حول دور الجيش العراقي في حرب 1948

حول دور الجيش العراقي في حرب 1948
حول دور الجيش العراقي في حرب 1948

كتبها الدكتور محمد عقل

اهتم بطباعتها أ.عبدالعزيز عرار أخذت عن كتابه المفصل في تاريخ عارة

دخول الجيش العراقي منطقة المثلث

في ليلة 10/5/1948 دخل جيوش الدول العربية أرض فلسطين لتحريرها. يقول عبد الله التّل إن الخطة العامة لهذه الجيوش كانت تقتدي بأن يلتقي الجيش العراقي والجيش السوري في حيفا، غير إن الجيش العراقي سارع إلى فك الحصار عن مستعمرة "غيشر" الواقعة بالقرب من جسر المجامع، وانسحب في 21/5/1948 إلى منطقة نابلس تاركاً الجيش السوري مكشوف الجناح الأيسر، وهو ما كان يرمي إليه غلوب باشا لضمان عدم التعرض للمواقع اليهودية الهامة مثل العفولة( ). بينما يرد في التقارير السرية لمخابرات إسرائيل أن القيادة اليهودية كانت، في ذلك الوقت، تخشى من قيام الجيش العراقي بالوصول إلى طوباس ومنها إلى جنين فاللجون ومهاجمة حيفا من الشمال؛ ومن قيام جيش الإنقاذ المرابط في المثلث الشمالي بمهاجمة حيفا من الجنوب عن طريق وادي الملح؛ أو ما أسمته بخطة فكيّ الكماشة( )، ولكن جيش الإنقاذ انسحب من المثلث( )، ولم يحدث ما كان متوقعاً.

تبنت القيادة العراقية فيما بعد الخطة المذكورة، وشرعت بالتحضير لها أكثر من مرة، ولكنها لم تخرجها إلى حيز التنفيذ( ). وهذا ومن الجدير بالذكر، أن إسرائيل بقيت حتى أواخر عام 1948م تخشى من اتحاد الجيش العراقي مع الجيش الأردني وقيامهما بتوسيع نفوذهما حتى حيفا( ). كان عدد أفراد الجيش العراقي آنذاك 2500 رجل( ). ثم بلغ عددهم نحو 4500( )، وزاد هذا العدد خلال الهدنة الأولى حيث بلغ 8000 رجل( ). في منتصف شهر تشرين أول 1948 بلغ عدد القوات العراقية 16000 رجل يرافقهم 2000 من المناضلين الفلسطينيين( ).

وطّد الجيش العراقي أقدامه في المثلث، حيث جعل قاعدته الرئيسية في نابلس ومحيطها( ) وبسط ذراعيه إلى جنين، طولكرم وقلقيلية وأقام فيها مراكزاً وقيادات( ). امتدّت الجبهة العراقية من جسر المجامع إلى جنين ومن مقبيلة إلى رأس العين ومجدل الصّادق، باستثناء قطاع صغير بين جنين وبيسان كان قد دخله الجيش الأردني( ).

كانت معنويات الجيش العراقي عالية جداً( )، ولكنها مع مرور الوقت انخفضت بسبب عدم تمكينه من المشاركة في القتال، إذ لم يتعدّ هذا الجيش حدود التقسيم، ولم يشتبك مع اليهود في أيّة معركة جدّية طوال مدّة الحرب، باستثناء الهجوم المعاكس الذي قام به فوج عراقي بقيادة المقدّم عمر على واسترد فيه مدينة جنين في 3/6/1948( ).

كان الجيش العراقي يعاني من مشكلتين رئيستين: الأولى عدم قيام حكومة العراق بتزويده بجميع ما يحتاج إليه من الأسلحة والعتاد، وهناك دلائل كثيرة على أن هذه الحكومة كانت تملك كميات كبيرة من الأسلحة رغم الخطر المفروض على تصدير السلاح إليها( )؛ والثانية كونه تحت إمرة عبد الإله وغلوب باشا، وقصة "ماكو أوامر!" مشهورة. كان لهاتين المشكلتين انعكاسات خطيرة على المناضلين الفلسطينيين الذي قام الجيش العراقي بتجنيدهم في إطار أربعة أفواج، كما سنبيّن ذلك لاحقاً.

وصول الجيش العراقي إلى منطقة وادي عاره

في الفترة الممتدة ما بين معركة كفرقرع ومعركة جنين واجهت اهالي وادي عاره مشاكل في الدفاع عن قراهم، أفرزتها ظروف المرحلة الانتقالية المرتبطة باستبدال جيش بجيش. إذ انسحب جيش الإنقاذ من يعبد وجميع قرى وادي عاره ما عدا عرعره التي بقي فيها عدد من الجنود العراقيين التابعين لجيش الإنقاذ. يبدو أن هؤلاء كانوا ينتظرون قدوم جيش بلادهم لينضموا إليه، فقد ورد في النشرة 28 للواء إلكسندروني أنهم كانوا يرابطون في المدرسة بسلاحهم الشخصي فقط بعد أن أُخذت منهم الرشاشات والراجمات، وكانت وظيفتهم حماية القرية والمدخل الغربي لوادي عاره ريثما يصل إلى المنطقة جيش جديد. وجاء في النشرة، كذلك، أن الجيش العراقي كان يرسل في كل ليلة أربع دبابات وأربعة مدافع للقيام بدوريات على شارع وادي عاره؛ فكانت ليلة تقف بجوار قرية عاره وليلة أخرى بجوار اللجون؛ ثم يعود ويسحبها في النهار على جنين عن طريق يعبد بهدف مساندة الأهالي في حالة قيام اليهود بهجوم( ).

في تلك الفترة كان مسعود الجزماوي يقود شاحنته ليلاً إلى عين السهلي بدون أضواء ثم يعود بها ومصابيحها مضاءة حتى يصل إلى عماير سويس، ثمّ بكر راجعا مع رفاقه وهكذا دواليك ... ليوهم اليهود المرابطين في جبهة كفرقرع بأنّ في عاره وعرعره قوات عربية كبيرة. هذا ومن الجدير بالذكر، أنّ العراقيين تعلموا، فيما بعد، هذه الحيلة الذكية وواظبوا على استعمالها( ).

يبدو أن الرئيس خليل جاسم العراقي كان قد وصل إلى عرعره في العشر الأواخر من أيار( )، إذ يؤكد عدد من الرّواة أنه قام في 3/6/1948 بنقل قسم من الجنود والمناضلين من عرعره للدفاع عن جنين؛ وعن ذلك يقول نائب عريف في سريّة الخطاف( ):

"احتل اليهود جنين وحاصروا حامية عراقية ومناضلين في عمارة الشرطة الواقعة عند المدخل الغربي للمدينة، في حين اجتازت دباباتهم العمارة متوغّلة في قواته إلى دير شرف متجهاً صوب طولكرم لمهاجمة كفار يونا, فلما سمع باللاسلكي استغاثات الحامية المحاصرة توجه للتو إلى هناك. في السهل المذكور جرت معركة ضارية بين الدبابات العراقية والدبابات اليهودية استشهد فيها عدد كبير من الجنود العراقيين, وقبورهم لا تزال قائمة وتسمى بقبور الشهداء ولهم هناك نصب تذكاري... تمكن المقدم عمر علي من دحر القوات اليهودية – وتحرير جنين – ولاحقها في سهل مقيبلة وصندلة فبدأ سكان العفولة بالرحيل... ولكن قيادته أمرته بالتوقف عن الزحف والانسحاب, فثارت ثائرته وأطلق النار على جهاز اللاسلكي وأخذ يشتم عبد الآله والقيادة العراقية, ولهذا السبب أعيد إلى العراق!".

وأضاف الرّواي: " خرج من عرعرة لنجدة جنين قسم من الجيش العراقي وعدد كبير من مناضلي عرعرة وعارة, حيث نقلتنا سيارات عسكرية عراقية عن طريق عين السهلي إلى يعبد ومنها إلى حفيرة عرابة على طريق جنين – نابلس. هناك علمنا بأن قوات المقدم عمر علي قد وصلت لإبلا جنين فلحقنا بها وبقينا في المدينة كقوة احتياط, ثم عدنا إلى بلدنا. المسؤول عنا كان شاويش عراقي. أما الرئيس خليل جاسم فلم يترك عرعرة لأنها كانت مُعرضة للهجوم بحكم وقوعها على الخط الأمامي للجهة.

المقدم عمر علي – من كركوك – جاء على رأس الفوج الثاني التابع لجحفل اللواء الخامس, ويعود له الفضل في إنقاذ ليس المحصورين فحسب بل جنين بأسرها. وقيل بأن اليهود, بعد هذه المعركة أخذوا يفكرون بتشكيل وفد منهم لإعداد حيفا مدينة مفتوحة( ).

ذكر لورك أنه أثناء الهجوم على جنين وقع هجوم محدود على عرعرة بهدف تخفيف الضغط على القوات اليهودية المنسحبة من جنين( )؛ غير أن رواتنا لا يذكرون وقوع هجوم كهذا ولعله وقع عند المدخل الغربي لوادي عارة.

بعد انتهاء معركة جنين وصلت, على الفور, إلى منطقة وادي عارة قوات عراقية لا بأس بها. في النشرة رقم 36 للواء إلكسندروني( ) ورد أنه في 4/6/1948 وصل إلى عرعرة جيش عراقي جديد في سيارات قدمت من أم الفحم, وقد طلب هذا الجيش من اللاجئين العودة إلى قراهم, فعاد في اليوم التالي الرجال إلى قرية عارة. انقسم الجيش الجديد إلى قسمين: الأول رابط في قرية عارة, والثاني رابط في أسفل قرية عرعرة. في كلتا القريتين حوالي 80 جندياً من الجيش العراقي النظامي ولهم قيادة مُوحدة, قائدهم ضابط عراقي برتبة ثلاثة نجوم, ولديهم: مًصفحتان, ست راجمات عيار 3" عقدة, عشرة برنات, سلاح شخصي من صنع إنجليزي, جهازا لا سلكي يُحملان على الظهر, وجهاز ثالث مُركب في مُصفحة. الاتصال مع أم الفحم, حيث تُوجد القيادة العليا, يتم بواسطة سيارات تحمل المؤن والذخائر. في برطعة ويعبد لا يوجد جيش عراقي, بينما وصل إلى أم الفحم جيش كبير. أهالي كفر قرع يستعدون للعودة إلى بلدهم وسيفعلون ذلك إذا ما دخلها جيش نظامي, وهم يجرون بشأن ذلك محادثات مع القيادة العراقية في أم الفحم.




يؤخذ مما رواه لفيف من الرّواة( ) أن الجيش العراقي, عندما وصل إلى منطقة وادي عارة, رفض دخول قرية كفر قرع لأنه تلقى أوامر بأن لا يجتاز الوادي شمالاً؛ ويُعزى الفضل في دخول هذا الجيش قرية عارة إلى محمد عبد القادر يونس (الملقب بالأفندي) الذي اتصل بالعقيد الركن غازي الداغستاني( ), وهو زميله أيام دراسته في بيروت, وهذا قام بدوره بزيارة عارة وترك فيها ثلاثين جندياً مع شاويش. بناءً على ذلك فإن عدد الجنود الذين رابطوا في عرعرة بلغ حوالي 50 جندياً, عيّن الداغستاني الرئيس خليل جاسم قائداً للقطاع الغربي من منطقة وادي عارة, وعين الرئيس نجيب حبوش قائداً للقطاع الغربي من منطقة وادي عارة, وعين الرئيس نجيب حبوش قائداً لأم الفحم والقطاع الشرقي حتى اللجون؛ وكلاهما برتبة ثلاثة نجوم( ). 

رسائل ولقاءات بين الرئيس خليل جاسم وقادة يهود

اتخذ الرئيس خليل جاسم المدرسة المشتركة في عرعرة مقراً له ولجيشه المكون من سرية عراقية. هناك بدأ بتنظيم القوات المحلية بحيث خصص للمتطوعين الفلسطينيين مدربا عراقيا اسمه – فتوح (فتاح), وعين لهم قائداً محليا وهو الملازم أول محمد عارف عبد الله يونس( ). يُروى أن علاقة العراقيين بالفلسطينيين كانت, في البداية, جافة ويشوبها الحذر الشديد, ولكن سرعان ما بدأ التفاهم والتعاون يسودان هذه العلاقة.

واصل لاجئو كفر قرع الذهاب, نهاراً, إلى بلدهم لأخذ حوائجهم ولجمع محاصيلهم من الحقول معرضين أنفسهم للخطر بسبب قيام اليهود بإطلاق النيران عليهم( )؛ لكن الجيش العراقي لم يحرك طوال شهر حزيران ساكناً لمنع حدوث مثل هذه الاعتداءات المتكررة ملقيا جل أعمال الحراسة في جبهة كفر قرع على المناضلين من أبناء عرعرة وعارة والقرى المنهارة. في فجر يوم 11/6/1948, وقبل دخول الهدنة الأولى حيز التنفيذ( ), قامت قوة يهودية صغيرة باحتلال قرية قنير ولم يفعل الرئيس خليل جاسم شيئاً لإنقاذها, رغم أن السرية العراقية والقوات المحلية كان بمقدورها صد أي هجوم يهودي يقع على هذه المنطقة, ذلك لأن جميع القوات اليهودية النظامية أرسلت إلى القدس, ولم يبق في المستعمرات الواقعة إلى غرب من كفر قرع سوى قوات محلية صغيرة مهمتها الحراسة فقط, وهي لا تشكل خطراً بتاتاً( ). بعد دخول الهدنة واصل اليهود إطلاق النار على فلاحي كفر قرع. حاول الرئيس خليل جاسم حل المشكلة بالطرق الدبلوماسية، حيث بعث في 12/6/1948 مع عربي، يحمل علماً أبيض، إلى الضابط المناوب في كفار غليكسون بالرسالة التالية( ):

يبدو أن اتصالاً قد جرى بين ضباط عراقيين وضباط يهود في مجدو في إطار عمل لجنة الهدنة المشتركة التابعة لهيئة الأمم المتحدة؛ ويبدو أن الرئيس خليل جاسم كان يخشى أن يقوم اليهود بنشر رسائلهم في الصحف ولذلك دأب على توقيعها باسم كابتن "خليب" بدلاً من خليل.

أما رد الضابط المناوب في كفار غليكسون فكان( ):

موافقة الضابط المناوب على بدء المفاوضات بشأن تحديد خط وقف إطلاق النار جاءت بعد استشارة قائد قطاع نفتالي( ) الذي، على ما يبدو، أوعز إليها بأن يظهر في بداية المفاوضات تشددا في طلبه، إذ جاء في رده بأن أراضي كفر قرع تعد منطقة محتلة تابعة لقواته. اعتبر رئيس خليل جاسم رد الضابط اليهودي غاية في الرقة واللطافة، فبعث إليه برسالة تتضمن موعداً محدداً للقاء تاركاً له تحديد المكان( ):

كان خليل جاسم حريصاً على إشراك ممثل عن الفلسطينيين في المفاوضات، كي لا يقال إنه يعقد صفقات من وراء ظهورهم أو إنه باع القضية. يبدو لنا أن قائد المقاتلين الفلسطينيين المذكور أعلاه هو الملازم أول محمد عارف عبد الله يونس الذي كان رجلاً مثقفاً ومديراً لمدرسة القبيبة سابقاً(2ب).

لم يحدد الضابط اليهودي المكان فحسب، وإنما حدد كذلك الزمان، وربما قصد أن يتم اللقاء في وضح النهار بمرأى من الفلاحين!:

في 14/6/1948 عقد اللقاء الأول ثم تلته لقاءات أخرى. عن ذلك يكون حاييم حرميش: "اجتمعنا تحت شجرة توت عند مفترق طريق أم الخروص". وضعنا على التلة الغربية، المسماه بالبريج حظيرة مسلحة لنا، وعلى التلة المقابلة وضع العراقيون حظيرة مسلحة لهم، حضر الاجتماع من الجانب اليهودي: أنا بصفتي قائد كفار غليسكون بن يامين وينتر مختار كيبوتس معانيت، بصفته المسؤول عن العلاقات مع القرى العربية، وأهارون جيبع قائد جبعات عاده؛ ومن الجانب العربي الرئيس خليل جاسم وآخرون. توالت اللقاءات في جو ودي للغاية. في إحدى المرات قدمنا لأعدائنا حليباً بارداً أما هم فقدموا لنا تمراً عراقياً طيباً. لحسن حظنا لم يكون خليل جاسم يتقن قراءة الخريطة، إذ بعد أن اتفقنا على خط فاصل بين حقول العرب وحقول اليهود قمنا برسم هذا الخط على خريطتين وقع عليهما الطرفان. خليل جاسم ظن أن الخط المرسوم يمر بين المقايل وتلة البريج. لكن تبين له، فيما بعد، أن الخط يمر بين المقايل وكفر قرع على مسافة بضع مئات من الأمتار من هذه القرية... بعد أيام قامت فصيلة من قواتنا بالسيطرة على تلة أم الخروص (المقايل). منذ ذلك اليوم كان بإمكاننا مشاهدة كل ما يجري في مقر القيادة العراقية في مدرسة عرعره( ).

في 21/6/1948 أصدر عوديد نائب قائد لواء الكسندروني لشؤون قوات الحراسة، أمراً إلى جميع قادة القطاعات بعدم تمكين الفلاحين العرب من جمع محاصيلهم الزراعية ليس فقط من الأراضي الواقعة داخل خط وقف إطلاق النار، وإنما من تلك الواقعة على مسافة 400 متر منه والقيام بأسر كل من يخالف هذا الأمر( ).

كل الدلائل تشير إلى أن اليهود احتلوا أم الخروص والمقايل في ليلة 21/6/1948؛ وأن ذلك كان مفاجأة تامة بالنسبة للرئيس خليل جاسم الذي سارع إلى إرسال رسالة إلى الضابط المناوب في كفار غليكسون طالباً الاجتماع إليه على عجل. اتفق الطرفان على عقد اللقاء في أم الخروص ولكن الوفد اليهودي لم يحضر. انتظر الرئيس خليل في المكان نحو ساعتين، فلما يأس بعث بالرسالة التالية إلى سيغهود الضابط المسؤول في خربة وادي عاره( ):

كان تسفي، قائد قطاع نفتالي، يرى أنه من المناسب وقف المفاوضات مع خليل جاسم ما دام احتلال الخروص والمقايل قد مر بدون رد من جانب العرب؛ في حين كان عوديد نائب قائد لواء الكسندروني لشؤون قوات الحراسة، معنياً باستمرارها وعين شخص اسمه شمشمون لإدارتها( ).

ميوعة خليل جاسم أثناء المفاوضات وعدم رده على احتلال المقايل جعلا اليهود يستهترون به وبقواته، إذ ذكر حاييم حرميش أنه لما تقرر احتلال أم الخروص والمقايل، تلقى أمراً من قيادته بإخلاء النساء والأولاد والحيوانات من كفار غليكسون ولكنه رفض تنفيذه( ).

توجه خليل جاسم إلى سيغهود، قائد خربة وادي عاره يدل على أنه كان قد تعرف عليه في اجتماع سابق أما رد هذا القائد فكان( ):

في اللقاء الذي عقد بين الطرفين فشل الرئيس خليل جاسم في إقناع اليهود بالتخلي عن المقايل وأم الخروص؛ فتوجه بشكوى إلى لجنة مراقبة الهدنة التابعة لهيئة الأمم المتحدة. عن ذلك يقول حاييم حرميش: "عدنا والتقينا تحت شجرة التوت. في هذه المرة جاء إلى الاجتماع مراقبان بلجيكيان من هيئة الأمم المتحدة وطلبا منا الانسحاب من أم الخروص؛ فأخرجت خريطتي الموقعة وأخرج خليل جاسم خريطته، فإذا الخط الأحمر الذي كان مرسوماً على خريطته قد مُحي وآثاره لا تزال عالقة، ورسم بدلا منه خط آخر جديد فلما فحص المراقبان الخريطتين، حكما لنا بأم الخروص والمقايل. اتخذ العرب لهم مواقع قبالتنا ولكنهم على مدار عدة أسابيع لم يطلقوا علينا أية طلقة في إحدى الليالي زرعنا ألغاماً، وفي الصباح داس جندي عراقي على أحدهما وترك هناك رجله. أخلى العرب موقعهم فقمنا باحتلال خربة الصندحاوي. كل ذلك ساعدنا عند توقيع اتفاقية رودس مع الأردن، حيث نجحنا في ضم كل منطقة وادي عاره لإسرائيل( )".

عدم قيام الجيش العراقي بالرد على احتلال أم الخروص والمقايل اعتبر في نظر الفلسطينيين خيانة وخلق لديهم إحباطاً، ولكن أحدا منهم لم يجرؤ على توجيه أصابع الاتهام إلى خليل جاسم( ). إزاء ذلك أرسل الأخير عددا من جنوده ليرابطوا مع المناضلين في كفر قرع وخمس مصفحات ثقيلة مزودة بمدفعين للقيام بدوريات فيها( ). كما أنه عمل جاهدا على زيادة عدد المتطوعين الفلسطينيين وتكثيف تدريبها.

المناضلة

واصلت قوات الهاغاناه زرع الألغام وبث القذائف في الحقول والطرقات وبجوار عيون المياه القريبة من خطوطها، فكانت تنفجر في الفلاحين. في ربيع عام 1948 ذهب طه أمين خليل يونس وزوجته عريفة وابنته آمنة وأديب أسعد سلامة يونس إلى الروحا لزراعة نبات السمسم. وجد أديب عند عين وردة قذيفة لها فراش، فأخذ يعالجها ويلهو بها فنهاه طه عن ذلك فلم يكف، إذ انفجرت القذيفة في يديه فاستشهد من فوره وتناثرت أشلاءه، واستشهدت زوجه طه التي أصيبت في خاصرتها، وجرح طه في قدمه فصار معاقاً.

في شهر حزيران أصدرت القيادة اليهودية أمراً بعدم تمكين الفلاحين العرب من حصد حقولهم الواقعة على مسافة 400 متر من خط وقف إطلاق النار؛ كما قام الفلاحون اليهود بحصد ما أمكنهم من حقول العرب( ). هذا الأمر كان من شأنه أن يلحق أضراراً بفلاحي عاره، عرعره وأم الفحم. روى لنا أبو طلعت( )، قال: " في أحد الأيام جاء دأب الصوت إلى قرية عاره يصيح بأن اليهود يحصدون القمح في حقول بلدنا في الروحا، فذهبت إلى هناك مع إبراهيم أبو هلال، وكان مع كل واحد منا بندقية، وبالفعل شاهدنا ماكينات الحصاد -التي تجرها الخيول- تحصد حقلا بالأرض المسماه بالعبهرية، فأخذنا نطلق النار عليها من بعيد، فرد اليهود علينا بالمثل؛ وهرع المسلحون من عاره، عرعره وأم الفحم إلى المكان فهرب اليهود إلى داخل مستعمرة خبيزة (جالعيد)( ). أخذ العرب يهاجمون المستعمرة بقصد احتلالها، حيث قام محمود حسين أبو العيلة الذي استحكم في الخربة الواقعة بالقرب من دير أبو حجوة، بإمطارها بوابل من الرصاص من رشاشه المشهور بالبرن، بينما نجح مناضلو أم الفحم في الوصول إلى أسلاكها؛ لكن جنود الرئيس خليل جاسم أوقفوا الهجوم بحجة "ماكو أوامر!"؛ فعدنا أدراجنا مرغمين".

