70 عاما بلا وطن/الشتات التاسع – بيروت ج 3

70 عاما بلا وطن/الشتات التاسع – بيروت ج 3
70 عاما بلا وطن
الشتات التاسع – بيروت ج 3 
ما بين البطولات والحصاد المر – المشهد كما عايشته في الغزو الاسرائيلي للبنان 1982
بقلم : قيس مراد قدري

قبيل بروز منظمة التحرير كان الفلسطينيون في دول الشتات العربي يبحثون عن نافذة للتعبير عما أصابهم بعد ضياع الأرض  ؛ ولأنهم موجودون على أرض الغير فان وسيلة التعبير الوحيدة  التي أتيحت لهم كانت من خلال الانخراط في التنوع الحزبي من أقصى اليمين الى أقصى اليسار . أما من تشبثوا بالأرض وظلوا تحت الاحتلال فلم يكن أمامهم سوى خياران ؛ اما الالتحاق بالحزب الشيوعي (راكاح ) أو بحزب ميرتس . 
 المشروع الوطني الفلسطيني في بداياته عام 1964 كان مليئا بالحماس السياسي . الفلسطينيون تقاطروا من كل حدب وصوب وبخلفيات أيديولوجية متنوعة لوضع اللبنات الأساسية لرؤية تحرير مستقبلية .
أول الصروح التي بدأت بالتشكل كان جيش التحرير : قوات عين جالوت ( مصر ) حطين في (سوريا ) القادسية في (العراق ) وبدر في (الأردن ).  وترافق مع هذا بداية بناء المؤسسات الوطنية وفي طليعتها "مركز الأبحاث " الذي أعتبر واحدا من أهم انجازات منظمة التحرير حيث التقت فيه خيرة العقول البحثية الفلسطينية .
 في المركز كنت تجد كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية من وثائق قديمة ومعاصرة ؛ كتب ؛ دراسات ؛ ابحاث وكل ما هو مستجد ذا علاقة بالصراع العربي – الصهيوني وبأكثر من لغة ليكون في متناول الباحثين . 
تعاقب على ادارة المركز تباعا شخصيات وازنة ومؤثرة  :  د. فايز صايغ  ثم شقيقه أنيس فمحمود درويش ثم القانوني والباحث الأستاذ  صبري جريس .
 المركز كان عبارة عن خلية نحل في أقسامه المتعددة . تقرير يومي لكل تحركات الكيان الصهيوني ؛ ونشرة يومية تطبع وتوزع على كل القادة السياسيين . كما كانت مجلة شؤون فلسطينية احدى أهم المراجع المعتمدة لدى الباحثين في كل أنحاء العالم  .
أنا التحقت بقسم الشؤون الدولية مع الزميلة السيدة جلنار النمس ومع الراحل الدكتور محمد زايد . ثم
تفرغت لوضع " كتاب الصهيونية وأثرها على السياسة الأمريكية " وقد شرفني المناضل الكبير الأستاذ شفيق الحوت بكتابة المقدمة ؛ ورغم أني أنجزته عام 1980 الا أنه صدر ابان الغزو الاسرائيلي عام 1982 وهذا ان دل على شيء انما يدل على مدى مصداقية مركز الأبحاث في تدقيق كل ما يصدرعنه سواء لجهة المراجع أوالتدقيق اللغوي .
في المركز أيضا أقيمت دورات لتعلم اللغة العبرية للباحثين على مبدأ " من تعلم لغة قوم ..." . الدورة التي التحقت بها كانت تضم  علي اسحاق ( الآن عضو لجنة تنفيذية ) وسميح شبيب وأحمد شاهين ( كاتب سوري توفي في الجزائر) وطلعت موسى وآخرين وأشرف على الدورة الأستاذ عبد الحفيظ محارب المفوه باللغة العبرية . ( للأسف لم نتمكن من اتمام الدورة بسبب ظروف الحرب ).
في العام 1981 كانت هناك نذر حرب اسرائيلية  كبرى ؛ لذا كان لابد من الاستعداد لها . أقيمت دورات عسكرية لكل الملتحقين في أجهزة منظمة منظمة التحرير بمن فيهم الكتاب والصحفيين والعاملين في كل القطاعات الاعلامية .
