مذكرات تحية كاظم زوجة جمال عبد الناصر - الحلقة الثالثة

رام الله دنيا الوطن اعداد الاعلامي غازي ابوكشك

رجع جمال بعد خروج عثمان باشا وقال لى: كنت عند رئيس الوزراء إبراهيم عبدالهادى.. لقد استدعانى لاستجوابى والتحقيق معى بوجود عثمان باشا، وبقيت هناك للآن، وهو الذى كان يحقق معى ويستجوبنى بنفسه، وكان فى منتهى العصبية، وكنت أجاوبه على كل سؤال.. وأخيرا لم يجد إلا أن يقول لى: روّح، وسألنى هل عندك أسلحة؟ فقلت له: نعم.. وذكرت أنواعها، وكلف عثمان باشا بالحضور معى واستلام الأسلحة. وكنت منتظرا أنه سيعتقلنى لكنه قال لى: روّح.. وهو فى غاية الغيظ والضيق.


كنا عندما كان جمال عبدالناصر محاصرا فى الفالوجة أثناء حرب فلسطين كانت زوجته وابنتاه هدى ومنى مهددات بالطرد من المنزل الذى استأجره فى مصر الجديدة.

و بعد أن عاد جمال من الحرب اقتيد من منزله للتحقيق بمعرفة رئيس الوزراء إبراهيم عبدالهادى ولم يتركوه إلا بتدخل جاره رئيس الأركان فى ذلك الوقت عثمان باشا المهدى، وكانت التهمة حيازة أسلحة وذخيرة فى منزله.

تروى السيدة تحية عبدالناصر فى هذه الحلقة من «ذكريات معه» والتى تصدر فى كتاب عن دار الشروق الأسبوع المقبل يومياتها أثناء غياب الزوج فى حرب فلسطين وكيف التقت عبدالحكيم عامر ورأته أول مرة ليسلمها خطابا من زوجها الذى علمت بالمصادفة من الجيران أنه كان أسيرا.


اليوزباشى جمال عبدالناصر فى كلية أركان حرب يقضى مدة الدراسة، والوقت شهر مايو سنة 1948، قال: سنتخرج فى الكلية خلال أيام بعد أن قُدِّمَ موعد التخرج أسبوعا، والبدلة الرسمية سيكون عليها شارة حمراء.. وهى شارة أركان حرب توضع تحت الشارة العسكرية.. أرجو تجهيزها، فخيطتها بنفسى وكنت فى غاية السعادة. وتخرَّج فى الكلية وأصبح اليوزباشى أركان حرب جمال عبدالناصر.. هنأته بحب وإعزاز.

بعد يومين قال لى: جهزى كل ملابسى لأنى سأسافر إلى فلسطين فى خلال يومين لمحاربة اليهود.. فكانت مفاجأة لى وبكيت وحزنت جدًّا.. قال: لماذا تبكين؟ فقلت له: كيف لا أبكى؟.. وكنت عندما يخرج أظل أبكى. بعد تجهيز الشنط لمحته يضع أربطة ومعدات إسعافات للجروح وكان يخفيها حتى لا أراها.

بدأت الحرب يوم 15 مايو سنة 1948، وفى يوم 16 مايو الساعة السابعة صباحا غادر جمال البيت وأنا أبكى، وعندما خرج من الباب، وكان ينزل السلالم مسرعا وقفت أبكى وأنظر له وهو ينزل السلالم، وكان المراسلة قد سبقه، وعربة جيب منتظرة على الباب.. وحضر أشقاؤه لتوديعه قبل سفره.

كنت مع ابنتى هدى.. سنتان وخمسة أشهر، ومنى.. سنة وأربعة أشهر، وكانت الشغالة قد سافرت إلى بلدها منذ أسبوعين. وقال لى جمال قبل سفره: يجب أن تكونى حذرة فى اختيار الشغالة، والأحسن أن تكون يعرفها أخواتك.

كانت تزورنى زوجة أحد الضباط، وكانت قد طلبت زيارتى بعد مولد هدى لتهنئنى وتسكن قريبة من منزلنا، وزوجها هو حمدى عاشور.. بقى فى القاهرة ولم يسافر إلى فلسطين، فكان يرسل لى المراسلة الخاص بهم لشراء ما يلزمنى كل يوم.

