الطفل الصغير يغار من الكبير

الطفل الصغير يغار من الكبير
رام الله - دنيا الوطن
ما من شك في أنّ الغيرة شعور مزعج، وتظهر عندما يملك الآخر ما لا نملكه، وهناك خوف من مشاركة أو فقدان العلاقة التي نسجت مع الآخر. ففي الأسرة تأخذ الغيرة، في كثير من الأحيان، شكل معركة بين الأبناء من أجل الاستحواذ على محبة الوالدين، لكنها تبقى شعورًا طبيعيًا طالما أنها لم تتعدّ مجرد المنافسة على محبة الأهل. 

ووفقًا لبعض علماء النفس، فإن الطفل يشعر بالغيرة عندما يدرك أن عليه أن يتشارك في حبه لوالدته مع أشخاص آخرين. ولكن قد يحدث أحيانًا أن هذا الصغير يغار من الأخ الكبير، خصوصًا عندما يصبح في سن الدخول إلى المدرسة، حسب موقع لها. 

عمومًا، يشعر الابن الذي تنتابه الغيرة أنه مهمل من دون سبب بديهي، ويكون لديه انطباع بأن شقيقه هو المفضّل عند والديه. فلماذا يغار الأخ الصغير من شقيقه الأكبر سنًا؟ 

يطرح هذا السؤال إشكالية تراتبية الأبناء في العائلة. ولكي نفهم أسباب الغيرة، لا بدَّ من النظر في مرتبة الأبناء في العائلة.

الابن البكر تجربة الأبوّة للمرة الأولى 

تمهّد ولادة الابن البكر الطريق أمام الزوجين، فهو الذي جعلهما أبوين للمرة الأولى، وبالتالي فإنه الأساس في بناء العائلة. فقبل ولادته كان الزوجان شريكين جمعهما الحب تحت سقف واحد، وبعد ولادته، تحوّلا إلى زوجين- والدين، لتشكل بالنسبة إليهما تجربة الأبوّة للمرة الأولى حدثًا فريدًا من نوعه. 

فهما يراقبان كل تفصيل في نمو طفلهما الأول، ويتحمّسان لكل حدث يحصل معه: «ظهور أول أسنانه، الخطوات الأولى، أولى كلماته... ويلاحظ الكثير من الصور لهذا الطفل لاحقاً في ألبوم العائلة». 

فهو يحوز كل اهتمام والديه ويدرك ذلك جيّدًا مما يعزّز لديه «تقدير الذات». وهذا هو الجانب الإيجابي في حياة الابن البكر، ولكن أيضًا يقتضي كونه الابن الأول أن يتعرّض للكثير من توقعات الوالدين التي يحلمان بها... فيعتبرانه المشروع الذي تتحقق من خلاله آمالهما ورغباتهما، وتعويض النقص الذي يشعران به تجاه ذاتهما، ويعملان على إصلاح ما فاتهما من خلاله. 

وفي مواجهة هذه الضغوط الوالدية، يقوم الابن بكل ما من شأنه تلبية رغبات الوالدين، فهو أكثر طاعة وجدّية، وأكثر مسؤولية. وفي الكثير من الأسر مثلاً، تشكو الفتيات الأكبر سنًا من أنهن ملزمات بالعناية بأشقائهن الأصغر منهن سنًا فيكنّ بمثابة «الأم الصغيرة»، وهذه صفة ضد إرادتهن. 

أما الذكور فتقديرهم لذاتهم يكون عاليًا جدًا ويشعرون بمتعة أن يكونوا قياديين في سن النضج. ويؤكد اختصاصيو علم نفس الطفل أنه لتفادي الأخطاء التربوية، من الضروري أن يدرك الأهل أن الابن البكر هو في النهاية طفل، ومن حقه أن يرتكب بعض الأخطاء، مثلاً نوبات الغضب أو العناد

الابن الأصغر ليس «نسخة جديدة» 

إذا كان عدد الأبناء اثنين فقط، فمن الملاحظ أن الأصغر سنًا يكون أكثر تمرّدًا من أخيه الأكبر أو الأخت الكبرى، لأنه يبني شخصيته من خلال سعيه إلى التمايز والاختلاف عنهما. فالصغير يشعر بالنقص لأنه بدءًا من عمر السنتين يدرك تمامًا أنه لا يحتل المرتبة الأولى في العائلة، ولم يحز الامتيازات التي يتمتع بها شقيقه البكر الذي يبدو له أنه المثال الأعلى في العائلة، فهو الابن القادر على فعل كل شيء، والذي استثمر فيه والداه في كل المجالات. 

