مدينة بلا أكسجين .. رام الله: بين سراب التنمية .. وتنازع الهويات والصراع على "كعكة" المناصب

مدينة بلا أكسجين .. رام الله: بين سراب التنمية .. وتنازع الهويات والصراع على "كعكة" المناصب
خاص دنيا الوطن ـ محمود الفطافطة

لا يمكن الحديث عن رام الله باعتبارها مدينة فلسطينية حيوية تحتضن التعددية الفكرية والسياسية والدينية والثقافية بمعزل عن كونها مدينة تخضع لاستعمار شرس وشره، وبمعزل عن مدينة ترتفع فيها كلفة المعيشة يوماً بعد يوم، كما الفروق الطبقية والاجتماعية حيث تتجاور فيها مظاهر الغنى الفاحش والفقر المدقع.

وفي خضم مشهد رام الله (سياسياً، اجتماعياً، اقتصادياً، بيئياً وثقافياً)، نطرح جملة أسئلة لا بد من الإجابة عليها، مثل: ما هي العوامل التي منحت هذه المدينة الفلسطينية سماتها المماثلة لقريناتها من مدن فلسطين الأخرى أو المنفردة عنها؟ وما هو مستقبل هذه المدينة في ظل وقائع وتحولات ومستجدات تلفح بفلسطين عموماً، وحاضر هذه المدينة على وجه الخصوص.

ولا يمكن الحديث عن هذا المشهد الجغرافي كموقع منفرد بل هذه البقعة الجغرافية تمتاز بتشكل وتلاصق مدينتين توأمين هما (رام الله والبيرة) لتشكلا معاً وحدة جغرافية واحدة، بالرغم من انفصالهما في بلديتين مختلفتين.

وقبل الحديث عن التفاصيل المكانية والاقتصادية والسياسية والبيئية والثقافية وغيرها من المجالات التي ميزت هاتين المدينتين، لا بد من التطرق، وبمعطيات إحصائية، بهدف تقريب الصورة وتوضيح المشهد لهذا التجمع السكاني الفلسطيني الذي أخذ خلال العقد الماضي جذباً هائلاً لأناس من داخل محافظات الوطن أو من الخارج.

معطيات وقوى!

تحتوي محافظة رام الله والبيرة على 80 تجمعاً سكانياً،  مشكلة بذلك (10,25%) من مجموع المواقع في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويصل عدد السكان فيها حسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء لعام 2006 حوالي( 290,401 نسمة). وتعد مدينة البيرة أكبر هذه التجمعات، حيث يبلغ عدد سكانها نحو (39,538 ألف نسمة)، ثم مدينة رام الله الذي بلغ تعداد سكانها نحو (25,467 ألف نسمة)، ثم بيتونيا حوالي (14,600 نسمة).
وتكثر في المحافظة التجمعات التي يزيد عدد سكانها على (3) آلاف نسمة (24 تجمعاً)، أما التجمعات التي يقل عدد سكانها عن ألف نسمة فيبلغ عددها (16 تجمعاً) وتضم محافظة رام الله والبيرة خمسة مخيمات للاجئين، هي: مخيم سلواد (500 نسمة)، مخيم دير عمار (2000 نسمة)، مخيم الجلزون (8000 نسمة)، مخيم الامعري (5800 نسمة)، ومخيم قدورة (1900 نسمة).

يقول عالم الاجتماع الفلسطيني جميل هلال: توجد ثلاث قوى رئيسة تسوق رام الله بوسائلٍ مباشرة وغير مباشرة، وتتحكم بمسارها المعماري والاقتصادي والاجتماعي والأمني والثقافي. هذه القوى هي، أولاً: إسرائيل بحضورها الاستعماري الاستيطاني العنصري، وتعاملها الخاص مع رام الله لتسويقها عملياً، كبديل عن مدينة القدس، وسيطرتها على حدود المدينة وعلاقاتها مع بقية المواقع الفلسطينية، ثانياً: السلطة الفلسطينية التي تقودها الكتلة الطبقية في المدينة، كما في مجتمع الضفة والقطاع، وتحديداً تحويل رام الله إلى مدينة تتلاءم مع أذواق وأسلوب حياة الطبقة الوسطى وأصحاب رؤوس الأموال من خلال دور وتوجهات مؤسساتها المختلفة، ثالثاً: الرأسمال المالي والعقاري (المحلي والوافد والخليجي) الذي أنتج أشكالاً معمارية وسكنية جديدة في المدينة وولد علاقات تراتبية جديدة بين مكوناتها وبين هذه ومحيطها.
ويساهم هذا الرأسمال مع عدد واسع من المنظمات المدنية والمحلية والدولية، والسلطة الفلسطينية في توليد حالة إنكار لواقع الاحتلال الاستيطاني، ولحالة التبعية المفرطة التي يعيشها المجتمع الفلسطيني وقواه السياسية والاقتصادية والثقافية.

مدينة فوق العاصمة!!

