70 عاما بلا وطن/الشتات الثامن – العودة الى بيروت ج2

70 عاما بلا وطن/الشتات الثامن – العودة الى بيروت ج2
كمن عاد الى حبيبته بعد طول غياب ؛ هكذا كانت فرحتي بالعودة الى بيروت رغم أن الحياة فيها لم تتغير مذ تركتها ؛ أصوات المدافع واطلاق الرصاص والقتل والخطف مازال سيد الموقف لكني رأيتها أجمل وأبهى من عاصمة النور باريس .
عالم النشر بتفاصيله الدقيقة كان جديدا بالنسبة لي ؛ لم أعرفه من قبل الا من خلال نظرة عابرة أحيانا على ما نهلته من كتب عبر السنوات . أحمد سعيد محمدية ابن حيفا الذي بدأ حياته صحفيا في جريدة الأنواروناشطا في حركة القوميين العرب ثم مؤسس " دار العودة " للطباعة والنشر جاء بفكرة عبقرية جعلته خلال سنوات قليلة واحدا من أكبر الناشرين في الوطن العربي . فكرة الأعمال الكاملة لأدباء العرب وهم على قيد الحياة وليس تكريما لهم بعد رحيلهم . 
تجربتي في " دار العودة " فتحت لي آفاقا جديدة للمعرفة وعلاقات على أعلى المستويات اقتربت خلالها من كتاب كبار كانوا يحجون الى مكتبنا في شارع كورنيش المزرعة . أدونيس كان يعد كتابه " الثابت والمتحول " ؛ وأكرم زعيتر كان يشرف على طباعة الأعمال الكاملة لبدوي الجبل ؛ وعبد الوهاب البياتي ؛ ومعين بسيسو وخليل حاوي .. وسواهم . أما محمود درويش فكان يحلو له بعد مراجعة الطبعة الأخيرة من أعماله أو بصدد نشر عمل جديد الى لعب النرد ( الطاولة ) حيث كنت متابعا وأحيانا مشاركا في هذا النزال كلما سنحت لي الظروف بذلك .
دار العودة وضعت الكثير من الكتاب الفلسطينيين الناشئين على أول درجات الشهرة وكثير منهم أصبح يشار لهم بالبنان في أيامنا هذه .
العمل في دور النشر يتطلب القيام برحلات سفر مستمرة اما مشاركة في معارض الكتاب في البلاد العربية أو زيارات علاقات عامة كان الاستاذ محمدية يصطحبني معه كجزء من تعريفي على الشخصيات التي تعتبر مفاتيح لتسهيل معاملاتنا سواء لجهة اعداد طلبيات الكتب أو انجاز المعاملات المادية المترتبة عليها . في الطائرة كنا نشتري الكثير من الهدايا ؛ زجاجات عطر؛ ربطات عنق ؛ أنواع فاخرة من السيجار الكوبي وخراطيش سجائر نوزعها على الشخصيات كل حسب مقامه للمساعدة في سرعة انجاز أعمالنا .
كل أصحاب دور النشر كانوا يطلبون ود العراق . هناك مقولة مشهورة تقول : مصر تكتب ولبنان يطبع والعراق يقرأ . كم هائل من المكتبات في كل أرجاء البلاد ؛ وشراهة لكل ما هو جديد . هكذا كان العراق قبل غزوة المغول الجدد عام 2003 . 
في بغداد لم نكن نجرؤ على تقديم ما نحمله من هدايا كما نفعل في بقية الدول العربية ؛ كنا نقدمها سرا بعيدا عن الأعين لأن القانون يعتبر ذلك بمثابة رشوة والعقوبة صارمة وشديدة .
