بين مطرقة الحاجة وسندان الاستغلال.. عاملات فلسطينيات في المستوطنات

بين مطرقة الحاجة وسندان الاستغلال.. عاملات فلسطينيات في المستوطنات
رام الله - خاص دنيا الوطن-روان سمارة

كاميرات مراقبة، ومراقب عمال يهودي، وآخر فلسطيني، تحرش، وإهانة، وتحكم بالرزق والمصير، وعشر ساعات عمل متواصلة تلك التي تقضيها منى في أحد مصانع بركان، إحدى أكبر المستوطنات الإسرائيلية المقامة على أراضي محافظة سلفيت والتي يبلغ عددها سبعة عشر مستوطنة، وتحتل مساحة واسعة من أراضي المحافظة. منى التي لم تتجاوز السابعة والثلاثين عاما تقيم وأبناؤها الأربعة في غرفة واحدة في منزل والدتها الكائن في مدينة نابلس، وهي المعيل الوحيد لهم بعد وفاة زوجها الأول، وطلاقها من زوجها الثاني .

منى وبعد رحلة شقاء طويلة  وصلت بها إلى بركان حدثتنا عن تفاصيل يومها قائلة :"يبدأ نهاري باكرا، فأنا أترك منزلي الساعة السادسة صباحاً، وأسير لموقف السيارات حيث يتجمع العمال والعاملات الذين يتوجهون للعمل في مستوطنتي بركان و أرائيل، وبمجرد وصولي للمصنع أباشر بالعمل الذي يتطلب مني الوقوف عشر ساعات متواصلة، فإدارة المصنع تمنع العمال والعاملات من الجلوس إلا في ما يعرف ب (الأفسكاة) أي الفرصة التي تبدأ عادة الساعة الثانية عشر ظهرا ولا تستمر سوى نصف ساعة فقط، لنعود بعدها للعمل الذي يستمر حتى الخامسة مساء، وقد يتواصل في بعض الأحيان حتى الساعة  السابعة في حال كان هناك ضغط عمل ".  

تتقاضى منى ثلاثة وعشرين شيقل عن كل ساعة عمل، أي 230 شيقل يوميا، وما يعادل خمسة ألاف شيقل شهريا، وهو مبلغ كبير مقارنة بمبلغ ألف شيقل كانت تتقاضاها في مشغل الخياطة الذي كانت تعمل به سابقا، تقول منى :"بدأت العمل منذ ثمانية أعوام في أحد مشاغل الخياطة في مدينة نابلس، وكنت أتقاضى عشرة شواقل يوميا، مقابل العمل لثماني ساعات، ثم أخذت بالتنقل بين مشاغل الخياطة، والمطاعم، والمعامل، ولم يزد أجري في أي منها عن ثلاثين شيقل يوميا، وهو مبلغ زهيد مقارنة بما أتقاضه اليوم ".

منى هي واحدة من أصل 220 عاملة يعملن في المستوطنات الإسرائيلية الواقعة في المحافظة، ولكل واحدة منهن حكايتها الخاصة، ودوافعها الخاصة، وعالمها الخاص الذي لا يتقاطع مع عوالم الأخريات إلا في جانب واحد العمل، واستعباد رب العمل ومساعديه لهن، تقول غادة :" كل واحدة منا جاءت من خلفية اجتماعية وثقافية تختلف عن الأخرى، لكن القاسم المشترك بيننا جميعا هو الحاجة أولا، وعدم توفر البديل الذي يلبي احتياجاتنا واحتياجات أسرنا ثانيا"،  غادة طالبة تدرس الحقوق في جامعة النجاح الوطنية، توفي والدها بعد إنهائها لسنتها الجامعية الثانية، ما دفعها للبحث عن عمل يؤمن لها قسطها الجامعي ومصروفها الشخصي، ونظرا لكونها تسكن في قرية فهذا يعني انعدام فرصها في الحصول على عمل بعد دوامها الجامعي إلا في حال انتقلت للسكن في مدينة نابلس وهو الأمر الذي ترفضه عائلتها، ما أجبرها على تأجيل الفصل الدراسي والعمل نهارا في المستوطنة القريبة من قريتها، 

تقول :"فرص العمل للفتيات في القرى محدودة جدا، فهي تقتصر على رياض الأطفال، ومشاغل الخياطة، وكلاهما لا يؤمن لي ما أحتاجه فالقسط للفصل الواحد يقارب 500 دينار أردني، هذا بالإضافة لثمن الكتب والمراجع ، والمواصلات، ومصروفي الشخصي، لذلك وفي ظل الإغراءات التي تقدمها المستوطنات كان من الطبيعي أن أتجه للعمل فيها ".