منظمة التحرير الفلسطينية كانت تتصرف كأنها دولة مكتملة النصاب داخل الدولة اللبنانية وقد تجلى ذلك  في عرض عسكري  مهيب أقيم عام 1981 امتد على مدى ساعات طويلة شاركت فيه كل الفصائل  بكل ما لديها من ترسانة عسكرية وقوات بكافة الأذرع  .  يومها وقف الأخ أبو عمار مؤديا التحية العسكرية ومن حوله كافة قادة الفصائل الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية أمام مدخل قاعة جمال عبد الناصر التابعة لجامعة بيروت العربية مستعرضين جحافل المقاتلين كمن يريد توجيه رسالة لاسرائيل مفادها  أن هذا ما ستواجهونه . 
عام 1982 كان الجميع يدرك أن الحرب قادمة لا محالة فكل تصريحات القادة العسكريين الاسرائيليين كانت تصب في هذا الاتجاه  والكيان الصهيوني لن يعجز عن ايجاد مبرر لغزو لبنان .
يوم الثالث من شهر حزيران اعلن أن السفير الاسرائيلي في بريطانيا  شلومو أرغون قد تعرض لمحاولة اغتيال اصيب من جرائها اصابات بالغة .
صبيحة اليوم التالي بدأ الطيران الاسرائيلي والبوارج الحربية قصف مواقع مختلفة داخل الأراضي اللبنانية . وعلى مدى يومين  تكثف القصف الاسرائيلي للمواقع الفلسطينية والوطنية اللبنانية وسقط وقتها أكثر من 100 شهيد واصيب نحو 300 آخرين بجروح مختلفة .
صبيحة السادس من حزيران بدأ الاجتياح الاسرائيلي للبنان من 6 محاور: في القطاع الشرقي والأوسط والغربي ووصلت القوات الاسرائيلية الى مدينة صور وقامت بعمليات انزال في منطقة رأس العين وبرج الشمالي والبص والدامور . كما دارت اشتباكات عنيفة في قضاء النبطية  ؛ وتقدمت القوات الاسرائيلية باتجاه حاصبيا وكوكبا .
الاشتباكات العنيفة أدت الى تدمير عدد من دبابات العدو ؛ وقتل العديد من الجنود واسقاط 4 طائرات بينها طائرة هليوكبتر وأسر أحد الطيارين . اسرائيل من جهتها اعترفت بسقوط طائرة واحدة وبفقدان أحد طياريها .
قبيل الحرب بفترة وجيزة كنت قد التحقت باذاعة "صوت فلسطين" مع الزملاء يوسف حسن القزاز ؛ والحاج خالد مسمار والراحلة نعم فارس وصالح (محمد ) هواش وأحمد بن بيلا والأستاذ طاهر العدوان الذي أصبح فيما بعد ( رئيس تحرير  صحيفة " العرب اليوم " ثم وزيرا للاعلام في الأردن )  اضافة الى المدير العام  نبيل عمر .
الحق يقال أن اذاعة "صوت فلسطين " لعبت دورا محوريا أثناء الغزو الاسرائيلي وكانت في رأس بنك الأهداف للطيران الاسرائيلي . من استوديو صغير في أسفل احدى البنايات السكنية في منطقة الفاكهاني أي المنطقة الأكثر استهدافا كانت الاذاعة هي الصوت الوحيد المسموع . ولو لا قدر الله أصيب المبنى الذي يعلوها لما خرج أي من العاملين في الاذاعة حيا . 
في الأيام الأولى للغزو الاسرائيلي أصرت الزميلة الصبية الرقيقة والجميلة ابنة الجنوب اللبناني نعم فارس على اجراء مقابلات حية مع المقاتلين في مواقعهم رغم خطورة التحرك . كانت تلك آخر مرة نسمع صوتها فقد انفجر لغم تحت السيارة التي كانت تقلها فاستشهدت على الفور وكذا كل من كان معها.
بسبب اشتداد القصف على منطقة الفاكهاني تقرر نقل استوديو الاذاعة في وقت لاحق الى منطقة ساقية الجنزير وهي أكثر أمنا وقد بذل مهندسو الاذاعة جهودا كبيرة في تهيئة المكان واستعملت الأغطية الصوفية (حرامات) كعوازل للصوت . أما مواد التحرير فكانت تكتب في منزل الشهيد هاني جوهرية بمشاركة أعداد كبيرة من الكتاب أذكر منهم : غالب هلسا ؛ ميشيل النمري ؛ حنا مقبل ؛ فيصل حوراني ؛ أمجد ناصر ؛ صالح قلاب ؛رشاد أبو شاور وكان يقدم برنامجا يوميا  "ابن البلد" اضافة الى طاقم المذيعين والاداريين وآخرين.
