " قراءة في أسباب الفشل " 
ليس سهلاً وبالتأكيد الخوض في تفاصيل هذا الموضوع الحساس والشائك نظراً لتداخل العديد من الإعتبارات الذاتية والموضوعية , إلا أن صرخة الواجب تبقى كالشوكة الدامية , تارة تدمي القلب , وتارةً أخرى تستثير الضمير ولهذا فلسوف نكتفي وبإختزال شديد بعرض أبرز الوقائع الدامغة لعلها تفيد في إطار التجربة عند الشروع بوضع الصياغة الميدانية الجديدة للمشروع الأمني المطلوب.
أولاً : إن الحكمة التي إقتضت في البداية السماح بتعدد الأجهزة الأمنية , إستنفذت الغرض منها ولم تعد تجدي أو ذات جدوى ملموسة على صعيد الواقع .
علماً : بأن ظروف المرحلة والحالة الإجتماعية وتشابك الأدوار والمصالح والنفاذ المؤثر لعوامل المد الخارجي داخلياً وإنعكاسات ذلك ميدانياً أصبحت من أبرز العناوين الدالة على ميوعة الحالة الأمنية  .
ثانياً : إن الأداء غير الكفؤ للمتنفذين القائمين على تسيير العمل في الدوائر والأقسام جعل منها هلاماً مشوهاً لمجموعة من الإدارات ذات العمل الوظيفي والمهمة الروتنية المحكومة سلفاً بفشل التجربة.
ثالثاً : الإنغماس العميق في لعبة المصالح والركض وراء المغريات المادية بحجة خدمة الجهاز وتحصيل بعض الإحتياجات أدى إلى نوع من الهيمنة المعنوية لمجموعة من ذوي الشأن والثراء أخذت تمارس دوراً تخريبياً عن قرب وعن بعد مكشوفاً ومستوراً لتفشيل المشروع الأمني وضربه في العمق .
رابعاً : إنقلاب السحر على الساحر " كما يقال " وحيث أن لعبة الإخفاء المصلحي لهذه المعلومة أو تلك عن الأخ الرئيس من قبل المتنفذين في الأجهزة الأمنية أصبحت كالحبل الذي يلتف على أعناقهم , وحيث تعلمت العديد من الكادرات هذه اللعبة وبدأت تمارسها لمآرب ومصالح خاصة بها طالما أن هذا الإخفاء يوفر لها حماية ما أو مصلحة مادية معينة .
خامساً : توريط بعض القيادات المتنفذة في الأجهزة المذكورة للعديد من الكوادر وتشجيعها على فتح الخطوط لتعميق الإتصالات " كما يقال" وقد إستفاد الطرف الآخر إسرائيل من ذلك إستفادة واسعة مكنته من فرض طوق شديد التأثير حول قيادات الأجهزه وتركها شبه عارية تحت رحمته ورهناً لمشيئته علماً بأن رعاية الطرف الآخر لهذه الإتصالات ولهذه الكوادر جعلت من المسألة مجرد وجهة نظر وإجتهاد يؤمن سقفاً للحماية ومكانة مرموقة على صعيد المهنة في إطار الهرم الأمني المعمول به .
سادساً: الفشل المسبق في وضع الصياغة الملائمة أمنياً والمتلائمة ميدانياً مع الواقع والذي أدى إلى بروز ما يسمى لفظاً بقيادة المنطقة الجنوبية وكذلك قيادة المنطقة الشمالية في قطاع غزة , علماً بان المطلوب كان وبالأساس يتطلب إيجاد قيادات ميدانية للمراكز الأمنية في كافة المدن والقرى والمخيمات مرتبطة مع القيادة المركزية وليس عبر وسائط قيادية ناقلة وموصلة , هذا بالإضافة لورطة الإختيار العشوائي للمجندين منذ البداية .
سابعاً : فشل الأجهزة الأمنية على صعيد الإختراق في العمق والتغلغل العميق داخل النسيج السياسي والعسكري للقوى المعارضة من جهة ولطوابير العملاء من جهة أخرى والإحتماء الكاذب وراء بعض المظاهر الشكلية لتجربة تعميم الإنتشار الأفقي لمكاتب الأجهزة وقد نجحت المخابرات العامة بإمتياز في ذلك وسقطت من الناحية الثانية بإمتياز أيضاً .
ثامناً: إنتقال لعبة الإتصالات مع الطرف الآخر من القيادة إلى الكوادر أدى إلى ضرب المصداقية الأمنية وخلق نوع من الميوعة والتراخي , وصل حد قيام بعض هذه الكوادر بتقليد القيادات بالتسامح المقصود مع العملاء أو التغاضي عن وجود مشبوهين أمنيين داخل الهرم الأمني , بالإضافة إلى ممارسة تقديم ما يمكن تسميته " خدمات من أجل الحماية" أي الحماية على صعيد الموقع والحماية على صعيد الموت والحياة .
تاسعاً : تعميم أسلوب الإعتقالات العشوائية للقوى المعارضة والرافضة للإتفاق للتغطية الغير منطقية على الفشل الميداني في ملاحقة منفذي العمليات ضد إسرائيل في مناطق الحكم الذاتي.