بعد احتلال أم الخروص والمقايل أصبح الدخول إلى كفر قرع مغامرة خطرة جداً. الفلاحون تركوا حقولهم في الناحية الغربية( ). أما في الناحية الشمالية، فكان هؤلاء يتعرضون لنيران القناصة من قنير ومحيطها ولانفجار الألغام التي ما انفكت قوات الهاغاناه تغرسها... ولكن بسبب الفاقه والعوز كان هلاء يضطرون إلى المجازفة بأرواحهم، مما أدى إلى جرح واستشهاد عدد كبير منهم( ). حدثنا أبو عصام( )، قال: "في شهر آب 1948 بدأ فلاحو كفر قرع بجمع محصول التنباك. في أحد الليالي ذهب إلى الجهة الشمالية من القرية إبراهيم أسعد مصالحة وعوض عبد الرازق موسى اسماعيل لإحضار تنباك من خربة العداسي( ). لما اجتاز عوض الوادي ثار به لغم فقتل على الفور. علا الصراخ وارتفع أصوات طلب النجدة، فذهبت مع من ذهبوا إلى هناك، فوجدت جمعاً من الرجال يحاولون جر جثة الشهيد؛ وكان من بين الحاضرين محمود جبر مصالحة الذي طلب منهم التريث للتأكد من عدم وجود لغم آخر، إلا أن أحدهم رفض ذلك قائلا: الله أكبر! أفقدتم دينكم! بعد ثوانٍ ثار لغم آخر فعلا غبار كثيف وساد صمت رهيب فصاح الجريح وهو محمد الحاج أحمد مصالحة: أغيثوني يا ناس! فحملوه ونقلوه إلى قرية عاره ومنها إلى نابلس؛ وتركوا جثة الشهيد... في الصباح الباكر جاء أقاربه: زوجته وأخوه وزوجه من عين السهل وخور الصقر إلى مكان الحادث، فثار بهم لغم أدى إلى قتل زوجة الشهيد وجرح الآخرين. ظلت الجثتان في المكان ثلاثة أيام، ثم تطوع فريق من سكان القرية لإحضارهم وكنت واحد من بينهم...".

في تلك الفترة حظر الجيش العراقي على أهالي كفر قرع الذهاب إلى بلدهم ما عدا في يومي الاثنين والخميس، ثم حظر ذلك نهائيا لأسباب أمنية.

وصل إلى عرعره وعلى مراحل آلاف اللاجئين من: كفر قرع، قنير، بريكة، السنديانة، صبارين، أم الشوف، خبيزة، عرب حديدون، الجاعونة، اجزم، عين غزال، جبع، عين حوض، طيرة الكرمل، وغيرها. أكرم أهالي عاره وعرعره ضيوفهم وأحسنوا وفادتهم وتقاسموا معهم ليس فقط مساكنهم وإنما كذلك لقمة العيش. لقد بذلوا قصارى جهدهم في تخفيف المحنة وفعلوا ما عجزت عنه، آنذاك، حكومات عربية! ولكن نتيجة لتفشي البطالة وتعطل كثير من الأعمال أخذ الأهالي، هم كذلك، يعانون من الفاقه والعوز. في تلك الأيام اضطر قسم منهم واللاجئون إلى التوغل في المناطق التي احتلها اليهود لقطف الذرة وجمع الغلة من الحقول المتروكة في قرى الروحا وجبال الكرمل معرضين أنفسهم للتهلكة؛ وليس بالصدفة أن أطلقوا على ذلك اسم "مناضلة". القيادة اليهودية حاولت منع هذه المناضلة بوسائل عدة منها نصب الكمائن، زرع الألغام، حصد ما يمكن حصده من الحقول وإتلاف ما تبقى منها كل ذلك لمنع العرب من جمع محاصيلهم، إذ كانت تخشى من أن يؤدي ذلك إلى عودة اللاجئين إلى قراهم( ).

ما انفك اللاجئون يحاولون إحضار أمتعتهم وحوائجهم من قراهم المحتلة. وكم من مجازف ذهب حاملا روحه على كفيه، ولم يعد... قام سكان عاره وعرعره لتقديم المساعدات لهم وقد دفع بعضهم حياته ثمناً لذلك. يروى أن أحد اللاجئين كان قد استأجر جملين لمحمود محمد أبو شيخة الملقب بالبشاتي، ليحضر له من صبارين( ) أثاث منزله، فسار محمود إلى هناك ولكنه لم يعد إلى البلد حيث استشهد على بيادرها. وانفرد نائب عريف في سرية الخطاف( ) بقوله: إن الجيش العراقي اعتاد أن يستأجر جملين أو ثلاثة ويحملها بالذخائر ويرسلها إلى قرى الكرمل الصامدة. في أحد المرات أرسل ذخيرة إلى عين غزال على جملين لمحمود محمد أبو شيخة، فسار الرجل ولكنه لم يعد إلى بلده واختفت آثاره، فخرج الأهالي للبحث عنه. قال الراوي المذكور: وجدنا جمليه بلا ذخيرة بالقرب من بير أم الشوف وشممنا رائحة تنبعث من البئر، ويبدو أن اليهود قد نصبوا له كميناً على بيادر أم الشوف إذ كانت هذه القرية قد سقطت في أيديهم من قبل فاستشهد ولم يكن معه آنذاك أحد".

تأسيس سريتي الخطّاف وظفر

عند بدء المناوشات بين العرب واليهود كانت في كل قرية من قرى وادي عاره قوة حراسة محلية تعمل وفق نظام التناوب (الدور). لما دخل جيش الإنقاذ المنطقة لم يحدث تغييراً على هذا النظام، إذ بقيت قوات الحراسة المحلية تعمل إلى جانبه دون أن تصبح من ناحية تنظيمية جزءاً منه( ). يقول نائب عريف في سرية الخطّاف( ): "في البداية كان قوة حراسة الأبناء عاره وعرعره لما جاء جيش الإنقاذ وكان قليلي العدد، بقي الوضع على ما كان عليه. إذ لم ينخرط أحد منا في صفوف هذا الجيش وإنما عملنا إلى جانبه. كنا نحرس في الربايا؛ السلاح منا والمصروف على حسابنا".

من أهم المشكلات التي واجهت الجيش العراقي عند دخوله منطقة المثلث كانت عدم قدرة قوات الحراسة الفلسطينية -العاملة في القرى وفق نظام التناوب والتي كان ينقصها التدريب والسلاح والذخيرة- على الصمود أمام هجمات يهودية واسعة النطاق؛ في حين لم يكمل هذا الجيش بعد انتشاره في الجبهة التي بلغ طولها 160كم؛ ناهيك عن أنه كان لا يزال قليل العدد. هذه الفترة يمكن تسميتها بالفترة الحرجة( ).

بعد معركة جنين اتخذت القيادة العراقية إجراءات وخطوات، أدت وعلى مراحل إلى إحداث تغييرات جذرية في مبنى القوات الفلسطينية المدافعة عند المثلث. وإذا كانت هذه القيادة قد شرعت بتكوين المبنى الجديد مضطرة فإنها واصلت طوال تواجدها في فلسطين تطويره وتحسينه رغم العقبات والصعوبات الجمة الداخلية أو الخارجية. ذلك لأن هذا المبنى مكنها من الاحتفاظ بمعظم الجيش العراقي النظامي في الخطوط الحربية ومنحها فرصة نقله من مكان إلى آخر وفقا لمتطلبات المعركة، ملقية على كواهل المناضلين الفلسطينيين يرافقهم أحيانا، عدد قليل من الجنود العراقيين مهمة المرابطة في الخطوط الأمامية والدفاع عنها( ). أما هذه التغيرات فكانت:

1. تقسيم المثلث إلى مناطق وتلك إلى قطاعات، ومنح القائد العراقي في كل قطاع صلاحيات الحاكم المطلق، بحيث لم يكن هذا القائد مسؤولا عن إدارة الشؤون العسكرية فحسب وإنما كذلك مسؤولا عن إدارة الشؤون المدنية( ). في إطار هذا التغيير أصبحت جميع القوات المحلية وقياداتها تحت إمرة القائد العراقي وأصبح اللجان القضائية –التي كانت قائمة في القرى لإدارة الشؤون المدنية- عسكرية تعمل تحت إشرافه.

وفقا للمبنى الهرمي المتبع في قيادة الجيوش، كانت قيادة منطقة وادي عاره تابعة للقيادة المتواجدة في يعبد وقباطية، وتلك تابعة لقيادة جحفل اللواء الرابع في جنين فالقيادة العليا في نابلس. كما أن منطقة وادي عاره قسمت إلى قطاعين( ):

أ‌. القطاع الغربي الذي شمل كفر قرع، عاره، عرعره، عين عين السهلي، برطعة وخربة أم القطف. كان قائد هذا القطاع الرئيس خليل جاسم العراقي الذي أقام في عرعره واتخذ المدرسة المشتركة مركزا له ولجنوده. كما أنه جعل اللجان القضائية في عرعره، عاره وبرطعة عسكرية تعمل تحت إشرافه.

ب‌. القطاع الشرقي الذي ضم أم الفحم، رمانة، معاوية، مصمص، مشيرفة، البياضة واللجون. كان قائد هذا القطاع الرئيس نجيب عبوش العراقي الذي اتخذ أم الفحم مركزا له ولجنوده( ).

2. خلق اطر خاصة بالفلسطينيين في داخل الجيش العراقي وحث شبابهم على الالتحاق بها سواء كان ذلك بالترغيب أو بالترهيب؛ وفي عدد من تقارير الجيش الإسرائيلي ورد أنه في 21/6/1948 قدم من نابلس إلى أم الفحم قائد عراقي كبير وطلب من سكانها تسليمه 300 شاب ليقوم بتدريبهم في الجيش؛ وأعلن بوضوح أنه إذا لم يجد متطوعين فإنه سيصدر أمراً بالتجنيد الإجباري وسيختار من بين الشباب من يراهم ملائمين لسلق الجندية. كما وصل إلى اجزم، عين غزال وجبع ضابط عراقي وطلب 100 شاب لنفس الغرض( )؛ وورد كذلك، بأن الناس في أم الفحم قسمان: قسم تطوع للخدمة في الجيش عن طيب خاطر وبحماس، وقسم تطوع بعد ضغوطات( ). في المدرسة المشتركة (الإعدادية) في عرعره أقام الجيش العراقي دورات مكثفة لأبناء عرعره، عاره وكفر قرع شملت تدريبا على استعمال السلاح وفنون القتال الميداني، وانتهت كل دورة بعرض عسكري وبمناورة الذخيرة الحية( ). كذا كان الأمر في أم الفحم. حتى نهاية شهر حزيران تخرج من هذه الدورات 62 شاباً من أبناء عاره وعرعره، 15 شاباً من أبناء كفرع قرع و48 شاباً من أم الفحم( ).

يبدو أن القيادة العراقية نجحت حتى بداية شهر تموز في إنشاء سريّة كاملة في عرعره ذات كفاءة عالية، قادرة ليس فقط على الدفاع وإنّما، كذلك، على الهجوم. إذ قام أبناء عرعره، عاره وكفر قرع بهجوم على خربة وادي عاره في 10/7/1948 بدون اشتراك الجيش العراقي. في حين سحب هذا الجيش من منطقة وادي عاره في الفترة الواقعة ما بين الهدنتين للدفاع عن جنين ولم يبق إلا الرئيس خليل جاسم وستة من جنوده في يعبد( ).

سميت السرية التي أقيمت في عرعره باسم سريّة الخطّاف نسبة إلى جبلها الأشم. عين الملازم أول محمد عارف عبد الله يونس قائداً لها ونائباً للرئيس خليل جاسم. كانت سريّة الخطّاف مكوّنة من ثلاث فصائل، لها ثلاثة ضباط برتبة ملازم ثان( ).

انضم إلى سريّة الخطّاف عدد من أبناء القرى المنهارة، مثل: صبارين، قنير، خبيزة، أم الشوف والسنديانة؛ إلا أن عدد جنودها لم يتجاوز المائة إلاّ بعد انهيار مثلث الكرمل: إجزم، عين غزال وجبع... هذا ومن الجدير بالذّكر، أنّ سريّة الخطّاف لم تكن خلال شهري حزيران –تموز 1948 مرتبطة بأيّ فوج فلسطيني، ذلك لأنّه بُدئ بتأسيس فوج الكرمل فقط في شهر آب( ).

أما في أم الفحم فقد تكونت خلال شهري حزيران – تموز سرية سميت باسم ظفر( ). يبدو أن عدد أفرادها، هي الأخرى، لم يزد على المائة إلا بعد سقوط مثلث الكرمل وقدوم آلاف اللاجئين إلى منطقة وادي عاره( ).

عين الرئيس خليل جاسم فتوحا (فتاحا) –وهو عريف من أصل كردي- مدربا لسرية الخطّاف وخصص لكل جندي راتباً شهريا مقداره 6 ليرات وذخيرة. في البداية انضم إلى هذه السرية –كل من كان يملك سلاحاً. يبدو أن الجيش العراقي زود قسما من المتطوعين الجدد بأسلحة، إلا أنه لم يكن يملك الكمية اللازمة لتسليح الجميع، فرح يشترط على الراغبين في الانخراط في سرية الخطّاف شراء بنادق على نفقتهم الخاصة( )؛ فعلى سبيل المثال: اشترى صالح عبد الكريم أبو عقل بندقية لابنه أحمد الذي تدّرب مدة عشرة أيام ثم استبدله أخوه محمد؛ واشترى خليل مصطفى سالم أبو غوش بندقية ليلة استشهاده في معركة دار العبد أبو ساري بالقرب من قنير (في 28/7/1948).

خلال شهر حزيران قامت القيادة العراقية كذلك بإلزام كل حمولة في عرعره بجمع الأموال لشراء سلاح ثقيل للدفاع عن البلد، ريثما تصل الإمدادات من بغداد. فعلى سبيل المثال، ألزم دار أبو عقل بجمع مبلغ كبير من المال اشتروا به رشاشاًَ من نوع برن، كان يستخدمه أبو غالب أحمد سالم حسين أبو عقل طوال مدة خدمته العسكرية في سريّة الخطّاف، وكان ملكاً خالصاً له ولأهله، وقد استعمله في معركة دار العبد أبو ساري بالقرب من قنير، وفي معركة القصر، وفي معركة عين غزال وغيرها من المعارك التي خاضها ببطولة وبسالة. شكلت سريّتا الخطّاف وظفر النواة الأولى لفوج الكرمل الذي سنخصص له بابا خاصّاً.

3. تأسيس قوة حراسة مساعدة للسرايا الفلسطينية والجيش العراقي يناط بها القيام بحفر الربايا والاستحكامات ومساعدة الجنود أثناء الحراسة. هذه القوة كانت تعمل وفق نظام التناوب (الدور) ولم يحصل أفرادها على رواتب( ). في عرعره كان يرئسها ضباط سرية الخطّاف، غير أنه بعد تأسيس فوج الكرمل أصبحت هذه القوة تحت إمرة الرئيس خليل جاسم المباشرة الذي انتقل معها إلى عاره( ).

حدثنا نائب عريف في سريّة الخطّاف( )، قال: "كان رجال هذه القوة يدربون على حمل السلاح مدة أسبوع أو أكثر، ثم يوزعون على الخطائر لحفر الربايا والقيام بمساعدة الجنود أثناء الحراسة. بلغ عددهم في عاره 40 رجلاً، وقد أطلق عليهم الرئيس خليل جاسم اسم رجال الإس- إس (s.s). في أحد الأيام، أثناء تغيب الرئيس خليل جاسم عن البلد، أعلن هؤلاء الإضراب ولم يخرجوا للحراسة احتجاجا على عدم الإنصاف والمساواة في توزيع الأدوار، إذ كان المسؤول عن التوزيع يحابي البعض ومنحرفاً عن العدل. لم يكن باستطاعة ضباط سرية الخطاف معاقبة المضربين، فلما عاد الرئيس خليل جاسم إلى البلد استدعاهم إلى المدرسة وأمر بضربهم ضرباً مبرحاً بالفلقة". جميع هؤلاء كانوا يستدعون للخدمة على الفور ي حالات الطوارئ، أو ما كان يسمى بالنفير العام. إضافة إلى ذلك، كان يجند جميع الرجال في عرعره لرصف الطرق وإصلاحها وفق نظام الدور( ). كان المسؤول عن ترتيب الأدوار سعيد حسن يوسف، وينوب عنه أخوه الذي كان لا يعفي أحداً حتى المريض، إلا إذا دفع له عشرة قروش. التلاعب في توزيع الأدوار أدى في كثير من الأحيان إلى مشاحنات بينه وبين الأهالي؛ أما من واصل الاعتراض على قراره فكان جسين الدرزي وعدد من الجنود يلقون القبض عليه ويزجون به في المقهى الذي كان عند الصوامع (عند مدخل عرعره الرئيسي) بعد أن يوسعوه ضرباً ولكماً. وكم من مرض اعترض الملازم أوّل محمد عارف عبد الله يونس بشدة على مثل هذه الإجراءات التعسفية!. الأخير كان يحظة باحترام الجميع ويحبهم.

4. عندما قل عدد جنود الأفواج الفلسطينية ضمت القيادة العراقية سرية عراقية إلى كل فوج. أبوب هذه السرية كانت مفتوحة أمام الفلسطينيين بحيث كان المتطوع يخدم في إطار الجيش العراقي مباشرة ويحصل على راتب شهري، ذخيرة وملابس( ). انخرط قسم من أبناء عاره وعرعره في هذه السرية، بينما كان معظمهم ينخرط في سرية الخطَاف( ).

لم يكن بالإمكان التمييز بين الجنود الفلسطينيين والجنود العراقيين إلا من خلال اللهجة وبعض المظاهر البسيطة. في عرعره كان يُمكن التعرف على جنود سرية الخطّاف من خلال ملابسهم الجديدة( ), وفي أم الفحم كان يُمكن التعرف على جنود سرية ظفر من خلال المقامط البيضاء الأمريكية الواقية لأرجلهم( ).

معركة خربة وادي عاره

تقع خربة وادي عاره عند الطرف الجنوبي لمدخل وادي عاره الغربي. كانت أراضيها مُلكاً لآل عبد الهادي من عرابة. في عام 1926 باع نظمي عبد الهادي للقيرن – قيمت من مساحة ثلاث عشرة قطعة, أو ما مقداره 1621 دونماً؛ لكن الأرض لم تفرز وبقيت مشاعاً مشتركاً. حاولت القيرن – قيمت تجميع الأراضي التي اشترتها بواسطة فرز الأرض لكن عوني وفؤاد وعفيف أبناء نظمي المذكور أعلاه عارضوا ذلك بشدة. في عام 1936 أقام عوني دعاوى قضائية ونجح في إبقاء الأراضي مشاعاً وبذلك قلل من حصة القيرن – قيمت. كما أنه سمح لأبناء عرب التركمان بالتخييم في أراضي آل عبد الهادي واستغلالها( ). في عام 1947 قام فؤاد عبد الهادي بتسجيل حِصته باسمه في الطابو, أي وافق على فرز ثلاث قطع, مما أدى إلى غضب أخيه عوني منه وإلى توتر العلاقات بينهما( ).

إلى الغرب من خربة وادي عاره انتشرت المئات من خيام عرب التركمان, في عام 1945 بلغ عدد سكان الخربة 230 شخصاً( ), وكان لهم مختار من كفر قرع اسمههه سعد عبد الرحمن زحالقة. كانت لعفيف عبد الهادي فيها دار كبيرة لا تزال آثارها قائمة حتى يومنا هذا, وعلى أرضها أقيم في 10/5/1949 كيبوتس برقائي( ).

في ليلة الهجوم على كفر قرع (7-8/5/1948) احتل اليهود خربة وادي عاره( ). أغلب الظن أنهم واصلوا الاحتفاظ بها, إذ أثناء الهدنة الأولى كان لهم فيها استحكام منيع ومحاط بأسلاك شائكة( ).

في صباح اليوم التالي لانتهاء الهدنة الأولى( ) قام العرب بشن هجوم عنيف على الاستحكام المذكور أعلاه. في البداية اعتقدت قيادة لواء إلكسندروني بأن الهجوم قد تم على يد فصيلة من الجيش العراقي( )؛ لكنها في نشرتها الثالثة والستين( ) ذكرت أن الذين قاموا بهذا الهجوم هم 40 مسلحاً من أبناء عاره وعرعره, يعلم الرئيس خليل جاسم, ولكن بدون أية مساعدة من الجيش العراقي؛ وجاء في النشرة كذلك بأن المهاجمين كانوا قد أنهوا دورة للتدريب العسكري, من تلك الدورات التي كان يقيمها مدربون عراقيون لأبناء المنطقة في المدرسة المشتركة, تشمل استعمال بنادق وبرنات وضروباً من القتال الميداني وعروضاً رسمية وتنتهي بمناورة بالذخيرة الحية. يبدو لنا, أن الاعتقاد بأن الهجوم قد تم على يد القوات العراقية مرده إلى عنف ذلك الهجوم وشدته؛ أما التراجع عنه فكان بسبب المعلومات التي تفيد بأن الجيش العراقي انسحب من عرعره لحماية جنين,ولم يبق سوى الرئيس خليل جاسم وستة من جنوده فقط في يعبد( ).

حدثنا أبو أسعد( )، قال: "وصل خبر بأن الهدنة ستبدأ في الساعة التاسعة صباحاً، فأصدرت القيادة أوامر لنا بالخروج ليلاً إلى المناطق المتاخمة باليهود وإيقاد النيران، وأن نهاجم إذا اقتضى الأمر لتحسين مواقعنا قبل دخول الهدنة حيز التنفيذ. فذهبت مع جماعة من أبناء بلدنا إلى المنطقة الواقعة إلى الشرق من قنير وأوقدنا ناراً؛ بينما ذهب محمد رشيد يونس مع جماعة أخرى إلى المنطقة الواقعة بالقرب من ظهر الفرّ حيث هاجموا خربة وادي عاره؛ وقد سمعت أن اليهود طخّوا محمد عند الأسلاك ولم يعد إلى بلده". وروى لنا نائب عريف في سريّة الخطّاف( )، قال: "كانت خربة وادي عاره ملكاً لعفيف عبد الهادي وله فيها دار كبيرة، فهرب منها خوفاً من اليهود الذين أقاموا على أرضها مستعمرة برقائي وأحاطوها بأسلاك شائكة. قرر أهالي عاره, عرعرة وكفر قرع مهاجمة خربة وادي عاره لإخراج اليهود منها وإعادتها إلى صاحبها, فخرج من المدرسة المشتركة حوالي 50 مناضلاً. قال الراوي: " لما اقتربنا من الخربة بدأنا بإطلاق النار فرد الحراس علينا بالمثل, وسمعت محمد رشيد يونس يصيح الله أكبر! وهو أول من اقتحم الأسلاك الشائكة, فأطلق الحراس عليه النار فأردوه قتيلاً. استمرت المعركة من الضحى وحتى المساء وحينئذ انسحبنا. وفي اليوم التالي ذهب مسلحون للبحث عن جُثة محمد فلم يجدوا لها أثراً".

أخبرني أبو نضال( ) أنه, بعد انتهاء الحرب, سأل المسؤولين في برقائي ومعانيت عن جثة أخيه فأكدوا له بأنهم لم يعثروا على أية جُثة لعربي في المنطقة!.

حدثتنا الحاجة أم يعقوب( ), قالت: " قام أبناء عاره وعرعره وكفر قرع بهجوم على برقائي التي كانت تسمى خربة وادي عاره. استشهد محمد رشيد يونس ومناضل آخر من كفر قرع. بعد انتهاء الحرب سافرت مع زوجي إلى برقائي لإحضار بعض الأشياء في سيارتنا, وهناك قال لنا أحدهم: وجدنا على الأسلاك جُثتين, إحداهما لشخص يلبس ملابس فخمة, فتركناهما حتى يأتي زملاؤهم فنقضي عليهم, فلمّا تحللتا قمنا بحرقهما! وتؤكد الحاجة المذكورة أنها شاهدت هي وزوجها ما تبقى من العظام عند الأسلاك.

ذكر ابن كنعان, مستنداً إلى رواية بعض معارفه في عاره( ), أنه في عملية قام بها العرب بالقرب من مستعمرة برقائي قُتل محمد رشيد سلامة من عرعره وعبد(؟) من كفر قرع. يعتقد أبو عصام( ) أن عبد المذكور أعلاه هو عبد الرحمن محمود عثمانة أبو شاهين, وأن إبراهيم صالح أبو ليل استشهد في معركة ميسر.

جميع الدلائل تشير إلى أن العميلة المذكورة هي التي قام بها المناضلون العرب في 10/7/1948, ففي تقرير لقائد استحكام رقم 5 في خربة وادي عاره إلى رئيسه( ) جاء ما يلي:

في 12/7/1948 بعث قائد منطقة رقم 2 إلى قائد هشومرون (نفتالي) بالكتاب التالي( ):

ليس لدينا أدنى شك في أن الشهيدين المذكورين أعلاه هما محمد رشيد سلام يونس وأبو شاهين عبد الرحمن محمود عثامنة. أما عدم الإفصاح عن كيفية دفنهما، فإنه يثير تساؤلات عدة!.

فيما بعد اكتشفت جثة ثالثة، إذ ورد في النشرة الرسمية للواء الكسندروني، الصادرة في 15/7/1948، أنه بعد جولات في مكان المعركة عثر على ثلاث جثث لقتلى عرب( ). يبدو لنا أن إبراهيم صالح أبو ليل استشهد في معركة خربة وادي عاره وليس في معركة ميسر( ).

