الشيخ أبو يوسف... مُلهم الصغيرَ والكبير

الشيخ أبو يوسف... مُلهم الصغيرَ والكبير
صالح المسيمي "أبو يوسف"
خاص دنيا الوطن- روزين أبو طيون
بهندامه البسيط ذات اللون البني وبنظاراته السوداء، يقف خلف عربته الخضراء المُحملة بما يناسب كُل فَصل، يدور في أزقَةِ المخيم التي حَفظها عن ظهر قلب، وبابتسامته المعتادة يبدأ يومه، كُل من يسكن المخيم يَعرفه وينتظرونه يومياً على أحر من الجمر.

يُنادي بما تحمله عربته الخضراء، الكُل يَعرفه وحافظٌ لنبرة صوته، يميزونها حتى وإن كانوا بعداء فيتهافتون عليه، فما تقدمه عربته ذات طعمٍ مميز، طعمٍ لم ولن يتذوقوه إلا من تلك العربة....وبين الماضي والحاضر واختلاف الأجيال قد تختلف الأذواق لكن الرأي بقي كما هو.

صالح المسيمي "أبو يوسف" في العقد السابع من عمره،  من سكان مخيم بلاطة في مدينة نابلس، كان يعاني من مشاكل في عينيه منذ الصغر، حتى فقد بصره بالكامل بعد سن 35 عاماً.

بداية حياته ولعنة التهجير

يقول أبو يوسف: "ولدت في قرية الجماسين الواقعة شمال مدينة يافا، تلك القرية الخضراء الجميلة التي كانت تجمعنا، حتى أتت لعنة التهجير.ف نزحنا إلى قرية جلجولية، ثم إلى قلقيلية وبقينا هناك من سنة 1948 حتى 1956، كنا نعيش في الخيام أنا وأمي وأبي وأخوتي الستة لم تحمينا من حرارة الشمس أو حتى برد الشتاء".

يُأخذ رشفة من فنجان قهوته المُر ليعود بذكرياته فيكمل: "أستذكر تلك الأيام الصعبة وكأنها تحصل الآن، ففي يوم شتاءٍ ثلجيَ لم نستطع حماية أنفسنا والخيمة من ذلك التجمد، فما كان من أبي إلى وأن يضع جسمه علينا ليدفئنا، وكذلك وقت قذف النار علينا أثناء الحرب، كان جسد أبي الدرع الحامي لنا، ولا أعتقد أنه فكر في نفسه ولو قليلا، كان جل تفكيره كيف يحمينا ويبعدنا".

يتابع بعد أن مزج دمعته بابتسامة: "سنة 1956 بدأ العدوان الثلاثي على مصر الذي انتهى سنة 1957، كنا حينها في نابلس وقاموا بتسمية حارة من حواريها ب "بور سعيد" تيمنا بما حصل آنذاك. بقينا لفترةٍ قصيرةٍ في الخيام حتى قمنا ببناء منزل العائلة، ومحاولة لتقبل لعنة التهجير، والعودة لحياةٍ طبيعية".

عربة البراد أنقذت عائلتي

يقول أبو يوسف: "بعد أن استقرينا بمخيم بلاطة في مدينة نابلس، كان عليّ أن أعمل كي أعيل عائلتي وخصوصا أن أبي قد أنهكه التعب، فما كان عليّ إلا أن أترك المدرسة وأبدأ ببيع البراد والبوظة والبسبوسة فأتيت بعربةٍ صغيرة وبدأت بصنع تلك المأكولات التي تعلمتها من أمي وأتقنتها".

يُكمل: "فكنت أمشي أنا و عربتي الخضراء في نابلس وضواحيها، حتى بدأت الناس بمعرفتي، وتعودوا عليّ وعلى ما أقدمه. منذ الصباح حتى المساء أتجول في أرجاء نابلس لأكسب رزقي فأبي كان يقول لي دوما لن تشعر بقيمة القرش إلا إذا تعبت كي تحصل عليه، حتى أصبح مبدأي في الحياة".

يتابع والفخر واضحٌ على ملامحه: "نعم قد ضحيت بتعليمي من أجل أن أعيل عائلتي، لكني لم أندم على هذا القرار فأبي الذي كان درعا لي ويحميني كان عليّ أن أرد ذلك الجميل الذي لم ولن أنساه، أنا لم استطع دخول المدرسة ولكن بالمقابل ومن عربة البراد قد تعلم أخوتي كلهم، منهم من أصبح محامٍ والآخر مديرٌ لمدرسة".

