ماذا تفعل الرقابة الذاتية بالإعلاميين الفلسطينيين؟

ماذا تفعل الرقابة الذاتية بالإعلاميين الفلسطينيين؟
خاص دنيا الوطن- محمود الفطافطة
تعتبر الرقابة من أبرز صنوف المواجهة التي خاضتها السلطة الرابعة على مر تاريخها، بحيث لا تزال تطارد العاملين في القطاع الإعلامي عبر إجراءات تعسفية مختلفة. 

فالرقيب يقول كلمته في منع كتاب.. والرقيب يقطع بمقصه مقالة في جريدة، أو يقطع الجريدة بأسرها عبر منع صدورها أو غلقها أو اعتقال المحرر المسؤول، وهكذا كان الرقيب حارساً للنظام ومسؤولاً عن تنفيذ قوانينه وإجراءاته، وضحيته دائماً هي وسائل الإعلام، خاصة تلك التي تلازمها المعلومة الدقيقة، والحقيقة الكاملة.

وتعددت مشاهد الرقابة على القطاع الإعلامي، فهناك الدساتير والقوانين الضابطة لحرية الرأي والتعبير، بالإضافة إلى مجموعة من التعليمات التي تصدر من الجهات الرسمية المعنية بالشأن السياسي  والأمني والإعلامي، معززة بتوافقات وأعراف اجتماعية ضاغطة، ومسندة بحزمة من الإجراءات الاستثنائية المرافقة غالباً للظروف السياسية في كل بلد، وبحسب أجندة مشاكله الداخلية والخارجية.

في هذا التقرير، سنسلط الضوء على واقع وأسباب ونتائج الرقابة الذاتية على الإعلاميين الفلسطينيين، مع التطرق إلى بعض النماذج التي يستعرضها هؤلاء.

ثنائية الخضوع والمواجهة!!

وفي خضم معالم هذه الخريطة المشبعة بنتوءات الرقابة الذاتية وسلسلة الألغام من الرقابة والتقييد والإلغاء والتهميش، تقفز نحو ميدان التصارع أطراف وقوى تسعى إلى التهام الكلمة الحرة، وإشعال النار بأصواتٍ أو أقلام تجد فيها أشد من البارود على مصالحها وهيمنتها. 

فمن هذه الأصوات ما تفهم الرسالة مسبقاً فتسكت، مواسية نفسها بمثل آخر: "اليد ما بتناطح مخرز"، بينما أصوات ثانية استهوت الصراع مع "جلاد حرية الرأي والتعبير" فدفعت ثمناً تنوعت درجاته ما بين القتل أو السجن أو النفي حيناً، وفي أحيانٍ أخرى بتشويه السمعة أو إغلاق المؤسسة أو تدخل مقص الرقيب الذي يطاول سارية العلم.

هذه القوى أو تلك الأطراف التي حملت سيف الرقابة، تمثلت بالاحتلال الإسرائيلي، والنظام السياسي الفلسطيني عبر قواه ومجموعاته الأمنية، خاصة في ظل الانقسام الداخلي الذي نتج عن سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في حزيران من العام 2007، إلى جانب المجتمع بما فيه من تقاليد وعادات تخنق، أحياناً، حرية الرأي والتعبير، فضلاً عن القوانين والتشريعات المقيدة في بعضها لهذه الحرية، علاوة على "اليد الاقتصادية" التي تلوح باليد اليسرى بجزرةٍ، وفي اليد اليمنى بعصاةٍ غليظة.

تقول ماجدة البطش: "لقد عانيت الكثير من الرقابة الإسرائيلية في بدايات عملي في الإعلام، حيث كان ختم الرقيب العسكري في كثير من الأحيان يُحبط، وأنا لم أكتب شعارات سياسية بل كنت أكتب قصصاً إنسانية، وغدا يغضب الرقيب أكثر مما لو قلت سنرجع كل فلسطين". 

وتبين: "كانت قصة أم تبكي طفلها وتتحدث عنه كإنسان قبل قتله من قبل الجنود أسوأ للرقيب الإسرائيلي مما لو قالت سأنتقم، كان مقص الرقيب العسكري يحاول دوماً أن يجردنا من تفاصيل إنسانيتنا".

خطوط الخوف والمغامرة!!

يقول وليد نصار المدير التنفيذي لراديو أجيال: "إن هناك خطوطاً حمراء يجب على مقدمي البرامج ومحرريها العاملين في الإذاعتين عدم تجاوزها، وأبرزها عدم بث ما قد يسيء للديانات السماوية والأنبياء، أو المساس بشخص الرئيس، أو كتابة أخبار قد تمس بالوحدة الوطنية". 

ويشير نصار إلى "أنه وفي مرات عديدة تم بث أخبار تتعلق بأشخاص معينين في السلطة الوطنية والذين كانوا بدورهم يتصلون به معاتبين لعدم اتصاله للتأكد من صحة هذه الأخبار، وما حصل (وفق نصار) أن تم التجاوب معهم، وأخذ أرقامهم للتأكد من أخبار مشابهة قد تبث في المستقبل".

