روايات الفلسطينيين حول التهجير: «العودة حتمية.. حتمية»

روايات الفلسطينيين حول التهجير: «العودة حتمية.. حتمية»
د. فيحاء عبد الهادي

كلَّما لاح شهر أيار، منذ تسعة وستين عاماً؛ لاحت التفاصيل المرعبة لتهجير الفلسطينيين من وطنهم، من خلال مخطط التطهير العرقي، الذي بدأت القوات الصهيونية بتنفيذه في نيسان 1948، وما زال مستمراً.

وكلَّما لاح أيار؛ أطلَّت حكايات آلاف الفلسطينيين، الذين تمَّ ترحيلهم من مدنهم وقراهم، إلى خارج فلسطين، والذين شُرِّدوا من بيوتهم، إلى داخل فلسطين. 

وكلَّما لاح أيار؛ لاحت القسطل، ودير ياسين، وقاقون، والكويكات، والشويكة، وقالونيا، وكوكبا، ولوبيا، وطيرة حيفا، وعين غزال، وعين الزيتون، وعين حوض، ومزار، وسلمة، والمسميِّة، ويازور، وبير إمعين، وعمقا، وصفورية، والحليقات، والدوايمة، وعراق المنشية، واللجون، ولفتا، وعين كارم، واللد، والرملة، وحيفا، ويافا، وصفد، وعكا، وملامح سبعمائة وأربع وسبعون مدينة وقرية، سيطرت عليها القوات الصهيونية عام 1948، وخمسمائة وواحد وثلاثون قرية دمَّرتها، وكلَّما لاح أيار؛ أطلَّت وجوه خمسة عشر ألف ونيِّف شهيداً وشهيدة؛ ليُذكِّروا بما حدث عام التهجير، وكيف حدث، وبأي أدوات حدث، ويطالبوا بالعدل ولا شيء غير العدل. 

*****

من خلال وصف الفلسطينيين لحياتهم في بلداتهم وقراهم قبل عام 1948؛ نشمّ رائحة الوطن؛ بحره وبرّه، جباله وسهوله، برتقاله وليمونه، عنبه ومشمشه، خبزه وزيته، ومن خلال وصفهم لتفاصيل اقتلاعهم عام 1948؛ نشمّ رائحة القذائف والقنابل، التي أطلقتها الطائرات والدبابات، على بيوتهم الآمنة، وحين يتحدثون عن تفاصيل سبعين مجزرة ارتكبتها العصابات عام 1948؛ نشمّ رائحة الرصاص، والحرائق، والانفجارات، ورائحة اللحم الحي، وحين يتحدثون عن أحلامهم وإيمانهم العميق بانتصار الحق مهما طال الزمن؛ نشمّ رائحة العودة.  

*****

عاش الفلسطينيون عيشة جميلة هانئة في مدنهم وقراهم، قبل عام 1948. هذا ما تؤكِّده روايات التهجير، التي تجمعها باحثات مؤسسة الرواة للدراسات والأبحاث، منذ عام 2012.

تصف "رشيدة فضالات" - المهجَّرة من قرية عراق المنشية، والتي تقيم في مخيم البقعة - الخير الذي كانت تعيش فيه في بلدها: "إحنا كنّا في عراق المنشيّة مسعدين ومليحين، وعايشين بأرضنا، ويا باي ما أحسنّا! كنا الخير الّلي كنّا فيه ما كانش حدا فيه".

ويصف "أمين محمد عبد المعطي"- المهجَّر من صفورية، ويعيش في الناصرة- الحياة الجميلة في بلده: "إحنا في صفورية، كل إشي كان حلو، يعني الناس اتديوِن مع بعض، في العراس يكيّفوا، يقعدوا جمعة يعلّلوا، كل شي كان حلو".

كما يتبيَّن من وصفه لتفاصيل ما حدث؛ أن الفلسطينيين حين شُرِدوا من بيوتهم، اعتقدوا أنهم سيعودون بعد فترة قصيرة: "قعدنا نستنّا، إسّا بتنتهي، أخرى شوي بتنتهي، أخرى نص ساعة بتنتهي، إلى آخره، ما انتهتش، الساعة ثلاثة ونص الصبح كانت محتلة البلد".

