رحل عماد وبقيت زيتونته وضحكاته

رحل عماد وبقيت زيتونته وضحكاته
رام الله - دنيا الوطن
كرّست وزارة الإعلام في محافظة طوباس والأغوار الشمالية الحلقة (35) من سلسلة(كواكب لا تغيب)، التي تعيد كتابة سير شهداء الحرية لانتفاضة الحجارة، وتنظم بالتعاونمع الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية.

وتوقفتالحلقة الجديدة في بلدة طمون، ووثقت حكاية الشهيد عماد محمود بشارات، الذي أوقفرصاص المستعربين أحلامه قبل 34 عاماً.

يجلس الزوجان بشارات في غرفة  تحتفظ جدرانهابرائحة عماد: صور، وشهادات علمية، وميداليات، ونعي لقائد مجموعات الفهد الأسود، ويمسكانببلوزة منسوجة على هيئة كوفية ترفض الأم غسلها منذ رحيل فلذة كبدها، وتقول إنهاتشم رائحة ابنها فيها كل يوم. ويتناوب الزوجان على الجلوس في ظل شجرة زيتونة غرسهاالابن الشهيد قبل رحيله، أما الأم فتحرص كل عام على توزيع زيت من الشجرة عن روحه.

اللقاءالأخير

وتعيدالأم حليمة يوسف (68 سنة) بقلب يقطر حزنًا استذكار اللقاء الأخير بابنها البكر،فقد طلب يوم استشهاده أن تعده له ولرفاقه إفطار رمضان، وخرج قرابة الواحدة ظهرًا إلى مخيم عسكر القديم لحل خلاف بيننشطاء الانتفاضة، انتهى بكمين لوحدات المستعربين الخاصة، الذين تنكروا بزي نساء،كما عرفت العائلة لاحقًا.

تروي:خرج عماد ورفيق دربه، وقالا لي إنهما سيتناولان طعام الإفطار على موعده، وسيكونانعندها قبل الغروب. فوضع ابني الحطة (الكوفية) على رأسه وأراد الخروج، وطلبت من صاحبهالذي لا يفارقه أن لا يصطحب عماد، ويأخذ مقابله اثنين من أخوته، فضحك، وأجابها: (ماتقلقي، وصعب حد يشبه عماد)، وخرجا دون أن يخبراني عن طريقهما.

تتابعبحزن يأسرها: بدأت أعد الفطور، وجاءت عندي جارتي الحاجة نعمة عبد الكريم لشراء الجبنة،وأحسست بأن شيئًا ثقيلاً يحط على صدري، وبدأ قلبي يقفز من مكانه، وقلت لها: (انحطم قلبي، وخايفة على عماد)، وبعد وقت قصير، سمعنا صوت سقوط (كاسات الزجاج) التياحتفظت بها من هدايا نجاح ابني في (التوجيهي)، فقد كان على ظهر الخزانة، وأخفيتهلزفاف عماد لكنه تحطم، دون أن يمسه أحد، وشعرت بأن شيئا ما أصاب ابني لحظتها.

ووفقما تتذكره الأم ولا ينساه الأب، فقد وصل ابنهم إلى قلب مخيم عسكر القديم ظهيرة يومالأحد، 15 آذار 1992؛ لتطويق خلاف فضائلي بين (فتح) و(الجبهة الديمقراطية)، واجتمعنحو 30 مطارداً فوق سطح منزل، غير أن رصاص الوحدات الخاصة انهال عليهم، فاستهدعماد ونعيم اللحام وحجاج حجاج، وأصيب رفيقه  في ذراعه، ونجا بأعجوبة منموت محقق، بعد أن سقط في قلب شجرة.

تسردالأم بعينين دامعتين: حين خرج ابني لبس كل شيء جديد عنده:  بلوزة بيضاء، وسترة رمادية، وبنطالاً جديدًا،وبوت (فورزا)، ورفض قبل خروجه أن يلبس جوارب قديمة، فأرسل أخيه إلى دكان أبو النعيم لشراء جديدة بيضاء اللون، وخرجوكأنه عريس.

شعرومخدة

وبحسبما تبوح به، فإنها وبعد وصول الخبر المؤلم، طلبت من أصحابه ورفاقه وقت التشييع أنلا يضعوا الكثير من التراب على شعر عماد المُجعد، فيما أعطاهم والده المخدةالصغيرة، التي أحضرها ابنه خلال مكوثه لسنتين ونصف في ألمانيا، ليريحوا رأسه، ويحافظوا على وسامته في قبره.

تقولالأم: كان عماد أبيض البشرة والقلب، وحباب، ومتوسط القامة، وحنون، وسجل بعد نجاحهفي الثانوية العامة التمريض في جامعة النجاح، ودرس فصلاً واحدًا ولم يكمل أحلامه،ورفض إلحاحي تزويجه، فكان يقول لي ( أنا لا أصلح للزواج يا أمي).