ويقول الباحث الاجتماعي جميل هلال:  "إن قدوم السلطة الفلسطينية إلى أرض الوطن عام 1994، وتمركز الكثير من المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية الرسمية منها والأهلية في مدينة رام الله، إلى جانب عزل مدينة القدس، بدأ يساهم في تحويل رام الله إلى صفات مدينية حقيقية وفعلية، كما أن النشاط الاقتصادي والسياسي والثقافي فيها منحها تنوعاً في جذور قاطنيها وأصولهم، فهي المدينة الفلسطينية التي قد تكون الوحيدة التي معظم عائلاتها ليست تقليدية أو ذات أصول من المدينة.

ويبين هلال أن مدينة رام الله حاولت أخذ جزء من وظائف مدينة القدس كمركز اقتصادي وثقافي وسياسي، الأمر الذي أثر على مدينة القدس سلباً، كما هو الأمر كذلك في التأثير السلبي على مدن الضفة الأخرى، خاصة الخليل في الجنوب ونابلس في الشمال.
وحول مستقبل رام الله يرى هلال، أن مستقبلها ومدى تطورها مرتبط بشكل كبير على ماذا يحصل للمشروع الوطني السياسي الفلسطيني؟ فالتطورات السياسية وطبيعة مساراتها ونتائجها في فلسطين، سيكون لها التأثير الأساس والهام في طبيعة تبلور النواحي المتعددة لمدينة رام الله.

من جانبها، تقول د. ليزا تراكي أستاذة علم الاجتماع بجامعة بيرزيت: "إن من الأمور اللافتة للنظر بالنسبة لرام الله أنها المدينة الوحيدة في الضفة والقطاع، بعد مدينة غزة التي توسعت بفعل الهجرات المتلاحقة ابتداءً من نكبة العام 1948، وانتهاءً بالهجرات الجديدة التي نتجت عن سياسات الاحتلال الإسرائيلي، منوهة إلى أن مدينة رام الله تعرضت خلال السنوات الخمسين الماضية إلى موجات مختلفة من الهجرة والتطور ساهمت بشكل كبير في تغيير معالمها.

مدينة الوافدين!!

وأوضحت أن قرب رام الله لمدينة القدس وموقعها الجغرافي الوسطي، وتوجه كثير من الطلبة للتعلم في معاهدها وخاصة في جامعة بيرزيت، إلى جانب البحث عن عمل فيها، ساهم في منحها سمة تختلف عن مدن الضفة الأخرى، لاسيما فيما يتعلق بتوسع الطبقة الوسطى التي ضمت نخبة اجتماعية وسياسية وثقافية معظمها ليست محلية (أي من غير أصول المدينة).

وتبين د.تراكي أنها أعدت دراسة حول مدينة رام الله توصلت فيها إلى أن نحو 90% من مديري ومسؤولي المؤسسات الخاصة، وكثير من النخبة الاقتصادية ورجال رأس المال الوطني والقيادات السياسية أصولهم ليست من المدينة، مشيرة في الإطار ذاته إلى أن أهم ما يميز مدينة رام الله جملة سمات، أهمها: الموقع الجغرافي المتوسط بالنسبة لمدن الضفة، مناخها المعتدل الذي يأخذ الطابع السياحي لا سيما في فصل الصيف، تنوع ووضوح الطبقات المختلفة فيها، تمركز القوة السياسية والثقافية والاقتصادية، التوسع العمراني اللافت، ازدياد الهجرة من داخل مناطق الضفة الغربية نحوها، وتنوع وتميز مدارسها الخاصة.

ورغم الصعوبات التي تواجه رام الله كغيرها من مدن فلسطين، إلا إن د. تراكي ترى أن تطور المدينة العمراني والاقتصادي سيستمر بازدياد، لأن ذلك أمر طبيعي لما تتميز به هذه المدينة من مقومات اقتصادية وثقافية وسياسية واجتماعية واسعة وقوية.

تطور وتلوث!!

وفيما يتعلق بتطور مدينة رام الله في المجال البيئي والعمراني، يرى الخبير البيئي جورج كرزم، أن هذا التطور اتجه نحو الأسوأ، حيث كانت هذه المدينة (والكلام لكرزم) قبل ثلاثين عاماً معروفة بمساحاتها الخضراء وحدائقها الجميلة وأشجارها ونباتاتها المتنوعة، ولكن خلال السنوات العشرين الماضية تحديداً، تدهور وضع مدينة رام الله البيئي بشكل خطير لأسباب عديدة.ويذكر كرزم أبرز وأخطر هذه الأسباب، مثل: النمو السكاني الكبير الذي شهدته المدينة؛ إذ بعد أن كان عدد سكانها لا يتجاوز 18 ألف نسمة في العام 1997، تزايد إلى نحو 30 ألف نسمة في العام 2007، أي بزيادة تفوق 60% خلال عشر سنوات فقط.

