70 عاما بلا وطن/ بيروت الزمن الجميل 1

70 عاما بلا وطن/ بيروت الزمن الجميل 1
70 عاما بلا وطن

الشتات السادس

بيروت الزمن الجميل 1

بقلم : قيس مراد قدري

بيروت لها ما ليس لغيرها من المدن ؛ بها كل التناقضات مابين الحب والحرب ؛ وبها أودعنا أسرارنا ؛ وكتبنا على شواطئها قصائد عشقنا لوطن كان على مرمى النظر . بين هدير المدافع وأزيز الرصاص كانت فيروز سيدة صباحاتنا وغذاء روحنا وموئل أمل للعيش يوما قدريا مجهول النهاية.

 في بيروت كان لنا دولة مابين دوار الكولا ومقبرة الشهداء ؛ وبها كان لنا ما لم يكن لنا قبلا . تقاطرنا عليها من كل بقاع الأرض وكنا بلا استثناء مشاريع شهادة ؛ لم نسعى وراء منصب أو مكانة ؛ بل جمعنا قاسم مشترك واحد هو العودة الى الوطن الأم .

عندما وصلت الى لبنان كان البلد منقسم على نفسه بين مشروعين : وطني وانعزالي . في الجانب الوطني أحزاب وقيادات تاريخية . الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة كمال جنبلاط ؛  الحزب القومي السوري الاجتماعي بزعامة الدكتور عبد الله سعادة وانعام رعد  ؛ الحزب الشيوعي بزعامة جورج حاوي ؛ منظمة العمل الشيوعي بزعامة محسن ابراهيم  ؛ وحركة المرابطون بزعامة ابراهيم قليلات  اضافة الى آخرين . أما في الجانب الانعزالي فكان هناك حزب الكتائب بزعامة الشيخ بيير جميل ؛ وحزب الأحرار بزعامة كميل شمعون والمردة في زغرتا بزعامة سليمان فرنجية اضافة الى الرائد سعد حداد الذي انشق عن الجيش اللبناني والتحق بالجيش الاسرائيلي في جنوب لبنان وآخرين .

في مبنى راق في منطقة الرملة البيضاء كانت بداية اقامتنا ؛ المبنى نهبت كل محتوياته الا من شقة في الدور الرابع لم يبق فيها سوى مكتبة كبيرة بعثرت كتبها على الأرض لم يعرف اللصوص قيمتها . بها أقمت وأعدت ترتيب الكتب وحظرت الدخول اليها. كان واضحا أن صاحبها اما مثقف كبير أو أنه كان استاذا جامعيا لأن المكتبة ضمت أمهات الكتب باللغة الانجليزية . 

أثناء تواجدنا في ذلك المبنى وقع انشقاق في القيادة العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي يتزعمها أحمد جبريل الموالي للنظام السوري . يومها  اقتاده بعض العناصر الى مكان تواجدنا ؛ كان وجهه مغبرا وغاضب جدا . وأذكر أن الأخ أبو حسن سلامة جاء الى المبنى وقال له أن الوالد ( أبو عمار ) قد أوفده لتأمين خروجه سالما الى حيث يريد . جبريل اختار دمشق التي ما أن وصل اليها حتى وجه أصابع الاتهام نحو قيادة حركة فتح بالوقوف خلف الانشقاق الذي حصل في تنظيمه والذي انبثقت عنه جبهة التحرير الفلسطينية بزعامة طلعت يعقوب ومن بعده محمد عباس ( أبو العباس ) .

لم تكن اقامتنا في ذلك المبنى طويلا بعد أن جرى فرز كل من جاء معي من العراق على المحاور والمواقع ؛ أما أنا فقد فرزت على جريدة "الصمود" الناطقة باسم جبهة الرفض ومقرها في شارع أبو سهل ما بين حي الفاكهاني ومخيم شاتيلا . الجريدة ضمت صحفيين من كل التنظيمات باستثناء حركة فتح وتنظيم الصاعقة التابع لسوريا . شخصيا لم يكن يهمني الموقع لأني كنت أنظر الى الصورة بمجملها الوطني وليس بمنظور تنظيم أوسواه . 

