خمسون عاما بانتظار الحرية

خمسون عاما بانتظار الحرية
 د.غسان عبدالله 

القدس 

أين نحن أليوم !!!

بداية يمكنني القول بأن ألقانون الدولي ومجمل دور المؤسسات الدولية باتت عاجزة عن تحقيق وانجاز دحر الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان ، رغم دوام التصريحات بعدم شرعية الاحتلال لهذه المناطق . 

لعلّ ما يدعم قولي هذا اقدام الامين العام للامم المتحدة على سحب التقرير الذي صدر عن الاسكوا ( أذار 2017) والذي يتهم اسرائيل بتطبيق نظام  فصل عنصري يؤدي الى هيمنة واضطهاد  جماعة عرقية . 

سبق ذلك عجز النظام الدولي عن تطبيق القانون الصادر في كانون أول 2016 والذي اعتبر المستعمرات الاسرائيلية المقامة على ألاراضي المحتلة عام 1967 ، مستعمرات غير قانونية . 

بين الفترة والثانية ، وبحكم المصالح ، نسمع ونقرأ تصريحات من رؤساء ومؤسسات دولية تعبّر عن قلقها من استمرار الاحتلال الاسرائيلي ودوام معاناة الشعب الفلسطيني الرازح تحت نير هذا الاحتلال الغاشم . 

ألسؤال الذي يراود الجميع هو : أين نحن اليوم من حل للقضية الفلسطينية ةانجاز المشروع الوطني الفلسطيني المستقل !!! أولى عقبات ايجاد جواب مقنع  تتمثل في أن ما كان يبني عليه الجميع " حل الدولتين ، بات مستحيلا جراء تواصل وتسارع بناء المستعمرات الاسرائيلية على الاراضي الفلسطينية ودعم الادارات الامريكية المتلاحقة لهذا البناء وان أختلفت الاساليب ووسائل الدعم هذه . 

فشل أوباما في محاولاته واليوم يطل علينا ترامب بنهج الصفقات والذي لا أعتقد انه سيتلاقى مع الحلم الفلسطيني ولو بأدنى مستوياته . يعود السبب في ذلك الى غياب الوعي الكافي والادراك المطلوب لدى ترمب لجذور النزاع الفلسطيني الاسرائيلي ، وكذلك غياب نهج التفكير بطرق ابداعية تحليلية  . أليس هو القائل بأنه لا يهتم اذا كان الحل يقوم على أساس دولتين أو دولة . هو ومستشاريه يكتفون فقط باطلاق التصريحات بين الفينة والاخرى مع دوام التحيز للرؤية الاسرائيلية .

لا  أرى أي فرصة صداقة لحل الدولة الواحدة ثنائية القومية ليس هذا فقط بسبب رؤية الحركة الصيهونية للصراع مع الافلسطينين ، ولكن أيضا كونه غير قابل للديمومة بسبب غياب قوى فاعلة لدى االطرفين الاسرائيلي والفلسطيني وكذلك الطرف الدولي لفرض هذا الرؤية . 

لم تستطع القيادة الفلسطينية في بلورة استراتيجية فاعلة تمكنها اختراق وتجاوز عقبات التوصل الى حل عادل للقضية الفلسطينية ، بل وبالعكس تواصل السلطة التنسيق الامني مع الاحتلال الاسرائيلي ، والذي من احدى مخرجاته تقديم الضوء الاصفر للاحتلال لمواصلة بناء المستعمرات  . من بين أسباب ذلك حالة الانقسام البغيض ، والوضع المزري لواقع الدول العربية وأيضا اختلاف موازين القوى العالمية 

ونعود الى السؤال : ما العمل !!!!

الكل يتساءل والكل يتبارى في طرح التفسيرات أو التبريرات الواهية، الواقعيون الصادقون مع أنفسهم والحالمون الذين قبلوا تقليد النعامة وأولئك أصحاب نظرية المؤامرة. جميعهم يتفقون على حقيقة بديهية وهي أن الاحتلال لا زال قائما ولا زلنا نحن نتخبط هنا وهناك. 

إن ابتداء مرحلة جديدة من النضالات الديمقراطية يشكل الخطوة الأولى لتطور عملية النضال ضد حالة دوام الاحتلال والخضوع هذه والتي هي مستمرة منذ عقود عدة أدت إلى تدمير شامل لبنى المجتمع، وإلى تحطيم كل ما يمكن أن يشكل بنية الدولة الفلسطينية العتيدة.

