إضراب الكرامة وهبة النشامى

إضراب الكرامة وهبة النشامى
 شفيق التلولي

قبل أقل من عشرين عاماً أطلق ياسر عرفات النفير العام تضامناً مع الأسرى المضربين عن الطعام آنذاك، فاشتعلت هبة الأسرى أو انتفاضة الأسرى وأقيمت خيام الاحتجاج التي زارها عرفات وآزرها وساندها، وانطلقت المسيرات في جميع المدن الفلسطينية وجسدت ملحمة تضامنية تجاوزت كل الجولات البطولية السابقة التي عمدها الأسرى عبر معاركهم المتلاحقة في أقبية ظلام المعتقلات الإسرائيلية ولقحتها جماهير شعبنا بأعمق الجبهات على اختلاف قطاعاته من خلال تشكيل جبهة إسناد قوية ومتينة خلف قيادة الشعب الفلسطيني التي حرصت على ألا تساوم على هذه المعركة النبيلة والشريفة إيماناً منها بقضيتهم العادلة التي تقف على سلم أولوياتها التفاوضية النضالية. 

وعلى الرغم مما شكلته هذه المحطة النضالية من إزعاج وإحراج القيادة الفلسطينية؛ إلا أنها مضت فيها بحنكة واقتدار، فما بين توفير أسباب الصمود والبقاء والثبات للأسرى داخل السجون ولشعبنا المتضامن معهم على امتداد ساحات الوطن، وبين الضغوط الدولية التي شكلتها حكومة الاحتلال الإسرائيلية على الرئيس الراحل ياسر عرفات لثنيه عن دعم الأسرى ومساندتهم في إضرابهم الطويل الذي خاضوه ببسالة إلا أنه استطاع؛ أي ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية تجاوز هذا المأزق بما لا يفت من عضدهم والالتفاف على تضحياتهم الجسام الذي سطروها بآنات جوعهم. 

اليوم يعيد الأسرى الكرة مرة أخرى مع أنه جرى العديد من الإضرابات عن الطعام خلال هذه السنوات المنصرمة والتي جاء جلها إبان الانقسام الفلسطيني الذي ما انفك يضرب أطنابه جناحي الوطن وأذكر بآخر هذه الإضرابات حيث الإضراب الذي سبق الحرب على غزة عام 2014م والتي مع الأسف قوضته هذه الحرب وعاد الأسرى عن إضرابهم والتحموا مع شعبهم في غزة لمواجهة هذا العدوان الشرس والمتغول من خلف القضبان الحديدية حيث طال غزة عن آخرها؛ وعاد الأسرى إلى واجهة النسيان على الرغم من الاعتصامات الأسبوعية التي تنظم أمام مقرات الصليب الدولية. 

ما يميز إضراب الكرامة الحالي الذي يخوضه الأسرى بقيادة حركة فتح ممثلة بأسيرها القائد البطل مروان البرغوثي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح؛ إذ يأتي في ظروف غاية في التعقيد ربما تشبه إلى حد قريب الجولات السابقة سواء كانت في عهد ياسر عرفات أو في ظل الانقسام وخاصة ما أشرنا إليهما سابقاً لكن الأخطر في هذا الإضراب أنه يأتي في مرحلة يسودها متغيرات دراماتيكية على المستوى الإقليمي والدولي انعكست على توجهات السلطة الوطنية الفلسطينية في نظرتها لمواجهة الانقلاب في غزة والذي أحدث الانقسام الفلسطيني. هنا تقف حركة فتح التي تقود الإضراب من جهة وتخوض معركة سياسية ووطنية من جهة أخرى على مفترق طرق متشابك ومتداخل؛ فهي التي لن تتخلى عن أهم قضاياها الوطنية التي تضعها في سلم أولوياتها النضالية وهي التي تحاول أن تمر من ثقب الإبرة الدولية التي يحتم عليها وجوب إنهاء الانقسام الفلسطيني فوراً؛ ففي الوقت الذي اتخذت فيه السلطة الوطنية الفلسطينية مجموعة من الخطوات والقرارات ولوجاً لتحقيق هذه الغاية قبيل لقاء الرئيس محمود عباس المرتقب مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. 