ورد في النشرة 69 للواء الكسندروني( ) أنه في 18/7/1948 وصل إلى عرعره 180 جندياً عراقياً ومعهم المعدات التالية: 6 راجمات عيار 2" عقدة، 3 راجمات عيار 3" عقدة، 3 مدافع تجرها سيارات، 14 رشاشا من طراز برن ورشاش آخر، 12 سيارة مجنزرتان، سيارتا جيب وثلاث دراجات نارية. وورد أيضاً أن قدوم السريتين العراقيتين ربما جاء تحسبا من قيام الجيش الاسرائيلي بالرد وأن العراقيين يحافظون على سرية تواجدهم في المنطقة الممتدة من عرعره إلى يعبد, إذ لا يقومون بأية تحركات عسكرية طوال النهار، كما أنهم حظروا إطلاق ولو طلقة واحدة في القرية والمنطقة بأسرها.

يبدو لنا أن الرئيس خليل جاسم ليس فقط لم يخطط للهجوم على خربة وادي عاره وإنما لم يكن على علم مسبق به. ما يدعم رأينا الرواية التي تفيد بأن الهجوم تم في أعقاب مشادة كلامية حادة جرت في المدرسة المشتركة بين محمد رشيد يونس وأبناء الحاج سعيد خليل يونس حول المواقف الوطنية الصادقة وانتهت إلى ما يشبه التحدي.

بعد معركة خربة وادي عاره استمرت المناوشات بين العرب واليهود، حيث كان العرب يقومون بقصف معانيت ومطار عين شيمر بالمدافع ويقوم اليهود بقصف خربة ميسر، باقة الغربية وخربة بورين( ).

بناء على قرار لمجلس الأمن أعلن أن الهدنة الثانية ستدخل حيز التنفيذ اعتبارا من الساعة الخامسة من مساء يوم الأحد الموافق 18/7/48( ). في صباح ذلك اليوم حاول اليهود احتلال مواقع جديدة حيث احتلت قواتهم الباطن الغربي وتقدمت نحو خربة ميسر لاحتلالها فقاومها المناضلون المتواجدون في خربة أم الذياب في تقرير لقائد قطاع نفتالي( ) ورد أنه في الساعة العاشرة بدأ العراقيون بقصف مستعمرة معانيت بالمدافع، في حين قامت طائرتان لهم بقصف مواقع في محيطها. في الساعة الثانية عشرة والنصف التحم العراقيون والمناضلون وجها لوجه بالقوات اليهودية في الباطن الغربي مما اضطر هذه القوات إلى الانسحاب مع جرحاها إلى معانيت( ). في الساعة الثانية عادت الطائرات العراقية لقصف المنطقة من جديد( )، كما حاول العرب اقتحام المستعمرة ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك. في الساعة الثالثة والثلث نصب العرب مدفعاً ثقيلاً وبدأوا بقصف معانيت مما اضطر سكانها إلى دخول الملاجئ، ولم تبق فيها مقاومة إلا من برج الحراسة (الحاووز) حيث نصبت هناك رشاشات أعاقت تقدم العرب المهاجمين. في الساعة السابعة مساءا توقف القصف المدفعي وبعدها بقليل توقف إطلاق النار. كان التوقيت الصيفي المتبع في إسرائيل يزيد ساعتين على التوقيت العربي( )؛ وعليه فإن القصف المدفعي توقف تماماً عند دخول الهدنة حيز التنفيذ.

حدثنا المناضل أبو أنور أسعد عمارنه( )، قال: " لما هاجمنا معانيت دخل سكانها الملاجئ وبقي عدد من المحاربين اليهود في الحاووز يقاومون. طلب القائد العربي الذي كان معنا باللاسلكي من المدفعية، الموجودة في شمال باقة الغربية ضرب هذا الحاووز فسقطت القذيفة الأولى على بعد متر واحد إلى يمينه فطلب القائد من رامي المدفعية أن يصوب متراً واحداً إلى اليسار ولكن القذيفة وقعت أمامه( )، فصرخ القائد أن اضرب الحاووز! ولكنه سمع باللاسلكي عبارة (ماكو أوامر)، أي لا توجد أوامر… فانسحبنا من معانيت".

وأردف أبو أنور قائلاً: " في أحد الأيام قدم مسؤول عراقي كبير اسمه فرهود لزيارة الجبهة فانتدبت لمرافقته في جولة تفقدية للخطوط الأمامية في منطقة باقة وميسر فلما وصلنا إلى الاستحكام الواقع مقابل مستعمرة معانيت رفع يده محيياً الجنود اليهود فرفعوا رؤوسهم من استحكامهم وأخذوا يلوحون له بأيديهم؛ ثم غادر إلى عرعره حيث قام هناك مع خليل جاسم لزيارة المواقع العربية في جبهة كفر قرع واجتاز في الليل الحدود هارباً إلى المنطقة اليهودية؛ وقد تبين أنه يهودي عراقي( ). والراوي على يقين من أن الرئيس خليل جاسم قد خان القضية وإنه سلم اليهود أم الخروص والمقايل وقنير، إذ لم يقم الجيش العراقي بأي عمل عسكري لإنقاذ هذه الأماكن.


الفصل الثاني

دفاع أهالي وادي عاره عن مثلث الكرمل وقوافل اللاجئين

مثلث الكرمل يستنجد بالخطّاف

روى لنا نائب عريف في سرية الخطّاف( )، قال: "في عام 1948 اعتاد الجيش العراقي المتواجد في عرعره وعاره تزويد القرى الصامدة في جبال الكرمل والساحل بالذخائر. كان في كل مرة يستأجر جملين أو ثلاثة ويحملها بالذخائر ويرسلها مع الجمالين إلى تلك القرى دون أن يبعث معهم قوة حراسة كشرط لحصول الجمالين على أجورهم كان عليهم إحضار تصديق (وَصِل) من ذوي الشأن هناك بأنهم تسلّموا الذخائر كاملة دون نقصان.

انهارت جميع قرى قضاء حيفا الواحدة تلو الأخرى. لم يبق سوى مثلث الكرمل إجزم –عين غزال- جبع صامدا. من جهاز اللاسلكي الذي قدمه الجيش العراقي هدية للمناضلين في عين غزال انبعث صوت احد المناضلين مستغيثاً: "علي ينادي العراقية في عرعره...! القوات اليهودية تهاجم عين غزال براً وتقصفها من السفن بحراً... ذخائرنا تتناقص وفي طريقها إلى النفاد...! أرسلوا لنا قذائف هاونن رصاصاً وقنابل يدوية... العدو يتقدم نحو مبنى المدرسة...! أغيثونا... أنجدونا...! أكرر... أكرر...!.

قال الراوي: "استمر المناضل علي يبث نداءات استغاثة إلى القيادة العراقية في عرعره طالباًُ إرسال ذخائر على عجل. من كثرة ما استغاث دعا آمر الفوج العراقي عبد الله( ) إلى اجتماع طارئ في بيت إبراهيم أحمد السعيد( )، حضره الرئيس خليل جاسم العراقي وضباط سرية الخطّاف. في هذا الاجتماع تقرر إرسال كمية كبيرة من الذخائر على جمال ترافقها قوة مسلحة لحمايتها ودليل من عين غزال خبير بالمسالك الجانبية؛ إذ أنّ الطرق المعروفة أصبحت خطرة جداً لأن جميع القرى الشمالية كانت قد سقطت في يد اليهود ما عدا مثلث الكرمل (المثلث الصغير).


بُدِئ بتنفيذ العملية على الفور. أصدرت القيادة العراقية أمراً لأصحاب الجمال بإحضار جمالهم ومرافقتها دون أجر أو مقابل. تجمّع عشرون جملاً( )(؟)، حُمّلت جميعها بالذخائر. انتدبت القيادة لحراسة القافلة عشرين جندياً (حظيرتين) من أبناء عرعره وعاره من سريّة الخطّاف بقيادة الضابط ممدوح الحاج سعيد يونس.

قال الراوي: "وقف في المقدمة ثلاثة: أنا بصفتي نائب عريف؛ أحمد سالم أبو عقل ومعه رشاش برن وهو برتبة عدد أوّل يساعده عادة جنديان: الأول يعبئ مخازن الفَشَك والآخر يناوله المخازن الملآى ويأخذ من الفارغة؛ ومحمد صالح عبد مرزوق ومعه بندقية.

من بين الذين شاركوا في هذه العملية: عبد الغني إسماعيل (وهو راتب عريف)، عبد اللطيف صالح إعمر، محمد عبد الله أبو شحاده، أحمد عربي جهجاه، محمد أحمد عبد الكريم أبو عقل ومحمود حسين أبو هلال.

قال الراوي: "خرجت القافلة من عاره في العاشرة ليلاً نتقدمها نحن الثلاثة ودليل من قرية عين غزال يركب على ظهر حمار له. لما وصلنا إلى صبارين، اختلفنا مع هذا الدليل حول الطريق الواجب اتخاذها للوصول بسلام إلى عين غزال، إذ أنّ المنطقة فيها مستعمرات يهودية والقرى العربية أصبحت محتلة وطريق وادي الملح بأيدي اليهود وتمر عليه سياراتهم. كان حملنا ثقيل بالإضافة إلى رشاش البرن كان معنا ثلاثون مخزنا في كل مخزن ثلاثون رصاصة ومع كل جندي بندقية وعتاد. طلبنا من الدليل أن يضع البرن أمامه على ظهر الحمار فرفض بحجة أن حماره هزيل فأراد أحمد ومحمد إطلاق النار عليه، ثم ضرباه بقاع البندقية فمنعتهم من الاستمرار بذلك.

سرنا نحن الثلاثة في المقدمة وعلى مسافة 200-300م من الجمال لنوفر لها الحماية. كان معي مسدس للإشارة كي أستعمله للتحذير والإنذار في حالة اصطدامنا بكمين أو قوة معادية بينما يقوم أحمد السالم ومحمد الصالح بالتعامل بالبرن مع القوة المعادية لإشغالها وإعاقة تقدمها لتمكين ممدوح الحاج سعيد والحظيرتين من إنقاذ الجمال والذخائر.

لما توغلنا في بساتين أم الجمال (بات شلومو)، قال لنا الدليل: انتظروني هنا وسأذهب فحص طريق جانبية ثم أعود لأخبركم إن كانت آمنة. وكما يقول المثل (راح السل وما طل). وصل إلينا ممدوح مع الجمال فأخبرناه بالأمر، فأمرنا بعدم التدخين وبأن نستأنف سيرنا بدون دليل. وصلنا إلى شارع الفراديس –أم الجمال- يوقنعام. هناك واجهتنا مشكلة صعبة وهي: كيف نمرر الجمال هذا الشارع الذي يسيطر عليه اليهود وتسير عليه سيارتهم؟ عبرنا ثلاثتنا الشارع: أنا وأحمد السالم ومحمد الصالح ومعنا البرن، وتمركزنا في الجهة الشمالية للقيام بالمراقبة ولنكفل الحماية للجمال أما ممدوح الحاج سعيد وصحبه فأناخوا الجمال في حقل ذرة، ثم بدأوا تمرير جمل واحد في كل مرة.



استأنفنا سيرنا وكان ظلام حتى وصلنا إلى بير خربة قطينة وهي إلى الشرق من خربة قمبازة. أنخنا الجمال في واد مليء بالغبار، وجلسنا في ساحة البئر لنستريح ما أن أشعل كل واحد منا سيجارة حتى بدأ حرس أهل إجزم المتواجد في خربة قمبازة بإطلاق النار نحونا. كان هناك خطر من انفجار الذخيرة التي على ظهور الجمال فأخذنا نناديهم قائلين: "احنا من عارة وعرعره جايبين ذخيرة لأهل عين غزال، اوقفوا الطخ!"، ولكنهم لم يسمعونا فتراجعنا نحو الخلف.



الضابط ممدوح الحاج سعيد كان المسؤول عن الحظيرتين نحن خلال عملنا في الجيش العراقي كنا قد أقسمنا اليمين على إطاعة أوامر من هو أعلى منا رتبة صاح ممدوح قائلاً: وين النشامة! شو بدكم نساوي؟ تقدموا للمفاهمة مع الجماعة! تقدمنا نحن الثلاثة: أنا وأحمد السالم ومحمد الصالح ومعنا بنادقنا ومسدس للإشارة. زحفنا بين شجر الغار حتى وصلنا أول طلعة قمبازة فاختبأنا وراء الصخور وأخذنا ننادي على الحرس العربي الذي واصل إطلاق النار، فسمعونا وأرسلوا رجالا تقدم منهم نحونا اثنان يحمل كل واحد منهما توميغان. لما اقتربا منّا أمرونا بالانكشاف وإدارة ظهورنا وإلقاء بنادقنا على الأرض ووضع أيدينا فوق رؤوسنا والمشي خلفاً إلى مسافة نحو عشرة أمتار، فقلنا: نحن من عاره وعرعره! أحضرنا ذخيرة إلى عين غزال أوقفوا بإطلاق النار بسرعة لئلا تنفجر الذخيرة التي على ظهور الجمال فلما رأوا ملابسنا العسكرية وتيقنوا من صدق قولنا، نادى أحدهم الحرس وأمره بالتوقف عن إطلاق النار ثم صافحونا وشكرونا كثيرا وأخذونا إلى مقرهم، وبعثوا بواحد منهم ليدعوا ممدوح ورجاله إلى مقر وحدة الحراسة في قمبازة وهناك صنعوا لنا شايا في طاسة كبيرة وأكرموا إفادتنا.

كان الفجر قد اقترب طلبنا منهم دليلاً فأرسلوه معنا قبل بزوغ الشمس كنا في عين غزال، فوجدنا المعركة لا تزال مستعرة. أنخنا الجمال في مركز القرية وهناك استقبلنا المختار والرجال والشباب والأولاد بالتصفيق والنساء بالمهاهاه والزغاريد.

الختيارية أخذوا الضابط ممدوح الحاج سعيد ولم ندرِ إلى أين؟ فيما بعد أخبرنا هو بأنه ركب دراجة نارية وذهب مع شباب من القرية لزرع ألغام في طريق عين حوض. أما نحن فطلبنا من الأهالي أن يضموا إلينا شباباً ليدلونا على المواقع التي يهاجم منها اليهود لنشارك في المعركة.

علمنا من الشباب أن اليهود احتلوا مبنى المدرسة فأخرجهم المناضلون منها، فاحتلوا جبلا اسمه الراس الشرقي ومنه بدأوا بإمطار القرية بوابل من النيران، فلما طردهم المناضلين من هناك عادوا فاحتلوا مبنى المدرسة من جديد؛ وأنّ المدافعين عن القرية اضطروا إلى استخدام أسلوب الدفاع للهجوم بسبب نقص في الذخائر.

قمنا نحن أبناء عاره وعرعره وشباب من عين غزال بالنزول إلى الخلة للقيام بحركة التفاف على مبنى المدرسة من الناحية الجنوبية فقصفنا اليهود بقذيفة هاون ارتطمت بشجرة زيتون وبعثرت الصرار مما أدى إلى جرح أحمد السالم في شفته العليا بخدش بسيط. في طريقنا شاهدنا شيخاً جالسا تحت شجرة زيتون يحمل لويزغان محجم عن التقدم، فلما رآنا صاح: "الله أكبر" ثلاث مرات، ثم أخذ يعدو أمامنا ونحن من ورائه.

اليهود أحسوا بقدومنا ولمسوا أن مقاومة أهل عين غزال بدأت تشتد وتقوى فانسحبوا إلى الرأس الشرقي هناك جرت معركة شاركنا فيها واستمرت إلى ما بعد صلاة العصر وانتهت بانسحابهم مخلفين وراءهم 20 قتيلا. وأضاف الراوي: "لما وصلنا إلى الراس الشرقي كان الأهالي قد سبقونا إلى هناك. عندما ظهر ممدوح وشاهد ما شاهدناه...!

أعد أهل عين غزال لنا طعاما يكفي لإطعام جميع أهالي عاره وعرعره، فأكلنا. في تلك الأثناء قدم رسول من إجزم وسلم ممدوحا رسالة تتضمن دعوة لتناول طعام العشاء. ودعنا أهل عين غزال وتوجهنا إلى إجزم فوضع القوم الطعام أمامنا وأجبرونا على الجلوس، ولكننا لم نذق شيئاً لأننا كنا قد أكلنا في عين غزال.

ذهبنا إلى محمود الماضي وكان يسكن في علية في الماقورة، فإذا هو قد أنشأ مستشفى للهلال الأحمر ولديه حرس وممرضات وطبيب وحوالي 10-15 جريحاً يهوديا. دخلنا على الجرحى اليهود فوجدناهم يحظون برعاية ممتازة، وقد قال لنا محمود الماضي إن هؤلاء أسرى وأنا لا أعتقد ذلك!.

عدنا إلى المدرسة المشتركة في عرعره فاستقبلونا استقبال الأبطال. كان في استقبالنا الرئيس خليل جاسم والضباط والجيش. بما أننا كنا مرهقين منحونا إجازة لمدة عشرة أيام بدون سؤال ولا جواب".

روى لنا جندي في سرية الخطّاف، قال: لم يكن أحمد السالم ومحمد الصالح تابعين لفصيل معين وإنما كانا تحت إمرة الرئيس خليل جاسم المباشرة ويبعثهما للقيام بمهمات عسكرية خاصة. كان كل واحد منهما برتبة عدد أول فخري، أي بدون راتب (معاش). في احتفال جرى في المدرسة المشتركة منح الرئيس خليل جاسم إليهما رتبة نائب عريف فخري تقديراً لهما على أعمالهما البطولية في عين غزال.

وعن أسباب سقوط مثلث الكرمل، قال الجندي المذكور: "طلب الجيش العراقي من أهل عين غزال وإجزم إعداد مكان لهبوط الطائرات، إذ كما يقول المثل "مية النقل ما بتدير طواحين!" بدأوا نساء وأطفالا، شيبا وشبانا بتنظيف منطقة حرجية وفيما هم كذلك، إذ أغارت عليهم الطائرات الإسرائيلية فقضت على الكثير منهم، مما أدى إلى سقوط مثلث الكرمل".

استنادا إلى عدد من تقارير مخابرات الجيش الإسرائيلي، يمكننا أن نقرر رواية نائب العريف صحيحة في مجملها رغم المبالغة في عدد الجمال التي استخدمت في نقل الذخيرة؛ كما أن رواية الجندي حول البدء في عملية إعداد المطار صحيحة. جاء في تقرير مؤرخ في 4/7/1948، ما يلي( ):

استناداً وتعقيبا على ما ورد أعلاه، يمكننا أن نقرر ما يلي:

1. عدد الجمال كان ثمانية وهو ما أكده أحد الرواة.

2. القافلة وصلت إلى إجزم وجبع يوم الأربعاء 30/6/1948.

3. لا أحد يعرف شخصاً اسمه فواد أبو واصل ولعل المقصود هو فياض أبو واصل وقد أكد جميع رواتنا أن هذا الشخص لم يشارك في العملية المذكورة. لعل الدروز أرادوا الإساءة إليه مستقبلا لأن علاقتهم به كانت سيئة للغاية.

وورد في تقرير آخر، مؤرخ في 4/7/1948 ما يلي( ):

أما التقرير الثالث المؤرخ كذلك في 4/7/1948 يعتمد على ما رواه عميل سري زار إجزم يوم الخميس والجمعة 1/7 إلى 2/7/1948 فيما يلي ملخص بأهم ما جاء فيه( ):

1. بالقرب من إجزم يوجد منبسط على جبل حيث يبادر القرية. في الأسبوع الفائت زار مهندس عراقي المكان، وأعطى أوامر بإزالة الحجارة وتسوية مساحة كبير لإعداد مكان لهبوط الطائرات لنقل الذخائر على إجزم ومحيطها جوّاز سيبدأ العمل يوم الأحد أو الاثنين 5/7/1948.

2. الروح المعنوية في القرية عالية جداً وأكثر مما كانت عليه سابقاً. لدى المناضلين بالثقة بأنهم سيصمدون حتى يحقق العرب النصر. أمّا أصحاب الأملاك فقلقون نوعاً ما ويودون لو كان بالإمكان الوصول إلى اتفاق سلام.

3. أهالي إجزم على اتصال دائم بقرية عاره حيث يتواجد العراقيون ولهم فيها قوات كبيرة. في الأسبوع الماضي زار زعماء إجزم عاره واجتمعوا إلى القائد العراقي هناك. الأخير أخبرهم بأنه مع انتهاء الهدنة سيبدأ العرب بهجوم شامل على حيفا من ناحية مشمار هاعيمق بقوات نظامية وباشتراك قوات جوية وبحرية, وطلب منهم الصمود ووعدهم بإرسال أربعين جندياً عراقيا لتدريب الأهالي على استعمال السلاح.

4. أرسل ثلاثة من مناضلي إجزم، جبع وعين غزال قبل أسبوع إلى جنين للاشتراك في دورة لاستعمال اللاسلكي.

5. في يوم الخميس 1/7/1948 وصل من قرية عاره 14 صندوق ذخيرة (رصاص) وضعت في كرم لمحمود الماضي. الذخيرة أرسلها العراقيون.

6. قبل أسبوع أرسل عبد الله السلمان من الطيرة إلى أهل إجزم يطلب منهم أن لا يستقبلوا بترحاب ممثلي هيئة الأمم المتحدة. ذلك لأنه تيقن من أن هؤلاء يساعدون اليهود. إذ أن ممثلي هيئة الأمم أخبروه بأنهم إذا ما أخرجوا العراقيين من الطيرة، فإن اليهود سيوافقون على مرور المؤن إلى القرية ولكن ذلك لم يحدث رجال هيئة الأمم زاروا إجزم. أعد لهم محمود الماضي طعام الغذاء، ولكن ذلك لم يحدث. رجال هيئة الأمم زاروا إجزم أعد لهم محمود الماضي طعام الغذاء ولكن في ذلك اليوم قتل ابن لمحمود الماضي عمره 14 سنة بسبب عدم حذره عند إمساكه بالسلاح فألغيت وجبة الغذاء.

تشير المصادر العبرية إلى أن قرى "المثلث الصغير": إجزم، عين غزال وجبع هي الوحيدة التي بقيت صامدة خلف خطوط اليهود( ). كانت عنيدة وجريئة جدا إذ منعت الحركة على الشارع الموصل ما بين تل أبيب وحيفا. يقول لورك في كتابه "حرب الاستقلال"( ) إن القيادة العربية في قرى المثلث الصغير كانت على اتصال دائم بالقوات العراقية، المتواجدة في وادي عاره، بواسطة لا سلكي وعدائين( ). كان هناك خوف من قيام القوات العراقية بالتقدم من قواعدها في عرعره نحو هذه القرى ومعا القيام بتهديد حيفا من الجنوب، لكن هذا الخوف زال إذ أن "المثلث الصغير" حارب، سابقاً، وحيداً وبقي كذلك عند اقتراب معركة الأخيرة. وأضاف لورك أن الجيش الإسرائيلي قام بمحاولتين لاحتلال قرى المثلث الصغير باءتاً بالفشل، مما أدى إلى ارتفاع معنويات سكانها ودرجة استعدادهم؛ ولمدة عشرة أيام لم يعد إلى مهاجمة هذه القرى، فلما جاءت الهدنة التالية بدأ بهجوم كبير في عملية أطلق عليها اسم "شوطير" (شرطي) مدعياً أنّ ما يقوم به ما هو إلا ضبط داخلي للأمن في المناطق التي يسيطر عليها. قاومت القرى الثلاث ببطولة وشجاعة مدة ليلتين ويوم حتى سقطت عين غزال وجبع، فاضطر مختار إجزم إلى إعلان استعداده للاستسلام. كذلك، ذكر لورك أن الشباب والمسلحين في هذه القرى شقوا لأنفسهم طريقا باتجاه عاره وعرعره في منطقة وادي عاره العربية. هؤلاء خرجوا قبل المساء في قوافل يتراوح عدد كل واحدة منها ما بين 50 إلى 100 رجل. قسم منهم وقع في كمائن سلاح الحراسة وسرية كرميلي في وادي الملح فقتل أو أسر، بينما نجح حوالي 800 رجل منهم في الوصول إلى عرعره مع أسلحتهم الحقيقية المكونة من 810 بنادق وحوالي 20 رشاش برن مع بقر وغنم ودواب. أما الأسلحة الثقيلة فدفنوها في المغاور والأرض بينما حطموا جهاز اللاسلكي الذي بواسطة أخبروا القيادة العراقية هناك بتزويدهم بالأغذية وبدأت بتقسيمهم على القرى المختلفة( ).