رجع أشقاؤه إلى الإسكندرية إذ كانوا لا يزالون فى الجامعة وفى وقت الامتحانات، وحضر والده لزيارتنا وبقى معى مدة حوالى شهر، وبعد ذلك كان يحضر أحد أشقائه أو اثنان منهم حيث كان وقت الإجازة.
لم يهمنى أى شىء.. وكان الذى يشغلنى الحرب وأخبار جمال، وكنت أتلهف على تسلم خطاب منه وأفرح جدّا عند تسلمى الخطاب، وبعد ما أقرؤه أقول فى نفسى: من يدرى ماذا حصل بعد كتابته الخطاب؟! وأقلق من جديد وأجلس وحدى أحيانا أبكى.

فى خطاب بتاريخ 18 مايو:

«أرجو أن تكونى بخير مع الأنجال العزيزات أما أنا فكل شىء يدعو للاطمئنان...».
وفى خطاب بتاريخ 22 مايو سنة 1948:

«أنا فى أحسن حال ولا يشغلنى سوى راحتكم والاطمئنان عليكم وأرجو أن أراكم قريبا فى أحسن حال..».
وفى خطاب بتاريخ 24 مايو سنة 1948:

«أكتب إليك الآن ولا يشغلنى أى شىء سوى راحتكم وأرجو أن تكون شقيقتك قد أحضرت لك شغالة.. أوصيك على هدى ومنى والمحافظة الشديدة عليهما...».

وفى خطاب بتاريخ 9 يونية سنة 1948:

«إن شاء الله نجتمع قريبا فى أحسن حال بعد النصر بإذن الله...».

طلب منى فى خطاب أن أذهب عند أخى وحدد وقتا ليكلمنى بالتليفون. ذهبت بمفردى وتركت هدى ومنى مع شقيقه وانتظرته حتى تكلم.. وسأل عن هدى ومنى وطمأننى، وقال إنه سيكلمنى فى الأسبوع المقبل فى نفس الميعاد.. وذهبت وكلمنى وقال لى: سأكلمك كل أسبوع.

ذهبت ــ كما قال ــ وانتظرت على التليفون لكنه لم يتكلم.. ثم قال لى فى خطاب إنه لم يجد فرصة ليكلمنى لأنهم لا يمكثون فى مكان، وقال: سأكلمك، وحدد موعدا. ذهبت وانتظرت ولم يتكلم أيضا هذه المرة. وقال فى خطاب: لم أكلمك نظرا لانشغالى.

وفى خطاب بتاريخ 23/7/1948 قال:

«وحشنى منزلنا جدّا وإن شاء الله سأحضر قريبا.. وبالمناسبة فى يوم 20 رمضان سأحصل على رتبة صاغ».. وفى خطاب آخر قال لى إنه سيأخذ إجازة لمدة ثلاثة أيام.. كانت فرحتى عظيمة.. حضر وكان قد مضى على سفره ثلاثة أشهر ونصف الشهر.

جرح من رصاصة أثناء الحرب

رأيت علامة جرح حديث وخياطة فى صدره من الناحية اليسرى، سألته ما هذه؟ فقال: إنها لا شىء.. دى حاجة بسيطة.. وسكت. ثم وجدت فى الشنطة قميصا وفانلة ومنديلا بها دماء غزيرة فنظر وقال: إنه أصيب وهو فى عربة حربية، وهذا أثر جرح من رصاصة خبطت أولا فى حديد العربة الحربية الأمامى الذى لا يزيد عرضه على بضعة سنتيمترات، مما خفف الإصابة إذ انكسرت منها قطعة دخلت فى صدرى.. والحمد لله بعيدة عن القلب بمكان صغير، ومكثت فى المستشفى أياما قليلة.. وأرانى القطعة وقال: سأحتفظ بها والملابس المخضبة بالدماء.. حكى لى كل ذلك ببساطة. وضعتها فى مكان كما هى، وكان بها خروم مكان دخول القطعة.