لذا فإذا كان كلا الابنين من الجنس نفسه، تكون الغيرة بينهما شديدة، ولكن في الوقت نفسه فإنهما أكثر تكاملاً. 

وإذا كانا من جنسين مختلفين، فالغيرة تكون أقل. أمّا بالنسبة إلى الأهل، فإن أسلوب تربية الابن الأصغر يشهد تغييرًا حقيقيًا لأنهم يكتشفون أمورًا لم يعرفوها مع البكر، والصغير ليس «طبعة جديدة». 

ينمو الابن الأصغر مع فكرة أنه دائمًا متأخر قليلاً عن شقيقه، مما يؤدي إلى شعوره بالاحباط، ولكن في الوقت نفسه يكون حافزًا له للعمل على تجاوز أخيه النموذج! 

فمن ميّزات كونه الابن الأصغر، أنه يتعلّم الكثير من خلال مراقبة شقيقه الكبير أو الشقيقة الكبرى وتقليدهما... بينما الأخ الأكبر يرغب فعلاً في تعليم شقيقه الأصغر ما يعرفه. وغالبًا يظن الكثيرون أن من الضروري أن يكون الأهل مواكبين لأساليب التربية، ولكن يؤكد التربويون أن التعليم من خلال الأشقاء موجود! أمّا إذا كان هناك ثلاثة أبناء، فإن الابن الأوسط يجد نفسه عالقًا بين الإعجاب بشقيقه الكبير، والغيرة من شقيقه الأصغر منه!

الأهل ومحاولات التوازن العاطفي بين الأبناء 

ليس من السهل على الأهل إيجاد توازن عاطفي بين الأبناء، فهم على الرغم من معاملتهم العادلة، فإن هناك دائمًا من يشكو ظلمًا يلحق به. 

فإذا حصل أحد الأبناء على هدية «آي فون» مثلاً لأنه نال مرتبة تفوّق في المدرسة، فإن ردّ فعل الشقيق يكون اتهام والديه بأنهما يفضّلانه عليه، ويسمعان عبارة «تحبّانه أكثر مني». 

أمام هذا الابتزاز العاطفي قد يحاول الأهل إرضاءه بتقديم هدية مماثلة، أو يردّون عليه: «كن مثل أخيك، وتحصل على هدية أجمل». هذه العبارة التي يظن الأهل أنها كفيلة بأن تكون حافزًا للابن الأصغر ليحسّن أداءه المدرسي، أو سلوكه، قد تجعله أكثر تعنتًا وتزيد غيرته من أخيه فيتصرّف على عكس النموذج الذي يبتاهى به الأهل.

المقارنة بين الإخوة 

يتعامل الأبناء من حين إلى آخر بعنف مع بعضهم البعض، ولا سيما الصغار أثناء اللعب، وهذا أمر طبيعي. لكنّ للآباء أيضًا دورًا في هذا السلوك العنيف في ما بين الأبناء، وتعزيز الغيرة عن غير قصد. كيف! من خلال المقارنة بينهم، مما يزيد الخصومة في ما بينهم.

فمهما كان نوع المقارنة، فإن لها عواقب سيئة دائمًا! وهذا ما يقوله الأبناء، بوعي أو بغير وعي، عندما يقارن الأهل في ما بينهم: «أنا أكره أخي / أختي»، «تحب أخي أكثر مني»، «كل ما أفعله هو خاطئ... هذا ليس عدلاً»، «أنت لا تحبني لنفسي»، «لن أكون كما يحلو لك، لذلك لن أحاول أن أكون مثل أخي؟»...

هذه العبارات التي يطلقها الابن الذي يشعر بالغيرة، تعكس شعوره بالظلم، وشكّه في محبة والديه له، لذا على الأهل بذل مجهودٍ والتفكير قبل التحدّث إلى أبنائهم كي لا يدخلوا في متاهة المقارنة في ما بينهم. 

فالمقارنات مهما كانت دوافعها، فهي مرفوضة، لأنها تولّد شعورًا لدى الابن بعدم احترام الذات، فعبارة مثل «أنظر إلى أخيك كيف يرتّب كتبه»، وكذلك المقارنة المواتية التي يمكن أن تحفز الأخ على التقليل من شأن أخيه مثل عبارة «حتى أخوك لا يعرف أن يقوم بهذا الأمر كما تفعل». 