بدوره، يعلق محمد دراغمة ( مراسل الاسوشيتدبرس  في الضفة الغربية)، على خواطر ما قبل الكتابة: " ليس هناك صحفي عاقل، يكتب ما في ذهنه دون الاعتبارات القانونية والسياسية والاجتماعية في بلدنا، ولا يمكن لصحفي المغامرة بحياته من أجل مقال، وإن لم تصل المسألة لاستهداف الحياة على خلفية الكتابة، لكن يمكن أن يتعرض الصحفيون لانتقام، أو اعتداء جسدي في حال الكتابة عن الصراع على السلطة أو الفساد المالي والإداري مثلاً، فتجدهم يلجؤون (أي الصحافيون) إلى التحايل أو المراوغة، لإيصال الفكرة دون التعرض لأضرار، وهذا من شأنه أن يقلل من قيمة العمل الصحفي عموماً".

في هذا الخصوص تؤكد ناهد أبو طعيمة (إعلامية في شبكة معا) "نحن لسنا أحراراً في عملنا الإعلامي، متسائلة: من يجرؤ منا على بث ما يقتنع أنه مناسب؟ 

الناس في بيوتهم يراقبوننا ويتدخلون فيما يعرض على شاشاتنا، ويتصلون بنا ليهددوا ويعترضوا، والمشكلة أن الناس ليسوا متشابهين وأمزجتهم مختلفة، ونحن مضطرون للتعامل مع الجميع".

وتضيف: في أحد الأيام أثناء بث برنامج فلسطيني شبابي (pal star) على شاكلة (سوبر ستار) اتصل بنا رجل غاضباً مهزئاً، وقال: "كيف تبثون برنامجاً بغني به شباب القدس أمام العالم والقدس محاصرة ومهددة ولا نستطيع الوصول إليها؟

وتوضح: "من حق قرائنا علينا أن نقول لهم الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، ومن حق أنفسنا علينا أن نلتزم بأول درس في الصحافة المهنية... الآراء حرة والحقائق مقدسة".

جدلية الرزق والمهنية!!

من جانبه  يشير وليد أبو ضهير (أستاذ إعلام بجامعة النجاحـ نابلس) إلى أن الصحفي الفلسطيني يعيش في جو أشبه بحقل ألغام لا يدري من أين يسير وكيف يتعامل مع التطورات المحيطة؟ فهناك عقبات تقف أمام الصحفي بعضها ذات علاقة بالجهة التي يعمل بها والتي لا توفر له أدنى متطلبات العمل اللائق، إضافة إلى ضغوطات من المجتمع والسياسيين والاقتصاديين وغيرهم. 

ويضيف: "هناك معوقات تتعلق بقدرات الإعلامي المهنية، وعدم مقدرته على اختراق كافة ألوان العمل الصحفي وأخرى متعلقة بحاجته الاقتصادية، وبحثه عن مصدر الرزق الذي أضحى سيفاً مسلطاً على رقبته".

وفي السياق ذاته، أشارت نائلة خليل (مراسلة جريدة الأيام  في رام الله) إلى أنها تعرضت في أكثر من حادثة إلى التهديد والبهدلة"، ومنها أنها "كتبت مرة عن امرأة تُركت 28 سنة في بيت للعجزة، لم يكن أحد من أهلها يزورها، وبعد نشر ما كتبته، ظهر الأهل فجأة وبهدلوني وهددوني، وأذكر أنني مكثت في البيت ثلاثة أيام، كان تهديداً لمستُ فيه شراً كبيراً ونية جدية للإيذاء".

بدوره، يهاجم عبد الرحيم عبد الله الصحفي الفلسطيني من زاوية "الرقابة الذهنية" ويعتبر أن تداخل المؤسسات الأمنية في فلسطين وعدم معرفة طبيعة عملها وتأثير الاقتصاد على الإعلام، إضافة إلى مزاجية رؤساء التحرير "الذين يكونون اليوم مع هذا وغداً مع آخر" إلى جانب المجتمع المتقلب " الذي يهاجمك بسهولة دون وجود من يحميك" كل هذه العوامل، وفق عبد الله، مرسخة في ذهن الصحفي، وبالتالي كلها قيود تمنعه من كتابة مواضيعه بحرية أو مهنية.

وفي المجمل، يجمع هؤلاء الإعلاميون على  ضرورة عدم انتهاك الرقابة لحرية التعبير والإعلام، وأن لا تترك لضغوطات هذا الطرف أو ذاك، وإنما ينبغي أن يحكمها قانون عادل، يراقب تطبيق أحكام القضاء، وكذلك، تحلي الإعلاميين بمزيدٍ من الجرأة والشجاعة لكسر أنماط وأشكال الرقابة الذاتية، إلى جانب أن يكون الرأي العام هو الرقيب على الإعلاميين وسلوكهم المهني، ويكون هؤلاء الإعلاميون مسؤولون أمام المجتمع، فضلاً عن تطوير التنسيق والتعاون بين مختلف المؤسسات الإعلامية من أجل الدفاع عن الحريات الإعلامية.