اوسلو بعد 23 عاما

اوسلو بعد 23 عاما
عمر حلمي الغول

قبل ايام حلت ذكرى التوقيع على اتفاقية اوسلو ال23. ولا يجوز ان تمر الذكرى دون التوقف امامها، وإستحضار نتائجها الخطيرة على الشعب العربي الفلسطيني. ومحاولة إستشراف آفاق المستقبل بالقدر الممكن والمتاح.

باقتضاب شديد حين وقعت القيادة على إتفاق اوسلو لم يكن الواقع الوطني ورديا، لا بل كان شديد التعقيد والسوداوية. كانت الضغوط من كل فج وميل. والحصار المالي والجيوبوليتك يضيق الخناق على رقاب الفلسطينيين جميعا دون إستثناء. وحروب الاحتواء ومصادرة القرار الوطني وخلق البدائل تتعاظم، وحرب الخليج الثانية القت بظلالها الكثيفة على الشعب والقيادة على حد سواء، كما لم تلقيه اي ازمة عربية سابقة، والحالة العربية الرسمية أخذت في التفسخ والتشظي على كل الصعد والمستويات، وأميركا وإيران وإسرائيل عمليا إحتلوا العراق، وفرضت أميركا مؤتمر مدريد للسلام، الذي تم إلحاق القيادة والمشاركة الفلسطينية فيه من الشباك الخلفي وليس الباب، ثم الانزلاق نحو مفاوضات اوسلو وما نجم عنها من إتفاق بائس وقع في الثالث عشر من ايلول/سبتمبر 1993 في حفل مهيب في حديقة الورود في البيت الابيض الاميركي، الذي يذكر بقصة الغولة واحتفالها بفريستها، لتأكلها دسمة وفي غفلة منها، وهي تنظر إليها.

نعم الظرف الذاتي والموضوعي العربي والدولي آنذاك، كان يعمل ضد المصلحة الوطنية الفلسطينية. وكانت القيادة معنية بالبحث عن مخارج سياسية لحماية القضية والرأس الفلسطيني من التصفية او الاحتواء والبقاء على سطح الجيوبوليتك. وكانت المخارج محدودة جدا، بعد ان أعطت الانتفاضة الكبرى 1987/1993 الفرصة الذهبية للقيادة لإحداث النقلة النوعية في تحقيق الاهداف الوطنية. لكنها بموضوعية ودون تطرف لم تحسن إدارة الصراع مع إسرائيل واميركا، أضف إلى ان إشهار حركة حماس في المشهد السياسي الفلسطيني آنذاك 1988، لم يكن وليد الصدفة، بل كان معدا ومخططا له، لاحداث الاختراق الداخلي، والذي تلازم مع تأزم العلاقات الفلسطينية العربية بسبب حرب الخليج الثانية. إلآ ان الإقرار بالشروط الموضوعية المعقدة المحيطة بالقضية، لا تعني القبول بما آلت إليه إتفاقية اوسلو. حيث كان بإمكان المفاوض الفلسطيني ان يحقق الانجازات الوطنية دون إغراق القيادة ذاتها والشعب في متاهة التغييب للمسائل الاساسية في القضية الفلسطينية: الحدود، القدس، المستعمرات، اللاجئون، المياة والثروات الطبيعية، الامن والاسرى. وكانت الضرورة الوطنية تملي على المفاوض ان لا يسقط في متاهة كامب ديفيد المصرية، التي قسمت الارض المصرية في سيناء إلى AوBوC لان المسألة الفلسطينية مختلفة تماما عن اي قضية حدود عربية. فلسطين ليست سوريا ولا الاردن او مصر او لبنان، فلسطين محور الرحى في الهجمة الاستعمارية الاسرائيلية البريطانية والاميركية، وأنتجت لها قوى الاستعمار الصهيونية والغربية الرأسمالية بالتعاون مع الاقطاب الاخرى رواية لتمرير إستعمارها وتأبيده في الارض الفلسطينية العربية.

اضف إلى ذلك، جرى التعامل مع نتائج إتفاقيات اوسلو البائسة باليات ورؤى غير سليمة وفيها إستخفاف ومراهقة سياسية، بعيدة عن الحكمة والشجاعة السياسية، وبرزت ظواهر لا تمت بصلة للنضال الوطني الفلسطيني، وعاث الفاسدون والمفسدون في الارض وفي المؤسسات، وتساوقوا مع سلطات الاحتلال الاسرائيلية في تقاسم المغانم، مع ان إسرائيل لم تحد قيد أنملة عن خيارها الاستعماري بهدف إستكمال مشروعها على كل الارض الفلسطينية، ثم ألقوا بالانقلاب الحمساوي في وجه المشروع الوطني باسم "المقاومة"، وعمقوا الازمة والشرخ الداخلي الوطني منذ عشر سنين خلت كخطوة متقدمة على طريق تبديد المشروع الوطني برمته.

القراءة الموضوعية تحتم على الجميع قيادات رسمية وغير رسمية الاعتراف امام الذات والشعب بإفلاس واندثار إتفاقيات اوسلو وباريس المشؤمة. وإعادة نظر برنامجية في كل مناحي العملية السياسية الداخلية وبالعلاقة مع دولة التطهير العرقي الاسرائيلية، ورسم سياسات تتناسب مع طبيعة اللحظة دون الاغراق في المثالية والشطط الشعاراتي غير المسؤول. ولكن دون تقزيم عملية التغيير في الرؤى السياسية وأدوات واليات عملية التحرر الوطني، وإعطاء اولوية جدية للكفاح الشعبي في مدن وقرى الضفة الفلسطينية وخاصة القدس العاصمة، ورصد الامكانيات والطاقات لتصعيد هذا الكفاح، وتجديد وترتيب البيت الوطني عبر القضاء الكلي والتام على ظاهرة الانقلاب الحمساوي، بغض النظر عن الاسلوب والطريق، الذي يمكن إتباعه. لم يعد مقبولا ولا معقولا إستمرار الانقلاب الاخواني في قطاع غزة. اما ان تقبل قيادة حماس بالمصالحة او فلتذهب للجحيم، هي ومن يصفق لها ويدعم خيارها. وكي تستقيم هذه المسائل، تملي الضرورة العمل على عقد المؤتمر السابع والمجلس الوطني في دورة عادية بالقوام القائم وتشكيل حكومة وحدة وطنية لتجديد الشرعيات، واستنهاض الذات الوطنية وإجراء مصالحات مع الاشقاء العرب جميعا، وتغليب لغة الشراكة على لغة التنافر والتجاذب، وفي الوقت ذاته تنشيط العلاقات الفلسطينية مع القوى الشعبية العربية، لاستنهاض اشكال العمل القومي، الذي يشكل رافعة للكل العربي وبما يخدم قضايا العرب عموما وقضية العرب المركزية خصوصا.

إدفنوا اوسلوا وباريس وانهضوا. وأعيدوا النظر في كل اشكال العلاقة والتنسيق مع إسرائيل دون ضجيج وثرثرات فارغة. الوقت من ذهب، إن لم تقطعه القيادة الآن وليس غدا، فإن مصيرنا كله في مهب الريح.