70 عاما بلا وطن / الشتات الثالث – الهروب الكبير

70 عاما بلا وطن / الشتات الثالث – الهروب الكبير
قيس مراد قدري

عندما  تسد السبل في وجه الانسان فانه أمام خيارين لا ثالث لهما : اما أن يستسلم للأمر الواقع ويمضي بقية عمره ملوما محسورا نادبا حظه العاثر أو أن يبحث عن ثغرة تخرجه من مأزقه حتى وان كان في ذلك بعض من المخاطرة والمجاذفة .

كل الدول تمنح مواطنيها جوازات سفر ليكون بمقدورهم الانطلاق نحو عوالم أخرى يتعلمون منها ويصقلون ذاتهم ويزدادون علما ومعرفة أو السعي وراء لقمة عيش أفضل بعيدا عن مواطنهم الأصلية . 

ترف الحصول على جواز السفر استثنى منه الانسان الفلسطيني في الشتات العربي كونه محكوم بوثيقة سفر تشبه من حيث الشكل جوازات السفر لكنها لاتمنح صاحبها بالضرورة حرية الحركة كما يظن ؛ بل قد تكون وبالا عليه في بعض الأحيان ؛ فالعديد من الدول تمنع حامليها من الدخول الى أراضيها ؛ والطامة الأكبر عندما لا تعترف بها الدول الصادرة عنها. وقد عرفت في حياتي فلسطينيون كثر ممن فقدوا عملهم أو استكمال تحصيلهم العلمي أو حتى العودة للم الشمل مع أسرهم بسببها . هذا الأمر عايشه الفلسطيني في حله وترحاله وعلى الدوام هو في دائرة الاتهام ومطالب باثبات عكس ذلك.

وثيقة سفري السورية الشخصية والمخصصة للآجئين الفلسطينيين  كتب فيها مسموح زيارة كافة دول العالم مستتبعة بكلمة " ما عدا " تضمنت ثلاث قارات بأكملها اضافة الى دول كثيرة بعينها ما جعل وثيقة سفري دون قيمة تذكر . 

أمام هذا الواقع كان لا بد من اللجوء الى من يستطيع تغيير هذا الوضع . اهتديت الى شخص يدعى أبو الناج  كان يعمل كاتب عرائض أمام محكمة العدل  (عرض حلجي ) يجلس كل يوم وراء طاولة خشبية عليها آلة كاتبه يتصيد الزبائن . ويبدو أن العمل الشريف لم يكن يفي بحاجات أسرته الكبيرة . أعطيته وثيقة سفري ؛ ابتسم وقال : شغلتك بسيطة كثير . قام برفع كلمة ماعدا وغير بعض المعلومات فيها فأصبحت مفتوحة على العالم .

الخطوة التالية هي حاجتي الى هوية سورية واذن زيارة  لدخول لبنان . أحد أصدقائي أعطاني هويته قائلا : سواء حالفك الحظ وخرجت الى بر الأمان أو فشلت أستطيع التوجه الى السلطات وتقديم طلب بدل ضائع . 

أما اذن الدخول للبنان فكان عندنا سيدة كانت تعمل في جمعية رعاية الأيتام والعجزة الفلسطينيين التي كانت والدتي مشرفة عليها على مدى 32 عاما ؛ ولها ولد يعيش في لبنان يخولها الحصول على ذلك الاذن.

 أبو الناج  تولى مهمة تغيير المعلومات على الهوية واذن الزيارة بما يتطابق مع وثيقة السفر . (سأخصص مقالا عن هذه الجمعية لاحقا) .

آخر بلدة سورية قبل الوصول الى الحدود اللبنانية كانت مدينة تل كلخ ومديرها ضابط من حلب أسرته كانت تسكن في البيت المجاور لبيتنا ومن باب الاحتياط  فيما لو كشف أمر التزوير في الوثائق التي بحوزتي فان احتجازي سيكون عنده ؛ لذا اتصلت به وقلت له كاذبا أني ذاهب الى لبنان لمدة ثلاثة أيام واذا كان لديه ما يريد ارساله لأسرته في حلب فاني على استعداد لحمله معي في طريق العودة . 

