التطبيع الأكاديمي.. داءٌ يعبث بمسلمات الثقافة والهوية

التطبيع الأكاديمي.. داءٌ يعبث بمسلمات الثقافة والهوية
صورة تعبيرية
خاص دنيا الوطن- محمود الفطافطة
تتفاوت الآراء حول مدى وجود عملية التطبيع بين الأكاديميين والطلبة الفلسطينيين ونظرائهم من الإسرائيليين، فالبعض يراها مجرد حالات استثنائية تخرج بين الحين والآخر، لاسيما في ظل وجود هدوء أو استقرار نسبي، في حين هناك فريق آخر يرى في هذه العملية ظاهرة تتمركز أساساً في صفوف الطلبة، بينما يقف طرف ثالث مطلقاً تساؤلاً منطقياً مفاده: ما المعيار الذي على أساسه يمكن وصف هذا الطالب أو ذاك الأكاديمي بأنه (مُطبع) مع الطرف الإسرائيلي.

وعند الحديث عن التطبيع مع إسرائيل بشكل عام، والتطبيع الأكاديمي خصوصاً، تنطلق جملة تساؤلات، تستبين بعد الإجابة عليها صورة ومرامي هذه العملية (التطبيع الأكاديمي) ومن هذه الأسئلة: ما هو عمر التطبيع الأكاديمي؟ وهل هي ظاهرة أم مجرد حالات؟ وما هو موقف الكتل الطلابية والجامعات من هذه العملية؟ وهل فيها الإفادة والاستفادة، أي فيها منفعة الطرفين، أم أنه عملية ترويض أو تدجين لسياسة وثقافة حضارة إنسانية بكاملها؟ أم أنه لجيل معين يصب في مصلحة معينة يراد بها من الطرف الأقوى أن يملي على الطرف الأضعف ما يريد من تغيرات في المفاهيم والسلوك، سواء أكانت ثقافية أو فكرية أو غيرها؟

التطبيع... بذور وتكاثر

يقول عماد غياظه استاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت :إن اللقاءات بين الأكاديميين والطلبة الفلسطينيين مع زملائهم الإسرائيليين ليست وليدة اللحظة التي نشأت في ظلها السلطة الفلسطينية، فاللقاءات (كما يروي) سابقة لذلك على ضوء موقف المنظمة منذ السبعينيات، والتي أشارت في دورتها (13) المنعقدة في القاهرة عام 1977 إلى أهمية العلاقة والتنسيق مع القوى اليهودية الديمقراطية والتقدمية، داخل الوطن وخارجه، ضد "الصهيونية" كعقيدة وممارسة.

ويكشف غياظه أنه قد تعتبر جامعة بيرزيت من أول الجامعات طلابياً اجتمعت مع قيادات طلابية إسرائيلية في العام 1981،حين تم استقبال وفد طلابي من جامعة تل ابيب، وكان الوفد برئاسة مجموعة "كامبوس" اليسارية، في حين قام أعضاء من مجلس طلبة بيرزيت بزيارة لهم ضمت عدداً من قيادات الطلبة في الجامعة، منوهاً إلى أن اللقاء الرئيس والعلني هو الذي جمع كل من قيادات في الاتحاد العام لطلبة فلسطين، وشبيبة حزب العمل الإسرائيلي في السويد في حزيران 1993،علماً أن هذا اللقاء وغيره خلفت إشكاليات داخل الهيئة التنفيذية للاتحاد، ما أدى إلى أزمة حقيقة، كان يمكن لها إن تؤثر على الاتحاد بشكل عام.

من جانبها تقول الأكاديمية سوسن أبو حسين من جامعة القدس: لقد وفرت التسوية السياسية التي بدأت في "أوسلو" في مطلع تسعينيات القرن الماضي مناخاً ملائماً لبروز أجيال من المطبعين من مختلف التخصصات ممن استعجلوا القفز إلى فضاءات رحبة في التعامل مع طرف لم يحتمل أن ينزع عن نفسه صفة العدو، مشيرة إلى انه لم يكن التطبيع خلال هذه المرحلة مجرد مبادرات فردية تقوم بها جماعات أو أفراد عن حسن أو سوء نية، وإنما كان ،أيضاً، شرطاً وجزءاً من استحقاقات الاتفاقات الفلسطينية ـــ الإسرائيلية، مثل برنامج "شعب لشعب" الذي يعد احد ملحقات اتفاقية "أوسلو".

ضبابية المفهوم وسراب الاعتقاد

وبالنسبة للتجربة الفلسطينية تكاد تتلاشى الخطوط الفاصلة بين ما هو تطبيع وما ليس تطبيعاً، ومرد ذلك التداخل المعقد لحياة الفلسطينيين والإسرائيليين على البقعة ذاتها من الأرض(وفق ما يراه الباحث عبد السلام الريماوي)،مبيناً أن هناك بعض الأكاديميين الفلسطينيين من يرى بأن هناك داخل المجتمع الإسرائيلي اتجاهات وفئات تدعم الحق الفلسطيني، وتؤيد الانسحاب من حدود  العام 1967، وترفض الخدمة العسكرية في الأراضي الفلسطينية ... فلماذا لا يتم التحاور معها، والاستعانة بها، وتقوية جبهتها لصالح المشروع الوطني(حسب اعتقادها).