 تقديم للذات 

  بداية أود أن  أجزم للقارئ  بأنني لم ولن أكن يوما في حالة انتظار لمن سيخلصني، قد أكون عملت ولا زلت من أجل نيل حريتي وانجاز حرية شعبي من خلال قنوات عدة  لقناعتي بأن الجهاد وبكل أشكاله هو فريضة عين ومهتديا بعهد الرئيس الراحل أبو عمار حين قال: "إن الثورة مبضع جراح وفأس عامل وقلم كاتب وبندقية ثائر"، وهذا ما سبّب لي وما زال الكثير من المتاعب مع الاحتلال وأعوانه. 
 أيضا  أجزم للقارئ بأني لست من أصحاب نظرية المؤامرة  كوني أمقتها لكونها تشكل تبريرا واهيا لكل هزيمة أو فشل. 
 ما دفعني لكتابة هذا المقال في  الذكرى الخمسين   لاحتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967 بعد ما أسموها حرب حزيران ونحن أسميناها نكسة حزيران!! 
 خمسون عاما وليس فقط ان الاحتلال ما زال جاثما على صدورنا، بل ما زلنا نراوح المكان ذاته ولا انجاز فعلي نوعي  على أرض الواقع  يتسم بالتحرير. 
 أسباب كثيرة تقف وراء هذه الحالة الاليمة، منها ما يتعلق بالموقف الدولي كما أشرت أعلاه ،  ومنها ما أفرزه ولا زال الموقف  العربي، ولكن ألاهم الاسباب الفلسطينية الكامنة وراء بقاء الاحتلال وتمدده. 
 لن أتطرق للعاملين الدولي والعربي، رغم صعوبة الفصل، بل سأحاول هنا البحث في العامل الذاتي الفلسطيني، على امل البدء باثارة حوار جدي قد يمكن من ايجاد مخارج مشرفة من الحالة البائسة التي وصلنا لها. 

لا يمكن التحرير وهناك انقسام في وجدان الشعب:

منذ بدايات الصراع العربي الاسرائيلي، نخرت عظامنا سوسة الانقسام، وظهرت القيادات الفلسطينية التقليدية منها والثورية، الا انها جميعا عانت ولا تزال تعاني من سوسة الانقسام هذه الامر الذي ليس فقط أضعف مواقفنا وامكانية الخروج بمشروع وطني تحرري شامل يلتف من حوله  الجميع. 
 حتى عند تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، شهدت وهي في مرحلة البداية العديد من التمزيق والفئوية.  وما ان اصلبّ عودها وأخذت تشق الطريق حتى طغى نهج الانقسام بين الفصائل المختلفة جميعها بدون اشتثناء. من الطبيعي أن يؤثر هذا ليس فقط على نيل النصر والدعم الكلي من حركات التحرر العالمية والعربية في حينه، بل أيضا أثر سلبا في امكانية الالتفاف الشعبي الكلي حول برنامج المنظمة وقيادتها. 
 أبشع وأخطر نموذج انقسام هو ذاك الانقلاب البغيض والاليم الذي حدث في الثلث الآخر من الوطن. أقول هذا داعما رأيي بما آلت اليه حالة القضية الفلسطينية من وهن واستخفاف وتراجع كبير على كل الصعد. 
 من مسببات حالات الانقسام التاريخية هذه: عدم تبني برنامج قومي صريح، يبتعد عن الارتماء في أحضان هذا النظام أو ذاك، برنامج وطني تحرري يحافظ على مسافة واحدة من جغرافية الانظمة ويختزل الابعاد التاريخية من خلال الاستفادة منها والتعلم من تجاربها. 
 وسبب آخر في رأيي هو عدم البت في معايير تبوّء  المراكز القيادية لحركة التحرر الوطني. صحيح أنه قديما كان العمل الثوري المتمثل في المقاومة الفعلية هو القناة التي يجب أن يمر من خلالها كل قائد، لكننا اليوم نرى غياب هذا المعيار واستبدلناه بالعائلية والمحسوبية وأفسحنا لبعض القوى الخارجية بفرض من  تشاء ونحن ما علينا سوى أن نقبل ونبرر ذلك بتعويذة التوافق الوطني!! 
 سبب ثالث لحالة الشرخ العميق في المجتمع الفلسطيني اليوم، هو حالة التيه والوهم الكبير الذي نعيشه من جرّاء عدم المكاشفة والصراحة مع الجماهير في كل صغيرة وكبيرة. هذا الحال أوجد مناخا لنمو الاتكالية والتخلي عن المسؤولية وواجب الشراكة المجتمعية وبدأ المجتمع يظهر بمثابة عدة معسكرات جحد كل واحد منها دوره المتسق مع الفردية والمصلحة الذاتية. 
 قبل، كان نهج التفرد باتخاذ القرار سلوكا فرديا لبعض من القيادة، واليوم يتواصل نهج التفرد من خلال ممارسة مجموعة واحدة لهذا النهج: انظر من يفاوض الاحتلال وما دور الفصائل الاخرى في هذه العملية!! من يتفاوض ويحاور من أجل انجاز المصالحة الوطنية التي في رأيي المتواضع باتت حوارات من أجل المحاصصة وليس المصالحة الوطنية الحقة. لماذا قبلت ولا تزال تقبل الفصائل السياسية لنفسها هذا الدور المنقوص!!
  كثرت مشاريع التسوية للصراع العربي  الاسرائيلي، فكانت هناك المبادرات العديدة، منها ما ولد ميتا ومنها ما استمر لفترات قصيرة وسرعان ما أصبحت في طي ملفات التاريخ. أخطر ما كان من هذه المبادرات ومشاريع التسوية يتمثل في اتفاق أوسلو والذي احتضنته القيادة الفلسطينية كما لو أنه البوصلة الوحيدة لتحرير الأرض والانسان. 
 مآسي اتفاق أوسلو عديدة وكثيرة، وكانت ولا زالت دولة الاحتلال هي المستفيد الاول والاخير. هذ الاتفاق وما لحقه من اتفاقيات أخرى شرعن في رأيي دوام الاحتلال وابقاءه وأخرج اسرائيل من ورطتها الدولية في حينه. اعترفنا بشرعية وجود اسرائيل قبل أن تعترف هي بشرعية الدولة الفلسطينية واضحة الحدود وذات السيادة، قدمنا لدولة الاحتلال 78% من أرض فلسطين على طبق من فضة، وأفسحنا لها المجال للمطالبة بالمزيد من خلال المطالبة بالابقاء على بعض البؤر الاستيطانية وضرورة اجراء تعديلات وتبادل. ومما قّوّى من الموقف الاحتلالي هو التخلي الشامل عن كافة الخيارات الاخرى للتحرير ومنها الكفاح المسلح الذي تقر به كافة الاعراف الدولية والشرائع السماوية من أجل التحرير ودحر الاحتلال. 
 اسقاط المقاومة المسلحة ودوام التشبث بنهج الحوار العقيم وسرمدة المحاورين أنفسهم والذين هم بأنفسهم كانوا قد اعترفوا  بفشل المفاوضات مرارا، اضافة لحالة الانقسام المقيتة وتغذيتها من قبل البعض المجاور، كل هذا جعل الاحتلال وقطعان مستوطنيه يصولون ويجولون ويعبثون بالحق الفلسطيني، ونحن نواصل ونوغل في ادارة شؤون الاحتلال، مما يعمل على تحسين ملامحه وجعله يبدو احتلال خمسة نجوم!

أيضا، أتفاق أوسلو وما تبعه أوجد شرخا وقد يكون هزيمة معنوية كبرى عند أهلنا في الثلث  الاساس  من الوطن، ما احتل عام 1948.  قلنا لهم من خلال اتفاق أوسلو أذهبوا وتدبروا أنفسكم بأنفسكم وها نحن بأوسلو ملتزمون وحالمون. مثل هذا التغييب  وعدم بحث قضايا الجزء الاصيل من شعبنا ممن رابطوا وصمدوا رغم ما تعرضوا له طول سنوات الاحتلال من 1948 ولغاية اليوم، هذا التغييب الذي هو بالاساس جزء من تغييب مسألة حق العودة، أوجد فرصة لحومات اسرائيل المتعاقبة للتفرد بهم والانقضاض على حقوقهم، فوجدوا أنفسهم في حالة انهماك  ذاتي للدفاع عن حقوقهم ونوعا ما طرأت حالة من الجمود على معركة التنسيق معهم ومع القوى الديمقراطية قاطبة.