غادة، ومنى، وغيرهن من النساء اللواتي عملن من خلال عقد عمل مباشر مع المشغل الإسرائيلي هن محظوظات مقارنة بهؤلاء اللواتي عملن من خلال من يعرفون بسماسرة العمال أو مصاصي الدماء كما يطلق عليهم، حيث يتحايل هؤلاء على حاجاتهن، فيؤمن من يعرف ب (المناهيل ) العمل للعاملة، ويقاسمها أجرها القانوني الذي من المفترض أن يكون الحد الأدنى له بحسب قانون العمل الإسرائيلي 4250 شيقل، فتأخذ العاملة نصف هذا المبلغ في حين يحصل المناهيل الذي غالبا ما يكون عربيا على نصفه الآخر دون وجه حق، أحمد سمسار عمال في أرائيل منذ ما يقارب العشرة أعوام،  حدثنا قائلا :"لا أرى في هذا الأمر تحايلا أو ظلما، فهذا اتفاق بين طرفين يبرم برضاهما، كما أن العامل في هذه الحال هو من يحتاج السمسار خصوصا في ظل قلة فرص العمل في مناطق السلطة، وتزايد أعداد العاطلين عن العمل ".

زيدان فاتوني، مدير دائرة التشغيل في مديرية عمل سلفيت أكد على أن أساليب التحايل على العمال والعاملات تحديدا، تجاوزت السماسرة وأصبحت تأخذ أشكالا أخرى، يقول فاتوني :"هناك أساليب تحايل على تشغيل العاملات وخاصة العاملات في قطاع مشاغل الخياطة، حيث يقوم المشغل الإسرائيلي، وبالشراكة مع وسيط فلسطيني بفتح مشاغل خياطة في القرى الفلسطينية، حيث تلزم هذه الشراكة الطرف الثاني بتأمين العاملات والمكان، بينما يوفر الأول المواد الخام وأجرة العاملات، التي لا نعلم كيف يجب أن تحتسب؟ فنحن لا نعلم هوية المشغل، هل هو عربي، أم إسرائيلي؟ وهل ينطبق على هؤلاء العاملات قانون العمل الفلسطيني، أم الإسرائيلي؟ ففي حين تتقاضى العاملات في المشاغل الإسرائيلية 4250 شيقل لا يتعدا ما تناله العاملات في المشاغل الفلسطينية 2000 شيقل فقط ".

ولكن هل يقتصر الاحتيال على العمال والعاملات في موضوع الأجر فقط؟ هند إحدى العاملات في أحد مشاغل الخياطة ببركان تقول :" أعمل في بركان منذ ستة أعوام، وتنقلت بين العديد من المصانع، وواجهت عدة مشكلات منها ما يتعلق بالأتعاب، وإصابات العمل، فالعديد من المصانع تقوم بطرد العمال والعاملات قبل أن يكملوا ثمانية أشهر، وذلك بالطبع حتى يتهرب المشغل من دفع أتعاب العامل ". 

علاء يونس المستشار القانوني لاتحاد نقابات العمال بسلفيت رد قائلا بهذا الخصوص :"نعمل في الاتحاد على حل القضايا العمالية التي يتوجه أصحابها إلينا، والتي غالبا ما تكون تراكم أجور للعامل، أو امتناع المشغل عن دفع الأتعاب، أو تعويضات لتعرض العامل لإصابة عمل، و يتم حل تلك القضايا من خلال مجموعة من المحامين الذين يعملون مع الاتحاد ضمن اتفاقيات خاصة، تضمن عدم استغلال المحامين لأصحاب القضايا من العمال ".

يونس الذي أكد على أن أكبر المشكلات التي يعاني منها العمال والعاملات هي جهلهم بحقوقهم، وعدم حصولهم خاصة في المصانع غير القانونية على أوراق تثبت عملهم في هذه المصانع، أشار أيضا إلى أن معظم القضايا التي يعمل الاتحاد على حلها تنتهي بتسوية بين العامل ورب العمل الإسرائيلي، وذلك لتخوف أرباب العمل الإسرائيليين من وصول قضاياهم للمحاكم الإسرائيلية، التي تغرم رب العمل 10000 شيقل لمجرد إصدار حكم بحقه، وغالبا ما تكون التسوية بالاتفاق على مبلغ مالي يدفع للعامل، دون أن تتم مساومة العامل على الاستمرار في عمله فهذا الأمر لا يجوز وفق القانون الإسرائيلي، وتحديدا في حال تعرض العامل للإصابة أثناء العمل .

هبة، إحدى العاملات التي تمثل حالة خاصة، تعمل منذ عامين في بركان، وهي زوجة وأم لطفلين وحدثتنا عن عملها قائلة :" تعرض زوجي لكسر في قدمه اليسرى، واضطر لإجراء عملية جراحية أجبرته على التخلي عن عمله، وأجبرتني على البحث عن عمل، وفي حين كان زوجي الذي يعمل سائقا على سيارة عمومية يتقاضى شهريا ما يقارب 2000 شيقل، وصل أجري الشهري لأربعة ألاف شيقل، كما أن العمل جعلني أحقق ذاتي، وأحقق استقلالية مادية حتى عن زوجي، الذي أصبح هو من يطلب مني المال". 

