70 عاما بلا وطن الشتات الحادي عشر- قبرص

70 عاما بلا وطن الشتات الحادي عشر- قبرص
70 عاما بلا وطن

الشتات الحادي عشر - قبرص

 قيس مراد قدري

الحروب رغم دمويتها وكثرة ضحاياها وما تخلفه من مآسي وويلات الا أنها ليست أكثر من وسيلة لاختبار صراع الارادات وتحسين شروط التفاوض بين الأطراف المتحاربة .

 في العام 1982 تمكنت القوات الاسرائيلية من دخول بيروت  كأول عاصمة عربية تصلها قواتها منذ قيامها ؛ مع ذلك استطاعت قوات منظمة التحرير ومعها القوى الوطنية اللبنانية من تحقيق صمود اسطوري على مدى 88 يوما رغم الفارق الكبير في ميزان القوة مع الجانب الاسرائيلي وانتهى الأمر باتفاق وضعه الوسيط الأمريكي فيليب حبيب وحظي بموافقة الأطراف المعنية  وبموجبه غادرت قوات المنظمة لبنان الى كل من تونس والجزائر واليمنين الشمالي والجنوبي والسودان وسوريا .

في ميناء بنزرت التونسي جرى لنا استقبال رسمي وشعبي كبيرين وكانت مشاعر الشارع التونسي برمته أخوية وصادقة نحونا ؛ لكن سرعان ما أدركنا أننا بهذا التشرذم  قد بعدنا كثيرا عن وطن كنا نبصره بالعين المجردة وأصبحنا على بعد آلاف الأميال منه . 

 تونس كانت لبعضنا بمثابة محطة أو ربما استراحة محارب ؛ لكن مستقبل النضال من على هذا البعد الجغرافي كان ضبابيا ودون أفق منظور . 

بعد خروجنا من بيروت وقع انشقاق داخل حركة فتح قاده العقيد أبو موسى ومعه أبو خالد العملة وآخرين وكان واضحا أن النظام السوري والليبي كانا وراء هذا الانشقاق الذي طال أيضا اتحاد الكتاب والصحفيين الذي ننتمي اليه .  لهجة العداء لقيادة منظمة التحرير وخاصة الأخ أبو عمار كانت واضحة في اعلام النظامين اللذان أرادا الاستحواذ على الورقة الفلسطينية كونها المطية والقناع الذي يخفيان خلفه نظامهما القمعيين. أما على الأرض فقد كانت هناك اشتباكات دموية طرفاها المنشقين عن حركة فتح ومعهم قوات القيادة العامة بزعامة أحمد جبريل الذي وجه مدافعه نحو مخيمات شعبه وضد قوات منظمة التحرير التي كانت متواجدة في مخيمات الشمال ومنطقة البقاع اللبناني وبدعم ومساندة قوية من النظام السوري . 

حيوية منظمة التحرير برزت في سرعة اعادة ترتيب البيت الفلسطيني ؛ والاعلام هو أحد أبرز عناوين تلك الحيوية ؛ فقد وصل تباعا العديد من العاملين في الحقل الاعلامي الى قبرص وأنا من بينهم . لكن قائمة الأولويات كانت كبيرة  والأسئلة حول مستقبلنا فيها أكثر . دولة جديدة ولغة جديدة ومجتمع مختلف في تقاليده لكنها جغرافيا أقرب بكثير الى فلسطين وان لم تكن بنفس الحال الذي كنا عليه في لبنان.

في شوارع العاصمة نيقوسيا كانت اللهجة الفلسطينية مسموعة بوضوح  وخلال وقت زمني قصير عادت صحفنا للصدور من جديد :  " فلسطين الثورة"  ؛ " الكرمل " ؛ "البلاد" ؛ "الأفق" ؛ " بلسم"  وكالة الأنباء الفلسطينية  "وفا" و "القدس برس" ولاحقا "مركز الأبحاث " وكذا مجلة "اتحاد الاذاعات العربية" التي كتبت فيها مع الاستاذ طاهر العدوان مذكرات الغزو الاسرائيلي للبنان ؛ وفوق هذا وذاك كان هناك مكتب اعلامي فاعل في سفارة فلسطين التي كان على رأسها المناضل الكبير الراحل السفير فؤاد البيطار الذي ألحقني به ومنحني هوية دبلوماسية سمحت لي بالتنقل بحرية بين القبرصتين . 