في مبنى الجريدة منحت شقة في الدور العلوي وسيارة بجهاز لاسلكي للتنقل وكان علي أن أتعود على صوت الاشتباكات والقذائف االتي كانت تنهال علينا والرد عليها بلا مقدمات أو مواعيد محددة . نوع جديد من الحياة كان علي تقبله والتعايش معه .

في الأيام الأولى كانت تقع اشتباكات بين فصيلين فلسطينيين كثير منها سببه خلافات شخصية بين أفراد . بسذاجة شديدة كنت أرتدي بزتي العسكرية وأنزل الى الشارع محاولا وقف الاشتباك ؛ الى أن جاءني مقاتل لاحظ عفويتي سائلا : الأخ أو الرفيق قادم من ساحة خارجية ؟ قلت : نعم . وهل تريد وقف الاشتباك ؟ نعم  ؛ دم الفلسطيني عل الفلسطيني حرام . قال: لا عليك ؛ الاشتباك سيتوقف من تلقاء نفسه فالكبار (القادة ) سيجتمعون على عجل بعد قليل وستجد لاحقا طرفي القتال يتناولون الشاي مع بعضهم البعض وكأن شيئا لم يكن . أما بالنسبة لك وانت واقف في المنتصف بين تقاطع النيران فتكفي رصاصة واحدة طائشة لتكون حياتك ثمنا لها ؛ وطبعا ستنزل لك صور مكتوب عليها الشهيد البطل تعلق على الجدران قد يلحظها البعض لكن بعد أقل من نصف ساعة على الأغلب سيسقط  شهيد آخر ولا مكان لملصق شهادته الا فوق ملصق شهادتك !!! . عد الى مكتبك وسترى أن كلامي في محله . كان كلام ذلك المقاتل واقعيا وما قاله لي ذلك اليوم مازال يطن في أذني رغم مرور كل تلك السنين .

في شارع أبو سهل قبالة مكتبي كان هناك بقالة صغيرة صاحبها تبدو على وجهه علائم الطيبة ؛ كنت أشتري منه سجائري ونلعب النرد كلما سنحت لنا الفرص . يوما بعد آخر توطدت علاقتي بهذا الرجل ثم بدأ يدعوني لتناول الطعام مع أسرته في منزلهم المحاذي لدكانه وأحيانا كان يرسل لي الطعام مع أحد أبنائه . للرجل ابنتان كانتا منخرطتين في القوة 17 التي كان الشهيد أبو حسن سلامة على رأسها : دلال ورشيدة .

المفاجيء بالنسبة لي أن دلال هي نفسها أيقونة فلسطين الشهيدة دلال المغربي ؛ والحق يقال أنني كنت أكثر من فوجيء بعملها البطولي ؛ فقد كانت شابة هادئة وناعمة وتصرفاتها ما كانت تنم عن أن لديها القدرة على القيام بما قامت به . مازلت أذكر تلك الأيام وأترحم عليها كلما مر ذكرها في خاطري. 

لم أكن يوما من محبي الجلوس في المكاتب بل كنت أشعر بالسعادة بين المقاتلين في أماكن تواجدهم عند نقاط التماس . لذا كنت أكثر من زياراتي لهم في مواقعهم ؛ رغم ادراكي بالمخاطر التي تحف تلك الزيارات ؛ فمناطق التماس قريبة من بعضها البعض ناهيك عن وجود القناصة ما يعني أنك على الدوام يجب أن تتحسس موطيء قدميك وتتوقع مواجهة الموت ان أخطأت المسار أو ضللت الطريق . واجهت ذلك أكثر من مرة وكنت على الدوام أرى أن ثمة حكمة في بقائي على قيد الحياة  . لذا سأتوقف عند ثلاثة أحداث مما عايشت :

