يحكم بالإعدام وسيارته بدها دفشة

يحكم بالإعدام وسيارته بدها دفشة
بقلم: عبدالله عيسى

بعد محاولات متكررة وفاشلة من القذافي في السبعينات لإقامة وحدة مع دول عربية مثل تونس ومصر والمغرب وانتهت المحاولات الوحدوية بعداء وكراهية ودماء أبرياء .

وعندما فشلت المحاولات الوحدوية قرر فرضها بالقوة فأقام معسكرات في ليبيا يدرب فيها عمال مصريين وتونسيين ومغاربة وغيرهم وكل دولة عربية لديها معسكر مهمته قلب نظام الحكم في بلده .

في عام 1980 قرر القذافي البدء بتونس واعتبرها الأقرب وربما الأسهل فأرسل شاحنات من السلاح إلى مدينة قفصة التونسية في الجنوب وعشرات المسلحين فاحتلوا المدينة بأكملها وسيطروا على مراكز الأمن .

بعد أيام استطاع الجيش التونسي استعادة المدينة وقتل ناس كثيرون واعتقل عدد كبير من المسلحين المهاجمين للمدينة.

القصة لم تكن سهلة وأحدثت بلبلة كبيرة في تونس وخشي النظام من ذيول وتداعيات العملية ومن امتداد الثورة إلى مدن أخرى فبحث الرئيس بورقيبة عن قاضي نزيه ليحاكم المتورطين بقضية قفصة فرشحوا له القاضي الهادي الجديدي المعروف بنزاهته وحزمه وشدته بالحق .. ومعروف بضيق ذات اليد فلم يتكسب من القضاء .

عينه بورقيبة رئيسا لمحكمة امن الدولة واشترط بورقيبة أن يصدر القاضي الجديدي أحكاما بالإعدام على 30-40 شخص من المتهمين فرفض القاضي وقال له :" اصدر حكما بالإعدام على من يستحق الإعدام فقط ومن لا يستحق الإعدام اصدر الحكم الذي يناسب جريمته ".

بورقيبة وافق على مضض لأنه كان يريد قاضيا مقنعا للشعب واحكامه تكون مقنعة أيضا .

وتمت محاكمة المسلحين وتم بث المحاكمات على شاشة التلفزيون التونسي واستوقفتني محاكمة احد المسلحين عندما سأله القاضي الهادي الجديدي:" من قتل حارس الثكنة العسكرية ؟". فرد الشاب ببرود :" أنا قتلت الحارس". فسأله القاضي مجددا:" هل أنت متأكد .. انك القاتل أم شخص آخر فعل ذلك؟". فقال الشاب بإصرار :" أنا القاتل ". فسأله القاضي:" كيف قتلته ؟" فروى الشاب كيف تسلل إلى بوابة الثكنة العسكرية للجيش التونسي وقتل الحارس.

بعد انتهاء المحكمات وصدور حكم بالإعدام على 13 مسلحا فقط أدينوا بالقتل ..التقيت الصديق القاضي الفاضل الهادي الجديدي وسألته :" لاحظت انك كررت السؤال على الشاب قاتل حارس الثكنة العسكرية.. لماذا ؟.

قال القاضي:" كررت السؤال خشية أن يكون اعترافه تحت ضغط البوليس ولو قال لي لم اقتله لخففت الحكم عليه إلى الأشغال الشاقة ولكنه يريد أن يموت فماذا افعل".

هذا القاضي النزيه كان يمتلك سيارة سيتروين موديل قديم جدا وكانت من السيارات القلائل التي مازلت تسير في شوارع تونس وكانت أحيانا تحتاج إلى دفشة .

قاض تونسي آخر اقل مرتبة من الهادي الجديدي وحسب مقاييس القضاة كان يستطيع الحكم لغاية 10 سنوات أشغال شاقة .. واكتسب شهرة بالرشاوى أكثر من شهرته كقاض وكلما سئل عن سيارته الجديدة  التي كان يغيرها أو سيارة زوجته كان ليه إجابة واحدة وكنا نفهم معناها ونضحك " من عند الحبايب ".. سمعنا انه لديك الآن قطعة ارض في المكان الفلاني فيقول" من عند الحبايب "..والخ .