عشية يوم 20 سبتمبر عام 1983 تحولت سفارة فلسطين الى خلية نحل وكأن حدثا كبيرا ما ستشهده قبرص . التحركات تمت بسرية تامة وفي وقت واحد توجهت كل السيارات التابعة للسفارة والعاملين فيها في أكثر من اتجاه لتضليل المخابرات الاسرائيلية التي كانت تراقب كل التحركات الفلسطينية ؛ في حين كان السفير البيطار وقلة قليلة من أركان السفارة على أرض مطار لارنكا حيث وصل الأخ أبو عمار مرتديا بذة مدنية وعلى رأسه (شابوه) وتوجه فورا الى منزل السفير في العاصمة نيقوسيا دون التدقيق في جوازات السفر . أبلغنا سلطة المطار أن الواصلين هم وفد علماء جزائريين رفيعي المستوى لذا وجب عدم المرور بالاجراءات المعمول بها في المطارات . من نيقوسيا الى ليماسول حيث كان الأخ فتحي البحرية كبير مرافقي الأخ أبو عمار قد أعد طرادا بحريا سريعا تم نقل أبو عمار بواسطته الى مدينة طرابلس شمال لبنان بأمان . ( يمكن القول أن الولاءات داخل سلطة مطار لارنكا كانت مقسومة بيننا وبين المخابرات الاسرائيلية ؛ لذا تم تمرير أكذوبة الوفد الجزائري حتى صبيحة اليوم التالي بعد أن تمت عملية الوصول بنجاح ؛ ولولا ما نشرته وكالة الأنباء الفرنسية عن أن أبو عمار قد وصل الى طرابلس عن طريق قبرص لظلت كل هذه التفاصيل قيد الكتمان والتندر ) . 

عشقي للعراق قادني الى القيام برحلة الى بغداد ؛ لكن هذه الزيارة لم تكن مثل سابقاتها . فور وصولي الى بغداد عن طريق عمان تمت مصادرة جواز سفري الخاص الذي كان الرئيس صدام حسين قد منحني اياه عام 1976 . سلطات المطار أبلغوني أن هذا الاجراء روتيني ويشمل كل حملة الجوازات الخاصة الصادرة عن الرناسة وأنني أستطيع استلام جوازي من يد شقيق الرئيس السيد برزان حسين التكريتي الذي كان يشغل منصب رئيس المخابرات العامة .
21 يوما أنا وسفيرنا في بغداد آنذاك عزام الأحمد قمنا بزيارات مكوكية لمكتب فلسطين والكفاح المسلح لاسترداد جواز السفر دون جدوى ؛ ورغم قيام سفارتنا في قبرص بتوجيه 3 برقيات من القيادة الفلسطينية الى القيادة العراقية بضرورة تسهيل سفري من أجل حضور مؤتمرالمجلس الوطني. مع ذلك لم أتمكن من استرداد الجواز .

محاسن الصدف أني وجدت في حقيبة سفري جواز مرور لبناني (هذا الجواز لا يصلح الا لسفرة واحدة ) لكنه كان الوسيلة الوحيدة المتبقية أمامي لمغادرة العراق . به طلبت من الأخوة العراقيين وضع ختم خروج كي يسمح لي بحرية المغادرة ؛ وهو ما قد تم . 

في نفس اليوم حجزت على أول طائرة متوجهة الى العاصمة الأردنية بعد أن قيل لي أن هناك طائرة متوجهة الى قبرص صبيحة اليوم التالي. 

في مطار عمان أخذ مني جواز المرور وأمرت بقضاء ليلتي على مقعد خشبي ؛ ولو أن مسؤول الجوازات دقق المعلومات المدونة على جواز المرور لوجد أنها مطابقة للمعلومات التي كانت على الجواز العراقي باختلاف مكان الولادة فقط والذي بموجبه دخلت الأردن بكل الترحاب في طريقي الى بغداد .

في المطار دخلت في حوار ساخن مع بعض اللبنانيين المحسوبين على الصف الانعزالي والذين كانوا سيغادرون صبيحة اليوم التالي أيضا ؛ كنت متأكدا أنني لن أراهم بعد ذلك ؛ لذا كنت حادا في ردودي عليهم . 

