الجريمة في رام الله بين الحقيقة والابتذال

الجريمة في رام الله بين الحقيقة والابتذال
يسري الغول

انتهيت مؤخراً من قراءة رواية (جريمة في رام الله) للروائي عباد يحيى، والصادرة عن دار المتوسط في إيطاليا لهذا العام، حيث أحدثت ضجة كبيرة بعد قرار النائب العام بمنع تداولها في الأسواق بدعوى الألفاظ الجارحة وخدش الحياء العام. الأمر الذي أثار فضول كثيرين حتى غير المهتمين لقراءة العمل، وأصبح البحث عن تلك الرواية هدف كثيرين كأن قرار المنع منحها فرصة تسويقية مجانية.

الرواية تحاول تعرية بعض الشخوص داخلها وخارجها من خلال حدث عرضي نهاية عام 2012 يتمثل في طعن فتاة فلسطينية قادمة من غزة كانت برفقة صديقها (وسام) أثناء مغادرتهم البار الذي يعمل فيه (نور) والذي يتم اتهامه بتلك الجريمة لإنهاء الملف بأي طريقة، وهو ما سيتم الحديث عنه خلال هذا المقال.

اعتمدت الرواية نظام الكونتون، حيث أن الشخصيات تحدثت عن نفسها خلال أبواب خاصة بها، والشخصيات المركزية تمثلت في ثلاث شخصيات، حيث بدأت برؤوف ثم (نور) محور كامل الرواية، ثم وسام الذي جاء لإكمال فراغ في الرواية كان الأولى أن يكون مركزياً بدلاً من كونه حدثاً هامشياً.

استمر (رؤوف) منذ بداية الرواية وحتى صفحة رقم 77 يتحدث عن نفسه وكيف غيرت (دنيا) حاله حتى هجر أصدقاءه الذين يقطن معهم الشقة، والحدث هنا –وأقصد تعلق رؤوف بالفتاة دنيا- ضعيف لأنه غير مقنع، فكيف بمجرد الالتقاء بفتاة داخل سيارة لمرة واحدة لم يتأمل سوى يدها وهي تعطيه الثلاثة شواقل من الخلف (حيث كانت تركب خلفه في السيارة) أن تنسيه علاقته المثلية مع نور، وعلاقاته مع أخريات عابرات على شريط الجسد، وهل من المقنع أن يترك شاب جامعته في الفصل الأخير ويعمل في مركز أبحاث، ثم ينتقل من هذا المركز إلى بار اللوتس وهاجس التفكير بذات اليد التي أثارته جعلته يخسر كل شيء، حتى علاقته مع أسرته وأخيه الذي ينفق عليه المال؟! ولعل الأكثر سذاجة داخل الرواية أنه حين أبصر دنيا على شاشات التلفاز تتحدث عن الجريمة كونها إعلامية يكتشف رؤوف أنها مجرد فتاة عادية كغيرها من الفتيات، كأن الـ77 صفحة الأولى كانت مجرد إسفاف بعقل القارئ الذي يفهم سيكولوجية الرجل الشرقي. علماً بأنه كان من الممكن اختزال ذلك الكم الهائل من الصفحات بصفحتين لا أكثر، وبمبررات أكثر منطقية، بدلاً من العجز عن التفوه بكلمة لتلك الفتاة أثناء لقائهما العابر حين نزلا من السيارة بعد تنقيد الثلاثة شواقل.

الشخصية التالية والتي كانت محور الرواية تتمثل في شخص (نور) ابن الأسرة الإسلامية والتي يكتشف القارئ في نهاية الرواية أن اسمه (صهيب)، علماً بأن دلالة الاسم توحي بإسلاموية الهوية لتلك الأسرة. كأنه يحاول الإشارة إلى أن السياسة التي تعتمدها الحركات الإسلامية في الفصل بين الجنسين في الفعاليات والأنشطة وتشديد العلاقة قد يفضي إلى مثلية العلاقة خصوصاً في مرحلة المراهقة وإبان الفترة الجامعية.

حيث أن هذه الشخصية أفرطت في الحديث عن العضو الذكري بشكل مبتذل في غالبها واستمرت في الحديث باستفاضة كان من الممكن اختزالها في صفحة أو اثنتين، ثم التعريض بمشاهدة رجل كبير يغسل عضوه أمام شرفته ثم فجأة يظهر شاب في ذات المكان، كأن الحالة في الوطن يغزوها المثلية، فهل أراد الكاتب أن يعزز بمثل هذه الحالات لتصبح ظاهرة؟ أم أنه أراد تعرية رام الله والمجتمع الفلسطيني بأكمله لكسر تابو أن الفلسطيني مقدس؟! أم أنه يعلم أن هذا ما يتناسب مع سياسات المجتمع الدولي؟! ربما ستحظى الرواية قريباً بجوائز عالمية.