يقول بيني موريس( ) أن الجيش الإسرائيلي استعمل في 45/7/1948 ضد قرى "المثلث الصغير" المدفعية والطائرات، مما اضطر من بقي من سكانها إلى الانسحاب عن طريق خربة قمبازة إلى منطقة وادي عاره وجنين والقرى الدرزية في جبال الكرمل. وإن الجيش الإسرائيلي أخذ بطائراته وبتواصل قصف اللاجئين الهاربين مما أدى إلى مقتل العشرات منهم. في الشكوى التي قدمها رئيس الجامعة العربية عرام باشا إلى الوسيط الدولي برنادوت جاء، أن الجيش الإسرائيلي قام بحرق ثمانية وعشرين عربياً وهم أحياء. ادّعت إسرائيل بأن هؤلاء قد قتلوا في المعارك وتحللت جثثهم مما اقتضى حرقها، ولما لم تكف كمية الحطب لاتمام عملية الحرق أمر الأسرى العرب بمواراة ما تبقى منها في التراب. كان هؤلاء القتلى من لاجئي قرية طيرة الكرمل الذين جاءوا إلى عين غزال. في التقرير الذي قدمته لجنة الأمم المتحدة جاء بأن: "الهجوم الإسرائيلي على هذه القرى لم يكن له مبرر بتاتاً، خاصة وأن سكانها قدموا لإسرائيل اقتراحاً بإجراء مفاوضات للاستسلام، لكنها رفضت حتى البحث في هذا الاقتراح". اتّهم برنادوت إسرائيل بأنها طردت سكان "المثلث الصغير" من ديارهم بالقوة وهدمت بيوتهم، وهي التي اخترقت الهدنة الثانية لا العرب، وطالب إسرائيل بإعادة المهجرين إلى قراهم وترميمها ولكن إسرائيل رفضت الانصياع لمطالب الوسيط الدولي( ).

دفاعاً عن قوافل اللاجئين

في 15/7/1948 رحل مناضلو قرية طيرة الكرمل إلى عين غزال وإجزم, بينما واصل معظم المدنيين من نساء وأطفال وشيوخ رحيلهم مع طروشهم إلى منطقة وادي عاره. في 25/7/1948 انهار مثلث الكرمل: إجزم, عين غزال, جبع فرحل معظم سكانه إلى المنطقة ذاتها في قوافل كبيرة. خلال رحيلهم تعرض اللاجئون لاعتداءات متواصلة من الكمائن اليهودية المنبثة في وادي الملح( ), بينما تعرض من نجح منهم في الوصول إلى بلاد الروحا لهجمات شرسة من الحامية اليهودية المرابطة في قرية قنير ومحيطها.

كان أهالي عرعره وعاره كلما سمعوا بقدوم قافلة من قوافل اللاجئين يهبون لنجدتها, حيث كانوا ينذرونها بالصياح لتحيد عن الكمائن ويطلقون النيران على الحامية اليهودية في قنير لإشغالها ريثما تتمكن القافلة من الوصول إلى عين وردة.

ورد في تقرير لابن كنعان عن عاره( ), أن الرئيس خليل جاسم العراقي أرسل نجدات للدفاع عن اللاجئين الوافدين من عين غزال, عين حوض, إجزم وغيرها من قرى الشمال, فلما وصلت هذه النجدات إلى محيط قنير ثار لغم في خليل مصطفى سالم أبو غوش فقتل, كما جرح محمد عيسى جزماوي في رجله وعليه فإن الحادثة المذكورة وقعت, بلا شك بعد سقوط إجزم.

حدثنا نائب عريف في سرية الخطاف( ), قال: " لما بدأت قرى بلاد الروحا وجبال الكرمل تتساقط الواحدة تلو الأخرى أخذ اللاجئون يتدفقون نحو عاره وعرعره.

بعد انهيار قرية طيرة الكرمل وصل لاجئون كثيرون من الشمال ومعهم طروش كثيرة. لما سمع اليهود جلبتها ورنين أجراسها, بدأوا في الصباح الباكر بإطلاق النيران عليها من دار الفاري الواقعة إلى الشمال الشرقي من قنير, فقتلوا أعداداً لا تحصى من الأغنام. جاء داب الصوت على عاره وعرعره فهرع النشامى للدفاع عن الوافدين؛ قال الراوي: " لما وصلنا إلى عين وردة وجدنا عددا من المسلحين القادمين من قرى الشمال المنهارة ومعهم رجل إنجليزي كان مسؤولاً عن المناضلين القادمين من قرية طيرة الكرمل, يحمل رشاشاً من طراز برن. صعدنا في تلة ومنها أخذنا نهرول باتجاه خلة للوصول إلى التلة المقابلة لدار الفاري. لما رأى الانجليزي ذلك راح, يصيح بنا طالبا منا أن نعود أدراجنا, قائلاً أن رصاصة واحدة من رصاص اليهود بإمكانها أن تقتل منا مائة وذلك لأننا مكشوفون. لم نصغ لنصائحه وتقدمنا إلى الأمام. بينما كان المناضل خليل مصطفى سالم أبو غوش صاعداً في تلة, إذ ثار به لغم فقص رجله من العصب (من تحت الركبة). تقدم لإنقاذه صديقه محمد عيسى جزماوي (أبو طلعت) فأطلق اليهود عليه النار فأصابوه في رجله. رغم أن إصابة خليل كانت بالغة إلا أنه كان بالإمكان إنقاذ حياته لكنه بقي ينزف دما دونما إسعاف, لما وصلوا به إلى عين وردة, طلب شربة ماء فأرادوا تقديمها له ولكن أحد المحاربين القدماء نصحهم بألا يفعلوا لأنه سيموت من فوره فأركبوه على ظهر دابة وعادوا به إلى عاره حيث لفظ هناك أنفاسه الأخيرة ".

أما أبو طلعت محمد عيسى جزماوي( ), فقال: " كنا نعيش في بيت خليل الشيخ عبد في عرعره. في صباح أحد الأيام ذهبت مع ابن عمي إلى عاره لنستحم في بيتنا, وإذ بداب الصوت يصيح بأن اليهود يتعرضون بالقرب من قنير للاجئين قادمين من عين غزال, إجزم طيرة الكرمل وغيرها من القرى, وأنهم سبوا فتيات ونساء فهب النشامى من أبناء عاره وعرعره لنجدة الوافدين؛ وأردف قائلاً: " وصلنا إلى دار الفاري الواقعة في الناحية الشمالية الشرقية من قنير. كان اليهود في بناية المدرسة ولهم فيها استحكامات منها أمطروا دار العبد أبو ساري, الواقعة إلى الجنوب من دار الفاري بوابل من الرصاص, فظننا أن اليهود في هذه الدار. كان قد تجمّع في المكان عدد كبير من المسلحين, فجرى بيننا ما يشبه الرهان حول من يستطيع الوصول إلى دار العبد أبو ساري لاحتلالها. تقدمت ومعي أربعة منهم: خليل مصطفى سالم أبو غوش, أحمد سالم أبو عقل وإبراهيم علي عبد الله يونس( ), عبرنا الوادي وصعدنا بحذر نحو دار العبد أبو ساري وكانت مُحاطة بسنسول متوسط الارتفاع فتسلقناه. دخل خليل وأحمد باحة الدار, بينما نحن الثلاثة حاولنا الصعود من على السنسول إلى سطح البيت, فلم نتمكن من ذلك لأن اليهود أمطرونا بوابل من الرصاص. فجأة دوى صوت انفجار هائل, فاندفعنا إلى الداخل فوجدنا خليل قد بترت رجله من العصب. طلبت من زملائي أن يضعوه على ظهري وسرت به مسافة حوالي 200م, ولكني أصبت برصاصة في زري الأيمن من الأمام لا من الخلف, فوقعت على الأرض. من المؤكد أن العرب هم الذين أصابوني. كان أول من وصل إلينا ذيب عبد الفتاح مرزوق, أحمد أبو عيد ومحمد كامل جزماوي قام الأخير بحمل الجريح خليل مصطفى أبو غوش وسار به نحو عين وردة, بينما حملني أحمد أبو عيد متخذا طريق وادي براق ". تنهد أبو طلعت وزفر زفرة من أعماقه, ثم قال: " واحسرتاه على خليل! لقد باع قوت عياله واشترى بندقية في ليلة ذلك اليوم ليدافع بها عن هذا الوطن ". هذا ومن الجديد بالذكر أن الرصاصة لا تزال مستقرة في عظم أبي طلعت حتى يومنا هذا.

عانى اللاجئون عند مرورهم بالقرب من قنير من الولايات. لم يستثن من التقتيل والأسر لا النساء ولا الأطفال الرضع, وهو ما يؤكده التقرير التالي( ):

لم يكن هذا التعرض هو الأول من نوعه، إذ سبقه بيوم واحد تعرض لقافلة من اللاجئين كانت تمر ليلاً إلى الشرق من قنير مما أدى على أسر عربي وغلى تبعثر اللاجئين بين حقول الذرة. نحا هؤلاء من القتل بعد أن فتحت فصيلة عربية النيران من رشاشي وبنادق على الكمين اليهودي وقد سرح قائد هذا الكمين أن الهدف من هذا التعرض هو القضاء المبرم على العدو( ). يبدو لنا أن القافلة الرابعة المشار إليها في التقرير الآنف الذكر هي من طيرة الكرمل. إذ ورد في تقرير آخر( ) أنه في ليلة 15/7/1948 وصل إلى إجزم 70-80 مسلحا من الطيرة، الواقعة بجوار حيفا بعد أن نجحوا في الهرب منها قبل احتلالها وهم ينوون مواصلة مسيرتهم للانضمام إلى القوات العربية المرابطة في المثلث.

في تقرير ثالث( ) عن مهاجمة العرب مرة أخرى، لاستحكام قنير ورد أنه في الساعة التاسعة من صباح يوم 28/7/48 ظهرت قوة عربية مكونة من خمسة عشر رجلا على ظهرة الزيتونة الواقعة إلى الشرق من قنير وفتحت النيران من برنات وبنادق على رجالنا فردوا عليها بالمثل فانسحبت في الساعة الواحدة ظهرا( ) عاد العرب فهاجموا استحكامنا في نقطة إحداثية 1552421626 (دار الفاري أو دار العبد أبو ساري) فانسحب رجالنا إلى قنير. أثناء هجومهم وصل العرب إلى وادي ودخلوا في حقل ألغام –كنا قد زرعنا- فسمعنا أصوات انفجارات، الأمر الذي أعاق زحفهم... استمر إطلاق النار حتى الساعة الثالثة إلا الثلث وكانت القوة العربية مكونة من محلين فقط.

يبدو لنا أن رواية نائب العريف لا تتعارض مع رواية أبي طلعت. إذ روى الأخير أن الرجل الانجليزي كان قد وصل قبل استشهاد خليل مصطفى أبو غوش بأيام معدودة وبقي مرابطاً مع جماعة من المسلحين في الموقع المسمى بالقصر( )، مدافعا برشاش من نوع برن عن قوافل اللاجئين. بناء على ذلك فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن خليل مصطفى سالم أبو غوش استشهد في 28/7/48 دفاعا عن اللاجئين الوافدين من عين غزال وإجزم والذين كان بينهم لاجئون من الطيرة كل الدلائل تشير إلى أن الرجل الانجليزي كان قد رحل عن طيرة الكرمل إلى إجزم ومنها إلى محيط قنير. في 17/7/1948 أسر بالقرب من بريكة مسلح هندي، اسمه أحمد كان في طيرة الكرمل وهرب منها ليلة سقوطها ورد في أقوال هذا الأسير أن أربعة من الضباط البريطانيين كانوا قد هربوا من حيفا وانضموا إلى المناضلين في الطيرة غير أن قيادتهم أجبرت ثلاثة منهم على العودة إلى معسكرهم وتركت الرابع وهو من أصل بولندي واسمه جورج. الأخير كان مسؤولا عن المدفعية ويدرب أبناء الطيرة على استعمالها وانسحب معهم إلى إجزم ليلة سقوط قريتهم( )؛ كما يفيد عدد من تقارير الجيش الإسرائيلي( ) أن الرجل الانجليزي الذي كان في الطيرة رحل إلى إجزم حيث كانوا يسمونه هناك محمداً ومنها إلى عرعره، ثم التحق بالجيش العراقي حيث عين قائدا برتبة رئيس أول (تاج) لسرية أبناء طيرة الكرمل، عين غزال، إجزم وغيرهم المسمى بسرية الكرمل والتابعة لفوج الكرمل؛ وهو الذي تسبب في انفجار لغم أثناء تدريب فصيلة من سريته على بث الألغام وتفكيكها في المعسكر بالقرب من قباطية في شهري تشرين أول مما أدى إلى مصرعه ومصرع عشرين من جنوده وثلاثة ضباط عراقيين( ).

لم يشارك الجيش العراقي في الدفاع عن قوافل اللاجئين المارة بالقرب من قنير. مردُ ذلك إلى انسحابه في الفترة الواقعة ما بين الهدنتيتن إلى جنين للدفاع عنها( ) كما أن القوات العراقية التي وصلت إلى عرعره في 18/7/1948 تحسبا من قيام اليهود بهجوم( ) عادت وانسحبت بعد أيام بحيث لم يكن في عرعره في 30/7/48 سوى الرئيس خليل جاسم وعشرة من جنوده( ). لعل هذا ما خلق لدى راوينا نائب العريف من وهم بأن المعركة الآنفة للذكر كانت قد وقعت قبل وصول الجيش العراقي إلى منطقة وادي عاره.

قام الجيش الإسرائيلي بالتعرض للاجئين الذي لا حول لهم ولا قوة، كيف لا يفكروا في العودة إلى ديارهم ويواصلوا هربهم نحو الشرق وهي سياسة كشف النقاب عنها كشف عنها الباحث بيني موريس في كتابه "كيف خلفت مشكلة اللاجئين"( ).

يؤخذ مما رواه لنا عدد من الرواة أن آلاف اللاجئين من عين غزال، جبع، إجزم، عين حوض، طيرة الكرمل وغيرها وصلوا إلى عرعره لأخذ الأهالي لتوزيع الطعام عليهم في المدرسة المشتركة والخلة( ). قسم كبير من هؤلاء رحل إلى يعبد، اليامون وجنين في حين بقي قسم منهم مخيما تحت أشجار الزيتون في الخلة، العماير، المغر وعين السهلي على أمل أن يكون الجيش العراقي مساعدتهم على استرداد قراهم. مع مرور الوقت واجهت هؤلاء اللاجئين مشاكل عويصة تتعلق بالتموين والمأوى الخاصة وأن فصل الشتاء كان على الأبواب. استمرار تواجدهم بالجبهة في حالة يرثى لها من الجوع والفقر( ) دون أن تقوم الدول العربية بتقديم معونات لهم، كان من شأنه التأثير سلبيا في معنويات الجيش العراقي والجنود المحليين. حاول العراقيون إقناع اللاجئين بإرسال النساء والأطفال والشيوخ إلى العراق وإبقاء الشباب المسلحين في منطقة وادي عاره فوافق على ذلك قسم منهم؛ حيث قامت سيارات عسكرية بنقل لاجئين من عين غزال وجبع إلى بغداد في حين رفض لاجئو كفر قرع هذا الاقتراح رفضا باتا( ). انضم شباب اللاجئين إلى فوج الكرمل وكانوا في غاية الحماس ولكن إبقائهم في الجبهة مدة طويلة دون القيام بأي عمل عسكري ثبط عزائمهم وجعل من المستحيل ثنيهم عن الانضمام إلى أسرهم في العراق وغيرها.

الفصل الثالث

الأفواج الفلسطينية المدافعة

عن المثلث

تأسيس الأفواج الفلسطينية

خلال شهري آب- أيلول 1948 ازداد عدد الفلسطينيين الملتحقين بالجيش العراقي ازديادا مطردا وملحوظا، ويعود ذلك إلى الأسباب التالية:

1) استمرار تدفق اللاجئين بالآلاف إلى منطقة المثلث. بين هؤلاء كان بضع مئات من حاملي البنادق الذي ما انفكوا يتحرقون شوقاً لاستئناف القتال، فانضموا إلى الجيش العراقي على أمل أن يقوم بمساعدتهم على استرداد قراهم( ).

2) كانت القيادة العراقية قد وعدت أهالي قرى مثلث الكرمل والساحل بإرسال جيشها للوقوف إلى جانبهم ولكنها خذلتهم( ). لما نزح هؤلاء إلى منطقة وادي عاره ثم قرى قضاء جنين، صاروا يعانون من العوز والفاقه فالجوع. في كثير من الحالات كان الواحد منهم يضطر إلى بيع أعز ما يملكه، ألا وهو سلاحه، بثمن بخس، ولذلك فإن القيادة العراقية فتحت أبواب الجيش أمام الراغبين منهم في الالتحاق يسلك الجندية كي تضمن لقمة العيش لهم ولعائلاتهم المنكوبة وللحيلولة دون قيامهم بتوجيه النقد إليها وتأليب الجمهور عليها( ).

3) تضامن أهالي المثلث مع اللاجئين ورغباتهم الشديدة في مساعدة إخوانهم على استرداد قراهم المحتلة.

4) تخوّف أهالي المثلث من أن يحدث لهم ما حدث لسكان القرى المنهارة.

5) ما ورد أعلاه جاء منسجماً تماماً مع رغبة القيادة العراقية في إلقاء مهمة المرابطة في الخطوط الأمامية على كواهل الفلسطينيين، وإبقاء معظم الجيش النظامي في الخطوط الخلفية؛ الأمر الذي مكنها من نقله من مكان لآخر وفقاً لمتطلبات المعركة( )؛ ولذلك ضغطت على الأهالي واللاجئين من أجل الانضمام إلى جيشها( ).

هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى اكتظاظ السرايا الفلسطينية القائمة مما اقتضى تأسيس سرايا جديدة. فعلى سبيل المثال، بلغ عدد الفلسطينيين المحليين الملتحقين بالجيش العراقي حتى 20/9/1948: في منطقة الشعراوية 22000، في أم الفحم وقراها 500، في عرعره 250-300 رجلا( ). إزاء هذا التضخم، بدأ العراقيون بتأسيس أربعة أفواج (كتائب) فلسطينية: اثنان منهما كانا يرافقان جحفل اللواء الأول المربط في منطقة الشعراوية، قضاء طولكرم ومنطقة قلقيلية؛ وآخران يرافقان جحفل اللواء الرابع المرابط في قضاء جنين ومنطقة وادي عاره. كانت مهمة هذه الأفواج ستر القطعات العراقية النظامية( ).

كان لكل فوجين قيادة عراقية عليا واحدة منفصلة عن قيادة الجحفل ولكنها تعمل بتنسيق تام معهما، ولكل فوج قائد عراقي يسمى باسم أمر الفوج، ولكل سرية أمر عراقي ونائب له وهو فلسطيني. كان قادة الفصائل فلسطينيين، أما المدربون فكانوا عراقيين( ). كان من الصعب تمييز جنوده هذه الأفواج عن الجنود العراقيين خاصة، بعد أن اضطرت القيادة العراقية إلى إدخال سرايا عراقية إلى داخلها لسد النقص الناشئ، لاحقا، عن خروج عدد كبير من الفلسطينيين من الجيش العراقي جراء بأسهم من قيام هذا الجيش بعمل عسكري جدي ضد إسرائيل( ). هذا ومما يجدر ذكره، أن الجامعة العربية هي التي مولت رواتب الجنود الفلسطينيين بحيث دعمت إلى الحكومة العراقية المخصصات المالية المتعلقة بجميع مصروفاتهم( ).

يبدو أن القيادة العراقية في فلسطين كانت تطمح إلى تأسيس أفواج فلسطينية كثيرة، ولكن القيادة في بغداد رفضت إرسال أسلحة حتى لأولئك الذين جندوا، فانحصر المشروع الذي لو طبّق لقلب موازين القوى. إذ يروى أن القيادة العراقية في جبهة فلسطين أرسلت بتاريخ 8/9/1948 العقيد الركن غازي الداغستاني إلى بغداد ليأتيها بالأسلحة الفرنسية التي كانت في مستودعات الحكومة لتسلح بها المتطوعين الفلسطينيين التي تولت القيادة العراقية تجنيدهم وتسليحهم فرفض رئيس أركان الجيش صالح صائب الانصياع لأمر وزير الدفاع صداق البصام، ذلك الأمر القائل بوجوب تسليم تلك الأسلحة وهي: سبعة مدافع ثقيلة؛ 145 رشاشة ثقيلة، 222 رشاشة خفيفة وحوالي 3000 بندقية؛ واحتج رئيس الأركان، بادئ ذي بدء، بأن المدافع الثقيلة ينقصها الصمامات، فاستعدت قيادة الجيش السوري لتقديم 3600 صمامة ومع هذا فقد رفض رئيس الأركان أن يسلمها لأي إنسان؛ ولم يسمع للعقيد الداغستاني بالعودة إلى الجبهة، لئلا يحدث رفاقه بما جرى، بل استبقاه في بغداد وأقامه مديراً لأشغال الجيش( ).

حتى تشرين ثان 1948 كانت القيادة العراقية في فلسطين تشترط على الراغبين في الالتحاق بالجيش شراء أسلحتهم على نفقتهم الخاصة مكتفية بتزويدهم بالذخيرة، مما أعاق عملية استمرار التطوع( ). تخاذل الجيش العراقي وعدم قيامه بعمل عسكري جدي ضد إسرائيل أدى إلى خروج كثير من الفلسطينيين من الجيش منذ بداية شهر كانون أول أخذ العراقيون يزودون كل من يلتحق بجيشهم بالسلاح والمؤن والذخيرة.

أما الأفواج الفلسطينية فهي:

1. فوج الشعراوية.

2. فوج صلاح الدين.

3. فوج الكرمل.

4. فوج خالد بن الوليد.

فوجا الشعرواية وصلاح الدين

كانا يرافقان جحفل اللواء الأول( ) ولهما قيادة عليا واحدة مقرها في مركز شرطة طولكرم( ). كان لكل فوج من هذه الفوجين آمر عراقي. في شهر تشرين ثان 1948 انتقلت قيادة فوج الشعراوية إلى باقة الغربية، حيث كان بيت محمد الحمدان مقراً لأمر الفوج، عبد الكريم (برتبة تاج ونجمتين)، بينما كان تجمع السرايا في المدرسة الغربية؛ أما قيادة فوج صلاح الدين فإنها انتقلت إلى كفر قاسم ومنها إلى قلقيلية( ).

رابط فوج الشعراوية في القطاع الممتد من خربة ميسر وحتى جنوب شويكة، وأوكلت به مهمة الدفاع عن: خربة ميسر، باقة الغربية، النزلات، باقة الشرقية، زيتا، جت، عتيل، بير السكة، المرجة وشويكة؛ بينما رابط فوج صلاح الدين في القطاع الممتد من شمال مدينة طولكرم وحتى كفر قاسم، وأوكلت به مهمة الدفاع عن: طولكرم، فرعون، قلنسوة، الطيبة، الطيرة، جلجولية، كفر برا وكفر قاسم( ).



يقع فوج الشعراوية أوجه في أيلول، إذ حتى 20/9/1948 وصل عدد الجنود المحليين في المنطقة الممتدة من ميسر وحتى شويكة 2200 رجل( ). أما عن شجاعة رجال هذا الفوج وشدة بأسهم، فإن مصادر الجيش الإسرائيلي تصفهم بالجرأة والبسالة والعناد، إذ تمكنوا في 28/10/1948 من احتلال استحكام رقم 11 بجوار مطار عين شيمر ومن أسر جندي إسرائيلي، وواصلوا الحفاظ بهذا الاستحكام رغم تدخل رجال هيئة الأمم المتحدة، ورفضوا الانصياع لأوامر القيادة العامة العراقية والانسحاب منه، مما اضطرها على ملاطفتهم والتحايل عليهم حتى تم ذلك في 14/11/1948( ).



يبدو أن قسما من فوج الكرمل ساعد على احتلال استحكام رقم 11 بجوار مطار عين شيمر، إذ ورد في تقرير للجيش الإسرائيلي( ). مؤرخ في 25/10/1948، أن قسما من فوج الكرمل، حاليا، في باقة الغربية؛ وأن قسما آخر منه يتدرب في معسكر التدريب الواقع بالقرب من مركز شرطة جبع؛ بينما قسم صغير منه يتواجد في عرعره بقيادة الرئيس خليل جاسم.