عند افتتاح مكاتب السفر داخل المطار صبيحة اليوم التالي توجهت الى أحد تلك المكاتب للتأكد من موعد رحلتي الى قبرص وتثبيت الحجز . فوجئت بعدم وجود رحلة قبل أربعة أيام ؛ ولم يكن في حوزتي سوى 100 دولار فقط وهي غير كافية للسفر عبر بلد آخر . السيدة في ذلك المكتب رقت لحالي وأرادت مساعدتي فراحت تبحث عن حل ما ؛ الخيار الوحيد الذي وجدته كان طائرة الميدل ايست المتوجهة الى بيروت ومن هناك طائرة متوجهة الى قبرص خلال ساعات قليلة . ما بين هذا الخيار والنوم على المقعد الخشبي  في مطار عالية الدولي لمدة أربعة أيام أخرى جعلني أقبل ما عرضته علي رغم معرفتي بخطورة هذه الخطوة خصوصا وأن جواز المرور اللبناني الذي اتنقل به ليس أصليا ؛ كما أني سأكون على نفس الطائرة مع من دارت بيني وبينهم مشادة حول الوجود الفلسطيني في لبنان اضافة الى أن حزب الكتائب اللبناني الانعزالي هو المسيطر على المطار في ذلك الوقت .

الضابط الأردني الذي صدع رأسي طوال اليوم السابق عن الأخوة الأردنية – الفلسطينية قادني مكبل اليدين الى باب الطائرة ؛ وفك القيد ثم ناولني جواز مروري .

في مطار بيروت سارعت بشراء صحيفتي "السفير" و"النهار" كي أختبيء خلفهما لحين انقضاء ساعات الانتظار في قاعة الترانزيت . احتياطيا اتصلت هاتفيا بالصديق الأستاذ حسين حلاق (سياسي سوري معروف وكان في حياته يعتبر الابن المدلل للرئيس جمال عبد الناصر وله أصدقاء سياسيين كثر في الصف الوطني في لبنان اضافة الى أنه محسوب على منظمة التحرير )  ؛ فوجيء بأني أخاطبه من مطار بيروت . قال لي : هذا جنون ؛ ماذا تفعل في مطار بيروت ؟ قلت : الظروف حكمت علي . قال: لقد قمنا صباح اليوم بتهريب محمود درويش بصعوبة من لبنان وتأكدنا من سلامة وصوله آمنا . قلت له : ان لم اتصل بك خلال 8 ساعات من الآن من قبرص فاعلم أني معتقل في مكان ما . 

أنهيت المكالمة وعدت الى المقعد حيث حقيبتي الصغيرة فوجدت اثنين من الفرقة 16 ممسكين بالصحفيتين ؛ ترددت قليلا ؛ لكني قلت في نفسي " يموت الانسان مرة واحدة " وليكن ما سيكون ؛ تقدمت نحوهما بخطى ثابتة ؛ نظرا الي ثم قالا بكل أدب : ما تواخذنا استاذ أخذنا الصحف دون استذان منك  !!!. هدأت نفسي قليلا وقلت بكل ثقة : يمكنكما أخذهما لأني تصفحتهما (كان ذلك كذبا) . شكراني على ذلك  وأعادا لي الصحيفتين .

عندما حان موعد اقلاع الطائرة الى قبرص تبين لي أنهم يتفحصون جوازات السفر ولو شاهدا جواز المرور لكانت تلك هي الطامة الكبرى . من حسن حظي أن من يقوم بالتدقيق في جوازات السفر هما رجلي الفرقة 16 اللذان تحادثت معهما مسبقا . عندما وصلت لهما قمت بحركة كمن يبحث عن جواز السفر . أحدهما بادرني بالقول : تفضل استاذ ما في حاجة نشوف جوازك ؛ الله معك . تنفست الصعداء وسرت نحو الطائرة غير مصدق أني قد تجاوزت كل تلك المخاطر والتي ربما كانت خاتمة حياتي عندها .

وصلت الى مطار لارنكا ومنها الى نيقوسيا وهناك وبعد التجربة المرة التي مررت بها في العراق والأردن ولبنان تيقنت أن لا أمان لي في أي من بلاد الأشقاء وأن فكرة البحث عن شتات جديد بدأت بالتبلور ؛ وهو ما كان . 

.( يتبع – السويد - الشتات الأخير )

التعليقات