عام 1978 سافرت برفقة الأستاذ أحمد الى اليمن الجنوبي ؛ وصلنا الى العاصمة عدن وكان بانتظارنا عدد من السياسيين ومرافقة رسمية اصطحبونا الى فندق الكرسنت . عدن مدينة محاطة بجبال سوداء اللون وتكثر فيها الغربان وبحرها مليء بكل أنواع الأسماك ؛ وفيها شاطيء جميل يسمى الجولد مور . في تلك الأيام كان هناك حظر على التعاطي مع المواطنين ( قانون حماية المواطن ) ولكن عندما التقينا بالرفيق عبد الفتاح اسماعيل الرئيس الفعلي للبلاد الذي استقبلنا في دارته في قمة الجبل المطل على العاصمة عدن من عل (كان بيت الحاكم العسكري البريطاني قبل الاستقلال ) . الرجل كان مثقفا كبيرا ؛ وقاريء جيد ومتابع للحركة الفكرية اضافة الى كونه دمثا ومتواضعا . عندما تحدثنا معه عن أن القانون يحول دون لقاء العديد من الأصدقاء اصدر يومها أمرا باستثنائنا من القانون والسماح لنا بلقاء العديد من رجال الأدب والسياسة بمن فيهم شخصيات معارضة وهو ما فعلناه .
غادرنا اليمن الجنوبي على متن طائرة قديمة دي سي 8 ؛ عند ركوبها شعرت أننا لن نصل بسلام الى عاصمة الشمال ؛ صنعاء . الرحلة كانت صعبة واعصابنا كانت مشدودة طوال الوقت .وصلنا عاصمة الشمال وكان بانتظارنا السيد عبد الله حمران مدير مكتب الرئيس ؛ والشاعر الدكتورعبد العزيز المقالح . الى قصر الحمد توجهنا حيث كانت اقامتنا . هذا القصر كان ملكا للامام البدر آخر حكام البلاد من أسرة حميد الدين عندما كانت تسمى المملكة المتوكلية اليمنية قبل أن تتحول الى جمهورية عام 1962 اثر انقلاب عسكري قاده عبد الله السلال قائد الحرس الملكي والذي أصبح أول رئيس لجمهورية اليمن الشمالي . 
في تلك الأيام كان اليمن في حالة حداد ويعيش صدمة اغتيال الرئيس ابراهيم الحامدي وشقيقه غدرا وبطريقة بشعة. المؤامرة دبرت بليل ؛ وأصابع الاتهام وجهت الى تورط الملحق العسكري السعودي في ذلك . من تولى الرئاسة بعده كان الفريق أحمد حسين الغشمي رئيس الأركان والمعروف بولائه وقربه من المملكة العربية السعودية .
فوجئنا بعد ظهر أول يوم لنا في صنعاء بدعوة من الرئيس لحضور الاحتفال بعيد الجيش الذي يحييه الفنان وديع الصافي والذي كان مقيما في نفس القصر الذي تواجدنا به . في الحفل لاحظت أن الرئيس كان يتلفت كثيرا نحو الخلف كمن يخشى من انقضاض أحد العسكريين عليه .
الأيام التي أمضيناها في صنعاء قضيناها في ضيافة العديد من الأدباء والساسة ولعل أبرز تلك اللقاءات كان في دار الشاعر الكبير عبد الله البردوني ( أبو تمام العصر ) . أما جلسات تخزين القات فكانت تتم ظهر كل يوم وتبدأ من الثانية ظهرا حتى السابعة مساء بحضور شخصيات وازنة في عالم الأدب والسياسة والتي كانت تتحول الى منازلات شعرية وحوارات أدبية.
في اليوم المحدد للقاء الرئيس جاءنا السيد عبد الله حمران وأبلغنا بتأجيل الموعد بسبب محاولة انقلاب فاشلة ؛ فانتهزنا الفرصة لزيارة قصر الامام أحمد في مدينة الحديدة واطلعنا على كل الحيل التي كانت أسرة حميد الدين تمارسها لاقناع الشارع اليمني أنها ظل الله على الأرض .