ولم تنحصر اللقاءات بين الطلبة الإسرائيليين ونظرائهم الفلسطينيين على هامش مؤتمرات دولية أو إقليمية، بل وصلت إلى حد عقد هذه الاجتماعات في رام الله، وبيت لحم، والقدس(حسب ما يذهب إليه الباحث محمد شلالدة)،مبيناً في الوقت ذاته أن المنظمات التي أصبحت تقوم بالتطبيع تشكل كما ليس بالإمكان حصرها أو ضبطها، فقد تشكلت العديد من المنظمات الشبابية في كل من غزة والضفة،،بدعم وتمويل أوروبي وأمريكي ،وحتى مركز بيريس للسلام، وعملت على توسيع العلاقة مع الشبيبة الإسرائيلية.

بدوره يرفض الطالب جبريل أبو خلف(جامعة بيرزيت) كافة أنواع التطبيع مع الجانب الإسرائيلي، لأن هدفها (كما يرى) طمس معالم حقوق الشعب الفلسطيني العادلة، وترك انطباع لدى الرأي العام العالمي أن القضية الفلسطينية قد تم تسويتها وحلها، وها هم أصحابها يطبعون مع إسرائيل ويعترفون بوجودها، وبحق قاطنيها في العيش بسلام واستقرار، منوهاً إلى أنه إذا انسحبت إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة ،واستطاع الشعب الفلسطيني الحصول على كافة حقوقه، فقد يفكر جدياً في العلاقة مع "اليهودي المواطن" لا "مع الإسرائيلي".

التطبيع وضعف المواجهة

ومما يضعف من مواجهة المطبعين من الأكاديميين والطلبة في الجامعات الفلسطينية جملة عوامل، يذكرها د. عادل سماره، وتتمثل في العدد القليل والفاعل من الذين أخذوا على عاتقهم واجب هذه المواجهة، إلى جانب خوف عدد كبير من أساتذة الجامعات على حياتهم، أو فقدانهم لترقية أو منحة خارجية، أو ما شابه ذلك، فضلاً عن غياب وجود تجمع أكاديمي فاعل وواسع، يتحمل مقومات وتبعات مواجهة التطبيع الأكاديمي مع طلبة وأساتذة الجامعات الإسرائيلية.

ومن الأمثلة البارزة التي أثارت جدلاً واسعاً وحاداً في الأوساط الأكاديمية بسبب التطبيع الأكاديمي، هو قيام رئيس جامعة القدس السابق د. سري نسيبة بعقد توأمة وتعاون مشترك مع بعض الجامعات الإسرائيلية، إلى جانب إقدام بعض طلاب العمل التطوعي في جامعة بيرزيت بزيارة مستوطنة ارئيل المقامة على أراضٍ محافظة سلفيت. كما وستبقى أكثر اللقاءات إثارة للجدل في موضوع التطبيع الأكاديمي والثقافي هو لقاء "كوبنهاجن" الذي جمع بين مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين والفلسطينيين في العام 1994.

إلى ذلك، يقول الباحث سعيد يقين(أعد دراسة ماجستير حول التطبيع): أنه في ظل قطع عمليات التطبيع شوطاً طويلاً، خاصة في السنوات التي أعقبت اتفاق أوسلو، فقد لا تتوفر الإمكانية لصده في مراحل لاحقة، سيما وأن هذه العملية وصلت إلى المدارس والجامعات بشكل ملحوظ، وذلك من خلال بعض المؤسسات والمراكز الفلسطينية التي تشجع على ذلك، مثل مركز الإعلام الفلسطيني بالبيرة الذي يقوم بين الحين والآخر بعقد دورات حول التعايش مع الجانب الإسرائيلي، كما وينظم زيارات متبادلة بين الشباب الإسرائيلي والفلسطيني.

أكاديمي مُطبع!

ويتحدث د.(س.م)، رفض ذكر اسمه، عن مستوى الضعف الذي كان يتميز به الأكاديميين الفلسطينيين في اللقاء الذي جمع وزملاء له مع نظرائهم من جامعة إسرائيلية في دولة أجنبية، حيث بين أن الكثير من أعضائه لم يعرف ماذا الذي يريده، أو أن كان يعرف غايته، ومشيراً إلى أن الأكاديميين الإسرائيليين كان موقفهم سيئاً، فهم لا يعرفون حقيقة ما يفعله جيشهم في الأراضي الفلسطينية ،ويكتفون بنقل رواية الجيش.

خلاصة القول: إن تحديد مفهوم التطبيع لدى المؤسسات الفلسطينية عموماً، والمؤسسات الأكاديمية والأطر الطلابية خصوصاً غير واضح، الأمر الذي أدى، ولا يزال، إلى تشرذم الموقف من هذا النوع من التطبيع ،وعدم وضوحه، ليسمح ذلك بالاجتهادات الفردية لكل مؤسسة أو تيار وفق ما يراه مناسباً له أو متماهياً مع رغباته. وإذا لم يوضع حداً سريعاً للتطبيع الأكاديمي الذي هو الآن مجرد حالات تزيد أو تقل ،حسب الحالة السياسية والأمنية، فإن هذا النوع من التطبيع سيأخذ شكل الظاهرة التي قد تتحول (لا سمح الله) يوماً إلى ثقافة يتباهى فيها البعض، ويؤسس البعض الآخر إلى نظريات ومسوغات لها.

فيديو ارشيفي لبرنامج التطبيع الاكاديمي أحمد البديري بي بي سي 

 


التعليقات