 حب من طرف واحد

أسقطنا الكفاح المسلح وذوّتنا وردّدنا مع الآخرين مصطلح الارهاب، جمعنا السلاح واتخذنا كافة الاجراءات بعد تقديم التنازلات تلو الاخرى، كل هذا لاثبات حسن النوايا ولاقناع اسرائيل وغيرها بأن القيادة الفلسطينية قد تبنت فعلا المفاوضات كاستراتيجية فلسطينية. بالمقابل، حكومات الاحتلال المتعاقبة ضربت ولا تزال تضرب عرض الحائط غير آبهة بكل المبادرات والجولات المكوكية، وها هي تواصل قضم الارض وتهويد الوطن، ليس فقط القدس، ويكون ردنا المعروف، اضافة للشجب والاستنكار، التصريح بالقول ان مثل هذه الاجراءات الاسرائيلية ستعيق / ستدمر فرص احياء عملية السلام!!! عن أي سلام نتحدث!! ألم نتعظ من قصة العصافير على الشجرة  في يوم بارد، حين قال احدها لزملائه: انظر ان  لدموع الصياد انه يتعاطف معنا، فردّ الآخر: لا تنظر الى عينيه انظر ماذا تفعل يداه. واضح للعيان أن حكومات اسرائيل السابقة والحالية ليست معنية بسلام فعلي يضمن حقوق الجميع، وبالتالي لماذا نواصل السير وراء السراب!! ليس في قاموس الحركة الصهيونية، وليس بمقدور الولايات المتحدة ولا غيرها الضغط على اسرائيل للعدول عن سياستها الاستيطانية التوسعية، وبالتالي لماذا نصر على هذا الحب من طرف واحد لعملية السلام وايهام الشعب وجعله في كل مرة يعوم في بحر من الضباب! 
 يثبت التاريخ بأن اسرائيل هي المعتدية دوما، ويقّر القاصي والداني بأحقية الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته. نحن لسنا بحاجة الى اثبات بأن ألماء مبلول، نحن بحاجة الى الاثبات للعالم بما فيها اسرائيل بأننا قادرون فعلا على تحرير الوطن واستعادة الارض والكرامة.   
 الجميع يتحمل المسؤولية حيال الوضع الذي آلت اليه القضية الفلسطينية والتي اتفق على وصفها عالميا بأعدل وأحق قضية على وجه البسيطة. 
 أولى خطوات الخروج من هذا الواقع الاليم ضرورة فتح الباب على مصراعيه وبضوابط شفافة أمام الجميع للمشاركة  التخطيط والتنفيذ والتقييم والتعديل، لا أن يبقى الهرم بقمته وقاعدته كما هو عليه الآن. تتأتى ضرورة المشاركة  هذه من قبل الجميع كي تنقذ الوطن من حالة أسفل السافلين التي وصلنا إليها اليوم، ليحاشر  على مكان مميز وسط الدول والشعوب الناهضة.
 إن الحديث عن التحرر وبناء الدولة -  دولة الحرية والعدالة الاجتماعية لا ينحصر في الأمور الإدارية والاقتصادية، بل هناك حزمة من التغييرات المطلوبة في النظام السياسي والمؤسسي الذي يقف على رأس مؤسسات الدولة العتيدة، وكذلك النظام التربوي، معا على طريق انجاز الشفافية والكفاءة والديمقراطية، كقاعدة صلبة للدولة تكون في حالة حل وبراء من الوصفات والاملاءات الخارجية لاسيما المرتبط منها بمشروع الشرق الأوسط الجديد الكبير.
 أول مكونّات التغيير المطلوب تكمن في تبني وتشجيع الفكر  المنفتح على العالم، دون خوف ولا وجل،  فنحن شعب تعود جذورنا إلى التاريخ القديم، ولدينا الحضارة والثقافة والتراث والأهم العقيدة التي تحصننا  من أية محاولات غزو أو تشويه. حتى يتم ذلك،  نحن بحاجة إلى إعادة النظر في فلسفة التربية والتعليم والبحث العلمي في الوطن ومن يقف على رأس الدوائر هذه. ليس المطلوب فقط تخصيص ميزانية أكبر من ميزانية الدولة العتيدة للتعليم والتدريب والتأهيل وإيفاد الآلاف من الخريجين إلى دول الجوار والعالم، ولكن أيضا المطلوب من النظام التربوي المنشود، بصفته أساسا للتنمية (بكل أنواعها ) المستدامة:-
11- إحداث نقلة نوعية في النظام التربوي التعليمي والنهج الثقافي  لكي يتمكن من مواكبة التطور الثقافي وثورة المعلومات والتكنولوجيا في العالم.
نحن بحاجة إلى: 
  البدء بتبني فلسفة تربوية وطنية قادرة على تلبية الاحتياجات التعليمية والحياتية والمعرفية والتقنية حتى يتمكن  الطالب من مواكبة وصقل مواهبه وميوله وبالتالي مواجهة التحديات اليومية، ليصبح عنصر إنتاج ودعم بدلا من أن يكون عنصرا هلاميا عبئا على المجتمع وخزينة الدولة.
  *  تعزيز الغاية الأساسية للتربية من أجل السلم الأهلي والديمقراطية  والتعددية وتنمية روح التمسك بالقيم والسلوكيات التي تعمل على تعميم ثقافة السلم الأهلي والتسامح المجتمعي. 
 أيضا نحن بحاجة إلى فحص العمليات والجهود المبذولة في عملية التنشئة السياسية الكفيلة باستنهاض وطني فاعل يقوم على:-
 أولا: تعزيز مفهوم الانتماء بكافة أبعاده: الهوية، الجماعية، الالتزام بالنظام، التواد والتراحم، المساواة.
 ثانيا: تعزيز مفهوم المواطنة الايجابية والتي لا يقصد بها فقط الإلمام بالحقوق والواجبات، ولكن ضمان ممارسة هذه الحقوق والواجبات. تشكل الممارسات الايجابية للمعلم أحد أسس تعزيز المواطنة الايجابية، جاعلا من تطبيق المواطنة فرصة لنمو وحماية التعددية الثقافية والفكرية، ومن خلال جعل الحوار وسيلة يومية للالتزام بقيم التسامح والاحترام وتقبل وجود الآخر،لن يفوتني هنا التأكيد على ضرورة ترسيخ قيم التعاون والتطوع والاشتراك في المؤسسات المجتمعية تجسيدا لمبدأ الشراكة المسؤؤلة. 
 ثالثا: للإعلام دور أساسي في تعميق الثقافة والتنشئة السياسية المطلوبة، وذلك عبر جرعات جريئة وصريحة أكثر وبعيدا عن الفئوية الضيقه. 
 حتى تكون هناك نتائج وتأثير دائم لا بد من شراكة مسؤولة بين جميع مكونات المجتمع  من  مؤسسات  حكومية وأهلية والمدرسة. تأخذ عملية التنشئة السياسية الايجابية شكلا من أشكال النضال الذي يتطلب الاستمرارية والرؤية الواضحة التي تقوم بتغليب الانتماء للوطن على الولاء لأي جماعة سياسية. عملية التنشئة السياسية المطلوب تعميمها يجب ان تضمن وجود فرص الشراكة الفاعلة والمساواة والتسامح والتفاعل مع الآخرين حتى نعزّز:-

