"لعنة الميراث" القيثارة الحزينة وراء عنوسة بنات العائلات في غزة

"لعنة الميراث" القيثارة الحزينة وراء عنوسة بنات العائلات في غزة
خاص دنيا الوطن - ريم سويسي

العنوسة هي ذلك الوصم الاجتماعي ذو الاحراج الأبدي , هو التساؤل و هو اللا اجابة هو السبب و هو النتيجة هو القلق و الحسرة خاصة حين يرتبط هذا الوصم النفسي بظلم اجتماعي أسري همه الأكبر المال و الميراث.

في قطاع غزة,  كثيرة هي أسباب هذه الظاهرة  القديمة الحديثة المتزايدة في الفترة الأخيرة بسبب عوامل شتى من ضمنها الميراث الأمر الذي عانت و لا تزال تعاني منه أغنى و أرقى بنات العائلات في غزة بسبب هاجس انتقال الارث الى خارج العائلة  و اذا بهذا الكابوس الاجتماعي يلقى بالكثير منهن الى ردهات العنوسة القصرية الأشبه بصحراء العمر حيث لا زوج و لا أولاد و بالتالي لا استقرار.  

لماذا ظلت بلا زواج ؟ هو سؤال يجول بخاطرك حين ترى سيدة و قد بلغت من العمر عتيا فقضت سنين شبابها بلا زواج أو أطفال رغم أنها من عائلة عريقة ثرية و حين تدخل الى تفاصيل هذه الحياة الأشبه بالصحراء تصطدم بواقع لعين لسان حاله يقول " الغني مش شايف" أي لا يتقدم للزواج و "الفقيرخايف" أي لا يمكن مصاهرته خوفا على الميراث الذي يتحول من نعمة الى نقمة و بالتالي يمر قطار العمر سريعا وتكون النتيجة وحدة أبدية و واقع اجتماعي مرير.

تعيش وحدها في غرفة لها مطبخ و حمام, لا معيل سوى أخيها الذي يعيش خارج قطاع غزة يبعث لها شهرياً مبلغاً زهيداً من المال , لا زوج و لا أولاد. تعاني حالة نفسية و ذهنية سيئة للغاية فهي التي مر بها قطار العمر بعد أن كانت تعيل أمها المريضة بعد وفاة والدها.

عن هذه الحالة يقول ابن أخ المواطنة التي تبلغ حاليا من العمر 65 عاما من بيت حانون, " كلنت لدى العائلة معتقدات قديمة تفيد أن لا تتزوج البنت خارج العائلة خوفا على الميراث, لذلك كان الحل بزواج البدل من أجل ألا تطالب البنت بحقها في الميراث. عمتي قضت شبابها و هي تعيل أمها المريضة فكانت ترفض من يتقدم لخطبتها بالاضافة الى كونها كانت تملك 7 دونمات في بيت حانون كحصتها من ميراثها من أمها و أبيها كونها من أكبر عائلات الشمال".

و يضيف, " لم يتقدم لها شخص يناسب حجم حصتها من الميراث و بالتالي تأخر زواجها و قبل أن يتوفى والدها تم اجبارها من قبل اخوتها على التنازل عن حصتها في الميراث دون علم والدها أملا في زواجها فتنازلت و بعد ان تنازلت توفت أمها و كانت قد بلغت الأربعين عاماً و بالتالي ضاعت فرصتها في الزواج".

"حاليا تعيش حالة من الندم اذ أصبحت عالة بعد ان كانت تملك الكثير من الجاه فلا أحد يهتم بها", على حد قوله.

حول جذور هذه الظاهرة يقول سليم المبيض أستاذ التاريخ الفلسطيني, " العنوسة من حيث المفهوم هو بلوغ البنت أكثر من ثلاثين عاماً دون زواج. تنتشر العنوسة بسبب الميراث بنسبة كبيرة داخل المجتمع الغزي في طبقة الأسر الثرية "ملاكي الأراضي" التي يغمر نفوسهم الكبرياء و الكرامة المنتفخة بسبب المال و هنا يثور مثل شعبي يفصح بشكل واضح عن الأسباب التي تؤدي الى عنوسة بنات هذه الطبقة من العائلات الغنية "أبو جبة ما بيجيش و ابو فروة ما بنعطيش" و "الغني مش شايف و الفقير خايف".

مضيفا في ذات السياق, " قديما اذا كانت أحدى الأسر الغنية لديها بنتاً ليست على قدر كبير من الجمال, في هذه الحالة لا يتقدم للزواج منها الكثيرون, ف"أبو جبة" و تعني الرجل خريج جامعة الأزهر و الملقب بالشيخ و الذي كان يمثل صفوة المجتمع لا يتقدم لخطبة فتاة قليلة الجمال و في نفس الوقت لو تقدم "أبو فروة" أي الفقير فان عائلة الفتاة ترفض تزويجه كونه ليس من مستواها الطبقي و هنا كانت تحدث الكارثة اذ تتحول هذه الفتاة الى عانس بسبب الصراع بين لعنة الميراث و كابوس الجاه من جهة و بين كونها انسان من جهة أخرى".

" للأسف, هذه الظاهرة في ازدياد نتيجة عوامل كثيرة منها العامل الاقتصادي و السياسي و التعليمي أيضا اذ ترتبط الظاهرة بتدنى المستوى الثقافي اذ نجدها تنتشر بشكل كبير في المناطق قليلة التعليم رغم المستوى المادي المرتفع فبعض العقليات الرجعية تتمسك بهذا النوع من الدمار الاجتماعي خوفا على عدم انتقال الميراث الى خارج العائلة.