الاسرائيليون جن جنونهم بعد أن تم قتل رئيس استخباراتهم العسكرية فيكتوئيل آدم ونائبه حاييم سيلع لذا كانوا يبحثون عن أي قائد فلسطيني للانتقام منه ؛ وكان أبو عمار وأبو اياد وأبوجهاد على رأس القائمة . وأعلنت اذاعة العدو كذبا أن القوات الاسرائيلية تمكنت من قتل الرجل الثاني أبو جهاد الذي رفض تكذيب الخبر لكنه تحدث في اليوم التالي عن مستجدات المعركة . حتى أن استشهاد المقدم عبد الله صيام في بداية الغزو لم يتم الاعلان عنه الا بعد مرور 25 يوما حسب الأوامر ( الاعلام نصف المعركة ) .
في ثاني أيام العيد فوجئنا بدخول الأخ أبو عمار الى منزل هاني جوهرية وتوجه فورا الى الحمام ؛ توضأ وصلى ثم جالسنا . للعلم فقط أن أبو عمار لم يختبيء تحت الأرض بل كان في أغلب أيام الحرب ينام في السيارة ولم يتوانى عن زيارة المقاتلين في مواقعهم وفي عيادة الجرحى في المستشفيات . أثناء تواجده معنا جاء أحد حراسه وهمس في أذنه طالبا منه ضرورة مغادرة المكان نظرا لوجود اثنين آخرين من مركزية فتح (هاني الحسن وهايل عبد الحميد ) في دائرة قطرها أقل من 50 م مما يشكل خطرا على الجميع . رفض المغادر وأوعز للآخرين الابتعاد عن المنطقة وكان حديثه معنا مطولا تناول فيه مجمل الأوضاع . 

جهاز آخر عمل بكفاءة عالية هو " الاعلام الخارجي " الذي كان يرئسه الصديق الراحل محمود اللبدي والذي كان كل صحفيي العالم يريدون تسجيل لقاءات معه وهو يصر على اجرائها في الفاكهاني تحت وابل القصف الاسرائيلي.
اللبدي طلب مني المتابعة مع لجنة تقصي الحقائق التي أرسلها السيناتور الأمريكي تشارلز بيرسي والمكونة من الدكتور فرانكلين لامب ( أدلى لاحقا بأحد أهم الشهادات حول ما جرى في مجزرة صبرا وشاتيلا  )  والسيدة سوزان هيدجز . معهما قمنا بزيارة المستشفيات وتدوين شهادات الجرحى والأطباء المعالجين .
وقد أطلعنا الأخ أبو عمار شخصيا على كل ما قمنا به عندما التقيناه حوالي الثانية والنصف من بعد منتصف الليل في الحمرا سنتر في بيروت. وكذا فعلنا مع السيد شفيق الوزان رئيس وزراء لبنان .
صحيفة "صوت المعركة" وليدة الغزو لعبت دورا في شحذ الهمم ؛ كل الأقلام اتجهت نحوها في وحدة اعلامية غير مسبوقة للكتاب والصحفيين.
صحيفة "الرصيف" كذلك التي رئس تحريرها الصديقين الشهيد الشاعر علي فوده والكاتب رسمي أبو علي أمد الله في عمره ؛ كان لها دور يشهد له . علي فوده اصيب اصابة بالغة أثناء توزيعه الصحيفة على المقاتلين واستشهد لاحقا.
نماذج من ملاحم البطولة سطرها العديد من المقاتلين ولعل أبرزها شهداء قلعة الشقيف الذين رفضوا أوامر الانسحاب وظلوا يقاتلون حتى نفذت كل ذخائرهم واستشهدوا جميعا . وكذا فعل الشهيد عزمي الصغير وقواته في الجنوب اللبناني . أما ملحمة معركة المتحف في بيروت والتي استمرت لعدة ساعات وحالت دون تقدم لواء النخبة الاسرائيلي جولاني نحو بيروت الشرقية حيث واجهته قوات الصاعقة المشاة في لواء حطين في جيش التحرير بقيادة العقيد الركن عطية عوض الذي كان في مقدمة مقاتليه مقاتلا حتى استشهاده .
في محور المطار أيضا كان مقاتلو قوات 17 بقيادة راسم الغول في مواجهة مباشرة مع القوات الاسرائيلية المتمركزة في منطقة خلدة وتلال عرمون .
نماذج أخرى من البطولة قدمها الأطباء والممرضون والمسعفون  بدون استثناء في كافة المستشفيات التي جندت لخدمة المصابين : الجامعة الأمريكية ؛ عكا ؛ غزة  ومستشفى نجار اضافة الى مستوصفات طبية استحدثت في مناطق عدة حتى أن بعضها كان يجري عمليات جراحية بما تيسر من أدوات بدائية . أذكر من بين هؤلاء الأطباء الدكتور جينو الكندي اليوناني الأصل.