الانسحاب من المطار خلق إحباطاً شديدا لدى جنود فوج الشعراوية ولذلك أخذو يفرون من سراياه. في 17/11/1948 فر عشرون فردا من أبناء دير الغصون، فداهم الجنود بلدهم بحثاً عنهم. خلال ذلك حطموا أثاث منازلهم واعتقلوا ذويهم، ولكن الفارّين لم يسلموا أنفسهم إلا بعد تدخل عدد من الزعماء منهم سليمان طوقان (من نابلس). رغم ذلك جرت للفارين محاكمة عسكرية في 24/11/1948 في باقة، حبسوا على إثرها ثلاثة أيام بعد أن جندوا، ثم بعد ثلاثة أيام أرسلوا على المواقع الأمامية في خربة ميسر. هذه الإجراءات الصارمة، بلا شك، منعت تفكك فوج الشعراوية وانهياره، ولكنها لم توقف تسرب الفلسطينيين منه، إذ انخفض عدد جنوده إلى حوالي 500 جندي؛ كان بينهم عراقيون( ).
في 20/2/1949 سرحت القيادة العراقية ابناء دير الغصون من فوج الشعراوية بعد أن جردتهم من ملابسهم العسكرية وأسلحتهم، وذلك كي تتخلص من دفع رواتبهم ومخصصاتهم( ). يبدو أنها لم تعد بحاجة إليهم إذ كانت تعد العدة لمغادرة فلسطين.

ما انتاب فوج الشعراوية انتاب فوج صلاح الدين، إذ بدأ الجنود المحليون يفرون من الجيش العراقي بسبب الملل واليأس. حتى 25/10/1948 بلغ عدد الفارين من هذا الفوج حوالي 100، من بينهم 30 من قلنسوة، 10-15 من الطيبة والطيرة( ). في 13/11/1948 بلغ عدد رجال الفوج 300 يضاف إليهم عدد آخر من المحليين بحيث لم يزد العدد الإجمالي عن 500( ).

فوجا الكرمل وخالد بن الوليد

كان فوجا الكرمل وخالد بن الوليد يرافقان جحفل اللواء الرابع المرابط في جبهة جنين ومنطقة وادي عاره( ). كل الدلائل تشير إلى أن فوج خالد بن الوليد كان قد أقيم بعد تأسيس فوج الكرمل بمدة. جراء التضخم العددي الذي طرأ على الفوج الأخير مما اقتضى إنشاء فوج آخر؛ وأن فوج الكرمل لم يسم بهذا الاسم إلا بعد انضمام المئات من لاجئي قرى جبال الكرمل والساحل إليه. في 19/8/1948 كان في الجيش العراقي فوج يسمى "الفوج الجبلي" بقيادة المقدم عمر علي الذي أعيد إلى فلسطين( ). يبدو لنا أن هذا الفوج هو فوج الكرمل الذي كان المقدم عمر على قائده في 25/10/1948 وضم جميع القوات المحلية في قضاء جنين، أم الفحم وعرعره( )؛ والذي تبدأ بتقارير الجيش الإسرائيلي بالإشارة إليه باسمه في الفاتح من أيلول( )، هذا ومن الجدير بالذكر، أن التقارير المذكورة تشير إلى ثلاثة أفواج فلسطينية، وهي: فوج الشعراوية، فوج صلاح الدين، فوج الكرمل( )؛ وتبدأ الإشارة إلى الفوج الرابع، فوج خالد بن الوليد، فقط في شهر تشرين ثان 1948( )؛ مما يدل على أن تأسيسه فقد تم بعد شطر فوج الكرمل إلى قسمين.

في 19/11/ 1948 كان الرئيس أول عبد الله (برتبة تاج) قائدا لجميع القوات المحلية في جبهة جنين, وكانت قيادة فوج خالد بن الوليد قد انتقلت إلى قرية مقيبلة؛ بينما انتقلت قيادة فوج الكرمل إلى عرعره في 25/11/48( ). بناء على ذلك فإن أمر الفوج في عرعره كان الرئيس أول عبد الله، وهو ما أكده نائب عريف في سرية الخطاف النابعة لفوج الكرمل( ). في 5/3/1949 كان القائد الأعلى لفوجي الكرمل وخالد بن الوليد المقدم نوري حسني، وهو برتبة تاج ونجمتين( ).

كان فوج الكرمل يرابط في القطاع الممتد من سهل اللجون إلى خربة ميسر، وأوكلت به مهمة الدفاع عن: أم الفحم، مصمص، مشيرفة، البياضة، معاوية، رمانة، يعبد، عين السهلي، برطعة، أم القطف، كفرقرع، عاره، عرعره؛ بينما رابط الفوج خالد بن الوليد في القطاع الممتد من زلفة وسالم إلى جنين، وأوكلت به مهمة الدفاع عن قرى قضاء جنين وسهلها مثل مقبيلة والجلمة( ).

شكلت سريتا الخطاف وظفر النواة الأولى لفوج الكرمل الذي بلغ أوجه في أيلول 1948، إذ بلغ عدد أفراده، آنذاك، في: عرعره 250-300، أم الفحم 500، يعبد 200، رمانه 100، برطعة 35 (فصيل)؛ ناهيك عن الملتحقين من القرى الأخرى الواقعة في قضاء جنين( ). في 23/12/48 بلغ عدد جنود هذا الفوج 600 ( )؛ أما سبب هذا الانخفاض فمرده إلى أمرين: الأول خروج كثير من اللاجئين منه يسبب يأسهم من قيام الجيش العراقي باسترداد قراهم المحتلة؛ والثاني تأسيس فوج خالد بن الوليد. في 7/2/1949 بلغ عدد رجال فوج الكرمل 310 منهم 60 عراقيا( ).

بلغ عدد جنود فوج خالد بن الوليد عند تأسيسه 500-600( )، ولكن هذا العدد أخذ يتناقص، إذ في 19/3/49 نقلت إليه سرية من سرايا فوج الكرمل لمساندته( ). في 17/5/49 بلغ عدد رجال هذا الفوج حوالي 400( ).

وأخيرا، لا بد من أن تشير إلى أن سبب نقل قيادات الأفواج الفلسطينية وسراياها إلى القرى المتاخمة للخطوط الأمامية في شهر تشرين ثان 1948 كان مرده أسلوب الدفاع، وسحب معظم قواته لحماية مراكزه الخلفية وطرق مواصلاته في غور الأردن تحسبا من هجوم إسرائيلي شامل تاركا مهمة الدفاع عن جبهة المثلث للأفواج الفلسطينية ولبعض الكتائب العراقية( ).

مذكرة احتجاج على نقل قسم من سرية الخطاف

في 13/8/1948 وصلت إلى محيط قرية عرعره قوات عراقية كبيرة في عشرين مصفحة ومجنزرة ومعها مدفع مضاد للطائرات، قامت بنصبه على سقف بداية المدرسة المشتركة. في ذ لك الوقت كان قد تجمع في منطقة وادي عاره آلاف اللاجئين من عين غزال، إجزم، جبع، طيرة الكرمل، وغيرها؛ فبدأ العراقيون بتدريب حوالي 700 رجل على استعمال السلاح وإتقان فنون القتال الميداني بمرافقة المصفحات والمجنزرات. آنذاك، انتشرت في المنطقة إشاعات مفادها أن الجيش العراقي يعد العدة للقيام بهجوم كبير باتجاه خبيزة، أم الشوف، قنير وأم الخروص؛ فدب الحماس في القلوب واستبشر الجميع بالنجاح( ).

في 23/8/1948 كان في أم الفحم ومحيطها ومعاوية استنفار عام وانتشار واسع للقوات المحلية والعراقية استعداداً للقيام بهجوم على مركز شرطة اللجون. يبدو أن اشتباكاً محدوداً جرى هناك، جرح فيه ابن أم الفحم، المناضل علي الفارس( ).

الحشود العراقية والمحلية في منطقة وادي عاره ومنطقة الشعراوية أقلقت القيادة اليهودية التي كانت تتوقع هجوما عنيفاً في 28/8/1948 على نقطة أو نقطتين في القطاع التابع للواء ألكسندروني، غير أن هذا الهجوم لم يتم( ). ومما أثار الدهشة أنه في 1/9/1948 تم سحب الجيش العراقي وقسم من سرية الخطاف من عرعره إلى قرى في مناطق أخرى، بحيث لم يبق في القطاع الغربي من منطقة وادي عاره سوى 36 جنديا مع الرئيس خليل جاسم. يبدو أن هذا الإجراء المفاجئ قد أثار غضب الأهالي واستنكارهم؛ ففي تقرير لمخابرات الجيش الإسرائيلي( )، مؤرخ في 5/9/1948، ورد أن لجنة القرية أرسلت مذكرة إلى رئيس أركان الجيش العراقي تحتج فيها على قيام الضابط العراقي بنقل جنوده من عرعره مع قسم من المتطوعين المحليين، منذ عدة أيام، إلى قرى في مناطق أخرى.

يبدو أن أبناء عرعره نقلوا إلى جبع وسيلة الظهر تمهيداً لإرسالهم إلى القدس، أو أنهم أرسلوا إلى هناك ليحلوا محل أولئك الذين أرسلوا إلى بيت المقدس، إذ جاء في أحد التقارير( ) أنه في الفاتح من أيلول تم نقل قسم من فوج الكرمل إلى القدس لمساندة الفيلق الأردني، وقد استشهد هناك في 10/9/1948 أحد ضباط هذا الفوج وهو الفلسطيني ياسر يعيش (برتبة ملازم أول بنجمتين)ن وشيع جثمانه ليلا في نابلس وسط تظاهرة حاشدة ألقيت فيها الخطابات الحماسية. وجاء في تقرير آخر( ) أنه بعد معركة القصر (بالقرب من قنير) أرسل العراقيون في 20/9/1948 بقايا فوج الكرمل المخيمة في قرية سيلة الظهر إلى عرعره تحسباً من قيام اليهود باحتلال هذه القرية.

أما سبب قيام القيادة العراقية بنقل قسم من فوج الكرمل إلى القدس، فيوضحه عبد الله التل في كتابه "كارثة فلسطين"( )، إذ ذكر أنه في 18/8/1948 قام اللواء مصطفى راغب، قائد القوات العراقية في فلسطين، بزيارة للقدس للاطلاع على الموقف الحرج وللاستماع إلى طلبات عبد الله التل نفسه، ثم غادر المدينة بعد أن وعد خيراً. وفي اليوم التالي، أي في 19/8/1948/، أرسل المقدم عمر علي، قائد الفوج الجبلي في الجيش العراقي، لزيارة القدس وللاطلاع على مختلف المواقع ووعد المقدم عمر بأن يعود مع فوج أو فوجين اثنين... وجاءت الأخبار من عمان تؤكد أن قراراً كان قد صدر بتوحيد قيادتي الجيش العراقي والأردني وتعيين رئيس الأركان العراقي مسؤولا عن الجيش؛ إلا أن غلوب باشا لم يحترم هذا القرار ورفض قبول اقتراح اللواء مصطفى راغب بإرسال لواء عراقي كامل- كان يخيم في فلسطين كاحتياط ليس له عمل- إلى القدس؛ مما أدى إلى تقديم اللواء مصطفى استقالته احتجاجا على ذلك، فأعيد إلى العراق وعين مكانه اللواء نور الدين محمود.



كنا قد ذكرنا في مكان آخر( )، أن المقدم عمر علي كان قائداً للقوات المحلية في جبهة جنين ووادي عاره، أي قائداً لفوج الكرمل (الفوج الجبلي)؛ وبناء على ذلك فإن المقدم المذكور نقل قسماً من هذا الفوج إلى القدس( ) وكان في نيته نقله بأكمله إلا أن محاولته هذه باءت بالفشل.









الفصل الرابع

معركة القصر وبداية التذمر



معركة القصر( )



في 12/9/1948 كان في عرعره حوالي 50 جنديا عراقيا معهم مدفع مضاد للطائرات راجمتان عيار 2 ً عقدة، 3 مصفحات وسيارتا جيب( ). في 13/9/1948 وصلت إلى عرعره فصيلة إضافية تابعة، على ما يبدو إلى سلاح المدفعية إذ أحضرت معها مدفعين عيار 3 ً عقدة( ).



واصل العراقيون في منطقة وادي عاره عملية تجنيد الأهالي واللاجئين وتدريبهم ملقين على كواهلهم مهمة الحراسة في الخطوط الأمامية وقد بذل ضباطهم جهودا كبيرة في إبقاء المجندين على درجة عالية من الحماس والتأهل، إذ أعلنوا مرارا وتكرارا أنه إذا لم تجد الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة المنعقدة في باريس حلا مرضيا لقضية فلسطين لغاية 21/9/1948، فإنهم سيقومون هم بحلها بالقوة وليس لديهم أدنى شك فيمن سينتصر( )!



في 17/9/1948 قدم من جنين إلى منطقة وادي عاره عقيد الجيش، حيث تجول في أم الفحم وعرعره وقد راجت إشاعات مفادها أنه أعلن أن الجيش العراقي سيقوم بهجوم شامل على طول خط المواجهة في القريب العاجل، وأنه طالب ضباطه بالتوغل ساعتها في المناطق اليهودية مسافة 25كم قبل أن يوقفوا زحفهم( ).



في صباح يوم 17/9/1948 وقبل برهة من مقتل الوسيط الدولي الكونت برنادوت، وصلت إلى يغئيل يادين، رئيس غرفة العمليات أخبار مفادها أن ثلاثة أرتال عراقية ستهاجم يوم الأحد 19/9/1948 باتجاه نتانيا- اللطرون( ).



في ذلك الوقت كان قد تجمع في محيط نابلس حوالي عشرة آلاف جندي عراقي( ). في 18/9/1948 وصلت إلى محيط طولكرم قوات عراقية كبيرة( ). معنويات هؤلاء الجنود كانت عالية جداً. بدا كأن آمالهم في المشاركة الجدية في المعارك ستحقق( )... إزاء ذلك كانت قيادة لواء الكسندروني المرابط في القطاع الممتد من راس العين إلى جبعات عادة (المراح) قلقة جداً. فحاولت جس نبض القوات العراقية المرابطة في القطاع الغربي من منطقة وادي عاره لمعرفة درجة استعدادها، أو لإجبار القيادة العراقية على تخفيف حشودها في منطقة طولكرم؛ فأرسلت في 18/9/1948 عددا من عملاؤها العرب إلى عين وردة الواقعة إلى الشمال من كفرقرع حيث نحبوا قطيع أغنام برمضان محمود عبد الرحمن أبو عقل وقتلوا ابن أخيه محمود.



روى لنا جندي في سرية الخطاف( ) قال: "لما بلغت سن الثامنة عشرة التحقت بسرية الخطاف التابعة لفوج الكرمل وبالذات بالفصيل الذي كان يقوده الضابط ممدوح الحاج سعيد يونس ويدربه دواس حسن ضعيف وهو برتبة نائب عريف. في آخر فترة التدريب كان يدربنا فتوح (فتاح) وهو عراقي من أصل كردي.



قبل الظهر وصلنا نبأ بأن القوات اليهودية هاجمت قطيعاً من الأغنام كان قد ورد عين وردة وقتلت راعيه، فصدرت الأوامر لنا بالتوجه إلى هناك. خرج جميع من كان في المدرسة المشتركة من الجيش تقريبا معظم أفراد سرية الخطاف. لما وصلنا إلى عين ورده، وكنت لا اعرف من هو الشهيد، وجدت رمضان محمود أبو عقل( ) وزوجته يحملان الجثمان، فتوجها إلي طالبين المساعدة فلم ألتفت إليهما لأني كنت خاضعاً لأوامر القيادة التي تنص على عدم التراجع أو التباطؤ.

كما تعلمنا أثناء التدريب، انقسما إلى ثلاث مجموعات: مقدمة (قلب)، جناح أيمن وجناح أيسر. كنت في المقدمة مع محمد صالح عبد مرزوق الذي كان يحمل رشاشا من نوع برن. كانت استحكامات اليهود في التلة المسماه بالقصر منيعة جداً، فلما صعدنا في تلال الخطامة انكشفنا لهم فأخذوا بإطلاق نيران كثيفة نحونا، فرددنا عليهم بالمثل، في حين كان قطيع الأغنام حول استحكاماتهم. تقدمت الفصيلة المتواجدة في جناحنا الأيمن نحو المنطقة المسماة بالقصاصيب، وهي أرض منخفضة وغير مكشوفة. في هذا الجناح كان أحمد أبو العيلة، الملقب بالبسيسي، ومعه رشاش برن. قامت هذه الفصيلة بحركة التفاف سريعة وفاجأت القوات اليهودية وبدأت بإطلاق النيران عليها لتوفير غطاء لنا كي نستطيع التقدم؛ بينما قامت الفصيلة المتواجدة في الجناح الأيسر، وفيها أحمد سالم حسين أبو عقل ومعه رشاش برن، بحركة التفاف من الجهة اليسرى. كان الرئيس خليل جاسم يدير المعركة بنفسه واقفا بيننا في القلب ويطلق النار من مسدسه في الهواء وينتخي، قائلاً: تقدموا يا شباب! الله معكم!

كان ذلك في خريف عام 1948، والأرض بور. من كثرة ما أطلق اليهود النار قصوا رؤوس نبات القوص اليابس، ونحن نزحف متقدمين إلى الأمام. كان معنا رجل بدوي اسمه علي إشتيوي أصابت قبعته (فيصلته) رصاصة اخترقتها من الأمام ولكنه لم يصب بأذى ونجا بأعجوبة.

لما تقدم جناحنا الأيسر أمست القوات اليهودية بين نيران ثلاث، فصاح الرئيس خليل جاسم: سوف تصل المدفعية بعد قليل وعلينا احتلال موقع القصر اليوم!

قبل غروب الشمس بنصف ساعة بدأ العراقيون يقصف تلة القصر بمدفع هارون بقيادة العريف صلاح. عند إطلاق أول قذيفة هاون نهضنا جميعاً، وصحنا بصوت عالٍ: الله أكبر! ثم تقدمنا إلى الأمام. نزلنا من على تلة، وأثناء نزولنا أصيب أحدا وهو أحمد يوسف جهجاه، الملقب بالدحبور، في حوضه ومهاشمه فنقل إلى الخطوط الخلفية. بعد إطلاق القذيفة الثالثة وصلنا إلى مسافة حوالي 100م من استحكامات اليهود.

غربت الشمس فأعطى الرئيس خليل جاسم أمراً بالتوقف والانسحاب على الفور، إذ خشي أن تصيب القذائف رجالنا القريبين من موقع القصر، بخاصة أولئك الذين كانوا في الجناح الأيمن لأنهم كانوا قد اقتربوا من الوقع أكثر منا. بدأنا بالانسحاب وفق الطرق العسكرية التي تدربنا عليها، سابقاً، بحيث انسحبت مجموعة واحدة وقامت أخرى بتوفير الغطاء لها بإطلاق نيران كثيفة نحو العدو، ولا تدري عن كان قد أصيب أحد من اليهود أم لا. أما الشهيد محمود عبد أبو عقل فدفن في مقبرة عاره. وأضاف نائب عريف في سرية الخطاف( ) –كان قد شارك هو الآخر في هذه المعركة- بأن جميع حدود الجيش العراقي خرجوا إلى القتال، بينما بقي ضباط سرية الخطاف عند عين وردة؛ وأن مدفع الهاون كان قد تعطل بعد أن أطلق 5-7 قذائف. أما تقارير مخابرات الجيش الإسرائيلي( )، المؤرخ في 20/9/1948، فيفيد بأن الهجوم على القصر قد تم من قبل فصيلتين محليتين بقيادة الكابتن خليل جاسم الذي كان في ساحة المعركة، وبمساندة طاقم عراقي لمدفع عيار 3 ً عقدة؛ وأن المدفع كان قد تعطل بعد إطلاق قذيفتين ولم يعد صالحا للاستعمال. وجاء في التقرير، كذلك، إن عربيا واحدا وهو الراعي قد قتل وجرح ثلاثة آخرون، وجراح أحدهم خطيرة. ويشير تقرير آخر( ) إلى أنه بعد سلب قطيع الغنم بدأ العرب بحفر استحكامات في المنطقة الواقعة بين كفر قرع وخربة معاوية ووضعوا فيها فصيلة من الجنود المحليين، بينهم ثلاثة من حاملي البرنات يقودهم عراقي كما أن العراقيين قاموا بإرسال دوريات ليلية من عرعره إلى جبهة أم الخروص بحثاً عن عرب يعملون مع اليهود. هذا ومن الجدير بالذكر أن هذه هي المعركة الوحيدة التي شارك فيها الجيش العراقي بصورة فعالة في القطاع الغربي لمنطقة وادي عاره, إذا ما استثنينا بعض الاشتباكات البسيطة.

استناداً على الروايتين: العربية والإسرائيلية يمكننا أن نستنتج بأن المدفع العراقي كان قديماً وغير صالح للاستعمال, وهذا هو السبب الحقيقي لوقف الهجوم على موقع القصر.

جاء في تقرير للجيش الإسرائيلي( ), مؤرخ في 20/9/1948, أنه بعد معركة القصر ساد لدى العرب خوف شديد من قيام اليهود باحتلال قرية عرعره, ولذلك قامت القيادة العراقية بإرسال قسم من فوج الكرمل المرابط في سيلة الضهر إلى عرعره وقسم آخر, كان يرابط في نبع جرار إلى أم الفحم, واستعدت لإرسال قوات عراقية نظامية, بحيث كان من المفروض أن يصل إلى منطقة وادي عاره ما يقارب الفوج. لعلنا لا نخطئ إذا ما قلنا إن معظم جنود فوج الكرمل الذين وصلوا إلى عرعره هم من أبناء هذه القرية والذين نقلوا في 1/9/1948 إلى قرى أخرى؛ والدليل على ذلك أنه في معركة القصر اشتركت فصيلتان من سرية الخطاف وليس ثلاث.

استدراج إلى كمين

في ليلة 26/9/1948 قامت فصيلة يهودية بنصب كمين بالقرب من أم الخروص, ثم بعثت عدداً من أعوانها للقيام بأعمال تخريبية في كفر قرع توسلاً لاستدراج الحراس العرب إلى الكمين, ثم أسرهم من أجل المقايضة. رغم أن هؤلاء الأعوان لغموا منزلين, وألقوا قنبلتين يدويتين, وأطلقوا أثناء انسحابهم طلقات وإشارات ضوئية إلا أن الحراس العرب لم ينجروا إلى الكمين, واكتفوا بإطلاق النار من بنادق ورشاشات من مواقعهم باتجاه أم الخروص وقنير( ).

إزاء هذا العمل الاستفزازي, أمر الرئيس خليل جاسم بحفر استحكامات أمامية في شمال كفر قرع وجنوبها وثلاثة استحكامات إلى الشمال من قرية عاره وصولاً إلى معاوية, وسير بينها دورية محمولة بحجم فصيلة. يبدو أنه شعر بالحرج فبدأ يخرج جنوداً عراقيين مع الجنود المحليين للحراسة ليلاً( ), طوال فصل الشتاء رابطت فصيلة من فصائل سرية الخطاف في كفر قرع للدفاع عنها.

