التحرش الجنسي في فلسطين .. "شياطين" تلتهم وضحايا تصرخ!!

التحرش الجنسي في فلسطين .. "شياطين" تلتهم وضحايا تصرخ!!
صورة توضيحيه
خاص دنيا الوطن - محمود الفطافطة
برزت ظاهرة التحرش الجنسي في مكان العمل وسواه كسلوك مخالف للقانون في معظم الدول خلال العقود الثلاثة المنصرمة. ولم يكتف الرجل أنه لم يمنح المرأة أجوراً متساوية كالرجل، بل عانت من المهانة والإذلال بسبب التحرش الجنسي، وخاصة في حال كانت تتمتع بالجمال والجاذبية والذكاء. ومما يؤسف له أن هذه الظاهرة في ازدياد مستمر، وما زال المجتمع "يتحرج" في طرحها كموضوع للحديث من باب العيب والخوف.

في هذا التقرير، سنسلط الضوء على هذه القضية المقلقة والحساسة مجتمعياً والمؤثرة اقتصادياً وثقافياً على بنية المجتمع وآفاق تطوره، لنسأل: ما واقع هذه القضية عالمياً وعربياً، ومن ثم فلسطينياً، وما هي أسبابها وأبعادها وآفاق معالجتها؟

التحرش... معطيات وأشكال

في البداية نود التطرق إلى هذه المسألة عالمياً وعربياً، حيث تبين نتيجة استطلاع شمل 24 بلداً في العالم، أن الهند تعد الأسوأ في مشكلة تعرض النساء للتحرش الجنسي في أماكن العمل، وتليها الصين. وفي تقرير صدر عن الجمعية الأمريكية للنساء الجامعيات أن حوالي ثلثين من اللواتي شاركن في الاستطلاع أشرن إلى تعرضهن لشكل من أشكال التحرش الجنسي. وفي أكبر مسح للعاملين بالقوات الأمريكية عام 1995 تبين أن 60% من النساء و27% من الرجال العاملين في قوات الاحتياط والحرس القومي، يتعرضون لنوعٍ من أنواع الاعتداء الجنسي أثناء فترة خدمتهم.

وتشير إحصائيات المفوضية الأوروبية إلى أنه خلال العام 2011 تعرض نحو 50% من النساء العاملات إلى تحرشات جنسية. وفي نتائج إحصاء أجري في إسرائيل على 600 من الإسرائيليات العاملات، تبين أن 35 % من حالات التحرش تنفذ على يد المسؤول المباشر و21 % على يد مسؤولين كبار في العمل، وأن ثلث النساء اللواتي تعرضن للتحرشات لم يقمن بخطوات للحل بسبب الخوف من التنكيل أو الخجل.

وفي الحالة العربية نأخذ نموذجاً من مصر، فأثناء تصوير الفيلم المصري (876) الذي يسلط الضوء على مشكلة التحرش الجنسي المنتشرة في المجتمع المصري، قرر المخرج الاستعانة ببعض الشباب والفتيات لتصوير مشهد تحرش جماعي في استاد القاهرة، ولكنه فوجئ أثناء التصوير أن المشهد خرج عن إطار التمثيل، وأدرك المخرج سريعاً أن وضع الشباب قد خرج عن نطاق السيطرة وأصبح من الصعب التحكم بهم، مما اضطره هو وفريق العمل إلى أن يحتجزوا أكثر من 50 فتاة داخل غرفة تغيير الملابس لحمايتهن من الشباب ، وانتهت هذه الواقعة بتمزيق ملابس بعض الفتيات اللواتي كن يشاركن في تصوير المشهد.

إلى ذلك، أشارت دراسة بعنوان" التحرش الجنسي" للباحثة زينة بركات، إلى أن التحرش الجنسي يأخذ عدداً من الأشكال، منها: البصري: النظرات الشهوانية، والتحديق بشكل يسبب الإزعاج، والغمز، والقيام بحركات إباحية محددة. وتبين أن من صوره: التحرش اللفظي، مثل: التعليقات المهينة والتلميحات الإباحية غير المرغوب فيها، والتغزل والتعليقات والنكات ذات الإيحاءات الجنسية، والتهديد أو إعطاء وعود وامتيازات للعمل بهدف الحصول على خدمات جنسية، والتحرش الجسدي، مثل: اللمسات غير المرغوب فيها، مثل التربيت، القرص، والمعانقة والتقبيل، والاحتكاك بجسد أخر، والاعتداء الجسدي، أو محاولة الاعتداء الجسدي، والتحرش الخطي، مثل: كتابة رسائل جنسية فاضحة.