- قيمة الإيمان بمجتمع العلم والتكنولوجيا، مطالبة قيمة مستمدّة من تراثنا فالعرب جمعوا ما بين العناية بالعلوم الإنسانية والعلوم التجربيبة.
 - قيمة الإيمان بمجتمع العمل والإنتاج:  قديما اهتم العرب بتقديس العمل والإنتاج، وقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه"ليأخذ أحدكم حبلا ويجمع الحطب، خيرا له من أن يسأل الناس " نعم نحن مطالبون بمحاربة الطرود الغذائية وبرامج مواجهة الجوع التي تديرها المؤسسات الأجنبية التي لها أجندتها الخاصة، وذلك لما في ذلك من تحقير ومسخ للكرامة الإنسانية.
 - قيمة الإيمان بالتغير والقبول به، وان تكون لدينا المقدرة على فهم التغيير ومواكبته لا من اجل التكيف معه، بل من اجل قيادته وتسخيره لخدمة قضايانا الوطنية والإنسانية.
 - قيمة الإبداع لا الإتباع، كيف لنا أن نعززّ التفكير الإبداعي وممارسة الفكر الناقد الحر، لا الفكر المقلد، والفلسطيني لن يكون ما يريد إلا إذا استخرج من ذاته كامل إمكاناته وعطائه، وأيقظ روح النقد البناء الهادف.

- ان أية بداية لإعادة بناء الذات للفلسطيني بشكل خاص والعربي بشكل عام لا بد ان نقّر بدور النقد والنقد الذاتي  في تعديل حالنا، ولكن لا بد من ان تتكامل الجهود، ولان التحدي الأساس اليوم يكمن في كيفية مواجهة الخطر الصهيوني، إذًا فالرد الوحيد هو التعاون والتنسيق، فالتنشئة  الوطنية المنشودة  تركز على الهدف الجامع للإسهام في انجاز التحرر وبناء الوطن الحر المستقل. يتأتى ذلك من خلال إذكاء مشاعر الانتماء للوطن وللحضارة العربية.