تأسيس فصيلة في برطعة

لم يطرأ تغيير كبير على حجم القوة العراقية المرابطة في عرعره, إذ كان في 27/9/1948 حوالي 60 جندياً نظامياً بما فيهم رجال المدفعية الذين شكلوا وحدة منفصلة يرئسها عريف؛ أما معدات هذه القوة فكانت: مدفعين عيار 3 ً عقدة, ثلاثة مدافع عيار 120ملم, ومدفعا مضاداً للطائرات( )؛ بينما في 30/9/1948 كان ما يقارب السرية وأضيفت المعدات التالية: 4 – 5 هوشكيزات, مدفع على عجلات عيار 75سم, ثلاث مصفحات تحمل رشاشات, وثلاث مدافع عيار 3 ً عقدة نصبت في الاستحكامات التي حفرت إلى الشمال من قرية عاره, أما عدد الجنود المحليين فقد انخفض في أم الفحم من 500 إلى حوالي 200, وفي عرعره من 250 – 300 إلى حوالي 200( )؛ ويعود سبب ذلك, في الأساس إلى هجرة قسم كبير من اللاجئين إلى منطقة جنين. إزاء ذلك كثفت القيادة العراقية جهودها لدفع الأهالي للانضمام إلى الجيش وفتحت مراكز للتدريب حتى في القرى الصغيرة, إذ ورد في عدد من تقارير الجيش الإسرائيلي أنه كانت في 30/9/1948 فصيلة عراقية تابعة لفرقة المدفعية, في خربة معاوية تدرب المسلحين المحليين وتغرس ألغاماً في وادي العبهرية ووادي برق( )؛ وأنه في 25/9/1948 أرسلت القيادة العراقية من عرعرة فصيلة عراقية – بقيادة ملازم عراقي, مع ثلاثة برنات ومدفع عيار 3 ً عقدة – لتدريب المسلحين المحليين في قرية برطعة( )؛ وقد نجح هؤلاء في تأسيس فصيلة بلغ عدد رجالها 35 رجلاً, كانوا يحرسون أطراف القرية وخربة المدورة( )؛ أما رواتنا فيؤكدون على أن الفصيلة التي أرسلت إلى برطعة هي التي كان يقودها ممدوح الحاج سعيد يونس, وفيها العريف عايد معاد يونس, ونائب العريف دواس حسن ضعيف, والجندي محمد صالح أبو عقل, يرافقهم مدرب عراقي.

بداية التذمر

عدم قيام الجيش العراقي بأي عمل عسكري جدي ضد إسرائيل أدى إلى نشوء تذمر لدى أهالي منطقة وادي عاره, بخاصة لدى أهالي أم الفحم الذين أخذوا يضغطون على القيادة العراقية للقيام باحتلال مركز الشرطة اللجون قبل بدء موسم الشتاء, كي يتمكنوا من فلاحة أراضيهم الواقعة في سهل اللجون ومرج بني عامر. في 7/10/1948 قام الضابط العراقي توفيق بنشر وحدة عراقية ومسلحين محليين, ما مجموعه 300 مقاتل – ترافقهم ثلاث راجمات عيار 3 ً- في مشيرفة, مصمص, زلفة وسالم استعداداً للقيام بهجوم على مركز شرطة اللجون؛ غير أن هذا الهجوم لم يتم, رغم الحماس المنقطع النظير الذي كان يتحلى به الجنود المحليون بقيادة مصطفى الأسمر والمناضلون بقيادة علي الفارس الذي سافر إلى دمشق بعد أن شفي من جراحه وأحضر 4 برنات وصناديق ذخيرة. في ذلك الوقت راجت إشاعات في المثلث مفادها إن الجيش العراقي ينوي الانسحاب من فلسطين مما أثار مخاوف شديدة لدى الأهالي( ). يبدو لنا أن القيادة العراقية العليا أخذت تلوح بذلك لوقف النقد المتزايد ضدها.

يبدو أن استعدادات العرب للقيام بهجوم على اللجون جعلت اليهود قواتهم في القطاع الغربي من منطقة وادي عاره، مما دفع القيادة العراقية أن ترسل إلى عرعره في 11/10/1948 سرية عراقية كاملة، حيث خيمت في المدرسة المشتركة، بينما انتقلت سرية الخطاف مع الرئيس خليل جاسم إلى عاره( ). كما أمرت هذه القيادة بتجنيد أهالي عرعره وبرطعة لإصلاح الطريق المؤدية من عرعره إلى يعبد( ).

يبدو أن ما توقعته القيادة العراقية كان صحيحاً إذ في ليلة 13/10/1984 هاجمت ثلاث مصفحات يهودية مواقع العرب الواقعة بالقرب من أم الخروص, ولكن الجنود العرب ردوها على أعقابها وأصلوها برشاشاتهم؛ كما قصفوا موقع القايل براجمة سقطت قذائفها على مسافة 200م منه( ). في 22/10/1948 انسحبت القوة العراقية الجديدة من عرعره( ).

محاولة نسف المدرسة المشتركة

عملت مخابرات الجيش الإسرائيلي باستمرار على جمع معلومات عن القوات العراقية والمحلية المرابطة في منطقة وادي عاره: عددها, أسلحتها, تحركاتها ومراكز تجمعها( )؛ وقد نجحت في وضع رسم دقيق للمدرسة المشتركة وما يحيط بها من استحكامات( ), وذلك بواسطة:

1) عملاء لها من بين اللاجئين وقد نفذ حكم الإعدام في احدهم في عرعره( ).

2) يهود اندسوا بين اللاجئين القادمين من قرى الشمال. فقد ذكر الرواة أن لاجئاً تكنى بأبي العارف وادعى أنه مسيحي, كان قد مر بعرعره مع لاجئي الجاعونة, وبين فيما بعد, أنه ضابط إسرائيلي وعين مساعداً للحاكم العسكري في عاره.

3) أسرى وقعوا في الأسر أثناء تسللهم إلى قراهم المحتلة( ).

4) تجار كانوا يهربون أغناما وأبقاراً إلى المنطقة اليهودية( ).

5) عملاء لها من المحليين، بعضهم من المخضرمين( ).

6) عمليات رصد يومية من تلة أم الخروص (المقابل) والصندجاوي لتحركات القوات العربية في عرعره، عاره وكفر قرع( ).

شكلت المدرسة المشتركة العصب المركزي لجميع القوات المدافعة عن القطاع الغربي لوادي عاره، حيث كانت مركزاً لتجمع الحظائر والفصائل والسرايا أثناء التدريب والعروض العسكرية، وفيها: مقر للقيادة العامة، مركز للاتصالات اللاسلكية، مركز للإسعاف الأولي، مخزن للذخيرة والأسلحة، مخزن للمؤن غرف لإيواء الجنود، قواعد للراجمات والمدافع، أماكن لوقوف السيارات العسكرية والمدرعات؛ ولذلك أحيطت باستحكامات جيدة وحظيت بحراسة مشددة.

حاولت مخابرات الجيش الإسرائيلي دق إسفين بين القوات العراقية والقوات المحلية وبين الأهالي واللاجئين، فقامت بواسطة عملاء لها بمحاولة لنسف المدرسة المشتركة على رؤوس من فيها؛ الأمر الذي كان من شأنه أن يضعف من معنويات العرب في منطقة وادي عاره.

ذكر عدد من الرواة أن المتآمرين حاولوا وضع ألغام حول بناية المدرسة المشتركة بقصد نسفها، وأن هؤلاء عدلوا عن ذلك بعدما رآهم عدد من أبناء البلد، فنقلوا الألغام إلى الطرق المؤدية إلى قرية برطعة، حيث انفجر لغم في عربة تجرها دابة في طريق خلة زاهر، مما أدى إلى جرح إبراهيم الشيخ أمين مدلج (من كفر قرع)؛ وآخر في سيارة عسكرية عراقية في طريق المرجة ولكن الحادث لم يسفر عن وقوع إصابات. في أعقاب ذلك، اعتقل عدد من لاجئ كفر قرع وزجَّ بهم في السجون( ). من بين المعتقلين كان صبية لم يتعد عمرهم الرابعة عشرة، أطلق سراحهم بعد تدخل محمود حسين أبو العيلة.

فيما بعد، راجت إشاعات مفادها أن الذين قاموا بهذه العملية لم يكونوا من كفر قرع وإنما من عاره وعرعره. إحدى هذه الإشاعات تقول إن المدبر لهذه العملية كان عميلا مخضرما؛ وأخرى تقول عن ضابطاً لإحدى فصائل فوج الكرمل كان قد قبض مبلغا كبيرا من المال نظير قيامه بهذه العملية، فأوكل أمر التنفيذ إلى اثنين من أفراد عصابة البطيمات، السابق ذكرها، ولما كاد أمرهما يفتضح قاما بنقل الألغام إلى طريق خلة زاهر وطريق المرجة.

لم يكن صعبا، آنذاك، تحديد هوية الفعلة، ولكن الرئيس خليل جاسم آثر إلقاء التبعة على عدد من لاجئ كفر قرع ولم يتقصّ حقائق الأمور، إذ كان معنيا باستمرار دعم أهالي عاره وعرعره له ولقواته.

يبدو أن انفجار أحد اللغمين كان في 19/10/1948، إذ ورد في التقرير اليومي للحامية اليهودية المرابطة في أم الخروص( )، أن في الساعة 835 من صباح ذلك اليوم سُمِع صوت انفجار وشوهد دخان كثيف من اتجاه كروم الزيتون الواقعة بالقرب من عاره، وجاء في نفس التقرير أنه بعد غرس لغمين ضد السيارات بالقرب من عرعره وانفجارهما نصب العرب كمائن لقواتنا. وفي تقرير آخر ورد( ) أنه بعد انفجار اللغمين في الطريق الواقعة ما بين عاره وعرعره اعتقل عدد كبير من رجال كفر قرع.

قام العراقيون بتعزيز قواتهم في عرعره وعاره وأجروا مناورة عسكرية، وأمروا بنصب كمائن وبحفر استحكامات جديدة بالقرب من أم الخروص، ولكنهم لم يقوموا بأي رد عسكري( ).

الفصل الخامس

خطة جديدة لانتشار الجيش العراقي

وانعكساتها

محاولة استعداد اللجون


في 25/10/1948 لم يبق في جبهة جنين ووادي عاره من قوات جحفل اللواء الرابع، الذي كان يقوده العقيد الركن صالح زكي، سوى فوجين عراقيين وهما: الفوج الثالث في قباطية، والفوج الرابع في برقين- جنين، وبحوزتهما 32 مصفحة، ثلاث منها في أم الفحم وثلاثة في زبوبة( ). يبدو أن العرقيين كانوا قد بدأوا في تنفيذ خطتهم الجديدة لانتشار جيشهم في فلسطين، والتي تقتضي بسحب قسم كبير منها إلى خطوط الخلفية لحماية مراكزهم الرئيسية وخطوط إمداداتهم تحسبا من وقوع هجوم إسرائيلي شامل في شمال غور الأردن( ).

في 22/10/1948 انسحب الجيش العراقي من أم الفحم إلى برقين، ولم يبق فيها سوى أربعين جنديا عراقيا وحوالي 120 جنديا محليا تحت قيادة الرئيس نجيب حبوش. في نفس اليوم، انسحب السرية العراقية من عرعره، وبقي فيها فصيلة عراقية واحدة وحوالي 200 مسلح محلي( ). في 25/10/1948 كان قسم من فوج الكرمل الفلسطيني في باقة الغربية وقسم آخر يتدرب في معسكر بالقرب من مركز الشرطة في جبع؛ بينما بقي قسم صغير منه في عرعره تحت قيادة الرئيس جاسم( ). يبدو أن القسم الذي كان في باقة الغربية قد شارك في احتلال استحكام رقم 11 الواقع بجوار مطار عين شيمر في 28/10/1948( ). جميع القوات العراقية المنتشرة في القرى الأمامية جبهة جنين كانت تابعة لقيادة الفوج الرابع العراقي المرابط في برقين( ).

أخذ الوضع الاقتصادي في قرى منطقتي جنين ووادي عاره يزداد سوءا يوما بعد يوم بخاصة في أم الفحم التي خسرت معظم أراضيها. أما أوضاع اللاجئين بآلافهم فكان يرثى لها، إذ رغم أن الجيش العراقي كان قد تكفل بحوالي 50% مما يحتاجون إليه من المؤن، إلا أن ما تبقى حصلوا عليه بشق الأنفس، بواسطة التسول والاستجداء، بعد أن انتهى موسم المناضلة. إزاء ذلك كله، كثرت أعمال السطو والسرقات مما اضطر الجيش العراقي إلى حظر السفر في السيارات ما بين الساعة الرابعة مساء والسادسة صباحا( ).

تقاعس الجيش العراقي عن القيام بأي عمل عسكري جدي ضد إسرائيل أدى إلى تفاقم التذمر لدى أهالي منطقة وادي عاره، بخاصة لدى سكان أم الفحم الذين أرسلوا وفدا إلى جنين ليطالب العقيد الركن صالح زكي بالإسراع في استعادة اللجون ومحيطها قبل بدء سقوط الأمطار، ذلك لأن جميع أراضي الصالحة للفلاحة تقع في هذه المنطقة. آنذاك، راجت إشاعات مفادها أن الوفد الفحماوي هدد بأنه إذا لم يقم الجيش العراقي بمساعدتهم على استرداد أراضيهم السلبية فإنهم سيقومون بتسليم أم الفحم لليهود( ). يبدو أن أوساطا فلسطينية متذمرة أخذت تدعو إلى الاستغناء عن الجيش العراقي المتخاذل، إذ قام أنصار المفتي الحاج أمين الحسيني في المثلث بتوزيع منشور، فيه يطالبون الأهالي بعدم تسليم السلاح لأي جيش من جيوش الدول العربية، وبأن يحافظ كل فلسطيني على سلاحه لأنه سيكون بحاجة إليه في القريب العاجل( ).

لم يعد باستطاعة القادة العراقيين في الجبهة إقناع السكان بأنهم يعملون لصالحهم وأنهم ليسوا عالة عليهم. كان لا بد من أن يقوم هؤلاء القادة بعمل عسكري سرا مخالفين بذلك أوامر قيادتهم العليا المتواجدة في نابلس. يقول سامي مصطفى الأحمد( ) من عرابة أنه اجتمع ورفيقه فوزي جرار( ) إلى العقيد صالح زكي وتحادثوا حول "طرد اليهود من القرى العديدة التي استقرت بها القوات اليهودية"، فقال لهما: (الأمر) ليس بيدي وطلقة واحدة لا أتصرف بها، وأقول لكم وهذا سر أعهده بشرفكم ألا يذاع، هيئوا المناضلين واقتحموا هذه القرى وسترون أن المدفعية (العرقية) قد دكت مواقع اليهود قبل أن تصلوها وسيكون مع كل جماعة منكم جنود عراقيون حاملو الرشاشات الثقيلة؛ وعند استفسار القيادة العليا (العامة) عن الحادث سأقول إنكم اشتبكتم مع اليهود دون علمنا فاضطررنا لمساعدتكم ...".

ويضيف سامي مصطفى الأحمد أن العقيد صالح زكي جمع المئات من المناضلين الفلسطينيين ليقول للقيادة العليا إن هؤلاء هم الذين قاموا بهذه العمليات والجيش لا يستطيع التخلي عنها. وبالفعل في 26/10/1948 هجم حوالي 200 مناضل من أم الفحم ومن قرى جنين ونابلس على اللجون في محاولة لاستردادها؛ وعن ذلك يقول سامي: "بدأت المدفعية العراقية بقصف قلعة مجدو من موقع ارض النخيلية قرب قرية زبوبة على بعد سبع كيلو مترات من مجدو وبدأ اندفاع المقاتلين الفلسطينيين نحو القلعة يرافقهم الضباط والجنود العراقيون حاملو الرشاشات تتقدمهم المصفحات التي شاهدتها تلتف حول القلعة، وكانت مقاومة المقاتلين اليهود المتحصنين فيها عنيفة للغاية بحكم موقعها الاستراتيجي حيث النيران المنطلقة منها كالرعد تصم الآذان، ولهذا قرر العقيد صالح زكي محاصرتها لتخف المقاومة، وبينما كان هذا القائد يقف خلف صخرة والغضب يطفح من وجهه لإعادة القلعة التي ستصبح مركزا هاما متقدما وإذا بسيارة جب عسكرية مسرعة تصل المكان ويخرج منها نقيب يؤدي التحية للقائد ويسلمه برقية... اصفر وجهه وارتجفت يداه بسببها... تقول البرقية: "من القيادة العامة إلى العقيد صالح زكي: أوقفوا القتال عودوا إلى مراكزكم انصحوا المناضلين بالانسحاب وإذا رفضوا اتركوهم وشأنهم ... من أصدر الأمر بمهاجمة قلعة مجدو؟! نفذوا الأوامر فوراً!".

يؤكد أهالي أم الفحم واللجون أقوال سامي مصطفى الأحمد جميعها، ويضيفون أن المناضلين انسحبوا وقد وضعوا سلاحهم على أكتافهم جاعلين أفواه البنادق (بوز البارود) منكسة باتجاه الأرض دلالة الحزن والحداد وأثناء انسحابهم أخذت القوات اليهودية تطلق القذائف باتجاهها فامتنعوا عن الرد بسبب- ماكو أوامر! ( ) وهذا قد أكد دافيد بن غوريون وقوع هذا اللجون بقوله: "وقع هذه الليلة 27/10/1948 هجوم قوي على راس العين ومجدل الصادق. نفذ أمس هجوم على اللجون تم صده على الرغم من أن 18 مدرعة عراقية اشتركت فيه. إنهم يعلنون فشلهم( )"

في الفترة الواقعة بين 25/10/48 و14/11/48 شهدت الجبهة العراقية نشاطا ملحوظا لعبت خلاله القوات العراقية الصغيرة المرابطة في القرى الأمامية دورا أكثر فاعلية من ذي قبل. يبدو أن ذلك كان مرتبطا بإعادة انتشار الجيش العراقي في فلسطين وفق خطة جديدة تقضي بالانتقال من أسلوب اللجون إلى أسلوب الدفاع. انسحاب قسم كبير من هذا الجيش إلى نابلس وغور الأردن لحماية مراكزه الخلفية وخطوط امتداداته زاد من أهمية المقاتلين الفلسطينيين ومن تأثيرهم على القيادات العراقية المتواجدة في القرى الأمامية إذ في كثير من الأحيان تم الهجمات بمبادرة محلية دون علم القيادة العامة في نابلس التي كانت تأتمر بأمر غلوب باشا( ).

خطة لاسترداد أم الخروص

في 25/10/48 كان قسم من فوج الكرمل يرابط في باقة الغربية( )، ويبدو أنه في 28/10/48 ساعد فوج الشعراوية على استحلال استحكام رقم 11 الواقعة بالقرب من مطار عين شيمر. لأول مرة نجح مقاتلون فلسطينيون في احتلال موقع داخل الشريط الساحلي الضيق مشكلين تهديدا خطيرا لوحدة المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل( )؛ فجن جنون القوات اليهودية التي ما انفكت تقصف الاستحكام المذكور، ليل نهار، في محاولة لإجبار العرب على الانسحاب منه ولكن دون جدوى؛ إذ تشبث رجال فوج الشعراوية به بعناد مبدين بطولة وشجاعة نادرتين شهد لهم بها عدوها؛ في حين ردت المدفعية العراقية بنجاعة على كل قصف معادٍ. في ليلة 2-3/11/1948 دخلت قوة يهودية محمولة إلى المنطقة الواقعة إلى الشمال من بير بورين بقصد احتلالها، فكان رجال الشعراوية لها بالمرصاد حيث تمكنوا من صدها بعد أن قتلوا قائدها وأربعة من جنوده وجرحوا اثنين آخرينز بعد تدخل رجال هيئة الأمم المتحدة أصدرت القيادة العراقية أمراً بالانسحاب من الاستحكام المذكور إلا أن مقاتلي فوج الشعراوية رفضوا الانصياع له، مما اضطرها إلى ملاطفتهم والتحايل عليهم حتى تم ذلك في 14/11/1948.

إزاء هذه التطورات الدراماتيكية، قامت القيامة اليهودية في 31/10/1948 ببث إشاعات مفادها أن قواتها عاقدة العزم على مهاجمة جسردامية بقصد قطع خط الرجعة على الجيش العراقي، وأن في نيتها احتلال وادي عاره وأم الفحم؛ وبالفعل فقد حشدت قسما من قواتها في منطقة غور الأردن( )، كما أنها أرسلت في 29/10/1948 أربع مدرعات وأربع سيارات جيب إلى كفر قرع، مكثت فيها ساعة من الزمن لم تلق خلالها سوى مقاومة بسيطة( ). هذه التحركات كانت تمويهية وتهدف إلى إجبار القيادة العامة العراقية على سحب القسم الأكبر من قواتها إلى نابلس وغور الأردن لحماية مراكزها وخطوطها الخلفية؛ وفي نفس الوقت، إجبارها على نقل قوة كبيرة إلى منطقة وادي عاره لحماية الجناح الأيسر لقواتها المرابطة في القسم الشمالي من الجبهة. القيادة اليهودية حققت، كما سنرى، هذه الأهداف كلها( ).

في ليلة 30/10/1948 وصلت إلى عرعره كتيبة عراقية مع كامل عتادها لصد أي هجوم محتمل على القطاع الغربي من منطقة وادي عاره( ). يبدو أن النجاح الذي حققه رجال فوج الشعراوية قد شجع القيادة العراقية في عرعره على التفكير، بجدية، في استرداد أم الخروص، المقابل والصندجاوي فوضعت خطة مفصلة لذلك. يبدو أنه لم يحافظ على سرية هذه الخطة إذ وصلت تفاصيلها إلى اليهود على الفور، ففي تقرير لمخابراتهم( )، مؤرخ في 1/11/1948، جاء ما يلي:

يؤكد رواتنا( ) جميع ما جاء في التقرير أعلاه، ويضيفون بأن آمر الفوج العراقي (برتبة تاج) دعا الرئيس خليل جاسم وضباط في فوج الكرمل إلى اجتماع تم فيه وضع خطة مفصلة لاحتلال موقعي الصندجاوي والمقايل (أم الخروص)؛ وعلى الفور صدرت الأوامر إلى رجال المدفعية وحملة الرشاشات الثقيلة والجنود بأن يكونوا على أهبة الاستعداد؛ ولكن القيادة العراقية العامة علمت بالخطة المذكورة فأصدرت أمرا بتأجيل تنفيذها إلى موعد آخر.

يبدو أن الوعد قد أجل إلى 7/11/1948، إذ في ذلك اليوم وصلت إلى عرعره تعزيزات عراقية كبيرة في عشرين سيارة عسكرية محملة كلها بالجنود. هؤلاء عسكروا –مع من سبقوهم- في المدرسة المشتركة وبين أشجار الزيتون في الخلة في خيام؛ بينما كانت ثلاثة مدافع عيار 25 رطل في غربي عاره وإلى جانبها وحدة مدفعية، يضاف إليها ثلاث مصفحات عليها رشاشات ثقيلة ترابط بين مدخل عاره ومدرستها( ).

من موقعي المقابل والصندحاوي كان اليهود يشرفون إشرافا تاما على كفر قرع، ويرصدون بالعين المجردة جميع تحركات القوات العربية في عرعره وعاره، ولذلك كان الاستيلاء على هذين الموقعين في غاية الأهمية. أما سبب تأجيل تنفيذ الخطة المذكورة، للمرة الثانية، فمرد إلى الانتشار الجديد للقوات العراقية في الجبهة، والذي كنا قد أشرنا إليه سابقا.

خطة جديدة لانتشار الجيش العراقي

نشير مصادر الجيش الإسرائيلي إلى أنه حتى أواخر شهر تشرين أول 1948 كان انتشار الجيش العراقي في الجبهة يحمل طابعا هجوميا، ثم أصبح ذا صيغة دفاعية؛ وقد تجلى ذلك في نقل القسم الأكبر منه إلى محيط نابلس وغور الأردن لحماية مراكزه الرئيسية وخطوط إمداداته؛ وتعزو تلك المصادر الخطة الجديدة إلى خشية القيادة العراقية العامة من قيام إسرائيل بنقل قوات كبيرة إلى جبهة المثلث وغور الأردن بعد انتصاراتها الباهرة في الجليل وحصولها على مدافع ميدان جديدة. في ذلك الوقت، انتشرت إشاعات مفادها أن إسرائيل تخطط للقيام بهجوم شامل على وادي المالحة في شمال غور الأردن بقصد قطع خط الرجعة على الجيش العراقي. هذه الإشاعات كانت جزءا من حرب نفسية شعواء شنتها إسرائيل ضد الجيش العرافي بهدف تثبيط عزائم رجاله( )، وحاولت دعمها بتحركات عسكرية إيهامية. إذ ذكر بن غوريون انه في 31/10/1948 خططت هيئة الأركان العامة لاحتلال جسر دامية لممارسة ضغط على القوات العراقية المرابطة في المثلث، كي يتسنى لها احتلال منطقة وادي عاره وأم الفحم، ولكتنها تراجعت عن تنفيذ هذا المخطط لأنه كان يتطلب تخصيص خمسة ألوية، بينما لم يكن لدى إسرائيل في هذا القطاع سوى لواءين فقط( ).

كانت إسرائيل في تلك الفترة في أمس الحاجة إلى تقليص دائرة القتال، وذلك لأسباب كثيرة: استمرار القتال على الجبهة المصرية والإعياء الشديد الذي انتاب جنودها، وسوء الأحوال الاقتصادية الناجم عن استمرار حالة الاستنفار ومشكلة استيعاب المهاجرين الجدد( )؛ وعليه فإنه لم يكن يتهدد الجيش العراقي، آنذاك، أي خطر.

