إلى فلسطينَ طريقٌ واحدٌ .. لا يمرُّ عبر واشنطن

إلى فلسطينَ طريقٌ واحدٌ .. لا يمرُّ عبر واشنطن
د. وليد القططي

ما ان نُشرت أخبار المكالمة الهاتفية بين ترامب وعباس وما تضمنته من دعوة السيد محمود عباس بصفته رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية لزيارة واشنطن ولقاء سيد البيت الأبيض الجديد، حتى استبشر البعضُ منّا خيراً، وانشرحت صدورهم ارتياحاً فتلقفوا الخبر كما يتلّقف الغريق في البحر طوق النجاة، دون أن يعرف أنه طوقٌ وهميٌ كما السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الحقيقة المُرّة مكانه فاغرة فاها لتبتلع وهم السراب الكاذب. وكأنه قدرٌ مفروض ومصيرٌ محتوم أن نجري وراء السراب مرة تلو المرة، ونركض خلف الوهم تارة بعد الأخرى، لنعيد إنتاج الفشل مع كل رئيس أمريكي جديد، ولنعيد صناعة الخيبة مع كل إدارة أمريكية قادمة. وكأن الطريق إلى فلسطين يمُر عبر واشنطن... فهل الطريق إلى فلسطين يمر عبر واشنطن فعلاً ؟ . 

وفي صياغة أخرى للسؤال السابق: هل ما زال البعض يؤمن بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي مفتاح حل القضية الفلسطينية والطريق الذي يمر عبره إرجاع جزء من الحقوق الوطنية الفلسطينية ؟ وهل نحن بحاجة إلى أدلة جديدة تثبت حقيقة الدعم الأمريكي اللامحدود للمشروع والكيان الصهيوني، وتثبت الانحياز الأمريكي الكامل للدولة العبرية، وتثبت أن الحفاظ على وجود وأمن (إسرائيل) من الثوابت الراسخة والأهداف الإستراتيجية للسياسة الأمريكية الخارجية، ولهذا دعمت أمريكا كل المشاريع والقرارات الدولية التي أدت إلى قيام دولة (إسرائيل) وتثبيت وجودها في المنطقة، وبالمقابل رفضت كل المشاريع والقرارات الدولية التي لا توافق عليها (إسرائيل) . وأن رعايتها لمشروع أوسلو يصب في دائرة إنهاء الصراع تاريخياً لصالح الكيان الصهيوني أو إطالة أمده ريثما يجري تغيير الواقع على الأرض لصالح الكيان. وإذا كان ذلك قد حدث في ظل رؤساء وإدارات تزعم تأييدها لحل الدولتين ورفض الاستيطان كإدارة أوباما، فما بالنا برئيس وإدارة (ترامب) يٌعلن أن الاستيطان لا يشكل عقبة أمام تحقيق السلام، ويسعى لتغيير القرار (2334) الذي يدين الاستيطان، ويريــــد نقل سفارة بلاده إلى القدس، ولا يؤمن بحل الدولتين ... 

هذه العلاقة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني ليست علاقة ثنائية عابرة أو تخضع لمتغيرات المصالح وموازين القوى أو تعتمد على قوة اليهود في أمريكا – وإن كانت كلها موجودة – ولكنها علاقة ثابتة وجذورها راسخة متغلغلة في العمق الديني العقائدي للنخبة الحاكمة في أمريكا التي تؤمن بالمسيحية الصهيونية التي أنتجها المذهب البروتستانتي، والتي سبقت اليهودية المسيحية بل مهدت لظهورها وساهمت في خروج المشروع الصهيوني للوجود مجسداً في دولة يهودية. كما أن هذه العلاقة ناتجة عن تشابه المشروعين الاستعماريين الاستيطانيين الاحلاليين : الأمريكي فيما سُميّ بالعالم الجديد، والصهيوني في فلسطين اللذين خرجا من شجرة واحدة تُسقى من ماء العنصرية والاستعلاء والعنف. والعلاقة يعززها الدور الوظيفي الدائم للدولة العبرية في المنطقة كنقطة ارتكاز متقدمة للمشروع الغربي الذي تقوده أمريكا بعد أفول نجم بريطانيا للإبقاء على حالة الهيمنة على المنطقة العربية والإسلامية مقابل إمداد الكيان بأسباب الحياة والوجود والحفاظ على أمنها. وهذا النوع من العلاقات لا يمكن المراهنة على تغييره لصالح القضية الفلسطينية بدون تهديد جدي وحقيقي للمصالح الأمريكية في المنطقة . 

والبديل عن المراهنة الخاسرة على واشنطن كطريق للتسوية السلمية الوهمية هو الرجوع إلى الأصل والخروج النهائي والجذري من مسار أوسلو الذي أوصلنا إلى هذا المأزق الخطير وهذا يقتضى أن نتحرر من الفكر السياسي المبني على فرضيات سياسية ثبت خطؤها، والارتكاز على الفكر السياسي المقاوم، والرجوع إلى المشروع الوطني الجامع للكل الفلسطيني، والتمسك بالثوابت الوطنية الفلسطينية، وإتباع نهج المقاومة الشاملة لسحب مكاسب الاحتلال التي حصل عليها بعد أوسلو ليصبح احتلالاً مُكّلفاً وباهظ الثمن يضع العدو في مأزق أمني ووجودي يضطر فيه للانسحاب من الضفة الغربية بعيداً عن مسار أوسلو كخطوة نحو تفكيك الكيان الصهيوني برمته من فلسطين، وعلى الأقل ألاّ يقدم الرئيس أي تنازلات جديدة للرئيس الأمريكي ويصمد أمام الضغط الأمريكي، فإن لم نستطع انتزاع حقوقنا الوطنية الآن فعلى الأقل ألاّ نتنازل عنها. فالطريق إلى فلسطين لا يمر عبر واشنطن بل عبر التمسك بالحقوق والصمود على الأرض والمقاومة الشاملة كما قال الشاعر السوري نزار قباني في قصيدته (أصبح عندي الآن بندقية) مخاطباً الثوار " تقدموا .. تقدموا .. فقصةُ السلامُ مسرحية..والعدلُ مسرحية .. إلى فلسطينَ طريقٌ واحدٌ .. يمُر من فوهةِ بندقية " .