الأمور سارت على ما يرام وفتحت بوابة العبور الى العبودية عند الطرف اللبناني . سألت عن شخص يدعى جوزيف معراوي كنت أحمل له رسالة مغلقة قيل لي أنه سيتدبر أمر وصولي الى بيروت ومن ثم مغادرتها . لم أكن أعرف عن الرجل شيئا لكن تبين لي أنه الآمر الناهي في المعبر ؛ ما أن  قرأ الرسالة حتى بادرني بالترحاب وطلب مني انزال حقائبي كون الأمر يحتاج الى بعض الوقت لتأميني بشكل رسمي دون منغصات ( عندما عدت الى لبنان عام 1976 للاتحاق بمنظمة التحرير الفلسطينية  بعد غياب قرابة ال9 سنوات كان الرجل مايزال على رأس عمله في عين المكان ).

في اليوم التالي غادرت بيروت الى عمان بالطائرة وتوجهت فورا الى مدينة مآدبا لأن لي فيها عمة كانت تحصل على ايراد منزل يخصنا في جنين مؤجر لوزارة الصحة الأردنية ؛ وكنت أطمح بالحصول على المبلغ الذي كانت دوما توفره لنا من أجل استكمال رحلتي المليئة بالمطبات. عندما وصلت اليها وجدت عمتي أشبه بهيكل عظمي بعد أن قطع اصبع قدمها الأكبر بسبب مرض السكري وهو مرض عانت منه كل اسرة والدي وكان أحد أسباب رحيلهم عن الدنيا . شق علي الأمر ولم تطاوعني نفسي على طلب مستحقات الايجار منها . في الصباح ارتديت ملابسي وحضنتها مودعا وعندما دسست يدي في جيبي وجدت أنها قد وضعت الفلوس في جيبي خلسة . عمتي مقبولة انتقلت الى جوار ربها بعد عدة أيام من لقائنا هذا.

عبرت العراق ومنها الى الكويت حيث شقيقي الأكبر وكثير من الأقارب وأهمهم خالي وهو خريج الولايات المتحدة ومن كبار مدراء شركة النفط الوطنية الكويتية وله علاقات جيدة بأركان السفارة الأمريكية  وبفضله وفضل خالي الأصغر الذي كان يدرس مادة الاقتصاد في احدى جامعات تكساس الذي زودني بقبول من الجامعة حصلت على فيزا لدخول أمريكا. 

في الكويت بقيت حوالي شهرين بانتظار الباخرة التي ستقلني مجانا الى أمريكا بمساعدة من بعض الشخصيات المتنفذة والتي كانت تتعاطف مع فكر حركة القوميين العرب . أذكر أنه في تلك الفترة توفي الشيخ العثمان وهو من كبار أثرياء الكويت فقام ورثته بتوزيع صدقة عن روحه نالني منها 20 دينارا كويتيا اذ أعتبرت واحدا من الأيتام الذين تنطبق عليهم شروط الصدقة.

ابلغت أن الباخرة التي ستقلني الى أمريكا راسية في ميناء الشويخ وستنطلق خلال يومين . قلت في نفسي الآن دخلنا مرحلة الجد واللارجوع ؛ والخيارات قد ضاقت ؛ اما أتابع ما بدأت أو أتراجع ؛ وفي كلا الحالين أقف أمام مستقبل مجهول . عدت يومها الى المنزل في شارع الجهرة حيث يقيم شقيقي ومعه 13 فلسطينيا من العاملين في الكويت وبقيت ساهما طوال الليل تتقاذفني الأفكار يمنة ويسره . أحد الشباب يدعى كوستا فلاخوس وهو فلسطيني من أصول يونانية رآني على هذا الحال وقال : نيالك يا عم حتشوف الدنيا ؛  خايف من شو ؟ قلت:  أمريكا بعيدة جدا ولغتي التي تعلمتها في سوريا كانت الفرنسية وما أملكه من المال يكاد يسد الرمق ولا أدري ما يخبئه القدر لي ؟ وهذا سبب حيرتي . قال : البيض سلعة رخيصة ومتوفرة في العالم وبها لا يموت الانسان جوعا . هذه العبارة كانت كافية لعقد العزم على قرار السفر.

في ميناء الشويخ ودعت شقيقي وبعض الأصدقاء وصعدت الى باخرة شحن هولندية كبيرة تدعى  "آلماك"  قبطانها السيد باستين كواك رجل وقور في العقد الخامس من العمر كان ينتظرني عند أعلى السلم مرحبا بي قائلا : أنت ضيفي وأمانة لدي حتى أوصلك الى أمريكا . كلماته كانت أشعرتني بنوع من الأبوة وراحة البال .