توالي:قبل أيام من استشهاده، كان ابني يتكئ على مكان وضع الفراش، وأخبرني بأنه سيرسل ليمعاشًا دائمًا، ورجوني أن لا أحبه أكثر من أخوتي، حتى لا يتضايقوا. واعتاد أن يأتيمن خارج البيت ويسأل عني، ثم يطلب مني الجلوس ليمشط شعري. وأحس إلى اليوم بضحكاته التي لا تغيب.

أمضىبشارات أكثر نحو سنتين ونصف في ميونيخ بألمانيا، فقد وصلها في الشهر التاسع منعمره، وأصيب بمرض الحصبة هناك، وابتعد عن الرضاعة الطبيعية منذ الشهر التاسع،وفي  السنة الثانية، اشترى والده له دراجةهوائية، وكان ينطلق في الشارع بسرعة، ويلحقه رجال الشرطة خوفًا على حياته منالسيارات. وسبق أن أقام والده 12 سنة في ألمانيا موظفاً في شركة سيارات ذائعة صيتبسرعتها.

ويقفعماد في الترتيب الأول لعائلته، إذ أبصر النور في 23 تموز 1969، تبعه أخوته: نهاد، وعلي، وكارم، وجهاد، ويوسف، وعدي، ونعمة،وأمونة، لكنه الكتوم، والذي لا يبوح بسره لأحد مهما كان.

تقدمالأم مشاعر مختلطة فتترشح للدموع تارة، لكنها تبتسم وهي  تسترد سيرة عماد، فتقول: حين كنا نشتري الملابسللأبناء في الأعياد والمناسبات، كان عماد يقبل بأي مقاس، حتى لو لم يناسبه، وفيإحدى المرات  لبس بنطالاً قصيراً، ولم يرغبفي إزعاج أخيه نهاد، الذي اختار البنطال الطويل.

أعلاموأحلام

واستنادًاإلى الأم المجروحة، فإن عماد ذات مرة كان كثير الحركة في نومه، فراقبته لمعرفةالسبب، لتكتشف أن ولدها يخفي على جسده مجموعة من أعلام فلسطين تحت ملابسهن فضحكتعلى فعلته .

توالي:يزورني عماد في المنام كثيرًا، وخاصة عندما نمر في ظروف صعبة، أو يكون أحد أخوته فيمرض، وفي كل حلم يعطيني المال، وقد سلمني مرة ورقة لزيارة بيت الله، وقد عاتبني لغيابي عن زيارة قبره. وفي حلم ثان،عاتبته على عدم السؤال عليّ فأجاب: ( ما عندي قلب، أخذوه مني مع كبدي بالمشرحة يوماستشهادي).

تقول:حين وصل جثمانه من  معهد أبو كبير صباح اليومالتالي، وجدت جسده مخيطًا، وصرت أتذكر حلم عماد بما فعلوه فيه من سرقة لأعضائه.

أعادتعائلة بشارات  إطلاق عماد  خمس مرات، الأولى لابن الأخ نهاد، ثم ابن الأخعلي، فأبناء الخال والأقارب: أمجد، وخالد، وناصر. تقول الأم:  يشبه حفيدي عماد نهاد ابني( 17 عاما)، وحينيزورنا أحضنه كثيراً، ويكرر  بعض صفات ولديالذي لن يعود.

 تنهي الأم: يذكرني الهواء الذي أتنفسه كل لحظةبعماد، وتعيدنا الزيتونة التي غرسها وسط البيت به، وكلما أمشط شعري أتذكره ضحكاته،أما دموعي ودعواتي فهي كلها له، ولو بقي على قيد الحياة لكان أولاده طوله، ويزورناأصحابه فأتوجع على فراقه وأدعو له بالرحمة.

غيابوحضور

بدوره،أشار منسق وزارة الإعلام في طوباس والأغوار الشمالية، عبد الباسط خلف إلى أن"كواكب لا تغيب" التي تستعد لإنهاء عامها الثالث، وثقت القصص الإنسانيةلقرابة أربعين من شهداء انتفاضة الحجارة في مدينة طوباس وبلدتي: عقابا وطمون وقريةتياسير ومخيم الفارعة.

وأضاف:تحرص الوزارة بالشراكة مع اتحاد المرأة على إعادة بناء  حكايات شهداء الحرية خلال انتفاضة عام 1987 من جديد، واستذكار ألم غيابهم، ورسمالأحزان التي تسكن قلوب عائلاتهم وتفوح من جدران منازلهم، رغم مرور سنوات طويلةعلى الرحيل.