في احدى الأمسيات اتصل بي عدد من الضباط يسألون ان كنت أود مرافقتهم الى نقطة التماس عند ساحة رياض الصلح في منطقة الأسواق التجارية في بيروت لأنهم سيسلمونها الى القوات السورية عند الثانية صباحا . انطلقت معهم الى عين المكان وكنت أعرف أغلب المقاتلين هناك . بعد وقت قصير أبلغت أن موعد التسليم سيتأخر حتى الثامنة صباحا وأن الضباط سيغادرون . ليلتها قررت البقاء في الموقع . في الشارع هناك (كنبة) للجلوس مقابل كوة في الساتر الذي يفصلنا عن الطرف المعادي.  الشباب ذهبوا ليجهزوا الطعام في حين بقيت أنا وشبل اسمه محمد لم يتجاوز عمره 15 عاما وعلى بعد أقل من نصف متر مني مقاتل عراقي من الجيش الشعبي يدعى أمجد ؛ كنت أسأله لماذا لم يسم نفسه أبوفلان  كما كل الآخرين . قال : هذا اسم ابني الذي ولد بعد مجيئي معكم . لم يكمل عبارته حتى سمع صوت طلقة رصاص واحدة أصابت أمجد في مقتل وخرجت منه لتصيب جبهة الشبل الجالس على يساري علما أني كنت الأقرب الى  الكوة التي مرت منها الرصاصة . لم أصب وقتها بأذى لكن الشباب الذين كانوا بالداخل ظنوا أنني المستهدف  وبلمح البصر قلبوا ( الكنبة ) وجلسوا فوق مني لحمايتي لدرجة أني كدت أقضي بانقطاع النفس بدل الرصاص . ليلتها دارت معركة حامية الوطيس لعدة ساعات استعملت فيها كافة أنواع الأسلحة  .

الحادثة الثانية وقعت عندما توجهت برفقة المصور السوداني أبو النجومي قاصدين احدى قمم جبل صنين . المسافة من أسفل الجبل حتى القمة حيث مقاتلينا كانت تستغرق قرابة 8 ساعات صعودا لكن الكتيبة الطلابية التي ضمت مهندسين وتقنيين جاءوا من الخارج قاموا بتجريف بعض المناطق فأصبحت المدة أقل من 6 ساعات . للأسف أن عددا كبيرا من الكتيبة الطلابية قضوا نحبهم على أيدي القوات السورية .

كي نسلك الطريق الصحيح صعودا كان علينا السير خلف بغلين هما صابر وصابرية اللذان كانا ينقلان الطعام والشراب للمقاتلين مرتين كل يوم . كان لقاؤنا بالمقاتلين حميميا جدا . وقفت مستندا على أكياس الرمل في الساتر وبلمح البصر شدني أحد المقاتلين من سترتي وشبه طرحني أرضا في الوقت الذي اخترقت عدة رصاصات الكيس الترابي الذي كنت أستند اليه. قالوا : نسينا أن ننبهكم أن الانعزليين موجودون عند القمة المقابلة. يومها شربنا معهم أطيب شاي قدم لنا في أغلفة قذائف قبل أن نعود أدراجنا الى بيروت . ( صابر وصبرية استشهدا أثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان ؛ وعلمت أن المقاتلين أقاموا لهما مراسم دفن رسمية ).

الواقعة الثالثة حدثت عندما كنت متوجها بسيارتي من شارع بئر حسن نزولا باتجاه منطقة الشاليهات عندما استوقفني حاجز للقوات السورية . كان هناك ضابط بنجمة واحدة وبجانبه مجند من سرايا الدفاع التي كان يتزعمها رفعت الأسد شقيق الرئيس السوري . الضابط دخل في مشادة كلامية مع الجندي معترضا على توقيفي . المجند أشار الى الضابط باستعلاء واضح أن يتبعه الى المكتب  ؛عندها أومأ لي الضابط بيده في الخلف أن أفر من المكان ؛ وقد فعلت ناجيا بنفسي من قدر مجهول . مازلت أتندر عما فعله الجندي بالضابط لأن سرايا الدفاع كان لهم سلطة وسطوة على بقية القوات السورية المتواجدة على الأرض اللبنانية أيا كانت رتبهم العسكرية .

عند عودتي الى الفاكهاني قرر الأخوة وجوب مغادرتي الى بغداد ومنها الى باريس حيث أقمت فيها عاما ونيف قبل العودة الى لبنان مجددا حيث وقعت أحداث جثام بين العام 1978 حتى خروجنا جميعا نحو شتات جديد  اثر الاجتياح الاسرائيلي للبنان العام 1982 .