وفي المقابل، يرى الاختصاصيون أن من الأفضل للأم أن تصف الوضع كما هو، فلا تُدخل أبناءها في مقارنات مثيرة للغيرة. مثلاً عندما تعمّ غرفته الفوضى، عليها أن تعلّق مثلاً: «أود منك ان تتّبع بعض النظام في غرفتك»، بدل القول له: «لمَ لا ترتب غرفتك كما يفعل أخوك». 

تكمن المشكلة في أنه حتى من دون أن يقارن الأهل بين أبنائهم، قد يشعر الأبناء بها... مثلاً تسمع الأم ابنها يقول: «خالد، يجعلك تضحكين طوال الوقت، أمّا أنا فلا». وبالمثل، فإن مدح أحد الأبناء قد يُشعر أخاه بأنهم يقللون من شأنه: «قال أبي إن خالد لطيف، فهذا يعني أنه يفكر بأنني لست كذلك». 

يرى التربيون أن من المفيد إذا لاحظ الأهل غيرة بين الأبناء أن يمدحوا كل واحد على حدة وبشكل واضح. كما من الضروري أن يتجنب الأهل تعزيز المنافسة بين الأبناء، فمن غير المجدي مثلاً أن يُطلب منهم التنافس للحصول على العلامات المدرسية الأعلى، فهذا يشعر الأبناء بالظلم، إذ لكل واحد منهم قدراته وإيقاعه في التعلم، وعلى الأهل أن يدركوا هذا، ويهنّئوا كل واحد على تقدمه بناء على علاماته وقدراته. ومن المهم أن يشعر الأبناء بأن الأهل يتعاملون مع كل واحد منهم على أساس شخصيته المنفردة.




منح جميع الأبناء الشيء نفسه، يعني عطاءً أقل 

يحاول الأهل أن يكونوا عادلين في عطائهم لأبنائهم، أو التعامل معهم بمساواة، وهذا التصرف برأي التربويين يبدو غامضًا بالنسبة إلى الأبناء. فمثلاً عندما يسأل عمر والدته: «من تحبين أكثر: أنا أم خالد؟»... فإذا كان جواب الأم: «أحبكما بالدرجة نفسها»، لن يفهم عمر هذه العبارة، فجواب والدته يشبه جواب الزوج الذي تسأله زوجته: «من تحب أكثر: أنا أم والدتك؟»... والجواب التقليدي: «أحبّكما على حد سواء» يستفز الزوجة، لأن الأم هي أم، والزوجة هي زوجة. 

وكذلك الأبناء يرون في هذا الجواب غموضًا: «فأنا لست خالد، وهو ليس أنا». لذا فإن الجواب الصحيح هو: «أُحبكما أنتما الاثنين، ولكن كل واحد منكما فريد وخاص بالنسبة إليّ». فالحب المتشابه والمتساوي بالدرجة، يعني أنه حب أقل. لذا فإن كل ما نعطيه للأبناء يجب أن يكون على مستوى حاجات كل واحد منهم. فما يفرح زيد قد لا يعني عمر. 

يشدّد التربويون إذًا على ضرورة إعطاء الأبناء على أساس ما يحتاجه كل واحد منهم، لا على أساس المساواة في ما بينهم في كل شيء. 

لنتخيل مشهد المائدة: يعترض عمر بالقول: «قطعة كيك خالد أكبر من قطعتي»، ترد الأم: «لديكما الحصة نفسها»... عوضًا عن هذا الرد الذي لا يقنع الابن، عليها أن ترد: «عندما تنتهي منها سوف أعطيك أخرى إذا لم تشبع بعد». فهي تنبهه الى حاجته الحقيقية، لا الى المقارنة بين الكميتين».

صراخ وعراك مستمران.. والشجار مسموح 

غالبًا ما ينشب شجار بين الإخوة ويحاول بعض الأمهات منع العراك في المنزل لينعمن بالهدوء بأي ثمن، فيما يلعب بعضهن دور الوسيط، فيبرمن اتفاقًا ودّيًا مع أبنائهن. وهذا ليس حلاً، لأن المشاجرات بين الإخوة يمكن أن تكون مجدية تربويًا، فالغيرة شعور ضروري يسمح للأبناء بالتعبير عن شخصيتهم وبلورة اندماجهم الاجتماعي. فمن خلال المشاجرة يتعلم الأبناء تعديل تكتيكاتهم ويختبرون حدودهم. ممّا يدفع كل واحد منهم إلى تطوير مهاراته، وتقييم قدراته بشكل أفضل، فيتمتع كل واحد منهم في المستقبل بشخصية مميزة عن أخيه. 

