أمل ... مسيرة إمرأة عشقها المخيم

أمل ... مسيرة إمرأة عشقها المخيم
أمل ... مسيرة إمرأة عشقها المخيم
بقلم: محمد عبد الله
أمل تلك الفلسطينية التي تنحدر من قرية القبيبة قضاء الرملة الواقعة على الطريق العام الممتد على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى الشرق من النبي روبين، ويرجع أصل كلمة القبيبة كدلالة على المنطقة المرتفعة وهي تصغير لـ (القبة)، احتلت العصابات الصهيونية القرية في شهر مايو 1948 وهدموها وشتتوا سكانها، ومنهم الطفلة أمل التي لم يتجاوز عمرها التسع سنوات، وهي الثالثة في ترتيب عائلة الحاج ذيب الخياط، تشردت العائلة تاركة ارث الماضي وتاريخه، تحت هول الجرائم التي ارتكبتها العصابات، توزع سكانها المنافي وأماكن اللجوء في أنحاء المعمورة، وأقامت مع عائلتها في خيام وأصبح لأول مرة بالتاريخ يطلق عليها مخيمات اللاجئين الفلسطينيين.
كبرت أمل وتزوجت من ابن عمتها مصطفى عبد الله، في بداية الخمسينات، وأنجبوا ثمانية من الأبناء والبنات، وفقدوا غيرهم ابنتاهم البكر في ذلك الزمن، ربت أمل أطفالها منذ نعومة أظافرهم على حب الوطن، وجذرت في عقولهم جذورهم التاريخية في قرية "القبيبة".
كبروا ولم ينسوا ما أرضعتهم حباً في وطن، وعانت العائلة كما الملايين من الفلسطينيين الذين عاشوا في الخيام، وتجرعوا ألام التشرد، ولكن كل ذلك لم يثنيهم عن ترديد اسم فلسطين، وتجمع اللاجئين من كل قرية ومدينة في المخيمات وأطلقوا على كل جزء منه اسم القرية التي شردوا منها، وكانت القبيبة حاضرة في مخيم اللاجئين في رفح في بلوك "C"، كما اسدود ويبنا وبرير وبرقة وحتة وبربرة...إلخ، واحتفظت كل عائلة بمفاتيح منازلها التي حفرت في قلوبهم.
أمل لم تدخل المدرسة قبل الهجرة ولم تدخلها بعد الهجرة، ولكنها شجعت أبناءها على التعليم، لأنه السبيل الوحيد الذي يمكن أن يعيدهم لديارهم، وأمل هي مثال لألاف النساء اللاتي، بدلن الغالي مقابل أن تعلم أبناءها.
عاشت العائلة في المخيم في منزل متواضع صغير لا يتجاوز الـ70 متراً، ولكنه كبير بالحب والأمل، وبقي النضال الفلسطيني مستمر، أنشأت منظمة التحرير الفلسطينية على يد أحمد الشقيري، وكان الفلسطينيون يحذوهم الأمل بالتحرير، والتحق زوجها بجيش التحرير على أمل استعادة الحقوق المسلوبة، وكانت غزة تحت الحكم المصري حتى جاءت هزيمة ال 67 لتزيد من مأسي الفلسطينيين، حيث استمرت المجازر، ونهض من رحم المخيمات المنتشرة المئات من المقاتلين الذين قارعوا الاحتلال في جميع أماكن تواجده، وانطلقت التنظيمات الفلسطينية المسلحة فتح والجبهة الشعبية في الداخل والخارج، وامتلأت السجون الصهيونية بالمئات، ولكن مادام هناك أمل فلا يمكن أن يتوقف النضال الذي صعد أوجه في سبعينيات القرن، ولم تتمكن قوات الاحتلال من الحكم سوى ليلاً.
ومع ثمانيات القرن أصبح الفلسطينيون يعملون عمال في قراهم ومدنهم المسلوبة في دولة الاحتلال التي سميت إسرائيل، وبدأت أمل مرحلة جديدة من النضال في العام 1982، حيث استشهد الشاب محمود أبو نحلة، خلال مظاهرات الرافضة للاجتياح الإسرائيلي للبنان، فخرجت رفح عن بكرة أبيها، وبدأت ما تسمى بثورة الحجارة ولم تتمكن قوات الاحتلال من اخمادها.