ومن خلال سرد رواياتهم؛ تتّضح ملامح مؤامرة التهجير المستمرة، التي خططت لها الحركة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، وبدأت باعتداءات من عصاباتها المسلحة. 

تحدث عن المؤامرة "حمدي مطر"- المهجَّر من قالونيا، وكان يقيم في عمان قبل رحيله منذ ثلاثة أعوام: "إجوا شاحنتين وقفوا على الشارع الرئيسي في قالونيا، وأطلقوا رصاص على البلد، أهل البلد ردّوا عليهم، هاي فيما بعد قالوا عصابة شتيرن".

كما تحدثت "سهام الكرمي"- المهجَّرة من الرملة، والتي تقيم في مدينة عمان- عن مجزرة فندق سميراميس، في حي القطمون في القدس، التي حدثت يوم 1 أيار 1948، والتي قامت بها عصابات الهاجاناه لترويع وتهجير الفلسطينيين: "كان انفجار كبير قرب بيتنا، بدك تقولي بضعة أمتار، كان فندق سميراميس؛ فانهزّ البيت، وبرق بتزكَّر لون أزرق، تمّيت مدة طويلة إذا انطبق باب أنا أنقز، أنقز، كثير كثير أثرت عليِّ هاذي، من بعديها بدو الناس يتركوا القطمون".

ثم دخلت المؤامرة حيز التنفيذ، بالتدخل المباشر من القوات الصهيونية، كما أكَّد "أمين محمد عبد المعطي": "في اللحظة اللي الخطيب قال الله أكبر؛ كان طائرتين فوق البلد، بقصفوا في البلد. إستمر القصف، وبدأ الهجوم على البلد من ثلاث نواحي، من ناحية شفا عمرو، بِـ 300 جندي، بثلاث فرق، هاي الأرقام أعطاني إلها " دوف يرمياهو" الضابط اللي فات على صفورية".

ثم بملاحقة الناس بإطلاق النار وراءهم: "بتذكَّر إحنا نمشي والطخ ورانا، نمشي والطخّ ورانا تَوصلنا بنت جبيل، ما هنِّه عادتهن كانوا يجوا يطوّقوا، ويتركوا ناحية مفتوحة  للناس تطلع. يعني بنواحي المثلث طوَّقوا وتركوا ناحية الأردن مفتوحة، عنا هونا تركوا ناحية الشمال مفتوحة، حتى الناس تطلع".

أما من بقوا في البلاد؛ فقد طردتهم القوات الصهيونية، تحت تهديد السلاح: "إسّا بعد ما احتلوا صفورية بقي فيها 800 نفر، وبعد ثلاث تيام من الاحتلال عملوا لهن إحصاء دخول، بعد أسبوعين أنطوهِن هويّات، بعد حوالي 8 تشهر، جمعوا الموجودين على البيادر، وأنذروهم خلال 48 ساعة اللي بده يظلُّه بنطخُّه، قسم من الناس خاف طلع، وقسم من الناس ظل، جابوا سيارات عسكرية حمَّلوهن في القوة وأطلعوهن، أغلقوا البلد، وأعلنوا عنها منطقة مغلقة وعسكرية".

لا تحمل روايات المهجَّرين الفلسطينيين تفاصيل التهجير القاسية فحسب؛ بل تحمل أيضاً قوة الحق، الذي يتمثَّل بالإصرار على العودة، مهما طال الزمن: "باعتقادي الرجعة على صفورية؛ أنا متأكد منها، بس ما حدا يسألني عن تاريخ. وبقدر أقول إزا مش على دوري على دور ولادي، وإزا مش على دور ولادي على دور أحفادي، ولكن العودة حتمية حتمية. على فكرة، أنا بعتبر وجودنا في الناصرة مؤقت، وبننتظر حتى نرجع على صفورية".

[email protected]

التعليقات