أيضاً الإساءة للرمز الفلسطيني ياسر عرفات من خلال الضحك الهستيري لمشاهدة صورة للرئيس الراحل يمتشق فيها سلاحاً حتى بدت كعضو ذكري كبير لأبي عمار حسب الراوي، الأمر الذي دفع شباب فتح لضرب نور بشدة.

إن كثيرين قد يعمدون إلى التأويل الببلوغرافي للنص واعتبار الكاتب عباد هو ذاته نور، لأنه انبثق من أسرة إسلامية معروفة وأبيه عضو في المجلس التشريعي عن حركة حماس. إلا أنني أرفض هذا التأويل فالإبداع يحاول صناعة الحبكة من خلال البيئة المحيطة والاستفادة من الواقع. ولكن قد يتبادر تساؤل مهم لذهن القارئ: هل أراد عباد الإساءة للحركة الإسلامية لأسباب خاصة أو كانتقام لتجربة عاشها بينهم؟ أم أنه مدفوع لذلك وللإساءة للرموز الفلسطينية؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه مجرد شخصية حقيقية استطاع الكاتب الاستفادة من تجربتها في صناعة النص الروائي؟!

شخصية نور هنا تظهر ضعيفة ترتعش لمجرد ملامسة الأشياء حتى تهدأ وتسكن حين تمارس لذتها، وهو ما يدفع رؤوف بتعليم نور الشدة والرجولة أمام الآخرين، لكن رؤوف ينسحب ويترك نور والشقة وبار أبو وليم بعدما اقتحمت دنيا تفكيره وكيانه.

نور الذي تعرف على بار اللوتس عن طريق رؤوف يستمر بالحديث عن علاقته مع عضوه الذكري في صفحات كثيرة تتجاوز الـ 80 صفحة كان من الممكن الاستعاضة عنها بصفحة واحدة فقط. ولا أعرف لماذا تم اقحام شخصية (آية) الثانوية داخل الرواية رغم أن سمات نور كانت توحي بأنه مثلي ولا يصلح للحب مع الجنس الآخر؟ فهل هو مجرد حشو أحداث؟ أم أن هناك أشياء أخرى أرادها الكاتب بين السطور؟

الحديث أيضاً عن رأي نور بالحور العين وعودتهن بِكراً بعد كل ممارسة جنس داخل الجنة كأنهن صرن أكثر خبرة في الممارسة وأصبحت لديهن الخبرة الوافية في التعامل مع الرجل داخل الفردوس. فهل أراد أن يقول أن كثير من القصص الدينية مجرد أساطير؟ وهل كان هذا سبب آخر في المنع؟!

الباب الثالث والمتمثل بشخصية (وسام) واستحضار حادثة القتل حسبما تحاول الشرطة في رام الله التسويق لها، وإثبات أنها ليست جريمة تبدأ بعد صفحة 160. بمعنى أن كل ما سبق هذه الصفحات كان مجرد توصيف للشخوص وكان بالإمكان اختزاله في 10 صفحات على الأكثر.

تظهر شخصية (ربا) القادمة من غزة بعد الحرب الأخيرة للعيش في رام الله بعد رفضها الهجرة مع عائلتها إلى السويد أو البقاء في غزة. وتموت بينما يهم وسام فتح باب الشقة بعد عودتهما من بار أبي وليم الذي يعمل فيه نور. كأنه فتح باب أسئلة أخرى: هل أراد الكاتب تعرية رام الله التي كانت تبحث عن اللذة في الوقت الذي تموت فيه غزة؟ هل أراد تعرية القيادة الفلسطينية ومواقفها تجاه الواقع السياسي وحالة التيه والتفكك؟ هل أراد بموت (ربا) القول إن غزة ليست على بال أحد، ولماذا لم تكن ربا من منطقة أخرى من الوطن؟! لماذا أشار بخبر على هامش الرواية إنه في عام 2012 لم يتم قتل أي مواطن إسرائيلي في الضفة الغربية حسب الإعلام العبري؟! وهنا يطرأ تساؤل آخر: هل كان منع تداول الرواية سياسياً؟

مقابلة وسام مع الطبيب النفسي والكلام الفائض دون حاجة كان من الممكن الاستغناء عنه، لأنه لم يقدم شيء للرواية، ككثير من الثرثرة التي لا طائل منها للبنية السردية داخل النص الروائي.

شخصية أرنو المثلي تدلل كيف استفاد هذا الغربي من قصة نور في جانبها البيولوجي واستثمارها لتأليف كتاب عن القضية بعد مساعدة نور للسفر إلى فرنسا.

ربما لم تقدم هذه الرواية الكثير فيما يرضى غرور الكتاب والأدباء أو حتى الجمهور العربي والفلسطيني إلا أن قرار المنع كان قراراً سلبياً ومرفوضاً، فالحكم للقارئ خصوصاً أن التقييد في ظل العولمة والتطور هو ضرب من الجنون، بل يأت بمردود عكسي كما حدث مع هذه الرواية وغيرها من الروايات.