وفي هذا السياق فإنه لا داعي للانتظار بهدف المناورة لكسب المزيد من الوقت وترقب النتائج؛ مما يتحتم على حماس عدم الانزلاق في هكذا تكتيكات فالمطلوب أن نستبق الضربات الكبرى قبل الوقوع في حبائل الصدمة؛ لأننا أمام قضية الأسرى من جهة التي لا ندري أين سيحط قطارهم في هذه المعركة وبين ما وصلت له قضيتنا الوطنية من تردي بشكل عام؟! في حين أن فتح قادرة على ترتيب أوراقها بين نضال الأسرى المطلبي وبين تحدياتها الوطنية والسياسية دون خلط أو التباس كما كان واضحاً في دورها اتجاه إضراب الأسرى من جهة وجولاتها الحوارية الأخيرة مع حركة حماس من جهة أخرى خاصة موقفها من السجالات الإعلامية ورفضها بالمطلق وتمسكها بإحداث ثغرة في جدار الانقسام قبل أن تقع الفأس في الرأس؛ فبالاستناد إلى تجارب معاركهم السابقة والتي اندلعت تحت نير الانقسام نرى بأن كرة الثلج التي تدحرج وطنياً على صعيد محاولة إنهاء الانقسام أو على صعيد الحراك السياسي الدولي ربما لا تأتي في صالحهم إذا ما أبعدنا قضيتهم المطلبية العادلة عن ساحة التجاذب القائمة وإخراجها من حالة التشظي والنكوص والانكسار الذي يحيط بنا كي لا تفضي إلى ما أفضت إليه معركتهم التي اندلعت قبيل الحرب الأخيرة على غزة، فلننزع أي فتيل يفسد هذه القضية باعتبارها إحدى قضايانا المقدسة؛ كي لا نجعل اليوم يشبه البارحة. بل وإنه من الضرورة بمكان أن يكون هذا الإضراب مدعاة للوحدة والمصالحة الفورية وتمكين حكومة الوفاق الوطني من العمل في غزة وتشكيل جبهة وطنية عريضة وإطلاق هبة شعبية تساند الأسرى في هذا الإضراب وتعميق جبهاته في الساحات العربية والدولية وتحشيد كل طاقاتنا الإعلامية لتحقيق هذا الهدف؛ فقد يطول هذا الإضراب وقد تتعرض القيادة الفلسطينية إلى مزيد من الضغط الدولي للعمل على فضه وخاصة بأن السياسة الأمريكية الجديدة ذاهبة إلى حسم قضايا دولية وإقليمية عدة منها قضيتنا التي يكاد أن يقتلها الانقسام إذا ما وضعناها على المائدة الوطنية في إطار واحد وموحد تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد لشعبنا الفلسطيني حتى يتسنى للقيادة حملها إلى المجتمع الدولي وفرض رؤيتها على الخريطة السياسية. 

إذن نحن أمام تحديات كبيرة وأسرانا ينظرون إلينا من بين شقوق ظلام أقبيتهم وعلينا أن نكون بمستوى نضالاتهم وتضحياتهم، صحيح بأن هناك حالة من الإحباط في غزة نتيجة لما تتعرض له في الآونة الأخيرة من عتمة تتصاعد إلى مستوى الظلام الدامس وتراجع في العجلة الحياتية التي قد تطال كل الجوانب ولكن علينا ألا نخذل الأسرى وأن نلتحم معهم وننتصر لهم من خلال التواجد والاحتجاج في خيام الاعتصام والإضراب التي أقيمت في المدن الفلسطينية وخاصة ساحة السرايا في غزة التي كانت سجناً ومعتقلاً للفلسطينيين وأصبحت منبراً وطنياً لصوت الشعب الفلسطيني الذي ما زال يلفظ الانقسام ويقاوم الحصار والاحتلال.