قضاء بالمقاس

قضاء بالمقاس
قضاء بالمقاس
عبدالله غزلان                 
   قاضي المحكمة الأعلى 
 عضو مجلس القضاء الأعلى 


قبل اقل من شهرين ودعنا عاما مضى واستقبلنا عاما آخر جديد، ولقد عاش القضاء الفلسطيني العام الماضي حالة لا تنبئ بحاضر ولا تبشر بمستقبل، وصفت بالعاصفة، وقد بدأت بتشكيل المحكمة الدستورية العليا ،  وبالأحداث التي سبقت وتبعت تعيين القاضي سامي صرصور رئيسا للمحكمة العليا، و تعيين القاضي عماد سليم نائبا لرئيس المحكمة العليا،  ثم في اليوم التالي تعيينه نائبا أول لرئيس المحكمة العليا، نائبا أول لرئيس مجلس القضاء الأعلى، وما تبع ذلك من إقالة و/أو استقالة القاضي سامي صرصور، وتكليف القاضي عماد سليم القيام بأعمال رئيس المحكمة العليا رئيس مجلس القضاء الأعلى، إلى أن وجهت دعوه مفاجئه من القائم بالأعمال لمجلس القضاء الأعلى للاجتماع بعد مضي شهرين على عدم اجتماعه أسفرت عن تنسيب بأغلبية أصوات الحاضرين من أعضاء المجلس، بناء على إرادة سياسيه انتهت بقرار من الرئيس محمود عباس تعيين القاضي عماد سليم رئيسا للمحكمة العليا رئيسا لمجلس القضاء الأعلى.

كما صحب تلك العاصفة صدور ما سمي بالقرار التفسيري رقم 1 /2016 الصادر عن المحكمة الدستورية العليا - وهو المولود البكر للمحكمة - المقدم من وزير العدل بناء على طلب رئيس الوزراء لغاية لم تعد في نفس يعقوب فحسب، بل أدركها كل صاحب بصر وبصيرة،  وقد وصفها المستشار الدكتور عبد العزيز سالمان نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا المصرية في تعليقيه على القرار المذكور بقوله ( المحكمة حين تعرضت للتفسير في أسباب قرارها، كان همها ليس تفسير النصيين التشريعيين محل طلب التفسير، وإنما انصرفت في جل حيثيات قرارها إلى الدفاع عن صحة تعيين القاضي عماد سليم نائبا لرئيس المحكمة العليا نائبا لرئيس مجلس القضاء .......

وهذا ليس شان المحكمة الدستورية ولا هو دور التفسير الذي نيط بها ولا يحوز قرارها في هذا الشأن آية حجية... 

 فقد كان طلب التفسير يستهدف قطع الطريق على المحكمة العليا قبل أن تفصل في دعوى الإلغاء المعروضة عليها رقم 4/2016- (المقامة من كاتب هذه السطور القاضي عبدالله غزلان)- فطلب التفسير في مثل هذه الحالة ينطوي على عدوان بالغ على حق الخصوم، ومصادرة لحق المحكمة في أن تقول كلمتها في تفسير النص، تصل إلى حد انتزاع سلطة الفصل في الدعوى من قاضيها الطبيعي ... وينطوي في الوقت ذاته على امتهان لقاضي المنازعة لأن في مواجهته بتفسير للقاعدة القانونية الواجبة التطبيق على المنازعة صدر خصيصا لها.  ما يوحي بعدم الاطمئنان إلى صلاحيتة للتصدي لموضوع المنازعة وإنزال حكم القانون عليها، وهو أمر خطير ينال من مقومات العدالة في الصميم، ويمس كبرياء القاضي وكرامته، وهو أمر لا يجوز السكوت عنه ويتعين إعلان الاحتجاج عليه). 