 وسقط الشاب إسماعيل أبو لبدة في العام 1986 شهيداً بينما كان يحاول رفع علم فلسطين على أحد أعمدة الكهرباء، في المظاهرات التي خرجت لإحياء ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا،  وشكلت النساء أول تجربة نضالية مدنية في التاريخ حيث كانت النساء الدرع الواقي للشبان تتحمل الهراوات على أن يتم اعتقال شاب من راشقي الحجارة، وتمكنت أمل وبعض النسوة منهن صفية الخياط "أم عادل"، وزينب البلبيسي "أم أحمد"، وسعدية بركات، وصبحية بركات الامساك بجندي إسرائيلي واجباره على خلع ملابس في حين هرب زملائه في جيبهم العسكري الإسرائيلي من المكان، قمن بإلقاء ملابسه وسلاحه داخل إطار سيارات مشتعل على مفترق أبو الصابر كما كان يطلق عليه حينها، وصرخت النساء فرحاً وانتفض المخيم بعد هزيمة قوات الحاكم العسكري حينها الذي يحمل نفس الاسم "هزيمي"، ولم تستطيع قوات الاحتلال من إعادة سيطرتها، وفي فجر اليوم التالي فرضت حظر التجول لأول مرة، واطلقت على هذا المكان اسم حي الشابورة.
لم يرتدع الشبان من فرض حظر التجول وبدأوا بالخروج من شارع بلال بن رباح الحالي (شارع الهدد_ وسمي بعد هدم قوات الاحتلال لجزء من المخيم ضمن سياسة شارون للقضاء على مخيمات اللاجئين)، حيث يفصل الشابورة عن بقية أرجاء رفح، ونظموا مظاهرات على شارع البحر، وانطلقوا بها إلى مداخل حي الشابورة، وعلى مدار عدة أيام، فرغت الشابورة من الشبان، الذين تجمعوا مع أقرانهم من سكان يبنا وبشيت والبطاني والشعوت، واستمرت المظاهرات لعدة أيام.
وبدأت امل مرحلة جديدة في حياتها حين اعتقل نجلها مجدي ابن السادسة عشر من عمره، في العام 1984، وحكم عليه بالسجن لمدة عام ونصف، بتهمة الانتماء للجبهة الشعبية، وبدأت تاريخ جديد في حياتها بزيارة سجن غزة المركزي المسمى "السرايا"، وكان في تلك الفترة من النادر اعتقال شبان وكان يطلق عليهم فدائية تيمناً بمقاتلين السبعينات، كانت تبقى طوال الليل تجهز للزيارة التي كانت دائماً يوم الجمعة كل أسبوعين.
جاء استشهاد الشاب موسى مخيمر "الحنفي" في بداية العام 1987، حيث سقط شهيداً في مظاهرات انطلقت من جامعة بير زيت، تمكن وملاؤه من تهريبه إلى غزة، وخرجت رفح عن بكرة أبيها لدفنه، وشارك في الجنازة الألاف، واستمر بيت عزاؤه وكان يصل يومياً العشرات من الضفة، وحاول جنود الاحتلال اقتحام حي الشابورة ولكنهم فشلوا امام اصرار أبناء المخيم باستمرار بيت عزاء موسى، وكانت أمل ونساء الحي مقيمات في بيت العزاء على مدار الثلاث أيام لمعرفتها الوثيقة بوالدته.
بدأ تكون وتنظم أبناءها في الجبهة الشعبية، وبدأت تخيط بيديها أعلام فلسطين لهم، وكانت حارس لهم طيلة الليالي حيث كان يخرج من بيتها الشبان لتوزيع البيانات "المناشير" كما كان يطلق عليها حينها، وآخرون يخطون الشعارات الوطنية على الجدران في كل مناسبة وطنية، في ذكرى وعد بلفور، ومجزرة دير ياسين، والكرامة، ويوم الأرض، وذكرى النكبة...إلخ.
وكان أبناءها يطلبون للمخابرات الاسرائيلية باستمرار كم