هذه الزيادة العالية جداً، وفي غضون سنوات قليلة، لم يكن بد لها من إحداث تحولات ومظاهر واسعة في هذه المدينة، فمثلاً تضاعف عدد السيارات والمصانع بوتيرة عالية وسريعة، مما أدى إلى ازدياد استهلاك الطاقة، لاسيما البنزين الذي فيه مستويات عالية من الرصاص، أو السولار الذي يحتوي على كميات كبيرة من أكاسيد الكبريت الخطيرة في مجملها للإنسان والحيوان والنبات، مع الملاحظة هنا أن عدداً لا بأس به من السيارات في المدينة لاسيما تلك التي تعود إلى العقد الثامن من القرن الماضي هي سيارات قديمة، وتستخدم الوقود قليل الجودة والضار.

الميدان الأسود

وفي السياق ذاته، فإن بنايات المدينة لم تسلم هي الأخرى من مخاطر هذا التلوث، فالذي يحدق بعينيه إلى البنايات الواقعة بوسط هذه المدينة أو المحيطة بها يلاحظ بوضوح "السخام الأسود" الذي أصبحت هذه البنايات تأخذ لونها الأسود أو الرمادي الداكن بسبب هذا التلوث.

وفي خضم هذه التفاصيل أو الحيثيات التي تنبئ بمستقبل بيئي سيئ وخطير لمدينة رام الله، قد يصل إلى كارثة بيئية غير مسبوقة كما يرى كرزم، لا بد من ذكر جملة توصيات تساهم وتساعد في التقليل من هذه الآفة القاتلة، والتي أهمها: تقليل استخدام السيارات للمسافات القصيرة، مع التركيز على أهمية الوعي والتربية في استخدام أدوات ووسائل صديقة للبيئة، وتشجيع وسائل النقل العامة (الباصات) بكثرة، إلى جانب ضرورة قيام المؤسسات المسؤولة في المدينة بوضع دراسات علمية وواقعية تساعد في القضاء على ممارسات مجتمعية غير سليمة للبيئة من جهة، وتضع خططاً ومشاريع تزيد من تطور المدينة وتقدمها مع الأخذ بالاعتبار سلامة المواطن وصحته.

الاقتصاد المعلق!!

وبشأن التطورات الاقتصادية التي شهدتها مدينة رام الله فإن الخبير الاقتصادي د. نصر عبد الكريم يرجعها إلى عوامل جغرافية وأخرى سياسية، حيث كانت هذه المدينة في ستينيات القرن الماضي عبارة عن بلدة ريفية تعتمد على الزراعة والسياحة باعتبارها مصيفاً. ولكن بعد ذلك طرأ عليها عاملان رئيسيان، شكلا هويتها الثقافية والاقتصادية والسياسية والعمرانية، وهما وفق د. عبد الكريم: الهجرة الخارجية: حيث قام عدد كبير من أبناء المدينة بالهجرة إلى دول الأمريكيتين الجنوبية والشمالية للبحث عن العمل والتعليم والاستقرار،  ولكن هؤلاء لم يتركوا مدينتهم أو ينسوها، فقد عاد قسم منهم ليستثمر ويؤسس صناعات وشركات مساهمة عامة كبيرة ومتطورة، هذا التطور الاقتصادي لم يكن بد من أن يصاحبه تعدد ديني (مسلم، مسيحي) وتعايش في إطار الوصول إلى تحقيق حياة مستقرة وهانئة.

أما العامل الثاني بحسب د. عبد الكريم، فيتمثل في قدوم السلطة الفلسطينية إلى أرض الوطن في العام 1994، وهذا ما أدى بدوره إلى تطور عمراني ومؤسساتي كبيرين في رام الله،  لاسيما لوجود المؤسسات التنفيذية الهامة فيها من جهة،  وعودة الكثير من الاقتصاديين والمستثمرين وانطلاقهم في تأسيس مشاريعهم من خلالها، إضافة إلى هذين العاملين، هنالك عامل آخر يتمحور في الهجرة الداخلية التي شهدتها مدينة رام الله، خصوصاً خلال سنوات الانتفاضة الحالية، فقد هجر عشرات الآلاف من أبناء محافظات الضفة الغربية مدنهم وقراهم ومخيماتهم وتوجهوا إلى مدينة رام الله للبحث عن العمل، ورأس المال والتعليم، وغير ذلك.

ويعتقد د. عبد الكريم أن مستقبل المدينة الاقتصادي يتوقف على الوضع أو المستقبل السياسي للقضية الفلسطينية بشكل عام، وقد تتحول رام الله والقدس معاً يوما إلى (المدينة المركز) لكافة محافظات الضفة إذا كان الحل النهائي عادلاً لهذه القضية، مع التنويه هنا إلى إن تهميش مدينة القدس الآن لم يكن بسبب الاهتمام برام الله بقدر ما كان نتيجة سياسات الاحتلال التدميرية لمؤسسات هذه المدينة المقدسة وتهويدها ومحاصرتها وعزلها عن العالم.