في 14/11/1948 أجبرت القيادة العراقية العامة رجال فوج الشعراوية على الانسحاب من استحكام رقم 11؛ كما أنها ألغت خطة لاسترداد أم الخروص (المقابل) والصندحاوي. منذ ذلك الوقت ساد الهدوء التام خطوط التماس في جبهة المثلث، إذ أصبح الجيش العراقي شبه مشلول، مما أدى إلى هبوط معنويات جنوده( ).

ضمن الخطة الجديدة، أبقت القيادة العراقية ست كتائب عراقية نظامية في الخط الممتد من كفر قاسم إلى جنين( )، ونقلت الأواج الفلسطينية وقياداتها إلى القرى الأمامية ملحقة بكل فوج سرية عراقية لسد النقص الناشئ عن خروج كثير من الفلسطينيين من الخدمة العسكرية بعد يأسهم من قيام الجيش العراقي بعمل عسكري ضد إسرائيل( ).

نقل قيادة فوج الكرمل إلى عرعره


وفقا للخطة الجديدة لإعادة انتشار الجيش العراقي، تم خلال شهر تشرين ثان 1948 سحب القسم الأكبر من هذا الجيش إلى الخطوط الخلفية، بينما نقلت الأفواج الفلسطينية وقياداتها إلى القرى الأمامية وأنيطت بها مع عدد قليل من الجنود العراقيين مهمة الدفاع عن الخط الأول( ).



استناداً إلى عدد من تقارير مخابرات الجيش الإسرائيلي، يمكننا أن نقرر بأن مهمة الدفاع عن جبهة جنين أوكلت بفوج خالد بن الوليد الذي نقلت سراياه إلى قرية الجلمة وقياداته العامة إلى قرية مقبيلة؛ بينما أوكلت مهمة الدفاع عن منطقة وادي عاره بفوج الكرمل الذي نقلت قيادته العامة إلى قرية عرعره( )؛ وفيما يلي أهم ما ورد في هذه التقارير من معلومات عن هذا التغيير:

في 13/11/1948 كان الكتيبة العراقية قد سحبت من عرعره وأرسلت إلى الخطوط الخلفية( ).

في 19/11/1948 لم يكن في قرية أم الفحم سوى حوالي 20 عراقياً، وهم قادة ومدربون لسرية ظفر التي بلغ عدد أفرادها 120 جنديا. كما أنه لم يبق أي جندي عراقي في خربة سالم، سيلة الحاريثة، زبوبة واليامون. آنذاك، كانت سرايا فوج خالد بن الوليد في الجلمة وقيادته العامة في مقبيلة( ).

في 23/10/1948 لم يكن أي جندي في يعبد عرابة وطوباس؛ بينما بقيت قوات عراقية محدودة مع عدد من المصفحات والآليات في معسكري قباطية وبرقين وفي جنين( ).

في 25/11/1948 وصلت إلى المدرسة المشتركة (الإعدادية) في عرعره سريتان من فوج الكرمل مع قيادته العامة والتي ضمت: آمر الفوج وهو عراقي برتبة كولونيل (بتاج ونجمتين) ( )، وثلاثة ضباط عراقيين: الأول برتبة ثلاثة نجوم( )، الثاني برتبة نجمتين، والثالث برتبة نجمة واحدة؛ بينما انتقلت سرية الخطاف إلى قرية عاره، حيث اتخذ قائدها الرئيس خليل جاسم دار محمد عبد القادر يونس (الأفندي) مقرا له واستقر جنودها في الدور المجاورة. بلغ عدد أفراد السريتين الجديدتين والي 200 جندي، بينما كان عدد جنود سرية الخطاف 150 جنديا؛ فأصبح العدد الإجمالي لجنود فوج الكرمل المرابطين في القطاع الغربي من منطقة وادي عاره حوالي 350 جنديا، يضاف إلى ذلك جنود سرية ظفر الفحماوية المرابطة في القطاع الشرقي؛ وعليه فإن مجموع عدد جنود فوج الكرمل في المنطقة المذكورة لم يتعد الخمسمائة( )، معظمهم فلسطينيون وبينهم عراقيون. ورد في التقارير المذكورة أعلاه، أن جنود فوج الكرمل في عرعره وعاره كان بحوزتهم ستة مدافع معيار 3 ً عقدة، ومدفع مضاد للطائرات نصب بجوار مركز القيادة العامة في المدرسة المشتركة. أنيطت بمهمة الحراسة في جبهة كفر قرع بجنود سرية الخطاف فقط دون جنود الفوج الآخرين؛ في حين سير العراقيون إلى كفر قرع كل ثلاث ساعات دورية محمولة في مصفحات كانت تأتي من جنين وتعود إليها؛ وغرسوا 20 لغما في كفر قرع ومحيطها منها ثلاثة ألغام ضد بني البشر في الطريق المؤدية إلى أم الخروص وقنير، وستة ألغام ضد الدبابات بجوار بيت المختار، ولغمان ضد بني البشر في الطريق المؤدية من كفر قرع إلى أم الشوف( ).

ضم العراقيون إلى فوج الكرمل سرية عراقية لسد النقص الناشئ عن خروج كثير من الفلسطينيين. في 7/2/49 كان هذا الفوج يضم السرايا التالية( ):

1) السرية الأولى: وهي سرية عراقية. بلغ عدد أفرادها 60 جندياً وكانت ترابط في المدرسة المشتركة في عرعره.

2) السرية الثانية: سرية الكرمل، سميت بهذا الاسم لأن جنودها كانوا من لاجئي إجزم، عين غزال، جبع، وغيرها من قرى جبال الكرمل والشمال. كان هذه السرية ترابط في عرعره وعاره، وأنيطت بها مهمة الحراسة في المنطقة الممتدة من كفر قرع إلى خربة معاوية.

3) السرية الثالثة: سرية الخطاف نسبة إلى جبل الخطاف الأشم. بلغ عدد أفرادها 140 من أبناء عرعره وعره، وأوكلت بها مهمة الدفاع عن المنطقة الواقعة قبالة قنير وأم الخروص (كفر قرع).

4) السرية الرابعة: سرية ظفر. بلغ عدد أفرادها حوالي 110 من أبناء أم الفحم وقراها. كان مركزها في مصمص، وأوكلت بها مهمة حماية الهضاب الواقعة حول هذه القرية.

بناء على ما يرويه أهالي أم الفحم( )، أصبح الرئيس خليل جاسم قائدا لسرية ظفر. توسيع صلاحيات الأخير ثم يحكم كونه نائبا لآمر فوج الكرمل.

يؤخذ مما رواه لنا عدد من الرواة( )، أن مقر آمر الفوج كان في دار إبراهيم أحمد سعيد يونس( ) في عرعره، بينما كان تجمع الفصائل والسرايا في المدرسة المشتركة( ). أما مقر الرئيس خليل جاسم فكان في دار سليمان حماد جزماوي، وتجمع الحظائر والفصائل في دار محمد عبد القادر يونس (الأفندي) والتدريب على البيادر في عاره. بلغ عدد أفراد سرية الخطاف، في آخر أيامها، 127 ما بين ضابط، عريف، نائب عريف، عدد أول، جندي وطباخ معظمهم من أبناء عاره. كان آمر السرية الرئيس خليل جاسم (بثلاثة نجوم) وينوب عنه الملازم أول محمد عارف عبد الله يونس (بنجمتين). كانت السرية مكونة من ثلاث فصائل( )، في كل فصيلة 35 شخصا منهم ضابط برتبة ملازم ثان وعريف (شاويش). كانت كل فصيلة تضم ثلاث حظائر وكل حظيرة تتألف من عشرة جنود ونائب عريف (أومباشي).





أما الفصائل وقياداتها فكانت:

1. الفصيلة الأولى: بقيادة الضابط محمود عبد القادر يونس والعريف رفقي محمود سعيد يونس ونائب العريف عبد الغني إسماعيل وشاحي. كانت ترابط في كفر قرع.

2. الفصيلة الثانية: بقيادة الضابط خليل الحاج سعيد يونس والعريف حسين الحاج سعيد ونائب العريف عادل محمود أحمد فارس يونس، الملقب بالدربي، وفي فترة معينة كان العريف عبد الله محمد يونس (أبو نجم). كانت ترابط في هيشة النمرة وخربة دار الحنون، ومقرها في المدرسة المشتركة.

3. الفصيلة الثالثة: بقيادة الضابط ممدوح الحاج سعيد يونس والعريف عايد معاد يونس ونائب العريف دواس حسن ضعيف. هذه الفصيلة أرسلت إلى برطعة لتدريب رجالها ونجحت في شهر أيلول في تأسيس فصلية محلية فيها( ). هذا ومن الجدير بالذكر، أن نائب العريف دواس نقل، فيما بعد، إلى الفصيلة التي كان يقودها محمود عبد القادر يونس.

كان عادل شريف يونس ضابطا للإعاشة أي مسؤولا عن صرف رواتب الجنود والمؤن، بينما كان كل من أحمد سالم حسين أبو عقل ومحمد صالح عبد مرزوق برتبة نائب عريف فخري بدون راتب، ولم يكونا تابعين لأي فصيل من تلك المذكورة أعلاه، وإنما كانا تحت إمرة الرئيس خليل جاسم المباشر ويبعثهما لتنفيذ المهمات العسكرية الخاصة.

كان جنود سرية الخطاف على درجة عالية من الكفاءة إثر التدريب الشاق والمتواصل. معظم العرفاء ونوابهم كانت لديهم خبرة سابقة اكتسبوها أثناء خدمتهم في سلك الشرطة؛ أما الضباط فلم يكن لديهم علم بفنون القتال ولا خبرة سابقة، إذ لم يتدبروا مع جنودهم وحصلوا على مراتبهم بالوساطة ولكونهم أبناء أسر غنية وذات نفوذ؛ والدليل على ما تقوله هو ما جاء في روايتين سمعتهما من الأهالي: الأولى تقول إنه لما استبدل الجيش الأردني الجيش العراقي جاء إلى المدرسة المشتركة أومباشي أردني جلد قوي الشكيمة لتدريب سرية الخطاف. فلما أمر الجنود وضباطهم بالاصطفاف في طابور وبدأ باستعراضهم إذ بضباط السرية، على عكس جنودهم لا يتقنون أبسط قواعد المشية العسكرية فأخرجهم على الفور، من الطابور مبديا سخطه واستنكاره، أما الرواية الثانية فتقول إنه بعد انتهاء تدريب مجموعة من الجنود جرت مناورة عسكرية بالذخيرة الحية، حيث أمر الجنود بالانتشار في الخلة، والموراني والعناير في مبنى مكون من: قلب، ميمنة، وميسرة بينما قام محمود حسين أبو العيلة من المدرسة المشتركة بإطلاق النيران من رشاشه أمامهم وخلفهم مراعيا المحافظة على سلامتهم. في مرحلة معينة اخذ العريف حسين الحاج سعيد يونس الرشاش وبدأ يطلق النار على غير هدى، فعلا صراخ الجنود وصياحهم وتبعثروا في كل جانب فانقض الرئيس خليل جاسم والضباط على حسين الحاج سعيد وأوقفوا الضرب. إذا كانت قيادات ثورة 1936 قد خرجت من بين الفلاحين البسطاء واكتسبت خبرة خلال قتالها الضاري في الجبال، فإن معظم قيادات الأفواج الفلسطينية في حرب 1948 لم تتدرب ولم تشارك في القتال وتسنمت مناصبها بحكم كونها تنتمي إلى عائلات متنفذة وغنية( )!.

وأخيرا لا بد من توضيح أمرين:

1. أن مقاتلين دروز من قرى جبال الكرمل وصلوا إلى عرعره مع أبناء عين غزال وإجزم وانضموا إلى سرية الكرمل التابعة لفوج الكرمل. هؤلاء كانوا يرابطون في المدرسة المشتركة لا في الخطوط الأمامية ورحلوا إلى يعبد مع الجيش العراقي عند انسحابه من منطقة وادي عاره. من بينهم كان حسين الدرزي، فواز، والعريف (الشاويش) أمل نصر الدين( ). الذي أصبح، فيما بعد نائبا في الكنيست الإسرائيلي.

2. أن القيادة العراقية عاملت الأهالي بشدة وقسوة؛ كما أن الثبات بصرامة جميع ما كانت تصدره اللجنة القضائية العسكرية- الخاصة بإدارة شؤون المدنيين- من أحكام رغم أن قسما من هذا الأحكام مجحفا وغير عادل أما العلاقات بين الجنود العراقيين والمحليين فكانت مبنية بصورة عامة، على أسس التفاهم والتعاون والصداقة. الحوادث المؤسفة كانت قليلة ووقعت بسبب الإهمال وعدم الحذر، ولذلك لم تؤد إلى تنافر بين الطرفين. منها ما حدث أثناء مزاح بين أبي جميل عبد الفتاح أبو هلال وصديقه نائب العريف بدر العراقي عند جسر الصوامع في مدخل عرعره الرئيسي؛ إذ وجه نائب العريف فوهة بندقيته إلى أبي جميل ووكزه بها ممازحاً, وكان كلاهما على يقين من أنها خالية من الذخيرة, فانطلقت رصاصة أدت إلى استشهاد الأخير؛ وقد روي أن أبا جميل أوصى قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بأن لا يعاقب نائب العريف لأن ما فعله لم يكن عن عمد بل قضاء وقدراً. ومنها الحادثة التي وقعت في المدرسة المشتركة أثناء قيام مدرب أمام الجنود بتمثيل كيفية التأكد من خلو البندقية من الرصاص, ضاغطاً على الزناد فانطلقت رصاصة أصابت جندياً عراقيا كان يقف قبالته فاستشهد على الفور.

شراء ملابس جديدة لجنود سرية الخطاف

مع اقتراب فصل الشتاء كان جنود سرية الخطاف بحاجة ماسة لملابس شتوية تقيهم من البرد القارس؛ فراحت القيادة العراقية تطالب الأهالي بتحمل تكاليف شرائها متجاهلة البطالة وتوقف الأعمال والضائقة المالية الخانقة التي كانوا يُعانون منها. في تقرير لمخابرات الجيش الإسرائيلي( ), مؤرخ في 23/11/1948, ورد أن القيادة العراقية طلبت من سكان عرعره وعاره دفع مبلغ 300 ليرة فلسطينية لشراء ملابس شتوية للجنود المحليين ولكن هؤلاء السكان رفضوا ذلك مما حدا بهذه القيادة إلى التهديد بسحب الجيش العراقي من البلدين إذا لم يذعنوا لطلبها.

ما من شك في أن التهديد المذكور أعلاه قد أثمر, إذ يؤكد رواتنا( ) على أن أهالي قرية عرعره دفعوا أثمان ملابس أبناء قريتهم, بينما قام الملازم أول محمد عارف عبد الله يونس بشراء ملابس لأبناء قرية عاره على نفقته الخاصة, وبذلك حلت المشكلة. كانت الملابس الجديدة أجود وأحسن من ملابس جنود الجيش العراقي مما يدل على أن هذا الجيش كان يعاني من ضائقة مالية. هذا ومن الجدير بالذكر, أن رواتب الجنود الفلسطينيين وجميع مصروفاتهم كانت على نفقة الجامعة العربية التي دفعت مخصصات للحكومة العراقية( ). بناء على ذلك, فإن هذه الحكومة قامت بابتزاز الأموال, بطريقة غير مشروعة, من خلال ضغط قيادات جيشها على الأهالي وتهديدهم في 25/11/1948 ألزم أهالي قرية عرعره على أصلاح الطريق المؤدية من عرعره إلى يعبد استعداداً لإنشاء معسكر شتوي للجيش العراقي في جبال الخطاف( ).

الفصل السادس

مخططات إسرائيلية لاحتلال وادي عاره

واصلت إسرائيل وضع الخطة تلو الأخرى لاحتلال منطقة وادي عاره؛ كما أنها ما انفكت, خلال مفاوضتها مع الأردن, تطالب بتسليمها جميع قرى هذه المنطقة بلا استثناء( ). ذلك نظراً لأهميتها الإستراتيجية, إذ فيها يمر الشارع الأهم الموصل ما بين السهل الساحلي وشمالي البلاد.

في شهر كانون أول 1948 لم يطرأ أي تغيير على انتشار الجيش العراقي. القيادة العراقية أتمت تنفيذ خطتها الرامية إلى الاحتفاظ بقوات محدودة في الجبهة وإلقاء مهمة الدفاع عن القرى الأمامية على كواهل الأفواج الفلسطينية. بدا واضحاً, أن هذه القيادة لا تنوي قتالاً أو منازلة بعد أن شلت بنفسها قدرة جيشها على المناورة, بسحب القسم الأكبر منه إلى غور الأردن لحماية مؤخرته( ). في 11/12/1948 لم يكن في عرعره سوى جنود محليين, بينما نقلت الفصيلة الخاصة بأهالي إجزم, جبع, عين غزال – التابعة لفوج الكرمل- من زيتا إلى الخط الأمامي في خربة الجملة الواقعة إلى الغرب من قرية جت( ). في 23/12/1948 كان في عرعره فصيلتان عراقيتان, وفي أم الفحم حوالي 150 جندياً تابعين للجحفل الرابع( ). يبدو أن هذه القوات وصلت بعد تردد أخبار مفادها أن إسرائيل تنوي القيام بهجوم كبير وشامل على أم الفحم والقرى المحيطة بها.

في 23/12/1948 أتمت قيادة البلماخ – المتواجدة في الكفرين ومرج بني عامر – إعداد خطة مفصلة لاحتلال أم الفحم والقرى القريبة منها بهدف فتح شارع وادي عاره وضمان حرية المرور فيه. أطلق على هذه الخطة اسم سيلع – أ( ). بموجبها كانت قوات البلماخ المتقدمة من مرج بني عامر ستقوم بادئ ذي بدء باحتلال جبل إسكندر وسد الطريق المؤدية إلى يعبد من أجل منع وصول إمدادات ونجدات, ثم يلي ذلك احتلال ظهرة محمود وظهرة المنطرة, سد شارع أم الفحم – عاره عند الجنوب الغربي من مفرق عين إبراهيم لمنع وصول إمدادات من جهة الغرب. ثم احتلال مصمص بكتيبة مدرعات ومجنزرات قادمة من اللجون والإطباق على أم الفحم. يلي ذلك احتلال: رمانة, سيلة الحارثية, يانون, كفر دان, وأخيراً يعبد لسد الطرق المؤدية إلى عرعره. في حالة نجاح العملية ستقوم قوات لواء إلسكندروني من جهة الغرب باحتلال كفرقرع, عاره وعرعره ولذلك عليها العمل بتنسيق تام مع قيادة البلماخ.

حسب الخطة المذكورة خصصت لتنفيذ العملية القوات التالية:

1. اللواء الحادي عشر: الكتيبة الأولى, سرية من الكتيبة الثانية, الكتيبة الثالثة.

2. كتيبة 79: وهي كتيبة مدرعات, مجنزرات وراجمات.

3. اللواء الثاني.

4. اللواء الخامس: وهو قوة احتياط لتبديل اللواء الحادي عشر.

5. كتيبة من اللواء التاسع.

6. الكتيبة الرابعة وهي كتيبة مدفعية ميدان.

7. وحدة هندسية تابعة للواء الحادي عشر.

8. قوات من الشرطة العسكرية وطواقم طبية.

9. اللواء التاسع الذي أنيطت به مهمة القيام بتحركات تمويهية في غور بيسان لعدم تمكين القيادة العراقية من إرسال نجدات إلى الجبهة.

10. قوات مساندة: مدفعان ضد الدبابات عيار 50 ملم، أربعة مدافع عيار 65 ملم، ثمانية مدافع عيار 75 ملم، بطارية مدافع عيار 105 ملم، مدافع مضادة للطائرات. ناهيك عن المدافع التي نصبت في الكفرين وقريب اللجون.



في الملحق المقدم من مخابرات البلماخ( ) وردت المعلومات التالية عن القوات العراقية والفلسطينية:

القوات المرابطة في القطاع المنوي مهاجمته تابعة للجحفل الرابع. هذا الجحفل مكون من: ثلاث كتائب عراقية يبلغ عدد رجالها 3000، كتيبتين من المتطوعين المحليين يبلغ عدد رجالها حوالي 1000، كتيبة مدرعات، كتيبة مدفعية، وحدة هندسية. قائد هذا الجحفل المعزز هو العقيد ركن صالح زكي. هذه القوات موزعة كالتالي:

1) الكتيبة الأولى من الجحفل الرابع: عدد جنودها 700 رجل، ترابط في معسكر قباطية كقوة احتياط.

2) الكتيبة الثانية من الجحفل الرابع: عدد جنودها 700 رجل، ترابط في الخط الممتد من اللجون وحتى فقوعة. تساندها قوة "كافي"، وهي سرية من المتطوعين المحليين. حتى 8/12/1948 كانت هذه الكتيبة في معسكر برقين، ثم استبدلت الكتيبة الثانية من اللواء الخامس عشر.

3) الكتيبة الثانية من اللواء الخامس عشر: سحبت منذ 6/12/1948 إلى معسكر برقين وهي عبارة عن قوة احتياط.

4) الكتيبة الخامسة لمدفعية الميدان- بحوزتها 25 مدفعا عيار 25 و 26 رطلا، ترابط في محيط جنين: بطارية إلى الشرق من جنين، بطارية بين جنين وبرقين وبطارية في التلال الواقعة إلى الجنوب من جنين.

5) كتيبة "فيصل" للمدرعات: ترابط في قباطية، عدد رجالها 500 وبحوزتهم 20 مدرعة.

6) فوجان فلسطينيان: الأول فرج الكرمل، يبلغ عدد رجاله 600، يرابط في منطقة وادي عاره ومركز قيادته في عرعره؛ والثاني فوج خالد بن الوليد يرابط في جبال الجلبوع، قيادته في الجلمة وجنوده في معسكر مقبيلة.

7) وحدات مختلفة: سرية راجمات، سرية نقل، وحدة إسعاف طبي، وحده هندسية، وحدة اتصال لا سلكي، وحدة مدفعية مضادة للطائرات.



مقارنة بين قوات الطرفين تبين أن القوات اليهودية كانت ضعف القوات العراقية والفلسطينية. ناهيك أن الأسلحة لدى اليهود كانت كثيرة، حديثة ومتطورة بينما أسلحة الجيش العراقي كانت قديمة. ما كان سيعمل لصالح العرب وهو كون المنطقة المنوي احتلالها حبلية ووعرية، واستبسال الجنود الفلسطينيين دفاعا عن قراهم؛ وليس بالصدفة أن أطلقت قيادة البلماخ على الخطة اسم سيلع (صخر).



تأجيل تنفيذ الخطة إلى 27/12/1948 ثم إلى 7/1/1949 ومن ثم إلغاؤها كان مرتبطا بما ذكرناه أعلاه، وبما كان يدور، آنذاك، على الجبهة المصرية وعلى الحلبة الدولية. إذ في 22/12/1948 بدأت إسرائيل بتنفيذ عملية "حوريف" ضد القوات المصرية في النقب وجيب الفالوجة، وكانت بحاجة إلى تركيز معظم قواتها هناك. يقول بن غوريون في 28/12/1948: "حضر شلومو شامير (قائد الجبهة الشرقية)- يسود انعدام الثقة مرة أخرى. الطيرة وقلنسوة هما المهاجمتان. قلت لهم إنهم ملزمون بكبت الغرائز حتى انتهاء العملية في الجنوب. لن ننجر إلى معارك في المثلث خلافا لقرارنا. ومن الجائز أن سقوط الفالوجة –عندما يحدث- سيحسم مصير غزة. بعد انتهاء العملية في الجنوب ستتفحص الوضع –(ونقرر ما) إذا كنا سنهاجم المثلث أم إننا لا نهاجمه. وستكون هذه المرحلة الأخيرة –والأكثر خطراً، خشية تدخل انجلترا( ).