2- الاهتمام بالثقافة التي تقوم على تحشيد القيم، قيم الاخلاق والمواطنة، قيم رفض العبودية والاستكانة، قيم التعاضد والتكافل والتآخي المجتمعي. أقول هذا لقناعتي بأنه  مثلما المقاومة بكل أشكالها ضرورة لانجاز التحرير، ايضا هناك ضرورة وطنية أخرى تتمثل في التوصل الى عقد اجتماعي فلسطيني، عقد يقوم على تحريم الاقتتال الداخلي، وتبني الديمقراطية والتعددية ونهج الحوار. 
 إن ابتداء مرحلة جديدة من النضالات الديمقراطية يشكل الخطوة الأولى لتطور عملية النضال ضد حالة دوام الاحتلال والخضوع هذه والتي هي مستمرة منذ عقود عدة أدت إلى تدمير شامل لبنى المجتمع، وإلى تحطيم كل ما يمكن أن يشكل بنية الدولة الفلسطينية العتيدة.
 إن إجراء تغيير جذري في استراتيجية التنمية الاقتصادية والاجتماعية على طريق تحقيق الاكتفاء الوطني والتكافل الاجتماعي كل ذلك عن طريق تحقيق العدالة والمساواة وتوزيع المخصصات على جميع فئات الشعب، يجب أن يكون الهاجس الأول والأخير لمثل هذه النضالات الديمقراطية.
 لو أمعنا النظر في واقع الشباب الفلسطيني اليوم، الذين منهم ينحدر من أطلق الرصاص على أخيه ودهم بيت جاره، نجد هذا الجيل مثقلا بإرث وتراث من الهزائم والخذلان، ناهيك عن اقتصاد منهار، تربية غارقة في الظلام والقمع، تربية تحاصر إبداعاته من جراء القمع الفكري وغياب فرص حرية التفكير وحرية التعبير. جيل بات ينتظر الفرج  وهو لا يشارك في التسريع من أجل إنجازه بسبب حالة الإقصاء والتهميش وتوارث سياسة النفاق. شباب تربّى في ظل توجيهات فصائلية ضيّقة، مارست شتى أنواع التضييق على الحريات وأقامت كياناتها على دعائم سياسية: فرق تسد.
 يبقى الأمل في هذا الشباب إذا ما عرفوا أماكن الخطأ وزمانه وبحثوا بجدية عن سبل الخلاص، لا أن يواصلوا تحويل الهزائم التاريخية إلى بطولات وتجيّرها إلى زعماء وطوائف بعد أن أجدنا في صناعة لكل عصر أصنامه المقدسة، التي أوجدت حولها حفنة من المنتفعين الانتهازيين، أخذت على عاتقها إقناع الجماهير المعذبة والمسحوقة كرامتها  الإنسانية، بالشعارات الفارغة، تماما مثل ذاك الذي يشعل موقدا ويضع عليه قدرا  بداخله حجارة وماء طالبا من الناس أن يصبروا وينتظروا الطعام، لم يستطع أي منها تأمين الأمن ولقمة العيش والحياة بحرية وكرامة لطفل وامرأة فلسطينية.
 في الختام، لا بد من عودة للبداية والجزم بأنه من أجل الخروج من المأزق وحالة الاعتلال هذه لا بد من سيادة ثقافة ثورية شاملة تعنى  بتغير الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وهذا يتم وفق الإرادة الشعبية للجماهير التي يجب أن تسأل نفس السؤال عندما تستيقظ  وعندما تنام:- لماذا لم نتحرر بعد!! ولماذا نحن نغرق يوما بعد يوم  ونهوي الى  الحضيض!!
 حتما ستعي الجماهير بأن السبب ليس قلة الجغرافيا أو نقص عدد السكان ولا شح المواد الأولية، ولا غياب الاستعداد الذاتي للفرد ببذل أغلى شيء من أجل الخلاص. بل يكمن السبب الأول والأساسي في عدم قراءتنا قراءة صحيحة للتاريخ، والاستفادة من التجارب والمحطات التاريخية المختلفة. نحن بحاجة لدراسة التاريخ في تغيره وتطوره حتى نتمكن من بناء لغة عصرية غنية وأدوات العصر الحديث. حين تدرك الجماهير بأن الحياة مكونة من ثنائيين متضادين وفي صراعها يحدث التطور والانعتاق، وان الدنيا ليست كلها سوادًا بل يقابلها البياض، وها نحن نترك للسواد المجال أن يلعب دوره، ولكن البياض في حالة غياب.

التعليقات