عاشراً: ضغط البرنامج الأمني الإسرائيلي بهدف الإستيعاب غير المباشر لأجهزة المؤسسة الأمنية الفلسطينية , والعمل على تحويل هذه الأجهزة بشكل أو بآخر لخدمة الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية .
هذه الأسباب في مجموعها أدت إلى سقوط التجربة الأمنية الفلسطينية ميدانياً وإلى عجزها عن إنتاج مشروعها الأمني الخاص بها حتى على الصعيد النظري , وحتى لا نقع في مغالطات الجلد الذاتي للذات , فإنه كان ولا يزال ولا بد من المواءمة والموازنة أمنياً بين متطلبات مشروع تسوية إتفاق أوسلو وبين طموحات وأحلام الطرف الفلسطيني من جهة أخرى .
وعملياً : فإن الفجوة الكبيرة بين وقائع الممكن والأحلام الطموحة حولت المشروع برمته إلى " هلام كريكاتوري" يمكن إستخدامه كواجهة للمناسبات وأحياناً لإثبات الذات فقط ولا شيء غير ذلك , وللأهمية وعبر هذه النظرة المؤلمة ما زال الطرف الإسرائيلي يأمل وبجهد خارق ومن خلال كافة الوسائل الضاغطة في تعميم .
أ- حالة من الفوضى الأمنية المربكة على صعيد السلطة الفلسطينية من جهة والشارع الفلسطيني من جهة أخرى وصولاً إلى إغراق المناطق الفلسطينية في أتون الحرب الأهلية وحمامات الدم .
ب- تحويل السلطة الفلسطينية بعد عزلها جماهيرياً وشعبياً إلى سلطة قمعية قائمة على مصادرة الحقوق والقهر السياسي والإجتماعي .
ج- إبقاء حالة التخلف الإقتصادي وتكريسها كواقع لا مهرب منه , فإنعدام شروط التنمية أمنياً يكفي وحده كسبب لتهريب وهروب رأس المال المستثمر بإتجاه الأردن والمناطق المجاورة ولا يشجع ذوي الضمائر الوطنية بالمجئ للإستثمار في هذه المناطق .
وعليه فإن إعادة صياغة المشروع الأمني الفلسطيني أصبحت من الضرورات الملحة لتحديد مستقبل نجاح أو فشل التجربة الوطنية الراهنة للسلطة الفلسطينية , وهي صياغة مشروعية عملياتية للمشروع  وليست صياغة قائمة على الإستبدال الضروري للأفراد فقط .
لقد عمل الطرف الإسرائيلي وطوال شهور التجربة الراهنة من عمر السلطة الفلسطينية على إضعاف السلطة الفلسطينية سياسياً وأمنياً لأسباب تتعلق بإستراتيجية المشروع الإسرائيلي لمفاوضات التسوية وهو الضعف الذي تجسدت نتائجه في نفس الوقت على صعيد فشل أجهزة المؤسسة الأمنية الفلسطينية على ضبط أمور المعارضة والوضع الأمني بشكل عام . ومع أننا كنا وما زلنا بحاجة لإعادة النظر في صياغة مشروعنا الأمني إلا إننا لا نبرئ الطرف الإسرائيلي من حصاد النتائج السلبية القائمة 
وهو حصاد لا يسر البال تحاول حكومة إسحق رابين تلاشي وتدارك سلبياته عليها عبر سياسة التشدد والحصار , علماً بأنها سياسة قصيرة النظر , لن تقود إلا إلى سقوط هذه الحكومة في نهاية المطاف .إن عجز الطرف الرسمي الإسرائيلي أمنياً لا يكمن في القدرات ولا في التجربة أو الإمكانيات وإنما بالأساس في عدم القدرة الدقيقة على قراءة خارطة المتغيرات وتحديد الأولويات في سلم المبادرة الأمنية على الصعيدين الإستراتيجي والتكتيكي .
لقد فرضت معطيات التسوية وإتفاق مبادئ أوسلو معطيات للربط الموضوعي بين أمن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي , وبحيث لم تعد تجدي نفعاً نظرية وضع الأمن الإسرائيلي فوق كافة الإعتبارات الآخرى , لأن عناصر هذه النظرية تتساقط تباعاً تحت واقع الترابط فالأمن الذاتي لكيان السلطة الفلسطينية والأمن العام للشعب الفلسطيني قفزاً فوق الإعتبارات  الإسرائيلية الأمنية , وشكلا معاً أولوية صارخة لا يمكن تجاهلها , وبإعتبار أنها أصبحت المدخل الرئيسي والضروري لتأمين حاجات وأمن السلطة الإسرائيلية والشعب الإسرائيلي , وكما يبدو فأن الصياغة الجديدة للمشروع الأمني الفلسطيني ستظل منقوصة في حالة واصل الطرف الإسرائيلي تكرار عجزه المدقع عن قراءة خارطة المتغيرات وصياغة مشروعه الأمني الجديد . 