في الثمانيات اختارته الدولة التونسية ليحاكم مجموعة من الإسلاميين وكانوا تنظيما سلميا كل نشاطاتهم توزيع منشورات لا اكثر.. لم يتعب نفسه فحكم معظم أعضاء التنظيم بعشرة سنوات أشغال شاقة .. أي أن الدولة كانت تريد هذه الأحكام فاختارت القاضي المناسب .. مرتشي بعيد كل البعد عن النزاهة والضمير .

نموذجان لقاضيين في نفس الفترة وفي ظل نفس النظام وفي نفس سلك القضاء .. القاضي النزيه الذي اكتفى براتبه وكان محل احترام الناس والدولة أيضا والقاضي المرتشي الفاسد فاحش الثراء .

لذا لا أؤمن بمقولة استقلال القضاء في دول كثيرة ولا بالنزاهة المطلقة للقضاء ولكن أؤمن بالقاضي النزيه والمستقل .. والقاضي الفاسد .. لان الدولة تشجع فساد قاض كما تحدثنا عن تونس في الثمانيات من اجل إصدار أحكام بالجملة على هواها للإسلاميين أو غيرهم .

نكتة مبكية ..عرفت صديقا كان لديه محل تجاري في السوق الرئيسي وكان يخضع لنظام الإيجار القديم وحسب القانون ما دام يدفع الإيجار بانتظام لايستطيع القانون إجباره على إخلاء المحل لصالح المالك .

بعد إقامة السلطة مباشرة وقبل تنظيم سلك القضاء الفلسطيني ولسوء حظ صاحب المحل التجاري تم تعيين مالك المحل قاضيا .. فطلب فورا من المستأجر إخلاء المحل بدون قيد أو شرط فرفض المستأجر وعرض على المالك زيادة في الإيجار فرض ولم يكن الإيجار بخسا بل كان وفق المعدل المعمول به تقريبا.

القاضي حرك قضية إخلاء للمحل وحدد نفسه القاضي الذي ينظر القضية .. ويقول الصديق :" مثلت أمام القاضي مالك المحل وعقدت الدهشة لساني .. كيف سيحكم في قضية هو طرف فيها .. هو الخصم والحكم ".

ويضيف المتظلم:" وإذا بالقاضي يقول لي عليك إخلاء المحل فقلت أنا منتظم بدفع الإيجار وقانونا وضعي سليم ..وإذا بالقاضي يصدر الحكم فورا : حكمت المحكمة حضوريا على فلان بإخلاء المحل ....".

جن جنون الرجل وسألني ماذا عساه أن يفعل .. قلت له عليك بالتظلم للرئيس أبو عمار .

أرسل رسالة شكوى للرئيس فأحالها إلى النائب العام في حينها الذي علق عليها:" لا نتدخل في شؤون القضاء".

قضي الأمر وتم إخلاء المحل رغم انفه بالقوة الجبرية .. 

في العام الماضي زارني القاضي فريد الجلاد رئيس مجلس القضاء الأعلى وتحدثنا قليلا عن شؤون القضاء ولمست بوضوح حزمه وشدته.

ولفت انتباهي في حديثه شدته وحزمه بان يكون القضاء الفلسطيني نزيها وعادلا ونقيا .. لا يعيب القضاء ان يوجد قاضي ما خان الأمانة ففي النهاية هو إنسان ليس منزها ولا معصوما ولكن الأهم في نظري الشدة والحزم التي يتعامل بها القاضي فريد الجلاد في معالجة أي خطأ غير مقصود أو مقصود والمحاسبة أهم بألف مرة من الهروب إلى مقولات النزاهة المطلقة للقضاء .. ومن يرتكب أي خطأ يحاسب عليه حتى وان كان قاضيا .

التعليقات