فيما وصفها الأستاذ محمد خضر أستاذ القانون الدستوري في جامعة بيرزيت في تعليقه على القرار المذكور بقوله (قدم الطلب من وزير العدل بطلب من رئيس مجلس الوزراء وفقا للإجراءات تبدو في ظاهرها قانونية ودستورية، ولكن المدقق في توافر شروط طلب التفسير يجد خلاف ذلك...  ويلاحظ مدى تورط  المحكمة الدستورية في الإجراءات أمام المحكمة العليا.... لدرجه عدم قيام المحكمة الدستورية باستعمال كلمات وعبارات غير تلك التي استعملها الطاعن أمام المحكمة العليا. 

وهذا الحكم التفسيري يصلح أن يكون لائحة جوابية على اللائحة التي تقدم بها الطاعن أمام المحكمة العليا ولكنه لا يصلح أن يكون قرارا تفسيريا )

في ما وصفها أيضا الأستاذ الدكتور محمد الحموري أستاذ القانون الدستوري في الأردن بقوله (انه لمن الغريب أن يقرر وزير العدل بناءا على طلب  رئيس الحكومة الطلب من المحكمة الدستورية،  تفسير النصوص القانونية التي يستند إليها الطاعن في طلب إلغاء القرارين أمام المحكمة العليا بعد أن انبسط الطعن أمامها وانعقدت ولايتها بنظره... وفيه استقواء على النصوص القانونية لفتح أبوابها عنوة، من اجل التستر على بعض القرارات الإدارية المطعون فيها، وإخراجها من ولاية المحكمة العليا،  والأكثر غرابة هو استجابة المحكمة الدستورية لما طلبه وزير العدل وإصدار قرار التفسير، وهي تعلم أن المحكمة العليا قبلها صاحبة الولاية في تفسير النصوص القانونية المطلوب تطبيقها على القرارين لبيان سلامتها من عدمها )

ثم  تبع ذلك ما تبعه من قرارات صدرت عن ذات المحكمة الدستورية،  وكذلك حكم محكمة النقض 986/ 2016 المشكلة على نحو ما قالته العرب (من كل روض زهرة) ، من هيئتي محكمه النقض الأولى والثانية وهيئة محكمة العدل العليا،  والتي أفصح عن تشكيلها حكمها الصادر بتاريخ 16-11-2016 القاضي ببطلان كافة إجراءات وحكم المحكمة العليا رقم 4/2016 ، المتضمن إلغاء قراري الرئيس محمود عباس تعيين القاضي عماد سليم نائبا لرئيس المحكمة العليا نائبا لرئيس مجلس القضاء الأعلى، نائبا أول لرئيس المحكمة العليا نائبا أول لرئيس مجلس القضاء الأعلى.

وإنني إذ سجل ذلك، لا أرغب الدخول في التفاصيل، لأن الحديث عنها تضيق به العبارة، إذ كلما اتسعت الصورة ضاقت العبارة، إلا أن ضيق العبارة، لا يحول بيني وبين أن أعلن إنني وبعض القضاة الزملاء في المحكمة العليا، وفي ضوء ما تمخضت عنه العاصفة كنا بين خيارين.

 الأول: أن نتقدم باستقالة جماعية وهو الخيار الأسهل. 

 الثاني: أن يبقى كل منا في موقعه بارا بيمينه بأن يحكم بين الناس بالعدل وان يحترم الدستور والقانون محافظا على ثوابت القضاء من استقلال وحيده ونزاهة لا تأخذه بالحق لومة لائم، نستقوي بالحق ونستظل بالقانون نذود عن أنفسنا أي تدخل أو هيمنة أو تغول، ولكل منا بين جنبيه عزة القاضي، وكرامة القاضي، وغضبة القاضي، رافضين أن نحصن الباطل والفاسد والمعيب والمعتل، لا نرائي ولا نداور حتى لا يخرق القانون بعوامل الجبن ويتلاشى بالإستحياء.

