احرق نفسك تكسب

كتب غازي مرتجى
قبل أسبوعين من اليوم رنّ هاتفي المحمول , شخص بصوت "مُتمارض" يُبلغني أنه حاول الانتحار وقام بتناول شريطين من عقار "الترامادول" ونظراً لاحترام المُتصل أيّاً كان أسررت لنفسي كلمة "الله لا يردك" , وسألته عن أسباب محاولته الانتحار فأكد لي أنه موظف سلطة "يتقاضى 3500 شيكل" وشارك في تجارة الأنفاق وخسر كل ما لديه وهو الآن "مكسور" وعليه ديون تقارب الـ 30 ألف دولار .. لم أتمالك أعصابي وصحت به "وليش تتاجر بالأنفاق أصلا" , وأنهيت الاتصال معه وقلت "لن ننشر لك مناشدة ولن ننشر قصتك فهناك من هم أحوج منك لمساحة المناشدة فأنت لا تستحق" .. ربما كنت قاسياً مع صاحب الاتصال وربما خرجت عن حدود الدبلوماسية الواجبة علي في اي مكالمة هاتفية لكن وبصراحة كان ما تحدثت به نابع من رفضي القاطع لطريقة الاحتجاج بالانتحار أو محاولة الانتحار لتحقيق أهداف آنية ..
ما دفعني للكتابة هو اتصال هاتفي آخر وردني عصر اليوم من عائلة "الترتوري" والتي تسكن حي الأمل بمدينة خانيونس يُبلغني صاحب الإتصال أن شقيقين حاولا الانتحار بحرق نفسيهما احتجاجاً على مصادرة مصنعهما لبناء مسجد مكانه , لا أدافع عن "سلطة الأراضي" ولا عن "حكومة غزة" بل أدافع عن قناعتي بأن أسلوب "الانتحار" و "الحرق" آفة انتشرت وأهم أسباب انتشارها هو استجابة المسؤولين لطلبات من يحرق نفسه وكأنّهم يؤسسون لمرحلة "احرق نفسك تكسب" أو "حاول انتحر وهتعيش العمر مبسوط" ..
وقد بدأت موضة الحرق بعد البوعزيزي التونسي والذي اعتبره الشيخ القرضاوي "شهيداً" وهو أكبر خطأ , ولم تُدرك الحكومة بغزة لمساويء الاستجابة لطلبات من يُحرق نفسه فقامت باعتماد شقيق أحدهم "مات حرقاً" موظفاً وتلقّى مبالغ مالية من هنا وهناك , وكأنها مكافأة لكل من يحرق نفسه , حتى باتت مسرحيات "حرق الذات" يومية , وأذكر في تظاهرات الاحتجاج ضد حكومة الدكتور سلام فيّاض قام أحدهم بسكب الماء على نفسه مهدداً باشعال "الماء"! وآخر سكب بنزيناً وانتظر الجماهير لتوقفه ولم يكن يهدف إلا للـ"شو الإعلامي" .. وفي غزة أيضاً أصبح كل من يريد تحقيق طلباً له يُحاول حرق نفسه , فأسير محرر حاول ذلك "حتى لو كذباً" وموظف مقطوع راتبه حاول حرق نفسه وحرق أعضاء المجلس التشريعي عن حركة فتح في مكتبهم , وآخر حاول الانتحار حرقاً في رفح .. وآخران حاولا الانتحار أمس بتناول كميات كبيرة من الأدوية .. وعشرات الاتصالات والمناشدات ممن يهددون بحرق أنفسهم لو لم يستجب لهم أحد , وهكذا ..
"الظلم" ظلمات .. وحرق النفس ظلم للنفس أيضاً .. الجميع يقف ضد الظلم , يقف ضد هضم حقوق المواطنين .. لكن يجب أن لا تنتشر ثقافة الانتحار فهي أخطر من الظلم وإن استشرت فعلى مجتمعنا السلام ..
سيُهاجمني البعض وسيقولوا إنه الظلم أو العوز أو الحاجة .. لكن هل الحاجة والعوز تمنحنا رخصة دينية وإنسانية وشرعية لحرق النفس أو الانتحار ؟
أطالب الحكومتين في غزة ورام الله بعدم الانجرار خلف كل من يحاول حرق نفسه أو تلبية حاجاته , بل وأطالب بتجريم "حرق النفس" ومعاقبة كل من يُحاول أو يُهدد حتى بذلك ..في المقابل أيضاً على الحكومة الاستماع لمطالب الناس والتحرّك لانقاذهم من براثن "الفقر" الذي يولّد "اليأس" وعندما يسيطر اليأس على شعب أو جماعة فلنتوقع كل شيء ..
ملاحظة : بلديتا غزة وخانيونس تقومان بحملات لإزالة التعديات على الأراضي الحكومية وتخليص حقوق العامة من الخاصة .. لست مع ولست ضد .. وفّروا بديلاً لهم وحينها لن يلومكم إلاّ من خُلق ليعترض ..