تقدم القوات الإسرائيلية نحو الأراضي المصرية، تاركة جيب الفالوجة محاصراً، جعل الملك عبد الله يطلب الدخول على الفور في مفاوضات للسلام مع إسرائيل؛ وعن ذلك يقول بن غوريون: "اتصل عبد الله التل (ويلهلم) بموشيه دايان هاتفياً صباح 29/12/1948 وقال إنه كان عند الملك أول من أمس، وهذا عينه ممثلا للملك لإعداد مشروع سلام معنا. افترح بدء المحادثات منذ هذا المساء في القدس ... جزمت بأن تبدأ المحادثات غدا مساء 30/12/1948. طلب أن نحضر خرائط وأوراقا وما إلى هنالك وأن نحضر بثياب مدنية. ويضيف بن غوريون أنه أعد قائمة بالموضوعات التي ستطرح في المحادثات من بينها كان موضوع منطقة وادي عاره وتخوم المثلث( ).



استمرت المفاوضات بين الطرفين على قدم وساق. في اجتماع تم عقده في 6/1/1949 وعد عبد الله التل بأن العراق لن تدخل الحرب وأن حكومة العراق والأصح ولي العهد يقف وراءها. في اجتماع آخر عُقد في 9/1/1949 بلغ عبد الله التل الوفد اليهودي بأن العراقيين يزعمون أن إسرائيل تسببت في عملية قرب طيرة بني صعب, وفي أية حال فإن نيتهم لا تتجه نحو بدء الحرب( ).

لإجبار الجيش العراقي على الانسحاب من منطقة المثلث, أخذت إسرائيل تهدد بشن هجوم شامل بدعوى وقف عمليات تسلل العرب للمناطق اليهودية, مثل الخضيرة وباردس حنا, ونهب الأبقار منها. تحركات الجيش الإسرائيلي كانت إيهامية غير أنها أقلقت القيادة العراقية التي سارعت إلى إرسال تعزيزات إلى منطقة وادي عاره, وعن ذلك يقول بن غوريون في 17/1/1949: " أول من أمس نزلت كتيبة عراقية (من نابلس) في مئة وست عشرة سيارة إلى كفر قرع على طريق وادي عاره, وليس بعيداً عن قرية عاره"( )؛ ويضيف:" يعتقد موشيه كرمل أن لوائين سيحتلان جانبي وادي عاره, خلال 48 ساعة، وسيهربان السكان من جنين ويستقران في جبهتهما الجديدة (شمال وادي دوتان). ولا بد من التكهن بأن هجوما عراقيا سيشن بعد ذلك. ونستطيع أن ننزل بهم بالدمار من مواقعنا الدفاعية. يغئيل يادين ليس متفائلا كثيرا بالنسبة إلى الوقت. ولعل هذا سيتطلب 6 أيام. يعتقد موشيه كرمل أن استمرار حالة التأهب ضار، إذ أن التوتر الذي يستمر طويلا من دون عمل ينطوي على نتائج غير محمودة. يغئيل يادين: تمكننا حتى الآن من تحقيق النجاح عندما فاجأنا العدو واستغلينا المفاجأة التي لولاها لكان العدو متأهبا، أو لكنا خسرنا زخم المفاجأة، وما كنا لننجح"( ).

أثناء اجتماع الوفد اليهودي إلى الملك عبد الله في الشونة بتاريخ 17/1/1949 طلب الملك أن لا يقوم من غوريون بالاستفزاز خلال الأسبوعين القادمين، وأخبرهم بأن نوري السعيد سيحضر خلال الأيام المقبلة للاجتماع إليه، وأنه يأمل بأن يجاريه العراقيون في خططه إلزامية إلى إحلال السلام( ). في 27/1/1949 سرت إشاعات مفادها أن الجيش العراقي يستعد للانسحاب إلى العراق. في نفس اليوم غادرت الكتيبة الثانية التابعة للجحفل الثالث نابلس في طريقها إلى العراق( ).

في شهر شباط 1949 أخذت القيادة العراقية تتأهب لإخلاء جيشها من المثلث تمهيدا لتسليمه إلى الأردن. إزاء ذلك أوقفت الجامعة العربية عن الجيش العراقي المخصصات المتعلقة بمصروفات ورواتب جنود الأفواج الفلسطينية، فبادرت بتسريح قسم من هؤلاء الجنود والتزمت بدفع رواتب من أبقته في جيشها. في 5/3/1948 أعيد 13 ضابطا عراقيا من الزرقاء إلى العراق، وبدأ الجيش العراقي بنقل معدات طيرانه من المفرق( ).

في 1/3/1949 بدأت في جزيرة رودس المحادثات لعقد هدنة دائمة بين الأردن وإسرائيل"( ).

في 3/3/1949 أخبر رئيس الوفد الأردني، أحمد صدقي الجندي، القائم بأعمال الوساطة، الدكتور رالف بانش، بأن الوفد الأردني مخوّل بالتوقيع على اتفاق تمهيدي لوقف إطلاق النار نيابة عن الجيش العراقي في فلسطين( ). الحكومة العراقية لم تكن معينة بوقف إطلاق النار فحسب وإنما بسحب جيشها من فلسطين، غير أنها اتخذت، لأول وهلة، مواقف متشددة لامتصاص النقمة المتزايدة لدى شعبها برفضها تفويض الأردن بالتحدث باسمها في رودس حول عقد اتفاقية هدنة دائمة( ). للخروج من هذا الوضع المعقد تم في 10/3/1949، بأمر من حكومتي العراق والأردن، عقد اجتماع بين قائد القوات العراقية ووزير الدفاع الأردني وغلوب باشا. في هذا الاجتماع تقرر ما يلي( ):

1. قيام الجيش الأردني باستلام الجبهة العراقية. لتنفيذ عملية الاستبدال سيجري عقد اجتماع في نابلس بين القيادة العراقية وقيادة الجيش الأردني.

2. نقل الأفواج الفلسطينية من الجيش العراقي إلى الجيش الأردني مع بدء عملية الاستبدال على أن يستمر العراق بدفع رواتب جنود هذه الأفواج حتى آخر شهر آذار.

3. إبقاء الاستحكامات وحقول الألغام في أماكنها وتسليمها إلى الجيش الأردني، شريطة أن يقوم الأردن بعد التوقيع على اتفاقية الحل النهائي بإعادتها إلى القوات العراقية.

4. القطاعات العراقية التي ستسلم إلى الجيش الأردني هي: القطاع الممتد من العدسية وجسر المجامع إلى وادي المالح، القطاع الشمالي، القطاع الغربي، الممتد حتى رنتيس وعابود.

5. تركيز جميع القوات العراقية في خط طوباس- نابلس- أريحا.

6. طلب الجانب الأردني أن يقوم الجيش العراقي بتسليم الجيش الأردني شبكة اتصالات الهاتفية، ولكن الجانب العراقي وافق فقط على تسليم شبكة الاتصال الخاصة بالأفواج الفلسطينية وبعض الخطوط الحيوية من أجل ضمان استمرار الاتصال بين الوحدات المختلفة في القطاعات المنوي تسليمها إلى الجيش الأردني.

7. قيام ممثلين عن الجيش الأردني بزيارة الجبهة العراقية في 12/3/1949 للبحث في تفاصيل عملية التسليم التي ستتم خلال 15 يوماً.

بينما كان الجميع في انتظار وصول تصديق وزير الدفاع العراقي على الاتفاق المذكور أعلاه تقدمت القيادة العراقية إلى الحكومة الأردنية بطلب للسماح لها بالبدء بنقل ذخائرها من الشونة إلى العراق تدريجيا، الأمر الذي كان يتطلب تسهيلات مرورية.

لو تم تنفيذ الاتفاق المذكور وبسرعة لوضعت إسرائيل أمام حقيقة واقعة لا مناص منها، لكن الأردن تردد إثر تهديد القيادة اليهودية باجتياح المثلث. يقول بن غوريون بتاريخ 14/3/1949 "يبد أن رؤويين شيلواح يتخوف من أن يسلم العراقيون في هذه الأثناء مواقعهم إلى شرق الأردن، وعندما سنواجه قريبا حقيقة قائمة مفادها أن الفيلق استولى على المثلث( ).

إسرائيل كانت معنية جدا بانسحاب الجيش العراقي من فلسطين وبتسليمه المثلث للأردن، ولكن خلال محادثات رودس أخذت تعلن عن عدم موافقتها على استبدال الجيش العراقي بالجيش الأردني وتهدد باستعمال القوة لمنع ذلك. هذا الموقف المتذبذب أغضب الملك عبد الله. يقول بن غوريون أن الملك خلال اجتماعه مع الوفد اليهودي بتاريخ 19/3/1949 اشتكى إلياهو ساسون وموشيه دايان لأنهما توسلا إليه أن يتسلم المثلث، وهو سافر إلى العراق كي يتسلم المثلث والآن يشاغبون( ). من خلال موقفها هذا سعت إسرائيل إلى الحصول على تنازلات كثيرة شملت تسليم منطقة وادي عاره بكاملها وسفوح الجبال المحاذية لسهل الشارون من خلال عملية مقايضة مع الأردن( ). من أجل تحقيق أهدافها قامت بما يلي:

أولا: حشد قوات كبيرة في منطقة القدس والخليل والبدء باحتلال قرى ومواقع إستراتيجية هامة في جبال الخليل والبحر الميت بهدف تثبيت الجيش الأردني وعدم تمكينه من إرسال جزء من قواته لاستلام الجبهة العراقية( ).

ثانيا: إطلاق التهديدات باجتياح المثلث بدعوى إيقاف أعمال تسلل العرب إلى المستعمرات وحماية السكان المحليين من ظلم الجيش العراقي.

حاولت القيادة اليهودية إبهام القوات العراقية بأنها جادة في تهديداتها، فطلبت من عميل لها أن يسرب للقيادة العراقية أخبارا مغلوطة عن حشود كبيرة في الخضيرة، باردس حنا وبنيامينا تمهيدا للاحتلال منطقة وادي عاره( ). كما أن القوات اليهودية في المقايل وأم الخروص أخذت تناوش قوات فوج الكرمل المرابطة في كفر قرع. إزاء ذلك أرسلت القيادة في 6/3/1949 تعزيزات إلى أم الريحان، لدعم القوات المرابطة في منطقة وادي عاره، اشتملت على: سرية مشاة، فصيلة حاملي رشاشات (من الكتيبة الثانية التابعة للجحفل الرابع)، وحدة راجمات، مدفعين ضد الدبابات رجال ألغام وجهازي لا سلكي( ). لم تكتف القيادة العراقية في عرعره برصد تحركات الجيش الإسرائيلي من على قمم الجبال والتلال؛ بل أخذت ترسل وحدات كوماندو من فوج الكرمل للتوغل في داخل المناطق اليهودية للاستكشاف وأحيانا للتعرض. في إحدى المرات وصلت وحدة عربية إلى باردس حنا لفحص أماكن الأنوار الكاشفة وحاولت إعطاب مدرعة. وحدة ثانية اصطدمت بقوة إسرائيلية عند المدخل الغربي لوادي عاره، بينما تجولت وحدة أخرى بالقرب من قنير فلم تجد شيئا يثير الاهتمام( ).

جاء في تقرير لمخابرات الجيش الإسرائيلي( )، مؤرخ في 10/3/1949، أنه بعد أن وصلت إلى القيادة العراقية العامة أخبار عن حشود إسرائيلية أمام منطقة المثلث، أصدرت أوامرها إلى الجحفلين الأول والرابع المرابطين في الجبهة باتخاذ الحيطة وزيادة الاستعداد. بلغ الاستعداد في الجحفل الرابع المرابط في القطاع الشمالي درجته القصوى وذلك بعد أن وصلت أخبار عن نية إسرائيل احتلال منطقة وادي عاره، وقد تحلت مظاهره في الرصد المستمر لتحركات الجيش الإسرائيلي وإرسال دوريات استطلاع داخل المناطق اليهودية، مثل: الخضيرة، باردس حنا، عين شيمر، بنيامينا، سكة الحديد حيفا- الخضيرة، دالية الكرمل... الخ. وجاء كذلك، أن القيادة العراقية العامة تعتقد أن بمقدور الجحفلين المذكورين أعلاه حماية جبهة المثلث كلها وضمان الأمن فيها. يبدو لنا أن هذه القيادة كانت، حتى ذلك التاريخ، محقه في تقديراتها، إذ أن دوريات الاستطلاع عادت مؤكدة عدم وجود حشود إسرائيلية.

في 12/3/1949 كان قد تم وضع الترتيبات النهائية لتنفيذ الاتفاق، الذي توصل إليه قائد القوات العراقية ووزير الدفاع الأردني بحضور غلوب باشا، والذي بموجبه سيسلم الجيش العراقي حتى آخر شهر آذار جميع المواقع الأمامية للجيش الأردني وينسحب إلى خط طوباس– نابلس- أريحا- ليصبح قوة احتياط( ). في 12/3/1949 علمت حكومة إسرائيل بالترتيبات الجديدة ليس بطريق التنصت( )، وإنما من خلال محادثة جرت بين الوفد الأردني ورؤويين شيلواح رئيس الوفد الإسرائيلي في محادثات رودس. الأخير أبرق إلى وزارة الخارجية يعلمها بالأمر؛ فقام والتر إيتان، على الفور، بإرسال رسالة إلى بول موهان، الممثل الشخصي للوسيط الدولي في تل أبيب، طالبا منه نقل فحواها إلى الدكتور والف باتش في رودس. جاء في هذه الرسالة أن الترتيبات الجديدة الفاضية بانسحاب الجيش العراقي إلى الخطوط الخلفية واستلام الجيش الأردني المواقع الأمامية يعد خرقا لاتفاقية الهدنة ومنافيا لقراري مجلس الأمن الصادرين في 15/7/1948 و 19/8/1948. وعليه فإن إسرائيل تحتج بشدة على خرق اتفاقية وقف إطلاق النار وتعلن أنها لا تعترف بالترتيبات الجديدة وما ينجم عنها، وتحتفظ لنفسها بكامل الحرية للعمل لمنع تنفيذها بالوسائل التي تراها مناسبة( ).

كان بالإمكان تنفيذ الاتفاق المذكور بسرعة ووضع إسرائيل أمام حقيقة واقعة( )، ولكن الملك عبد الله تردد. يعزو بن غوريون ذلك إلى قيام بريطانيا بإبلاغه بأنها لن تفي بالالتزامات (بموجب معاهدة الدفاع) الخاصة بالمناطق الواقعة خارج شرق الأردن، كما أنه أشار إلى أن بريطانيا بلغت إسرائيل في 18/3/1949 تحفظها من تأييد الأردن( ).

سارعت إسرائيل إلى حشد قوات أمام الجبهة العراقية، وأخذت تهديداتها باجتياح المثلث تشتد حدة. قيادتها العامة وضعت خطة للهجوم اسمتها (شين تاحت شين) السن بالسن. موعد تنفيذ العملية تحدد في 20/3/1949 الساعة الحادية عشرة ليلا. في نفس الليلة أرسل وزير خارجية العراق، محمد فاضل الجمالي، رسالة إلى والف باتش في رودس يعلمه فيها بأن الحكومة العراقية تفوض رسميا إلى شرق الأردن البحث في شؤون المثلث وان القوات العراقية ستسحب من فلسطين( ). إثر ذلك تم تاجيل تنفيذ العملية، ولم تلغ نهائيا إلا في 31/3/1949، يوم أن تم توقيع الاتفاقية النهائية بين الملك عبد الله والوفد اليهودي في الشونة.

من الواضح، أن القيادة العامة للجيش العراقي كانت، هذه المرة على يقين بأن إسرائيل ستقوم باجتياح شامل وأن خطرا شديدا يتهدد جميع قواتها في فلسطين.

بين أيدينا ملف كامل لعملية (شين تاحت شين) السن بالسن( ). يحتوي على تقارير حجم القوات الإسرائيلية وخططها العسكرية والأوامر الصادرة إليها بدءا من 14/3/1949 إلى 31/3/1949. من خلال هذه التقارير يتبين ما يلي:

1) لم تخطط القيادة الإسرائيلية لاقتلاع الجيش العراقي من فلسطين، وإنما إلى احتلال المناطق التالية:

- منطقة وادي عاره بكاملها وتشمل: مصمص، أم الفحم، رمانة، تعنك، زبوبة، أم الرحيان، قصر الفيض، عرعره، عاره، كفر قرع، معاوية.

- خربة الجلمة، خربة بورين، خربة كوسية، ميسر، أم القطف، خربة المدورة.

- طيرة بني صعب وكفر قاسم.

يلي ذلك التمركز في خط دفاعي استعدادا للهجوم العراقي المعاكس.

حتى لو افترضنا جدلا بأن القوات الإسرائيلية كانت ستحقق جميع أهدافها المذكورة أعلاه، فإن ما حصلت عليه إسرائيل في المثلث وفق اتفاقية رودس كان أكثر بكثير مما خططت لاحتلاله، حيث استلمت وفق هذه الاتفاقية كذلك: الطيبة، قلنسوة، جلجولية، كفر برا، بير السكة، يما، جت، باقة الغربية، نصف برطعة؛ ولم نستثنِ إلا رمانة وتعنك.

2) نجحت القيادة الإسرائيلية في إيهام الجيش العراقي بأنها ستهاجم خطوطه الخلفية في غور بيسان لقطع خط الرجعة عليه. في 18/3/1949 قام اللواء الحادي عشر التابع للبلماخ بالتحرك نحو منطقة الغور في قافلة ثم كر راجعا إلى مراكزه في منطقة اللجون. بينما أنيطت مهمة الدفاع عن الخط الممتد من اللجون حتى غور بيسان باللواء التاسع. للتمويه كان على هذا اللواء، عند بدء ساعة الصفر، احتلال قرية عربونة ومهاجمة صندلة بقصد جذب قوات عراقية من منطقة وادي عاره. اللواء التاسع كان صغيرا واشتمل على: كتيبة رقم 113، سرية من كتيبة رقم 91؛ وكان بحوزته: بطارية مدفعية عيار 65 ملم، 4 مدافع ضد الدبابات عيار 20، 47 ملم. هذا اللواء لم يكن بمقدوره أن يشكل خطرا على مؤخرة الجيش العراقي.

3) في القطاع الممتد من بيسان إلى اللجون ومنها إلى قرية عاره، والذي أسمته القيادة اليهودية باسم الجبهة أ، كانت أكبر الحشود وأقواها في اللجون بهدف احتلال منطقة وادي عاره بكاملها وضمان حرية المرور فيه. في هذه المنطقة حشدت إسرائيل القوات التالية:

- اللواء الحادي عشر من قوات البلماخ وهو مكون من ثلاثة كتائب.

- كتيبة رقم 79 –مدرعات ومجنزرات- ترافقها سرية مساعدة رقم 117.

- كتيبة مدفعية ميدان رقم 402 وبحوزتها:

- بطاريتان عيار 75 ملم (8 مدافع).

- بطارية عيار 120 ملم (4 مدافع).

- بطارية عيار 47 ملم (4 مدافع ضد الدبابات).

- 3 مدافع عيار 20 ملم.

- راجمتان عيار 6" عقدة.

- قوات مساندة أخرى، مثل وحدة هندسية وحدة شرطة عسكرية.

- طائرات حربية عند الحاجة.

4) في الغرب سهل (الشارون) قسمت القيادة اليهودية خط الواجهة إلى:

أ‌) الجبهة ج: تمتد من جنوب كفر قاسم إلى شمال قلقيلية. في هذه الجبهة رابط اللواء العاشر الذي لا نعرف عنه شيئا. يبدو أنه كان صغيرا وغير مكتمل وغير متكامل، إذ أنيطت به مهمة احتلال كفر قاسم فقط.

ب‌) الجبهة ب: تمتد من مقام النبي بنيامين وكفر سابا العربية في الجنوب حتى أم الشوف شمالا. كان قائد هذه الجبهة حاييم غاؤون، وفيها رابط لواءان:

الأول: اللواء السابع عشر- يرابط من أم الشوف حتى شوبكة. كانت طبيعة مهتمة دفاعية وكلف باحتلال خربة الجلمة، خربة بورين، خربة كوسية، ميسر، أم القطف، خربة المدورة، ومساندة القوات القادمة في احتلال قصر الفيض، ثم الاستعداد لصد الهجوم العراقي المعاكس.

الثاني: اللواء الخامس- كانت مهمته احتلال المواقع الواقعة إلى الغرب من قلنسوة، احتلال قرية طيرة بني صعب حتى سكة الحديد شرقاً؛ ثم الاستعداد للهجوم العراقي المعاكس. بدئ بتشكيل هذا اللواء في 12/3/1949 حين ضمت إلى الكتيبة رقم 71: سرية مدرعات ومجنزرات، 150 من رجال عمال، فصيلة من رجال الهندسة، وقوة من المدفعية بحوزتها: بطاريتان عيار 75 ملم، بطاريتان عيار 120 ملم، مدفعية عيار 50 ملم، مدفعان عيار 20 ملم، مدفعان عيار 6 أرطال.

من الواضح أنه كان لدى إسرائيل أمام الجبهة العراقية 3-4 ألوية فقط، وقسمتها لتصبح خمسة، وهذا الأمر لم يكن خافيا على موشيه دايان في رودس( ).



5) كانت القوات العراقية ترافقها الأفواج الفلسطينية أكثر عددا من القوات الإسرائيلية، وإن كانت أقل منها بكثير من ناحية كمية الأسلحة نوعيتها وجودتها. القوات المذكورة كانت موزعة كالتالي:

‌أ) قوات الجحفل الأول: كانت ترابط في المنطقة الممتدة من خربة ميسر حتى جنوب كفر قاسم:

1- الكتيبة الأولى من الجحفل الأول: كانت في كفر قاسم ومحيطها.

2- فوج آلي يرابط في قلقيلية ومحيطها.

3- الكتيبة الأولى: من اللواء الخامس عشر- ترابط في المنطقة الممتدة من فرديسيا (الطيبة) حتى شويكة، للدفاع عن مدينة طولكرم.

4- الكتيبة الثانية من الجحفل الأول ترابط في ذنابة ونور شمس وهي قوة احتياط ترافقها سرية مدرعات.

5- فوج صلاح الدين- وهو فلسطين يرابط من قلقيلية إلى خربة بورين.

6- فوج الشعراوية وهو فلسطيني يرابط من شويكة حتى خربة ميسر.

‌ب) قوات الجحفل الخامس: يرابط في منطقة نابلس وهو احتياط عام للقوات العراقية في البلاد ومكون من ثلاث كتائب، الكتيبة الثانية منه ترابط في حوارة.

‌ج) قوات الجحفل الرابع:

1- الكتيبة الأولى من الجحفل الرابع: ترابط في المنطقة الممتدة من اللجون حتى جنين. يبلغ عدد رجالها 800، يرافقها فوج خالد بن الوليد وهو فلسطيني ويبلغ عدد رجاله حوالي 500.

2- الكتيبة الثانية من الجحفل الرابع: ترابط في قباطية وهي قوة احتياط للقوات المدافعة عن منطقة وادي عاره. يرافقها فوج الكرمل، وهو فلسطيني ويبلغ عدد رجاله 480 مقاتلا. السرية الثانية من هذا الفوج نقلت إلى خربة ميسر للدفاع عنها.

3- الكتيبة الثانية من اللواء الخامس عشر، ترابط في برقين، رجالها 900، وهي قوة احتياط للجحفل.

‌د) قوات الجحفل الثالث: يبلغ عدد رجاله أكثر من 3700 رجل، مركز قيادته في طوباس وهو مكون من:

1- الكتيبة الثانية من الجحفل الثالث: ترابط في طريق أريحا- بيسان، عدد رجالها 800، لديها مدفع مضاد للطائرات وبطارية مدافع.

2- الكتيبة الثالثة من الجحفل الثالث: عدد رجالها 800، ترابط في برج المالح، لديها مدفع مضاد للطائرات وبطارية مدافع.

3- الكتيبة الأولى من اللواء الرابع عشر: ضمت إلى الجحفل الثالث من ناحية إدارية فقط. يبلغ عدد رجالها حوالي 1000 رجل، لديها مدفع مضاد للطائرات وبطارية مدافع.

4- الرتل الشمالي: وهو كتيبة رقم 5 من الشرطة العسكرية.

5- كتيبة آلية.

6- وحدات مساندة.

‌ه) رتل مجمع: كتيبة شرطة رقم 2، يبلغ عدد رجاله حوالي 600 وقيادته في وادي العرب.

‌و) احتياط عام في شرق الأردن: كتيبتان.

كانت إسرائيل في ذلك الوقت قد ركزت معظم قواتها في النقب ومل جنودها الحرب. الإسراع في سحب الجيش العراقي مكن إسرائيل من أن تضغط على الأردن للحصول على قرى أكثر من تلك التي كانت تخطط لاحتلالها.

التعليقات