عند لقاء الرئيس كان هناك طاقم التلفزيون الرسمي وعدد من الصحفيين . أخرج الجميع وبقينا وحدنا فقط . الحديث كان عاديا ووديا الى أن سألني عما اذا كانت الزيارة ممتعة ؟ أجبته بنعم ؛ وأتبعتها بسؤال عن أننا مذ وصلنا الى اليمن لم نتذوق طعم القهوة الشهيرة واكتفينا بشرب النسكافيه !!! عندها حدثنا الرئيس عن أن المزارعين استعاضوا عن زراعة القهوة التي تعطي ثمارا مرة كل عامين الى زراعة القات الذي يعطي أربعة محاصيل في السنة وأكثر ربحية بالنسبة لهم.
في مطار صنعاء في طريق العودة الى بيروت فوجئت أن الرئيس قد أرسل لى كيسا كبيرا مليئا بحبات القهوة اليمني من تحيات شخصية منه .
أحمد سعيد محمدية وزوجته السيدة أم جهاد وبقية الأسرة كانوا كرماء جدا معي فقد تكفلوا بمصاريف حفل زفافي الذي جاء مصادفة يوم 29 نوفمبر أي ( اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني ) والذي تم في خلية حمد بحضور الأقارب والأصدقاء ومن بين من شرفوني في تلك الليلة كان السياسي الفلسطيني المخضرم الأستاذ أكرم زعيتر والسفير العراقي الأستاذ قاسم السماوي وكذا صديقي قائد سلاح البحرية منذر أبو غزالة الذي اغتاله الموساد الاسرائيلي عام 1986 في أثينا في اليونان . بعد الانتهاء من مراسم الزواج توجهت أنا وزوجتي الى فندق 5 نجوم مهجور بسبب قربه من مناطق التماس في رأس بيروت وكان بحراسة الجيش السوداني التابع لقوات الردع العربية حيث أمضينا فيه ليلة واحدة على ضوء الشموع ثم أقفلنا عائدين الى البيت التابع لدار العودة في مبنى الحاج الخضري عند دوار الكولا المدخل الأساس نحو جمهورية الفاكهاني معقل منظمة التحرير الفلسطينية .
ابراهيم الحويجي نائب رئيس المخابرات الجوية السورية في لبنان والمتهم بتدبير اغتيال القائد كمال جنبلاط قام بزيارة مقر دار العودة واختار مجموعة كبيرة من اصدارات الدار قدمناها هدية له على أمل الحماية ان لزم الأمر كون القوات السورية الآمر الناهي خارج مناطق سيطرة منظمة التحرير. 
في أحد الأمسيات كنت متوجها بسيارتي برفقة زوجتي وصديق لنا وزوجته لحضور مسرحية " كاسك يا وطن " على مسرح البيكادلي لدريد لحام . في الطريق أوقفنا حاجز للقوات السورية بالقرب من السفارة الكويتية والمتاخم لمنطقة الفاكهاني ؛ بعد تفحص هوياتنا تبين أن زوجة صديقنا لم تكن تحمل هويتها ؛ عندها أصر جندي الحاجز على انزالها من السيارة . استفزني هذا التصرف الأحمق فقلت له اتصل بابراهيم الحويجي وبلغه أنك أوقفتنا. كان ذكر اسم الحويجي كافيا لارعابه ؛ فراح يتأسف ويعتذر ومرت تلك الليلة على خير وسلام والهدية أعطت مفعولها . حوادث كثيرة من هذا القبيل كانت تنتهي باطلاق نار وسقوط ضحايا من كلا الطرفين .
في النصف النصف الثاني من العام 1979 كنت قد تركت العمل في دار العودة وعدت الى أحضان منظمة التحرير الفلسطينية ملتحقا بأحد أهم الصروح التي انشأتها منظمة التحرير الفلسطينية ألا وهو مركز الأبحاث والدراسات الفلسطينية .
في المقال القادم ( بيروت- ج 3 ) الحديث عن مركز الأبحاث ؛ واذاعة صوت فلسطين؛ ومن ثم الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 فالرحيل الى تونس .