لا يمكن الحديث عن البطولات دون ذكر الفنان المصري عدلي فخري الذي كان يتنقل بعوده وأغانيه بين الاذاعة ومواقع المقاتلين ومعه الشاعر زين العابدين فؤاد .
أعنف أيام المعارك كان يوم 12 آب اغسطس حيث اطلقت على بيروت أكثر 300000 قذيفة على مدى عشر ساعات متواصلة محدثة تدميرا هائلا.
وفد الفنانين المصريين برئاسة الكاتبة المعروفة السيدة فتحية العسال والممثلة الشهيرة السيدة نادية لطفي ولفيف من فناني مصر كانوا محل تقدير عند وصولهم الى بيروت لدعم صمود الفلسطينيين واللبنانيين في مواجهة آلة الحرب الاسرائيلية وكان لي شرف مرافقتهم في زيارة بعض المواقع.
حادثة لا يمكن المرور عنها دون ذكر تفاصيلها وقعت لسفيرنا في فرنسا الأخ سلمان الهرفي أمد الله في عمره . مر بي طالبا أن أعيره مفتاح منزل الراحل السفير فؤاد البيطار الواقع على بعد 30 م خلف مركز الأبحاث  والذي استعملته لفترة قصيرة لاقامة زوجتي وابنتي ومولودنا الجديد (مراد) الذي كان عمره 19 يوما عند بداية الغزو الاسرائيلي قبل أن تصدر الأوامر بتسفيرهم الى سوريا . أعطيته المفتاح وبعد دقائق سمعنا دوي انفجار هائل تبين أنه نتيجة سيارة مفخخة كانت متوقفة  في الساحة المحاذية لمركز الأبحاث وأصيب فيها الأخ الهرفي اصابات بالغة وقد هرعت سيارة اسعاف لنقله الى المستشفى لكنها انقلبت وأدت الى استشهاد الشاب اللبناني الذي أسعف سلمان الهرفي  . توجهت الى مستشفى الجامعة الأمريكية وعند خروجه من غرفة العمليات كان أشبه بهوائي التلفزيون حيث تم وضع أسياخ حديدية في كتفه وساقه اليسرى . ونطرا لاكتظاظ مستشفى الجامعة الأمريكية  قمت باخراجه مع السرير ومشيت فيه بالشارع حتى مستشفى نجار الذي يبعد حوالي 600-700 م  لأن عدد الجرحى فيه كان أقل والرعاية أفضل .
 رغم القصف الشديد والحصار الذي فرضته القوات الاسرائيلية بالتعاون مع القوى الانعزالية على بيروت الغربية الا أننا كنا نتحرك بشكل شبه اعتيادي مع بعض الحذر وكأن الاحساس برهبة  الموت ما عاد لها مكان في النفوس. 
فندق البوريفاج هوالوحيد الذي يمتلك خدمات للصحفيين كان يعج بالعشرات من الصحفيين من كافة أنحاء العالم ؛ ومن بين الشخصيات الفلسطينية التي كانت تتواجد فيه أحيانا د. ادوارد سعيد و د.ابراهيم أبو لغد وأحيانا معهم محمود درويش والروائي اللبناني لياس خوري ... وقيل لي أن ادوارد كان يعزف على البيانو في بيته لأصدقائه كمن لا يبالي بالقذائف المنهمرة على بيروت .

أفراد السلك الدبلوماسي عربا وأجانب كلهم هربوا من بيروت الغربية مع بداية الغزو الاسرائيلي ما عدا سفيري كندا واليونان بشخصيهما فقط ؛ وبحكم علاقتي الوطيدة بالسفير اليوناني السيد ستفربولوس فقد كنت أزوره  بين الفترة والأخرى للاطمئنان عليه.
تم الاعلان عن التوصل الى اتفاق يقضي بخروج القوات الفلسطينية المسلحة الأراضي اللبنانية على ظهر بواخر يونانية بعد 88 يوما من الصمود الأسطوري . عندما أبلغت بموعد رحيلي الى تونس توجهت الى السفارة اليونانية لوداع صديقي السفير الذي فاجأني بطلب صور لزوجتي وولدي حيث أنه أعد بشكل غير مسبوق جوزات سفر بأسمائنا ( ما زلت أحتفظ بها ) باعتبارنا مواطنين يونانيين في حال حدوث أي مكروه في رحلتنا نحو تونس لبدء شتات جديد.
( يتبع ) . الرحيل نحو مستقبل مجهول .