 لقد كان واضحاً ومنذ البداية أن إتفاق أوسلو للمبادئ يحتاج إلى كم هائل من إجراءات  حسن النوايا لا تقل عن حاجة الإنسان للهواء والماء , وهو الأمر الذي لم توفره مطلقاً عناصر الإتفاق المذكور والذي ولد ميتاً بحسب الرؤيا الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية , فالإتفاق ليس أكثر من مدخل لخلاص إسرائيل من مأزق قطاع غزة ’ وهو البوابة الوحيدة الممكنة لتوريط " م. ت. ف " في تسوية مشوهة وإدخالها إلى قفص القطاع المغلق والمحكوم بالمفاتيح الإسرائيلية , ويلاحظ ومن خلال القراءة الموضوعية لسوء النوايا أن الطرف الإسرائيلي وبعد أن خلق ومكن عناصر وعوامل إفشال الإتفاق أمنياً يرتكز في لعبته القديمة الجديدة على :
ا- ممارسة التوتير الأمني الواسع عبر الإفتعال المفتعل لسيل من الأحداث الأمنية وأعمال العنف المؤسفة كتوطئة ضرورية للتنصل من الإستحقاقات المطلوبة على صعيد الضفة الغربية والقدس الشرقية .
ب- الضغط المستمر لتفجير القدر المكتوم بالأزمة في قطاع غزة , وحيث أن أعمال  العنف في مناطق الحكم الذاتي ستُبرر عملياً نظرية الإستمرار الضروري للإحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية , وكما يبدو فإن المطلوب إسرائيلياً وللأسف لا يرتكز على إيجاد تسوية سلمية عادلة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي , بل تسوية أمنية وبالمفاهيم القديمة تؤدي بالنتائج إلىإلغاء الوجود السياسي الفلسطيني . 
إن تعاظم الأحداث على المسار الفلسطيني الإسرائيلي يثير الهواجس والشكوك إذ كيف يمكن الفهم , أن يتحول الداخل الإسرائيلي إلى سوق مفتوحة لممارسة أعمال العنف الجماعي ضد المواطنين الإسرائيليين , ومن ثم يلقي باللائمة على السلطة الفلسطينية بأنها عاجزة عن ضبط الوضع الأمني في مناطقها !!!..
إن المطلوب حقاً وفعلاً وبعيداً عن سوء وحسن النوايا إحداث نقلة موضوعية هائلة لتغيير المفاهيم في النظرية الأمنية الإسرائيلية , وعلى الأقل وبأضعف الإيمان تحت سقف مبادئ إتفاق أوسلو وبإعتباره خلق نوع من التبراط بين أمن الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي كبديل عن الإستمرار في النهج القديم المدمر لكلا الطرفين , إن الإستمرار في تفضيل الأمن الإسرائيلي ووضعه على رأس أولويات التسوية ربما يكون العقدة والعقبة الكأداء التي ستؤدي حتماً إلى نهاية مشروع التسوية .
إن الطرف الإسرائيلي بحاجة إلى إدراك سليم وتوعية قويمة تنشله من حضيض المفاهيم البالية , لأن مشروع سلام التسوية الشرق أوسطية يصب أولاً : بإتجاه دمج الكيان الإسرائيلي في محيطة العربي والشرق أوسطي , وهذا الدمج بحد ذاته يلغي أفضليات كثيرة تكرست دولياً طوال العقود المنصرمة لمصلحة إسرائيل حتى غدت " طفل أمريكا المدلل"  في المنطقة , ثم إن هذا الدمج مع الواقع المحيط لا يمكنه أن يتم بشكل أحادي الجانب , حيث أن تشابك المصالح الجديدة عبر علاقات التسوية النامية تقتضي حرصاً جماعياً أكيداً على إستتباب الأمن الجماعي لشعوبها , وعبر المنظور الخاص لهذه التسوية تمت صياغة المشروع الوطني الفلسطيني , وهو المشروع الذي يحتاج أكثر من غيره للرعاية الأمنية سياسياً وإقتصادياً , لأن إمتلاكه لأسباب ومقومات البقاء والنهوض ستعكس نفسها إيجابياً على صعيد الإستقرار الأمني الإسرائيلي كذلك وفي نفس الوقت .
إن الحديث عن ضعف الأداء الفلسطيني وإستخدام هذا الضعف لتبرير الإنقلاب على التسوية والتنصل من إستحقاقات إتفاق أوسلو يكشف زيف هذا الطموح الإسرائيلي المليء بالخرافة ولا يعدو عن كونه لغواً فارغاً يحاول الطرف الإسرائيلي  من خلاله تحميل تبعات الفشل الذي يؤسس له ويريده للآخرين , وقبل ضياع الفرصة المتاحة فإن صياغة المشروع الأمني الفلسطيني وعلى أساس تراكمات تجربة الشهور المنصرمة من عمل السلطة الوطنية الفلسطينية سيظل منقوصاً وغير ذي جدوى مأمولة , إذ لابد أن يقوم الطرف الإسرائيلي  ومن جانبه بإعادة النظر في عناصر وتكوينات إستراتيجيته الأمنية على صعيد المنطقة أولاً وعبر شبكة العلاقات التي تحكمه مصيرياً مع الشعب الفلسطيني وكيانه السياسي بشكل خاص وبما يتلاءم مع إتفاق أوسلو للمبادئ الموقع والمقر  من قبل الطرفين .