فلسطين.. ظاهرة أم حالة؟!

ولو تطرقنا إلى الحالة الفلسطينية، فإننا سنركز هنا، على دراسة أعدتها الباحثة نائلة رازم تحت عنوان " التحرش الجنسي في أماكن العمل كشكل من أشكال الفساد" لصالح الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان" ونشرت مؤخراً. تبين الدراسة أن ظاهرة التحرش الجنسي في أماكن العمل منتشرة في كافة المجتمعات المتقدمة والنامية على حدٍ سواء، ومن ضمنها المجتمع الفلسطيني في ظل تفاوت واضح في نسبة انتشار هذه الظاهرة ومدى الاهتمام وتسليط الضوء عليها.

وتظهر الدراسة، أن هذه الظاهرة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالفساد واستغلال المنصب والنفوذ بشكلٍ مخالف للقانون من قبل بعض المسؤولين وأرباب العمل، مستغلين ما يتمتعون به من سلطة ونفوذ، خصوصاً في حالات انعدام الرقابة وآليات المساءلة، وغياب البنية التشريعية والقانونية الرادعة.

وتذكر الباحثة رازم أنه بالرغم من عدم وجود مسوحات إحصائية تناولت هذه الظاهرة إلا أن إدراك توفر إمكانيات انتشار الظاهرة في القطاع الخاص أوسع من القطاع العام والأهلي بسبب الصلاحيات الواسعة الممنوحة لرب العمل في هذا القطاع، الأمر الذي يُتيح المجال أمام المسؤول لاستغلال هذه الصلاحيات لارتكاب بعض التجاوزات ضد المرأة العاملة ومن ضمنها التحرش الجنسي.

وتشير الدراسة إلى أن التحرش الجنسي لا ينصب فقط على شكل مادي ملموس، بل إنه يتخذ أشكالاً ثلاثة: آولها: تحرش جنسي لفظي ( ملاحظات وتعليقات جنسية مشينة، طرح أسئلة جنسية، نكات جنسية، الالحاح في طلب لقاء .. الخ)، وثانيها: تحرش جنسي غير شفوي (نظرات موحية، الإيماءات والتلميحات الجسدية)، وثالثها: تحرش جنسي بسلوك مادي ( محاولة لمس، تقبيل أو محاولة تقبيل الطرف الآخر).

الضحايا يتحدثن!!

وتوضح الباحثة أنه من خلال المقابلات ظهر وجود حالات عديدة لنساء تعرضن للتحرش الجنسي في أماكن عملهن سواء في الوظيفة العامة أو الخاصة أو الأهلية من قبل مسؤولين يستغلون نفوذهم وسلطتهم بشكلٍ مخالف للقانون، مضيفة "إلا أنه في أغلب الأحوال يتم التعامل مع هذه القضية على أنها محظور اجتماعي لا يجوز الحديث عنها، فضلاً عن أن العديد من المسؤولين في بعض المؤسسات يحاولون تجاهلها أو إنكار وجودها في المؤسسات التي يقفون على رأسها خوفاً على سمعة هذه المؤسسات وحرصاً منهم على أن تظهر هذه المؤسسات بأحسن صورة في عهد توليهم لرئاسة هذه المؤسسة".

وبشأن العوامل المسببة والمساعدة على انتشار ظاهرة التحرش الجنسي في أماكن العمل المختلفة فإنها تتنوع (وفق الدراسة) حول: غياب الوعي بمفهوم التحرش وأشكاله، غياب أو ضعف المنظومة القانونية التي تتعامل وتعالج ظاهرة التحرش، الموروث الثقافي الذي يشكل عائقاً أمام الضحية في تقديم الشكوى والإبلاغ عن واقعة التحرش، شعور الضحية بالتهديد المتواصل بعدم الاستقرار والأمن الوظيفي يجعلها أكثر هشاشة وعرضة للتحرش الجنسي، ضعف الوازع الديني والاخلاقي وعدم الالتزام بالقيم والمعايير الأخلاقية داحل أماكن العمل.