ورغم أن هذا الخيار هو الخيار الأصعب، فقد اخترناه، لا تثنينا المصائب ولا تمنعنا المحن ولا يحول بيننا وبين أداء رسالتنا ترغيب أو ترهيب، ماضيين بإرادة لن تلين، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، وليقضي الله أمرا كان مفعولا.

وقد توالت الأحداث على مدار أقل من شهرين من العام الجديد، منها ما أعلن عنه من أن النيابة العامة وجهت استدعاء للمحامي داود درعاوي للتحقيق معه على خلفية آرائه ومنشوراته،  التي تنتقد تشكيل المحكمة الدستورية العليا، وأداء قضاتها والذي جاء بناء على شكوى مقدمة من رئيسها، الأمر الذي دعا مجلس منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية إصدار بيان بتاريخ 26/1/2016 بالخصوص المذكور أعرب فيه عن قلقه البالغ تجاه ذلك وقد تضمن في ما تضمنه مطالبة الرئيس محمود عباس بسحب قرار تشكيل المحكمة الدستورية كمقدمة على طريق اعاده ترميم النظام السياسي والإصلاح القضائي.

كما تزامن ذلك مع ما أعلنت عنه نقابة المحامين على لسان المحامي فهد الشويكي، عضو مجلس النقابة، رئيس لجنه التدريب في النقابة،  في حديث إذاعي من أن النقابة قررت في اجتماع عقدته بأن تتقدم بالطعن في تشكيل المحكمة الدستورية في الوقت المناسب و ذلك بالتشاور مع مؤسسات المجتمع المدني.

 كما سبق ذلك بأيام جلسة الإستماع التي عقدتها الهيئة الأهلية لاستقلال القضاء، وسيادة القانون عن واقع القضاء في فلسطين، وما يصدره من أحكام.

ثم تبع ذلك ما أعلن عنه من منح قضاة المحكمة الدستورية العليا، مزيدا من العلاوات والامتيازات واتساع نطاق اختصاصها بموجب مشروع قرار بقانون معدل لقانون للمحكمة الدستورية العليا.

وأخيرا ما نسب لرئيس المحكمة الدستورية العليا في كلمته بمؤتمر القانون الدستوري الفلسطيني الأول آفاق وتحديات،  المنعقد في جامعة النجاح من أن المحكمة تواجه مشكلة في جهل المحامين والقضاة بإجراءات المحكمة والإحالة إليها، ومن أن نصف الشعب أصبح خبيرا بالقانون الدستوري.

وتعقيبا على هذا الذي تم تسطيره .... وبخاصة الشكوى المقدمة من رئيس المحكمة الدستورية و كذالك مشروع القرار بقانون بتوسيع نطاق اختصاص المحكمة الدستورية، و ما تعانيه المحكمة من معيقات منها جهل القضاة والمحامين،  أرى من وجهة نظري - إذ كان للرأي محل - وبعد أن ضربت المحكمة بقراراتها نموذجا يحتذى به، في إخضاع النصوص للرغبات والمصالح والأهواء والأوامر والتعليمات، وأصبح يهتدى بأحكامها وقراراتها، في كيفيه الانحراف المتعمد في تطبيق النصوص وتفسيرها وتأويلها على نحو لم يسبق له مثيل، أن يتضمن القرار بقانون تعديلاً لاسم المحكمة واسم القانون، ليصبح قانون المحكمة الدستورية العظمى بما يليق مع اتساع اختصاصاتها وكفاءة أعضائها، وحتى لا يشق لأحكامها أو لأي مشروع قرار بقانون غبار، وحتى لا يكشف عنهما أو لغيرهما عورة أو عوار، ولكي لا تطالهما الألسن بسوء المقال، ندعوا إلى اتساع التحقيق، لتشمل كل  من وصفهما بما لا يليق، حتى ولو أدى الأمر الاستعانة بصديق من البوليس الدولي (الانتربول).

 وبذلك تكمم الأفواه، وتعصب الأعين، وتصم الآذان، وتبلغ الغاية مقصدها،بأن يفصل القضاء بالمقاس....