للإطلاع سيادتكم لطفاً ,,,,
الدكتور العميد كامل أبو عيسى
7/2/1995



















السلطـة الوطنيـة الفلسطينية                                    
قيـادة الأمــن الــعــام                             الرقـم: …………….
مديرية الأمــن السياســي                              التاريخ: 31 / 12 /1996
________________________________________________________

الأخ الرئيس / القائـــد العــام ... حفظـــه الله ،،،
             تحيـــة الوطـــن وبعـــد ,,,                     
 
التغيير نحو الأفضل 
بين
" الواقع والطموح "

           *  الخلل فى توازن العلاقة بين الإستراتيجية ، والتكتيك يعطى للبعض أحياناً هامشاً وفرصة للتلاعب بالثوابت الوطنية أمام كل منعطف ، وعبر المنعطفات التفاوضية المختلفة والمتنوعة ، وهو الأمر الذى إستدعى ويستدعي دائماً وأبداً هبه رئاسية صارمة يبتدعها ويبدع تفاصيلها الأخ الرئيس ، وصولاً الى إجتراح منطق تنفاوضي للغة الوطنية يفرض نفسة عبر التجسيد الحي للوقائع التى يجري تثبيتها على الأرض فى إطار " تسوية الحل المؤقت للمرحلة الانتقالية " .
ملابسات قضية الخليل لم تكن الأولى ، ولن تكون الأخيرة فى هذا الإطار وضمن المسار العام للمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية ، إلا أن عقدة الخليل بحد ذاتها أنتجت إحساساً عميقاً بضرورة التغيير ،وهو التغيير الذى طالما أجلّته ملابسات الحاجة وحكمة الأخ الرئيس بإنتظار عملية الإستكمال اللازم للضرورات والحقائق على طريق مفاوضات الحل الشامل النهائى والدائم . 
وبعيداً عن لغة الإجتهادات والتبادل الغير منطقى للنعوت الإنفعالية ، وعمليات كيل التهم المجانية . 
نحن بحاجة إلى إجراء  قراءة موضوعية للعلاقة بين السلطة والشعب ، وهى قراءة لايمكن أن تتم بدون المراجعة الدقيقة والمتوازنه للخارطة الخاصة بأجهزة السلطة الأمنية والعسكرية وبالوزارات والقطاع المدني أيضاً وفي نفس الوقت ، وعلى قاعدة الخطأ والصواب وعلى أساس حماية القرار الوطنى الفلسطيني أولاً وقبل كل شيئ . 
فرسان المرحلة : ليسوا جنوداً من السماء  كما أنهم ليسوا بالشياطين أو الملائكة ، ونفس الشيء ينطبق على فرسان القضية ، فالجميع جاء من حضن الثورة ومن أتون المعاناه ويحمل عبر تجربته الذاتية العديد من الإجتهادات ، والعديد من الإفتراضات الصائبة أحياناً والطائشة فى بعض الأحيان . 
نقول ذلك : حتى لا يبدو التغيير وكأنه عقاب , وحتى لايجيء كذلك مشوهاًومنقوصاً تحت ضغط المشاعر والإنفعالات , السلبية منها أو الإيجابية  .
التغيير يجب أن يأخذ بالإعتبار الأهمية الخاصة والقصوي للضرورات المتعلقة بحماية القرار الوطنى الفلسطيني المستقل على كافة الأصعدة  ، وبشكل خاص : على الصعيدين السياسي والأمني الإقتصادي, والعسكري, الإجتماعي والإعلامي ، وبحسب مقتضيات المصالح الإستراتيجية وطنياً وفي النطاقين الإقليمي والدولي . 
تعقيدات المنعطف التفاوضي القادم ، ومعضلات الحل الشامل والنهائى تستوجب منا الإنتباه لأهمية تشكيل وحدات جديدة من المفاوضين وبدون التخلي عن النواحي الإيجابية وتراكماتها فى المسار التفاوضي على تسوية المرحلة الإنتقالية والحل المؤقت ، وحتى لايبدو الأخ الرئيس القائد العام وكأنه يتخلى أو يتنكر لبعض الفرسان فى المعركة  ممن إقتضتهم الضرورة للقيام ببعض الأدوار التى تأفف عنها البعض ورفضها البعض الآخر ، ولعله من الهام والمجدي إقتران عملية التغيير والتجديد بسلسلة من الإجراءات  الإصلاحية منها .
- إلغاء ظاهرة التجييش  التي تعانى منها الأجهزة الأمنية وبدون إستثناء ، وعلى أساس سيادة قوانين بناء المؤسسة بتغليب النوع على الكم وإلاّ  فإن تحول الأجهزة الأمنية الى جيوش صغيرة ليس في مصلحة العمل الأمني وروح الإنضباط العام والأهمية القصوى لجهة بناء جيش وطني يحافظ على أمن وسلامة الوطن . 
- تخفيض رواتب الموظفين فى سلك الوزارات والقطاع المدني بما يتلاءم مع واقع السلطة وضرورات  تطور المجتمع الفلسطينى : وإلاّ  فإن مواصلة النهج المالي المتبع لجهة الرواتب المدنية  سيؤدي فى النهاية الى تعطيل عمليات التنمية الإقتصادية المطلوبة ، فليس من المعقول أن يتقاضى المدراء والمدراء العامون وغيرهم فى الوزارات رواتب تضاهي  فى قيمتها رواتب نظرائهم فى دول متقدمة تعيش  حالة من الإزدهار والتنمية على الصعيد الإقتصادي ، وافهام الجميع بأن هذه الإجراءات لاتستهدفهم  شخصياً ، وإنما تستهدف إصلاح خلل إداري ومالي سيؤدي إستمراره إلى كارثة وطنية فى النهاية على الصعيد الإقتصادي . 
- وقف عملية الإنحدار المعنوي عسكرياً : وذلك بإلزام الجميع فى هيئة الأمن العام والشرطة بالتقيد الإنضباطي للرتب العسكرية  والأمنية  وعدم الإدعاء برتب ومراتب لاوجود لها فى سجلات هيئة الإدارة والتنظيم ، وإنما تأتي إجتهاداً وكتعبير عن طموحات ذاتية لبعض الجهات والأفراد . 
- إحداث  نوع من المساواة لجهة الرواتب بين القطاعين العسكري الأمني والمدني ، وذلك لتحاشي عمليات تراكم الشروخ الإجتماعية فى الفوارق بين الجهتين وإنعكاساتها السلبية على المجتمع . 
- تفعيل دور وزارة الداخلية ، بإعتبارها الإطار العام المرشح بحكم الواقع وضرورات التطور الميداني لمشروع قيام وتأسيس الدولة الفتيه ، وحتى يصبح بإمكانها  إستيعاب العديد من الأجهزة التابعة وقتياً  لهيئة الأمن العام والشرطة .
- إعادة النظر فى هيكلة المخابرات العامة الفلسطينية وبإعتبار أنها الجهاز الأمني الوحيد الذي سيمارس دوره المخابراتي  على الصعيدين الداخلي والخارجي ، وعبر إرتباطه المباشر برئاسة الدولة وضمن إطار ومتطلبات الحماية الوطنية للأمن القومي الفلسطيني ، وبمعنى آخر الإرتقاء بالجهاز عبر عملية الإعداد والترتيب المؤسساتي للبيت الأمني وضمن مواصفات وتجديدات تسمح بتجاوز تعقيدات المرحلة الإنتقالية ، والتعاطي مع وقائع البناء الميداني للدولة ذات الطموح و السيادة . 