لماذا الصمت؟

أما أسباب امتناع ضحايا التحرش الجنسي عن تقديم شكاوى رسمية ضد الجاني فتتمثل فيما يلي: حساسية الموضوع، فضحايا التحرش تخاف من الفضيحة وتلويث السمعة، خوف الضحية من فقدان عملها  خاصة في ظل حاجتها الاقتصادية والمادية للعمل، شعور الضحية بأن الجاني سيفلت من العقاب، لاسيما في ظل قوانين فضفاضة ولا تحمل في نصوصها تجريم صريح ومباشر لفعل التحرش، صعوبة إثبات الضحية المتحرش بها لواقعة التحرش، غياب أو ضعف آليات وحدات استقبال الشكاوى ذات العلاقة ومتابعتها في المؤسسات المختلفة، عدم توفير الحماية للضحية المتحرش بها  في حالة التبليغ عن التحرش الذي تعرضت له،  وضعف الأطر الرسمية والأهلية الداعمة لضحايا التحرش.

 وفيما يتعلق بصعيد القوانين، تبين الدراسة غياب قوانين تتناول هذه الظاهرة بشكلٍ مباشر، لا سيما قانون العقوبات الأردني لعام 1960، فقد خلت نصوصه من أي تطرق للتحرش الجنسي، وبات قانوناً قديماً لا يواكب التغيرات الاجتماعية، وهو ما يسري كذلك على قوانين سارية مثل قانوني العمل والخدمة المدنية الذين خلت نصوصهما من أية إشارة لظاهرة التحرش الجنسي في أماكن العمل، منوهة إلى أنه يمكن اعتبار ما جاء في مشروع قانون العقوبات المقترح لعام 2010 فيما يختص بالتحرش الجنسي خطوة هامة على هذا الصعيد في حال إقراره.

وتخرج الدراسة بجملة توصيات أهمها: تضمين مواد قانونية أو سن قانون عصري ناجع يعمل على زجر التحرش الجنسي، ويضمن تعريفاً واضحاً له، إعادة نظام شكاوى خاص للتعامل مع ظاهرة التحرش في أماكن العمل يوضح للضحية آليات الشكوى والتقاضي، إعادة برامج إعلامية وتثقيفية لتسليط الضوء على الظاهرة  ومخاطرها على المجتمع، وسبل مواجهتها، ضرورة مباشرة الجهاز المركزي للإحصاء بإجراء مسوحات إحصائية، تتناول ظاهرة التحرش  الجنسي في كافة أماكن وقطاعات العمل.

وفي السياق ذاته، تذكر المرشدة النفسية والاجتماعية عفاف ربيع، أن التحرش الجنسي في المجتمع الفلسطيني هي مجرد حالات ترتقي للمشكلة، حيث أصبح هناك تزايد في عدد الحالات التي تشتكي من محاولات التحرش بها وحتى لو كانت حالات فهي مؤشر غير جيد ومقلق.

وبشأن الأسباب الدافعة للتحرش بينت ربيع أن الخلل يكمن عند المتحرش نفسه بالدرجة الأولى، إذ إنه قد يفتقد للاهتمام في بيته؛ فمجرد وجود أحد يهتم به فإنه يعتقد أن هذا الاهتمام ما هو إلا إشارات لنداءات من أجل علاقه وهذا ليس بالضرورة هو الغالب.

 وتضيف" هناك أمرٌ آخر يتمثل في عدم وجود قوانين رادعة للمتحرشين زادت من ذلك، وخاصة أن المرأة هي المتضرر الأول والأخير، وخوفها من الوصمة والإساءة لسمعتها وسمعه أهلها وخوفها من أنه إذا أخبرت عما يحصل لها في مكان عملها فقد تخسره، إلى جانب فقدانها إلى حريتها بالتحرك والخروج من البيت وبالتالي غياب الاستقلالية المادية. كل ذلك، وفق المرشدة ربيع، شجع الذكر المتحرش، إلى جانب ذوبان وبهتان الحدود في العلاقة مع الآخر، والتدني الحاد في منظومه القيم والتقاليد.