غادرت الباخرة الكويت ولم أكن أعلم شيئا عن خط سيرها ؛ لكني في صباح اليوم التالي سمعت أناسا يتكلمون العربية فخرجت اليهم لأستطلع الأمر . ما أن قلت السلام عليكم حتى توقف الجميع عن العمل  وسألوني : من وين حضرتك ؟ قلت فلسطيني . ردة فعلهم لم أتوقعها ؛ تحلقوا حولي ؛ واقتربوا أكثر وراحوا يربتون على كتفي كمن يتبارك بأحد أولياء الله الصالحين حتى أن أحدهم حاول تقبيل يدي . سألت مستغربا : أين نحن ؟ قالوا : أنت في المحمرة ( خرمشهر ) عاصمة عربستان في منطقة الأحواز المحتلة من قبل ايران. عرفت لاحقا سبب اهتمامهم الزائد بي ذلك أن شاه ايران كان يحظر على مواطنيه ذكراسم فلسطين فكيف وأنا فلسطيني على أرض محتلة من قبل ايران .

بعض أهل المدينة عرفوا بوجودي ومن أعلى الباخرة شاهدت سيارة سوداء اللون فارهة تدخل بوابة الميناء أدى لها الحراس التحية العسكرية . قلت في نفسي ربما يكون هذا مدير الميناء ؟ الرجل صعد الى الباخرة وتوجه فورا الى قمرة الكابتن الذي استدعاني على اثر ذلك . دخلت فوجدت أمامي رجلا طويلا عريض المنكبين ومظهره الخارجي يدل على أنه من أصحاب النفوذ . وقف الرجل محييا بحرارة مقدما نفسه لي : أنا ناجح كاسبي ابن شقيقة الشيخ خزعل الكعبي آخر حكام عربستان ( أعدم في طهران ) جئت لأطلب من القبطان أن تكون ضيفي طوال فترة توقف الباخرة في المحمرة . القبطان تدخل رافضا الفكرة من باب الاحتياط وشاكرا للضيف عرضه ؛ وبدوري شكرته والتزمت بموقف القبطان.

عدة أيام أمضيناها في المحمرة لأن العمال الشيعة كانوا في اجازة عاشوراء واقتصرت عمليات التفريغ والشحن على العمال السنة . وعندما ابتعدنا عن مينائها فاجأني القبطان أن هؤلاء العمال قد أعطوه أمانة لي كانت عبارة عن صندوق كبير مليء بالفستق الحلبي والزبيب ومكسرات أخرى لتكون تسليتي في رحلتي الطويلة . 

على ظهر الباخرة هناك 36 عاملا بين مساعدين قبطان ومهندسين وأخر ؛ اضافة الى طاقم لاعداد وجبات الطعام التي كنت أتناولها دوما على مائدة القبطان . وفي كل مساء كان الجميع يلتقي في صالة المطعم لمشاهدة فيلم سينمائي وقد وجدت في ذلك فرصة لتوزيع هدية عمال المحمرة على الجميع .

أبحرنا الى ميناء مدينة عبدان النفطية الذي أمضينا فيه يوما كاملا  قبل أن نتوجه الى ميناء مدينة كراتشي الباكستانية والتي زرتها برفقة نجل كبير المفتشين بموافقة القبطان . بعدها تابعنا الابحار الى بومبي في الهند ثم توجهنا الى جنوب أفريقيا حيث توقفنا في ميناء بورت اليزابيث أولا ثم ايست لندن وبعدها كيب تاون (رأس الرجاء الصالح ) . حتى اللحظة كانت الرحلة قد استغرقت 27 يوما كان خلالها القبطان يدرس لي اللغة الانجليزية ويعلمني أصول لعبة الشطرنج . وذات يوم عرض علي  العدول عن فكرة السفر الى أمريكا مبديا استعداده لاعتباري ولده بالتبني كونه لم ينجب أولادا في هولندا ؛ وقدم لي وعودا بكل ما يحلم به الانسان من رفاهية ومستقبل . المفاجأة الأكبر كانت وصول زوجتة  الى مدينة الكيب ومرافقتنا طوال 16 يوما من الابحار بغية اقناعي بقبول ما عرضه علي زوجها .

 عند ميناء مدينة تشارلستون في ولاية جنوب كارولينا انتهت رحلتي التي بدأتها من الكويت والتي استغرقت 43 يوما ؛ ومعها بدأت رحلة الشتات الأمريكي.

الآن وبعد مرور نصف قرن من الزمن على تلك الرحلة مازلت أشعر بالندامة على عدم قبول العرض الذي قدمه لي القبطان. 

( يتبع )