دُمتم والله يحفظكم ويرعاكم
العميد الدكتور كامل أبو عيسى       
31/12/1996م




السلطـة الوطنيـة الفلسطينية                                      
الأمـن العـام الفلسطينـــي                        الرقـم: ……….....
مديرية الأمــن السياســي                         التاريخ: 26/7/1998
---------------------------------------
الأخ الرئيس القائـــد العــــام /أبو عمار000 حفظـــــه الله ,,,
           تحيـــــة الوطـــــن وبعـــــــد ،،،

إعلان قيام الدولة الفلسطينية 
" قراءة أمنية للنتائج " 

فرض سياسة الأمر الواقع الإسرائيلية عبر التجميد المقصود لإتفاقيات " أوسلو " وبإنتظار نهايتها الزمنية وبإعتبارها إتفاقيات مؤقتة لعبة إسرائيلية قبيحة تمارسها حكومة بنيامين نتنياهو , فالأمر الواقع من وجهة النظر الإسرائيلية يرتكز على ثلاثة أمور وهي :-
أولاً : البقاء في إحتلال الأرض وتهويدها عبر العمليات الإستيطانية المستمرة .
ثانياً : الخلاص من الأعباء الإقتصادية والأمنية والسياسية لحوالي ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة .
 ثالثاً : منع قيام دولة فلسطينية مستقلة .
 وفيما يلي نقدم لسيادتكم عرض مختزل للإحتمالات مع رصد سياسي وأمني وإقتصادي للمتغيرات على صعيد موازين القوى وقراءة أمنية للخيارات والنتائج .
مع فائــق الإحتــرام والتقديـــر ,,,
دُمتــــــــم ...
والله يحفظكم ويرعاكم ,,,
                                            العميد الدكتور كامل
إعلان قيام الدولة الفلسطينية 
" قراءة أمنية للنتائج " 

بإنتهاء العمر الإفتراضي لإتفاقيات أوسلو " المؤقتة " وبإعتبارها إتفاقيات لمرحلة إنتقالية ولفترة خمس سنوات يُطرح العديد من التساؤلات حول الموقفين الإسرائيلي والفلسطيني .
حكومة الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو ترفض وبكل الوسائل شروط ومباديء إتفاقية أوسلو للتسوية مع الجانب الفلسطيني , وهي تتبع أساليب المداورة والمراوغة بهدف إستهلاك ما تبقى من الوقت المتاح من عمر الإتفاقية وحتى تصبح مطالبتها بالشروع في مفاوضات للحل النهائي بمثابة الأمر الواقع الذي يصعب تجاوزه ,  وبالمقابل : يسعى الجانب الفلسطيني من جهته لإستثمار ما تبقى من عمر هذه المرحلة وبهدف إلزام الحكومة الإسرائيلية بإستكمال تنفيذ ما تم الإتفاق عليه .
عوامل الوقت الحرج في صراع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي تأكدت من خلال القبول الفلسطيني بالمبادرة الأمريكية على الرغم من عدم تلبيتها للحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية من جهة وعبر رفض الجانب الإسرائيلي لهذه المبادرة وبهدف إستهلاك المزيد من الوقت من جهة أخرى .
 خيارات وبدائل الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بدأت تقترب أكثر وأكثر من لحظة التصادم التفاوضي بالإشتباك على الأرض . 
وفيما يلي نقدم لسيادتكم : قراءة أمنية لخارطة الخيارات والبدائل وقراءة سياسية للنتائج بعيداً عن لغة العجز ومنطق اليأس وبعيداً عن المغالاة الزائفة في وصف جبروت وقوة الطرف الإسرائيلي , فالطرف الإسرائيلي قوي وإلى درجة تمكنه من إجتياح مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية عسكرياً , ولكنه ضعيف وضعيف جداً لجهة القدرة على فرض سيطرته الأمنية على هذه المناطق , وضعيف جداً لجهة القدرة على إيجاد البدائل السياسية التي يمكن أن تتعامل معه في ظل إحتلاله لهذه المناطق , وهو يعي ويعرف تماماً أنه لن يجد من يسانده ويدفع فاتورة إحتلاله الإقتصادية لهذه المناطق , فعهد الحرب الباردة ولى وعهد الصراع بالوكالة إنتهى أيضاً , وإسرائيل القوية لا يمكنها القيام بأي دور إقليمي في خدمة الإستراتيجية الإقليمية والدولية للولايات المتحدة الأمريكية وهي تعيش حالة من الإشتباك والتصادم على الأرض وفي العمق مع الشعب الفلسطيني . إن عوامل عدم الإستقرار التي ستعصف بالمجتمع الإسرائيلي وبالكيان السياسي للدولة , ستجعل من إسرائيل كياناً عملاقاً خائر القوى لا قدرة له أو لديه على بسط سياسة الهيمنة والنفوذ حتى على أوضاعه الداخلية .
الخيارات والبدائل :
بإعتبار أن الإتفاقيات الموقعة على المسار التفاوضي الفلسطيني - الإسرائيلي حالة مؤقتة مرهونة بوقت محدد غير قابل للتعديل أو التمديد فإن الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية يصبح أمراً نافذاً في حكم الواقع وهو إعلان يرتكز على عدة خيارات وبدائل متوقعة منها :-
أولاً :
إعلان دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة أي على أساس القرار " 242 " والانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران لعام 1967م .
ثانياً :
 إعلان دولة فلسطينية مستقلة في المناطق الخاضعة للسلطة الوطنية الفلسطينية وإعتبار بقية الأراضي في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة المسيطر عليها إسرائيلياً مناطق فلسطينية محتلة .
ثالثاً :
إعلان دولة فلسطينية مستقلة على أساس القرار الدولي للتقسيم رقم " 181 " والصادر بتاريخ 1947م والذي أعطى الشرعية الأممية لقيام دولتين عربية فلسطينية ويهودية إسرائيلية ضمن أطر جغرافية محددة " كما نص على تدويل مدينة القدس بقسميها الغربي والشرقي " .
 وفي التقدير العام :   فإن إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة بحسب نصوص قرار التقسيم رقم " 181 " يُعطي هامشاً من المناورة للمرونة السياسية تفاوضياً فيما بعد , ويعتبر بحد ذاته رداً إستباقياً على التهديدات الإسرائيلية بضم الضفة الغربية في حال الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة .

- قراءة في ردود الأفعال الإسرائيلية المتوقعة : 
إنتهاء الوقت الزمني المحدد للمرحلة الإنتقالية وبدون إستكمالها ميدانياً على صعيد التطبيق في مناطق الولاية الجغرافية الفلسطينية سيجعل من مناطق هذه الولاية مناطق محتلة أو محاصرة من قبل الجيش الإسرائيلي بحكم الواقع , إلا أن ردود الأفعال الإسرائيلية على إعلان الدولة سيأخذ أشكالاً تصاعدية منها :-
- فرض الحصار الشامل على مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية على الصعيدين الأمني والسياسي مع إلغاء شامل للإمتيازات الخاصة بحركة القيادات وبعض الأفراد المميزين وبما فيها إلغاء كلي لبطاقات V.I .P   .
- فرض الحصار الشامل على مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية أمنياً وسياسياً وإقتصادياً مع وقف كلي لحركةالأفراد والبضائع وعبر كافة المعابر ومراكز الإحتكاك والتبادل التجاري بالإضافة إلى تجميد الأموال والأرصدة والعبث في مواضيع أخرى كالكهرباء , الماء والهاتف .. إلخ .
- إعادة إحتلال مناطق الضفة الغربية وإخضاعها للسيادة الإسرائيلية وعبر الإعلان عن ضم الضفة الغربية لإسرائيل وممارسة كافة أشكال وأنواع الحصار الأمني والسياسي والإقتصادي على قطاع غزة .
- إجتياح شامل لمناطق السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وإخضاع هذه المناطق للسيادة الإسرائيلية عبر سلطة الحاكم العسكري التابعة لقيادة الجيش الإسرائيلي .
هذه هي في المجموع الخيارات المطروحة أمام الطرف الإسرائيلي وهي الخيارات التي يتعامل معها صانع القرار السياسي على اساس الرؤية الخاصة بالإستراتيجية الصهيونية للدولة .
وعمليـــــاً : فإن التفكير الإسرائيلي الأُحادي الجانب يُحاول في الغالب التعامل مع الأكثر جدوى من هذه الخيارات بالنسبة له .
فهو على سبيل المثال : سيحاول الهروب وبكل الوسائل من الإختيار المتعلق بالإجتياح العسكري الشامل لمناطق السلطة الوطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة وقد يلجأ لممارسة جزئية لهذا الخيار في الضفة الغربية وبدون الدخول في متاهاته على صعيد قطاع غزة , هروب الطرف الإسرائيلي من المواجهة لا يُلغي أبداً وبالمطلق إحتمالية إجتياحه لمناطق قطاع غزة تحت ضغط التصادم الشامل مع قيادة الدولة الفلسطينية وجموع الشعب الفلسطيني المنتفض تأييداً لقيامها .
قــراءة أمنيــة للنـتائج :-
لعله من المفيد التذكير هنا : بالأهمية المعنوية للتأييدين العربي والدولي للقرار الفلسطيني الشجاع بإعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ولكن الأهم من هذا التأييد هو القيام بخطوات عملية عربية ودولية تجعل من هذا التأييد العادل للحق الفلسطيني واقعاً سياسياً يصعب تجاوزه إسرائيلياً من ذلك مثلاً :
- عدم إعتراض حكومة الولايات المتحدة الأمريكية على الإعلان بإستخدام حق النقض " الفيتو " في مجلس الأمن , عدم الإعتراض هذا بحد ذاته سيشكل رافعة هامة لحياة الدولة الفلسطينية ولا يقل من حيث الأهمية عن التأييد المعلن والمكشوف وهو تأييد يصعب الحصول عليه في المراحل الأولى لأسباب عديدة تتعلق بالأوضاع الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية وبالوضع الخاص لإدارة البيت الأبيض الحاكمة .
- تأييد جماعي أوروبي ملموس عبر إجراءات محددة سياسية وإقتصادية .
- تأييد عربي شامل تقوده جامعة الدول العربية وتلعب فيه كل من مصر والأردن دوراً مميزاً من خلال التجميد الشامل او المؤقت لإتفاقيات السلام الموقعة مع إسرائيل : وبإعتبار ان لكلا الدولتين دوراً أخلاقياً ومكانة قانونية يجب إستثمارها إيجابياً , وبحكم أن قطاع غزة فقدته مصر في حرب حزيران من عام 1967م كما فقد الأردن كل الضفة الغربية والقدس الشرقية في هذه الحرب , وهو الأمر الذي يُبرر تواجداً قوياً لقيادة الدولة الفلسطينية سياسياً في كل من القاهرة وعمان .
إن القدرة الإسرائيلية على الإحتلال لا تعني القدرة على الإستمرار فيه لفترة طويلة من الزمن لأسباب موضوعية منها :
- الفقدان الواسع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية على المناطق المحتلة أو التي سيجري إحتلالها .
- عدم السيطرة السياسية , فإعلان قيام الدولة الفلسطينية بحد ذاته سيقلب الطاولة على جميع البدائل المحتملة في التفكير الإسرائيلي وسيلغي دورها في لعبة التصادم والإشتباك على الأرض .
- عجز إسرائيل هذه المرة عن تحمل أعباء الفاتورة الإقتصادية لإحتلالها وحيث ستجد نفسها مجدداً تتحمل تبعات ثلاثة ملايين فلسطيني , وهي تبعات باهظة ومكلفة على الصعيد الإقتصادي , ربما تزيد عن حجم الأرباح التي كانت تجنيها من هذه المناطق سابقاً .
وللأهميـــــة : فإن توازنات العهد الدولي الجديد لن تسمح بدفع الفاتورة الإقتصادية للإحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية وهي الفاتورة التي دفعت في أجواء وظروف العهد الدولي القديم وأجواء الحرب الباردة و " البائدة " بين الشرق والغرب .
 لهذا كلـــه :وجب التذكير بأن المنفخة الإسرائيلية المليئة بالغرور وجنون العظمة لن تجدي نفعاً أمام وقائع الصراع والتصادم المكشوف مع الشعب الفلسطيني هذه المرة . 
وربما : تجد إسرائيل نفسها وفي فترة لن تزيد على العام أو العامين تستغيث ضاغطة بكل الإتجاهات في محاولة منها للهروب من مأزقها وأزمتها مع الشعب الفلسطيني , وهو الأمر الذي سيهيء في حينه أفضل وأنسب الأجواء والأوقات للتوصل لإتفاقات سلمية عادلة مع قيادة إسرائيلية تجد نفسها وحفاظاً على مصالح شعبها تحترم حقوق الشعب الفلسطيني وإعلانه الجريء بقيام دولته الوطنية المستقلة .
مدير عام مديرية الأمن السياسي 
العميد الدكتور كامل أبو عيسى
26/7/1998م