وبخصوص أبعاد التحرش على المتحرش به أو الضحية، فلها ( وفق ربيع) أبعاد نفسية تتمثل في الوحدة والانطواء والخوف من الآخرين، والتأتأة عند البعض والرجة، وبهتان النظر عدم التركيز، والخوف من مكوث وحدهم، في حين أنهم اذا كن في جيل أصغر  ظاهره التبول اللاإرادي هي السائدة، إلى جانب عدم الاحساس بالأمان ولوم الذات بطريقة قاسية ومحاولة تشويهها من خلال الانتقام من نفسها مثل تعاطي مسكرات أو مخدرات والتمرد على الدين والعادات، وأخذ موقف حاد من جنس المتحرش، والأرق وصعوبة في النوم والعض، وعدم الاهتمام بالنظافة الشخصية وإهمال المنظر.

وتوصي ربيع أية فتاة في حال عدم شعورها بالارتياح من أي شخص، بغض النظر عن مكان تواجده عدم التواصل معه إذا تعرضت لأي محاوله سواء باللمس والكلمات وإخبار من يستطيع مساعدتها من محيط أسرتها، مع عدم التعمق بمواضيع خاصة، مع أشخاص لا ترتبط بهم سوى مهمات معينة.

قصص وحالات

مريم (24 عاماً) تعمل سكرتيرة لدى إحدى الشركات،  طلب منها مديرها الذي يكبرها بعشرين عاماً ومتزوج ولدية أربعة أطفال أن تحضر له أحد الملفات، وعندما دخلت مكتبه، لاحظت نظراته غير الاعتيادية مركزة على جسدها بشكل واضح، ولكنها تجاهلت ذلك وقدمت له الملف، فأمسك بيدها واقترب منها بسرعة وبدأ بتقبيلها. صدته وخرجت بسرعة من مكتبه وهربت إلى منزلها. وفي اليوم التالي فوجئت بقرار طردها من العمل، وعندما طلبت منه تفسيراً لهذا القرار الجائر أجابها:" أنت رفضت طلبي بالأمس، لذا أنا لا أحتاجك".

سارة (27 عاماً) تعرضت للمضايقات من مديرها في العمل، حيث بدأ بنظرات جنسية مربكة وتحديق بشكل يسبب الإزعاج، ثم تطور الأمر إلى التعليقات ذات الإيحاءات الجنسية، وعندما أخبرت سارة أمها بذلك، منعتها من الخروج إلى العمل مبررة هذا التصرف بخوفها عليها.

شابة بعمر (21 عاماً) تعمل سكرتيرة في مكتب صاحب العمل يقارب والدها في العمر، أخذ يتقرب لها، ويعرف كم تعاني أسرتها، ثم بدأ يغدق عليها بالصرف المادي والهدايا ومن ثم بدأت مرحلة الابتزاز بطريقة التأثير عليها صورة ودية وإقامة علاقة مستمرة معها لأكثر من سنة لأنه يحبها. هكذا أفهمها. وكانت هذه الصبية كل ما اتصل معها تأتي إليه خوفاً من أن يفضحها إلى أن استطاعت، وبمساعدة خالتها أن تتحرر من هذا الشيطان البشري.

إحدى النساء تحرش بها طبيب، نصحتها صديقة لها بعدم الرد على مكالماته مهما كانت حججه وترك العيادة وعدم الاقتراب منها.

إحدى السيدات المتمكنات نفسياً ومادياً كانت تعمل في مؤسسة عريقة، وعندما قدمت استقالتها بعد عشر سنوات، وكانت حديثة الطلاق مسؤول طلب منها إقامة علاقة مقابل مساعدتها في أمور كثيرة، وحاول التحرش بها، مما حدا بها لأن تعنفه وتنهي الاتصال به.

خلاصة القول: لقد آن الأوان لضرورة الخروج من حالة الصمت إلى العلن لإخراج هذه الظاهرة إلى السطح، وتناول واقع هذه الظاهرة، وحجم انتشارها، وآثارها على المرأة والوظيفة والمجتمع، وسبل مواجهتها، مع الخروج من نمطية التعامل معها عل اعتبار أنها قضية ضمن " تابو" اجتماعي أو من المحرمات التي لا يجوز تناولها أو التحدث عنها، والتخلص من امتدادات الموروث الثقافي الداعي للتستر عليها، لاسيما أنها بدأت تأخذ حيزاً هاماً وبشكلٍ متزايد من الاهتمام المحلي والاقليمي والدولي.