هبة التي لا تزال تعمل بالرغم من عودة زوجها للعمل، تبذر المال الذي تجنيه على شراء الملابس، ومساحيق التجميل، حتى أنها بدأت بإجراء بعض عمليات التجميل البسيطة، حتى أصبح وشم الحاجبين الذي قامت به مؤخرا حديث العمال والعاملات معها .

جنان سمارة، أخصائية اجتماعية من إحدى القرى المجاورة لبركان تقول :"الحاجة هي الدافع الأول الذي قد يصل بالمرأة للعمل في المستوطنات، فعلى الرغم من تمسك العديد من القرى الواقعة في المنطقة الغربية للمحافظة تحديدا بالعادات والتقاليد، إلا أن معظم العاملات في المستوطنات ينتمين لهذه القرى، وهو ما يفرض على المرأة عبء آخر يضاف لعبء العمل، فالعاملات في المستوطنات هن الأكثر عرضة اجتماعيا للإشاعات، فالقرى التي لا تستوعب حديثا يدور بين الرجل والمرأة لأي سبب كان لا يمكنها أن تستوعب عمل المرأة والرجل في مكان واحد لعشر ساعات يوميا. 

كما أن ما تتعرض له النساء العاملات في المستوطنات من مضايقات العمال ومراقبي العمل، والتي قد تصل في بعض الأحيان لحد التحرش الجنسي، الذي غالبا ما يكون لفظيا، يترك آثاره النفسية ليس على العاملة التي تعرضت للتحرش وحسب، بل على العاملات الأخريات أيضا ".

المستوطنات الإسرائيلية، وبالرغم من عدم شرعيتها، وبالرغم من محاربة مشروع الدولة الفلسطينية لها، وللعمالة بها، إلا أنها نجحت في استقطاب ما يقارب مئة وثمانين ألف عامل وعاملة من الفلسطينيين، وهو ما يؤثر سلبا بحسب مثنى المصري، مدير مكتب وزارة الاقتصاد الوطني في محافظة سلفيت والذي يقول :" العمالة الفلسطينية المشغلة للمصانع الإسرائيلية هي من أكبر المشكلات التي تواجه الاقتصاد الفلسطيني، فعلى الرغم من أن عائدات العمال هذه تضخ في السوق الفلسطيني، إلا أنها تحرم المصانع الفلسطينية من المنافسة، وذلك بسبب قلة الأيادي العاملة التي تملك الحس الوطني، والإرادة لرفض المغريات التي تقدمها المصانع الإسرائيلية، والتوجه للعمل في المصانع الفلسطينية التي تواجه تحديات كثيرة من بينها سياسات دولة  الاحتلال والمتمثلة بالإغلاق والحصار، بالإضافة لسيطرتها على المعابر مما يعني عدم القدرة على الاستيراد أو التصدير إلا من خلالها ". 

من جهته أكد السيد فاتوني على أن وزارة العمل تعمل جاهدة على توفير برامج تشغيل لهؤلاء العمال والعاملات بالشراكة مع صندوق التشغيل الفلسطيني، وذلك من خلال توفير قروض ميسرة تسدد على فترات طويلة، وبأرباح محدودة، لكن وللأسف فهذه البرامج لم تحقق الغاية المرجوة منها، فمن جهة وزارة العمل تعاني من محدودية إمكانيتها التي لا تمكنها بالتالي من استيعاب عدد كبير من العاملين ضمن برامجها، ومن جهة أخرى تخوف العامل الفلسطيني من ترك عمله، والمجازفة بمشروع قد لا ينجح ".

العمال والعاملات الفلسطينيون الذين قد يواجهون في كثير من الأحيان اتهامات بغياب الحس الوطني لديهم، وعدم انتمائهم الحقيقي للوطن والقضية، هم في معظمهم ضحية لظروف اجتماعية واقتصادية قاسية، جعلت من توفير رغيف الخبز أولوية يسعون لتحقيقها لهم ولعائلاتهم، حتى وإن كان رغيف الخبز هذا سيجعلهم عرضة لاستغلال مصاصي الدماء من سماسرة العمال. الحاجة لرغيف الخبز أيضا هي ما تجعل الحكومة الفلسطينية تغض الطرف عن هؤلاء العمال والعاملات في ظل اقتصادها الضعيف، الذي يعجز عن توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الإنسانية لهؤلاء العمال والعاملات، وهو ما يبقيهم ويبقيهن عالقين وعالقات بين مطرقة الوطن، وسندان الحاجة، وتحت رحمة مشغل اسرائيلي، وسمسار فلسطيني يتاجر بأرواحهم وصحتهم وعملهم .