الانتخابات الفلسطينية
بين
" النموذجين القبرصي والجزائري "
" قراءة في الدروس والعبر التاريخية "

- بتاريخ 1/2/2005 تم إعداد هذه القراءة الاستيراتيجية الهامة من قبل المدير العام للأمن السياسي الدكتورالعميد كامل أبو عيسى ، وبعد نجاح مؤتمر القاهرة للحوار الوطني بين مختلف الفصائل الوطنية والإسلامية الفلسطينية فأن دنيا الوطن : تُعيد نشر هذه الوثيقة تعميماً للفائدة ولتعميق روح الحوار والوحدة بين جميع فئات الشعب الفلسطيني. 
بقلم: الدكتور العميد/ كامل أبو عيسى

تقدير موقف:
- بين تجربة حزب أكيل " الشيوعي " في قبرص وتجربة الحركة الإسلامية " الفيس " في الجزائر عهد مديد من السنوات الاّ أن التجربتين تظلان من العناوين البارزة في التاريخ المعاصر لحركة الصراع الإجتماعي والسياسي في المنطقة.
حزب " أكيل الشيوعي " في قبرص كانت لديه الأغلبية الكافية لإستلام مقاليد الحكم والسلطة عبر صناديق الأقتراع والأنتخابات الديموقراطية الحرة الاّ أنه كان يستنكف عن القيام بهذه المهمة وكان يكتفي بالسيطرة الأدارية على مؤسسات المجتمع المدني ويرشح من ينوب عنه من أشخاص مُستقلين أو غير محسوبين على الحزب مشهود لهم بالكفاءه والنزاهة والوطنية لشغل المقاعد المتقدمة والمؤثرة في البرلمان القبرصي تاركاً للأسقف " مكاريوس " وهو رئيس الجمهورية والدولة حرية تشكيل الحكومات القبرصية المتلاحقة.
وعندما توجه البعض بالسؤال اللغز للأمين العام للحزب الشيوعي القبرصي عن سبب رفض الحزب التقدم بكوادره نحو الصفوف الأولى لإستلام السلطة وتشكيل الحكومة ديموقراطياً وعبر صناديق الأقتراع وهو القادر على ذلك أجابهم بأقوال تفوح منها رائحة الحكمة والشجاعة والحرص الأكيد على المصالح الوطنية العليا للجمهورية القبرصية وحيث قال: " نحن موجودون واقعياً وعملياً في قلب حلف الناتو وبين فكية، وبأعتبار ان قبرص قاعدة مُتقدمة ومهمة للحلف وقواعدة على أرضها وفي ظروف وتناقضات الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي فأن تقدمنا للأمام لإستلام الحكم في قبرص يعني إعلان حرب من قبلنا ضد دول حلف الناتو، وموازين القوى لا تسمح لنا بالمقامرة بمستقبل شعبنا وأمتنا ودولتنا، ولسنا مستعدين وبالمطلق للدخول في حرب خاسرة تضر بالمصالح الوطنية والعليا للشعب القبرصي".
وفي الجزائر: فأن حركة " الفيس " الإسلامية وعبر قراءتها المغلوطة للتطورات إعتقدت بأن فوزها الكاسح في الانتخابات المحلية ومن ثم التشريعية يسمح لها ديموقراطياً باستلام مقاليد الحكم والسلطة في الجزائر فحدث الصدام المريع بين أجهزة السلطة التنفيذية وأنصار " الفيس " وحتى تحولت الجزائر برمتها الى حقل للتجارب والصراعات الاقليمية والدولية والحروب الاجتماعية والاهلية ولعهد مديد من السنوات حتى تعب الفرقاء وبدأوا بنقد الذات والبحث عن مخرج يقيهم محنة الاستمرار في لعبة قتال الأخوه الأعداء.
وبين التجربة القبرصية الحكيمة لحزب " أكيل الشيوعي " والتجربة المريرة لحركة " الفيس " الاسلامية في الجزائر تبرز الحالة الفلسطينية وهي الأشد تعقيداً من سابقاتها بإعتبارها حالة فريدة لشعب تحت الاحتلال يكافح من أجل نيل حريته وتحرير وطنه من الاحتلال الإسرائيلي من جهة وبناء مؤسساته المدنية ودولته الديموقراطية المستقلة وذات السيادة من جهة أخرى.
وفي التقدير العام والخاص: وعلى قاعدة الاستفادة من الدروس البليغة للتجارب التاريخية لابد من صياغة تعقيدات الواقع الفلسطيني بطريقة إبداعية عالية الحكمة وشديدة الأنضباط في حرصها على تثبيت قواعد ودعائم وحدة البيت الفلسطيني أولاً وقبل كل شيء وفي مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بطغيانه وأطماعه العنصرية والتوسعية وبهدف بناء مؤسسات وإدارات السلطة الوطنية المتهيئة لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة بعيداً عن الفساد والمحسوبية واجراء سلسلة من الاصلاحات العميقة في القائم منها وبما يكفي لطمأنة الشعب على أمنه ومُستقبله.