الروحُ ترى أوضح

يقول أبو يوسف: "كنت أعاني من مشكلةٍ في نظري منذ أن ولدت، لم أهتم كثيراٌ حينها اعتقدت أن هذا شيءٌ طبيعيّ، لكن المشكلة بدأت بازدياد فلم يكن الطب متطورٌ حينذاك، كانت حياتي طبيعية كأي شخصٍ عاديّ. وفي عمر 35 عاماُ فقدت نظري بالكامل، ما كان لي إلا أن احمد ربي كثيرا، حاولت أن أتقدم للعلاج في القدس ونابلس لكن لم يفدني ذلك".

يُكمل: "اخترت أن لا أقف عند هذا العائق، فالله أهداني حياة أريد أن أعيشها، فحتى وإن لم أرى بعينيّ فالروح ترى أوضح بكثير، ولم أفكر أبدا بالتوقف عن عملي، وقررت أن أصبح ملهماً لاخوتي ولمن حولي".

لكل امرئٍ من الحياة نصيب

من عربة البراد استطاع الشيخ المسيمي أن يعيل أخوته وتعليمهم  ويعيل نفسه وفي سنة 1981 تزوج الشيخ المسيمي فيقول والحب قد ظهر على ملامحه ونبرة صوته: "تزوجت من إمرأة لم ولن أحب احدا كحبي لها، فهي كانت نصفيَّ الأخر وسندي وكتفي حين أتكئ، لم تتركني يوماً ولم ترى في فقدي لبصري عيباً، عرفها الجميع بطيبة قلبها وحسن تعاملها مع الصغير قبل الكبير. فالله لا ينسى عباده، وأم يوسف كانت هديتي من الله".

يُكمل: "لكلِ امرئٍ من الحياة النصيب الجميل، فالله لا يأخذ من الإنسان شيء إلا ويعوضه بالأفضل فقط علينا أن نتمسك بما لدينا، ولا نجعل أي شيء يعيق حياتنا. أكملت نصف ديني وتزوجت وعشنا حياة بسيطة سعيدة وأنجبنا ستة أبناء، أصبحوا سندي في الحياة وعيني".

يتابع محاولاً أن يخفي حزنه: "في الشهر الكريم وفي ليلة القدر قبل سنتين أخذ الله أمانته، توفيت أم يوسف ولكن روحها بقيت معي واتذكرها بكلِ خطوةٍ أخطيها وأدعوا لها في كل صلاة".

معلم من معالم المخيم

خمسون عاماً والشيخ المسيمي خلف عربته الخضراء يجول في أرجاء نابلس والمخيم، الصغير والكبير يحترمونه وينتظرون قدومه، ومتفائلون بابتسامته وجبورته على الحياة وكيف أنه لم يجعل للاستسلام مكانٌ في قاموسه.

تقول جارته أم يوسف: "لم أرى في حياتي شخصٌ بقوة وإرادة الشيخ المسيمي، أبتسم دائما عند رؤيته يتجول في المخيم رغم سنه الكبير، وأقول دائما لأولادي كي يصبحوا بإرادته وأن لا تهزمهم الحياة مهما كانت الظروف".

يقول أبو طه: "الشيخ المسيمي جزئٌ من طفولتي التي لا أنساها، أتذكر كيف كنا وأصدقائي ننتظر قدومه يومياً لنشتري منه، فلا أعتقد وحتى هذا اليوم أن هناك من هو أفضل منه فيما كان يقدمه".

مناشدة لسيادة الرئيس

في نهاية اللقاء ما كان من الشيخ المسيمي إلا وأن يبوح ما في قلبه لسيادة الرئيس أبو مازن، فيقول: "أتمنى من سيادة الرئيس والمسؤولين أن يأخذوه بعين الاعتبار كل من هو يعاني كحالتي وأن يقدموا لهم العلاج اللازم والعمل الذي يستحقونه".

"وأتمنى من سيادة الرئيس ومحافظ محافظة نابلس أن يعيدوا النظر بحالة ولدي عطا الله المسيمي الذي سجن قبل خمسة شهور إثر حادثة عائلة حلاوة، ولدي ليس له أي علاقة وهو سندي ومساعدي في عملي أتمنى أن يتم الإفراج عنه قريبا".