إذا بالغ الأبناء في الشجار وأصبح الوسيلة الوحيدة للتواصل، فهذا مؤشر لوجود مشكلة كبيرة، وعلى الأم استشارة اختصاصي. أما إذا كان لا مفر من أزمة الغيرة، فهي تبني شخصية الأبناء. فوجود إخوة وأخوات في العائلة هو بحد ذاته تعليم معنى الحياة في المجتمع، ويحدد المكانة التي يشغلها الابن أو الابنة في مفهوم الأخوّة. 

ومع ذلك، على الأم ألا تتجاهل التنافس بين الأبناء وغيرتهم، فإذا كان الفارق بينهم سنة أو سنتين، تكون أزمة الغيرة طبيعية وعابرة، بينما إذا كانت تتخطى الثلاث سنوات، مما يعني أنها مرحلة الدخول إلى الحضانة، فإن قدوم مولود جديد، أي أخ، قد يجعل الغيرة قوية، لذا ينصح بعض أطباء الأطفال بأن يكون فارق السن بين الابن البكر والمولود الجديد، خمس سنوات، فغريزة العدائية تتلاشى وتترك مكانًا للحنان، وفي المقابل يكون الابن البكر قد حاز وقتًا استمتع خلاله بأن يكون طفلاً مدللاً، فضلاً عن أنه كوّن صداقات له في المدرسة ويقبل بسهولة أن تهتم والدته بأخيه أو أخته. 

للأهل دور في جعل الغيرة سلبية أو إيجابية، وهذا يرتكز على طريقة تعاطيهم مع الأمر. ففي بعض العائلات يكون الابن الأكبر محط إعجاب الوالدين وتقديرهما ويفضلانه على إخوته، ما يجعله يتصرف من موقع السلطة مقلدًا والده. 

وهذه الحال ربما أدت إلى شعور الأصغر بالغيرة والتوتر اللذين قد يعبر عنهما بسلوك عدائي تجاه شقيقه كتمزيق كتبه أو إزعاجه أثناء قيامه بواجباته المدرسية، محاولاً بذلك جذب انتباه أهله. 

وردود الأهل السلبية مثل معاقبته أو نهره أو إجباره على عدم إزعاج أخيه ربما تزيد من سلوكه العدائي. لذا عليهم أن يحاوروا الابن الغيور بهدوء ويشرحوا له أن هذا السلوك يؤذي أخاه الذي يحبه.

وفي بعض العائلات تكون الصورة معكوسة، فالابن الأصغر هو الحائز اهتمام العائلة، والبكر عليه التضحية في سبيله. فكثيراً ما يكون رد فعل الأهل تجاه مضايقات الأخ الأصغر أنه طفل غير مسؤول ومن واجب الشقيق الأكبر تحمّله، الأمر الذي يُولّد عند هذا شعورًا بالكراهية لأخيه الأصغر الذي يستحوذ على عناية الأهل واهتمامهم.




الغيرة... تظهر وتختفي 

تظهر الغيرة وتختفي ثم تعود وتظهر على مرّ السنين، ويمكننا أن نرى ذلك في كل مرحلة من مراحل الأبناء. ويصعب تحملها في مرحلة المراهقة، ليس لأن المشاعر تكون كثيفة والمراهق يكون أكثر تركيزًا على «أناه»، ولكن لأنّ مكانته في الأسرة تتغير. 

فهو يمرّ بمرحلة الانتقال من عالم الطفولة إلى عالم الراشدين، وبالتالي يصبح أكثر استقلالية، وفي الوقت نفسه أكثر تحملاً للمسؤولية، ولا سيّما مسؤولية الاهتمام بشقيقه أو أشقائه الأصغر منه، فيشعر بالظلم، فيما يشعر الأخ الصغير بالغيرة، لأنه أصبح في إمكانه أن يكون مستقلاً ويحوز امتيازات، مثل الخروج وحده مثلاً.

الغيرة بين الأخ والأخت تكون أقل حدّة نظرًا إلى اختلاف الجنس

الغيرة بين الأبناء بغض النظر عن جنسهم موجودة وظاهرة طبيعية، والعراك بين الأخت والأخ أحد مظاهرها. ولكن إذا كان المولود من الجنس نفسه، فإن الغيرة تكون أقوى. 

فمثلاً إذا كان المولود الجديد بنتًا، يشعر الولد بأنه ليس مهددًا، فالتعامل معه مختلف، كما أن كل ما يتعلّق بها مختلف: الملابس، الألعاب... أما إذا كان ولدًا، فيشعر بأن في إمكان هذا المولود الصغير أن يحتل مكانته في العائلة، وبالتالي سيشاركه في امتيازاته إن لم يأخذها كلها.

التعليقات