حركة حماس وجميع الفصائل الإسلامية والوطنية المعارضة لا تريد يقيناً للنموذج الجزائري المحزن أن يُلقي بظلاله الكأيبة والمعتمة على الواقع الفلسطيني، وهي تبدي مع غيرها الاستعداد للتعاطي بمرونة مع النموذج القبرصي في تجربة حزب " أكيل " الاّ أن الرفض الحازم للنموذج الجزائري والاستعداد الايجابي للتعاطي مع النموذج القبرصي يضع في حسبانه الأهمية القصوى للعوامل الموضوعية المؤثرة في الواقع الفلسطيني الراهن والصعب وعلى قاعدة الحفاظ على الدور التاريخي الرائد لحركة فتح في قيادة الشعب الفلسطيني وعلى أساس :-
أ- الاستمرار في كفاح المقاومة الشعبية للخلاص من عبودية الاحتلال الإسرائيلي البغيض للوطن الفلسطيني والفوز بالحرية وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة.
ب- الاستجابة العالية للرغبة الشعبية الكاسحة في مواصلة نهج الاصلاح ومحاربة الفساد بكافة أشكاله ورموزه ومسمياته وبأعتباره الآفة القاتلة والمدمرة للطموحات الوطنية الفلسطينية وفي كافة المجالات.
وعليه: فأن محاولات إختزال وقائع ونتائج الانتخابات الفلسطينية وكأنها تعبير عن حالة من التنافس الحزبي والفئوي بين حركتي فتح وحماس ليس أكثر من تعبيرعن اجتهادات خاطئة ومغلوطة في العمق والجوهر بل وتصل الى حد تقزيم الأرادة الشعبية الجماعية المنادية بالاصلاح ومحاربة الفساد.
فأغلبية الشعب الفلسطيني التي منحت ثقتها للرئيس أبو مازن وهو ممثل حركة فتح في انتخابات الرئاسة الفلسطينية هي نفسها التي انحازت لبرنامج الاصلاح وبغرض وهدف محاربة الفساد من جهة وبناء المؤسسات القادرة على حماية الشعب ومصالحة الوطنية من جهة آخرى، وهي الأغلبية التي وقفت وستقف كالسد المنيع دفاعاً عن حركة فتح وعن السلطة الوطنية الفلسطينية وعن مشروعية التجسيد الحتمي لمشروع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعلى قاعدة الخلاص المنتظر والأكيد من طغيان الاحتلال الإسرائيلي البغيض والفساد النقيض للطموحات الوطنية المشروعة وهي الأغلبية التي انتظرت ومازالت تنتظر وقفة جادة مع الذات من حركة فتح وعلى قاعدة النقد والنقد الذاتي وبغرض وهدف تصحيح الأخطاء والتخلص من الخطايا التي راكمتها سنين التجربة حتى اصبحت كالندوب في جسد السلطة الوطنية الفلسطينية المُنهك تحت ضغط الاحتلال من جهة وأنياب رموز الفساد والسطوه والاستحلال من جهة أخرى.
وعملياً: فأن إستحواز حماس على أغلبية المجالس البلدية والقروية قد يكون مؤشر قوي ودال على إمكانية وصولها وبقوة كبيرة الى قاعة المجلس التشريعي وإمتلاكها لنسبة عالية من مقاعده تمكنها من التحكم في عملية تشكيل الحكومات الائتلافية القادمة أو ألمنتظره مع فتح تارة ومع القوى الفلسطينية المعارضة تارة أخرى، إلا أن واقعية هذا الاحتمال تُثير العديد من التساؤلات والتي يمكن اختزالها في مدى قدرة حماس على التناغم والتفاعل مع التوازنات الدولية والإقليمية وانخراطها المباشر في بوتقة العملية السلمية للتسوية المقترحة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي .
ولهذا: فأن الاتفاق على إستراتيجية فلسطينية موحده بين جميع القوى وبين حركتي فتح وحماس بالذات تجاه قضية الصراع الفلسطيني – إلاسرائيلي ومسألة التسوية المقترحة وعلى أساس من التقاسم الوظيفي والإداري للمهام والمهمات والأدوار في الإطار الخاص بالسلطة الوطنية من جهة والشارع الفلسطيني من جهة أخرى أصبح من الأمور الملحة الغير قابلة للتجاهل أو التأجيل.
إن الخروج من دائرة الحسابات الفئوية والتنظيمية الضيقة يقربنا أكثر من تحقيق حلم الاستقلال ويجعل من دولتنا الفلسطينية ألمنتظره حقيقة راسخة في سطوعها الأكيد والمجيد.












الفهرس

المقدمـــــة
الفصل الأول:- "صيف بيروت وخريف موسكو ".
الفصل الثاني:-"النزول إلى تونس".
الفصل الثالث:-"لحظات تاريخية مع الرئيس عرفات".
الفصل الرابع :"الذئب وأبن الذئب وأبو السعيد خالد الحسن."
الفصل الخامس:-" الجمر يلتهب تحت رماد الجليد ".
الفصل السادس:-" الرسالة بالقلم الأحمر ".
الفصل السابع:-"نهاية  المهمة ".
الفصل الثامن:"المصالحة في زمن التحدي مع القائد صلاح خلف   * أبو إياد* ".
الفصل التاسع:-" الاتحاد السوفييتي في ذمة التاريخ ".
الفصل العاشر :-" اتفاقيات أوسلو الممكن الهزيل في زمن المستحيل".
الخاتمة
الملاحق الخاصة


( 1 )
(3)
(30)
( 50)
(70)
(92)
(107)
(124)
(145)
(180 )
( 209)
(246)
(251)

التعليقات