و في سؤاله حول الحل, يقول المبيض, " ان حل هذه المعضلة الاجتماعية يتمحور حول تغيير العديد من مفاهيم رجال المجتمع الخاصة بهذا الموضوع و المتمثلة في النظر اليها بموضوعية و عقلانية, الأمر الذي يحتاج الى الايمان العميق بانه لا فروق اجتماعية بين العائلات داخل المجتمع الواحد و الايمان أيضا بأن ظروف الأمس ليست هي ظروف اليوم فالاساس في المصاهرة و النسب يجب أن يكون التعليم و التربية و الأخلاق الحسنة و ليس المال و الجاه, فالفلاح لم يعد فلاحاً و تلك الفوارق الطبقية قد تلاشت و ذابت و بالتالي يجب اسقاط تلك النظرة الطبقية الهادمة للمجتمع".   

في بعض الحالات و القصص الانسانية اضطرت احداهن الى التخلي عن ميراثها: حقها الشرعي و الديني مقابل الحصول على فرصة الزواج و هنا قمة الظلم. فخوفا من شبح العنوسة تتخلى احداهن عن حصتها في الميراث طواعية أملا في الا تكون ضحية جديدة من ضحايا ذلك الشبح.

حول هذه القصص تقول المحامية الشرعية تهاني عزيز من المركز الفلسطيني للديمقراطية و حل النزاعات, " نعمل حاليا ضمن مشروع تعزيز و تحسين قضايا النساء في الملكية و السكن و الأراضي في قطاع غزة و يستهدف المشروع تحت اسم "مجتمع خالي من العنف" النساء اللواتي واجهن العنوسة بسبب اما اعتراض الأهل على الزواج بشكل عام او بسبب الميراث. تعاملنا مع حالات كثيرة من النساء تم تخييرها بين الزواج أو التنازل عن حقها في الميراث و الأغلب كن قد اخترن الزواج".

"نتعامل مع الحالات كالتالي: تكون السيدة قد تنازلت منذ زمن و قد تزوجت و اصبح لديها أطفال أي هروبا من واقع العنوسة. بعد وفاة الوالد يصبح لها حق فعلي تطالب فيه عن طريق الطعن في التنازل. هناك 10% من الحالات التي شملهن المشروع قد تنازلن قبل الزواج خوفا من الأهل على حقهم في الميراث", وفقا لحديثها.

و تضيف, "جغرافيا تنتشر هذه الحالات في المناطق المهمشة و المناطق الحدودية سواء الجنوبية او الشمالية أو الشرقية و السبب قلة التعليم و الوازع الديني و الخوف من انتقال الارث خارج العائلة. تعاملنا من حالة من جنوب القطاع كانت فيها السيدة متعلمة و موظفة, تم حرمانها من الزواج خوفا على دخلها التي تتمتع به عائلتها, اضطرت الى تقديم استقالتها من عملها و التنازل عن حصتها في الميراث كي تتزوج و فعلا تزوجت في سن الخامسة و الثلاثين الأمر الذي أدى الى انجابها بصعوبة بالغة نتيجة تأخر سنها في الانجاب. بعد وفاة والدها اضطرت الى "فتح الدفاتر القديمة" و المطالبة بالطعن في تنازلها عن حقها الشرعي".

حول الاجراءات القانونية فيما يتعلق بالطعن, تؤكد عزيزأنه في حال أبقى الوالد على الميراث دون تقسيم أو تنازل للذكور من أبنائه, فانه يحق للمتنازلة الطعن في التنازل عن طريق رفع قضية تسمى وضع اليد بالاشتراك  و ترفع القضية ضد باقي الورثة أما في حالة تم تقسيم الميراث قبل وفاة الوالد بالبيع و الشراء فانه لا يحق لها الطعن في تنازلها خاصة ان كان هناك ثمن و شهود و مجلس عقد للبيع بين الوالد و أبنائه".

العانس في اللغة هي المرأة التي طال مكثها في بيت أهلها ولم تتزوج قط والرجل أيضاً يصح القول عليه انه عانس ، ولكن المفهوم الشعبي يرى أن العانس هي المرأة و لذلك فان اللفظ ا يجرح المراة أكثر من الرجل فالمجتمع لا يشفق على المرأة التي لم تتزوج بل يوسمها بالنقص.

 وكانت منظمة الأسكوا قد أجرت احصاءات ذكرت فيها ان مرحلة "العنوسة" تبدأ بالنسبة للفتاة في سن الثامنة والعشرين ونصف، وبالنسبة للشاب في سن الثامنة والثلاثين.

هذه المشكلة تكاد ترقى لتكون ظاهرة تهدد البنية المجتمعة اذ تشير آخر الإحصائيات للجهاز المركزي الفلسطيني للاحصاء بارتفاع نسبه العنوسه في فلسطين لتصل إلى نحو 4%. أي أن من بيت كل ثلاث بيوت هناك بيت واحد تعيش فيه عانساً.

يذكر أن قطاع غزة يشهد مستويات غير مسبوقة من البطالة و الفقر نتيجة الأحوال الاقتصادية المتردية الناجمة عن مجموعة من الظروف السياسية المتدهورة أشدها الحصار الاسرائيلي المطبق على قطاع غزة الذي شل كافة مناحي الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و النفسية.