قرار بالبصمة

قرار بالبصمة
بقلم عبدالله غزلان 
قاضي المحكمة العليا 
عضو مجلس القضاء الأعلى 


كتب الاستاذ صلاح الشاهد في مقدمة كتابه ( ذكرياتي في عهدين ) - وهو يكتاب يسجل فيه احداثاَ كبرى لها آثاراها في مصر والعالم العربي، خلال عمله مديرا للمراسم برئاسة مجلس الوزراء مع كل من مصطفى النحاس وحسين سري وعلي ماهر واحمد نجيب الهلالي، ومع الرؤساء اللواء محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات- 



“ يقسوا البشر على الشجر وهو كائن حي مثلهم٫ فيقتلعونه اقتلاعا٫ ويحيلونه الى ورق٫ الى أنماط من ورق٫ يدونون عليه كل جميل وجليل٫ كما يدونون عليه الكذب والرياء ٫ ويزحمونه بالشر والنكبات٫كم من قرار ظالم احتواه هذا الورق ؟

وكم من أمر قاس بسجن أو إعدام،أو سحل، أو مصادرة أموال،أو فرض حراسة، أو تعذيب إنسان بريء سطروه على هذه الورق.

على هذا الكائن الذي لم يعرف عنه الا الحب والحنان، ولم يؤثر عنه الا كل مفيد وتليد ؟

وكم سطر على هذا الورق الأكاذيب .

وكم سجل على هذا الورق تزوير التاريخ .

وكم زحم هذا الورق بمنشورات الباطل .

وكم ملئت صفحاته بالغش والتدليس .

ان الورق اعظم مظلوم في التاريخ. 

ان الغابات التي تحترق اشجارها،إنما هي بهذا الحريق تنتحر قبل ان تتحول إلى ورق ، خشية ما سوف يسجل عليها من زور وبهتان. 

كم بودي ان أرى الورق شحيحا يغلو سعره عن الذهب والماس، حتى اذا آذوه بالكذب والنفاق والرياء كان على الأقل اغلى صريع في عالم الأحياء” ، يستوقفني هذا الذي كتبه الأستاذ صلاح الشاهد كلما استدعيت للكتابة او التوقيع ،لأن التوقيع في حقيقته هو تصديق على ما كتب أو إقرار به  حتى أنني في بعض ما كلفت به من محاضرات للسيدات والسادة من الناشئة القضاة، كنت اذكرهم بهذا الذي سطره الأستاذ صلاح الشاهد وأخاطبهم بالقول "اعدلوا بالورق” وبعد، ان القرارات إما أن تصدر عن شخص بمفرده أو مجموعة أشخاص، كما انها في الاصطلاح اللغوي شيء وفي الاصطلاح القانوني شيء آخر  إلا أن الأصل في كل قرار يصدر عن مجموع أشخاص بوصفهم هيئة أو مؤسسة أو منظمة أو مجلس يقومون بعمل جماعي، ان يسبقها دعوة للاجتماع تبلغ لكامل الأعضاء، يحدد فيها الزمان والمكان والغاية من الاجتماع، وهو ما يعرف قانونا بجدول الاعمال .

واذا ما تعذر الاجتماع في مكان واحد، قد يتم الاجتماع وفق التطور الحاصل عبر الفيديو كونفرس، كما أن من شروط الاجتماع، توفر النصاب العددي للمجتمعين وهو ما يعرف بالنصاب القانوني، ومن ثم يطرح جدول الأعمال للنقاش والمداولة، وفي ضوء ذلك تصدر القرارات بالإجماع او الأغلبية ،وفق مقتضى الحال،  وفي هذا السياق وبعطف النظر على قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة ،2002 فقد نص وفي المادة (37 ) منه على تشكيل مجلس القضاء الأعلى بوصفه التكوين المؤسسي الذي يقف على أعلى مدارج السلطة القضائية و من ضمن أعضاءه وعلى ما انبأت عنه المادة سالفة الإشارة (أقدم نواب رئيس المحكمة العليا) وهو بحكم القانون، نائبا لرئيس مجلس القضاء الأعلى، وليس سرا ان يذاع ان لا نائب لرئيس المحكمة العليا،حتى كتابة هذه السطور رغم ان أمرا كهذا استحقاق قانوني ان لم يكن استحقاق دستوريا.

بما يضمن استيفاء شروط تشكيل مجلس القضاء الأعلى على النحو الذي رسمه قانون السلطة القضائية، والتي جاءت نصوصه في معظمها مكملة للقانون الأساسي أن لم تكن جزءاً لا يتجزأ منه .

وانني إذ أدرك بواعث وأسباب عدم استيفاء شروط تشكيل مجلس القضاء الاعلى، بتعيين نائب لرئيس المحكمة العليا، لن اتناوله بحديثي هذا لعله يكون محل حديث لاحق ان شاء الله. 

لا سيما وأن الحديث عنه قد يثقل على القارئ لا سيما وأن ما يعانيه القضاء هو بعض ما يعانيه الوطن والمواطن. 

وعود على بدء ، ولما كان حديثنا يتعلق بطريق اتخاذ القرارات الصادرة عن مجموع أشخاص يقومون بعمل مؤسسي جماعي، فقد تستوجب بعض الظروف الطارئة ولتوفر حالة الضرورة والاستعجال، التي لا تتحمل التأخير، وإذا ما تعذر الاجتماع ان يتم اتخاذ قرار بالتمرير،بأن يدون القرار ويعرض على الأعضاء للتصويت عليه، على أن إتخاذ قرار على النحو المذكور يعد استثناء عن القاعدة ، والاستثناء له ضوابطه وأحكامه ومبرراته، وإلا أضحى الاستثناء أصلا، يقصد به عدم إخضاع الأمر محل القرار للنقاش والمداولة وسماع الحجة والدليل.... الى غير ذلك من دوافع ... ويغدو القرار والحالة هذه قد صدر بالبصمة لا بالتمرير.

راجيا ان لا يضج مقالي هذا مضجع من ضج مضجعه ما سبق ان كتبته من على منبر دنيا الوطن ، ذلك ان أحدهم تنافخ شرفا واستل سيفه، وطلب ممن نشر ما كتبت او حاول نشره على مواقع التواصل الاجتماعي ان لا يفعل، مردفا بقوله “بلاش تطير”  وأهمس في أذنه أن الطيران فيه من الدلالات ما يفيد الرفعة والسمو والعلو والتحليق ، وأين هذه الدلالات والمعاني من الهبوط والدنو.

وإن شعبنا الذي عانى عذابات الحروب والتشرد والضياع ،بقادر على أن يميز الخبيث من الطيب والحق من الباطل والغث من السمين .  وأن يمييز بين قصف الرعود وقرع الطبول