مكث جمال ثلاثة أيام زارنا خلالها كل أفراد العائلة، وذهبنا إلى السينما مرة وانتهت الإجازة.. وعند سفره بكيت فقال إنه سيحضر مرة كل شهر. ولقد كان يرسل لى خطابات منتظمة، وبعد شهر حضر فى إجازة ثانية، وطبعا كانت الفرحة العظيمة يوم حضوره، ومكث الثلاثة الأيام ثم رجع لفلسطين.. وكانت الإجازة يوم 14 سبتمبر وانتهت يوم 17 منه.

حصار الفالوجة

رجع عبدالحكيم عامر من فلسطين إلى القاهرة.. وكان قد سافر أيضا وجرح فى يده وأخذ إجازة. ذهبت لزيارة عائلته فقابلنى وقال: إن جمال الحمد لله بخير وبصحة جيدة. وكان عبدالحكيم رقى أيضا إلى رتبة يوزباشى وأخبرنى أن جمال سيحضر إن شاء الله قريبا فى إجازة، وكان عيد الأضحى اقترب.

وكنت أول مرة أرى فيها عبدالحكيم عامر ويصافحنى ويتحدث معى.. حلَّ عيد الأضحى وانتهى ولم يحضر جمال، وكانت الخطابات تصلنى إلا أنها أصبحت على فترات أطول عما قبل، ولم يذكر لى ميعاد حضوره فى إجازة.. فكنت قلقة أقرأ الجرائد وأسمع الراديو. طلبت من شقيقتى أن تسأل زوجها فأخبرها بأنهم الآن فى مكان بعيد مقطوع عنه الاتصال، ولا توجد قطارات تذهب إلى هناك.

قبل سفره أعطانى جمال شيكات لصرف راتبه من بنك مصر. وفى خطاب بتاريخ 17/10/1948 قال: إنى حولت لحسابك بالبنك الأهلى مبلغ... شهريا يمكن تسلمه فى أول ديسمبر. وأضاف: أرجو أن تكونى مطمئنة ولا تنشغلى إلا بنفسك وهدى ومنى وهذا هو طلبى منك.. وأرجو أن أراكم إن شاء الله قريبا فى أحسن حال. وأنا ذاهبة للبنك الأهلى قابلتنى سيدة جارة لشقيقتى فسلمت علىَّ وسألتنى: هو زوجك لسه فى الأسر؟ هذا ما قالته لى بالحرف.. فذهلت وقلت لها: إنه ليس أسيرا، إنه فى مكان بعيد.. وطبعا حالتى كانت صعبة جدّا.

مكثت فى البيت وأنا فى منتهى الحزن، وكانت جارتى التى تسكن تحت مسكننا ابنة رئيس هيئة أركان حرب الجيش فى ذلك الوقت، وهو عثمان باشا المهدى فسألتها عن جمال. وبعد أيام وجدتها تطرق الباب فى الصباح، وكنت لا أزال نائمة فقمت وفتحت الباب، ورأيت معها مجلة المصور وقالت: ها هو ذا زوجك الصاغ جمال عبدالناصر فى صورة مع عدد من الضباط فى الفالوجة.. فعرفت بحصار الفالوجة.

كنت من وقت لآخر أطلب من جارتى أن تسأل والدها عن الضباط الموجودين فى الفالوجة، فقالت لى إن والدها سيحضر قريبا، وألحت علىّ فى زيارتها وقت حضوره لأطمئن.. فشكرتها، وهى طيبة جدّا وللآن لا أنساها وأطلب منها زيارتى. كنت لا أزورها إلا قليلا وهى التى كانت تحضر عندى وتقول: لم لا تزورينى وأنت وحدك؟ فكنت أقول لها: إنك مع زوجك وأولادك فلتحضرى أنت فى الوقت الذى يناسبك.

فكانت تسأل عنى فى أغلب الأيام.. وهى السيدة نادية المهدى. زارتنى جارتى فى مساء يوم من شهر فبراير سنة 1949 وقالت: اليوم عيد ميلاد ابنى فلتحضرى ومعك هدى ومنى، وأصرت على أن أنزل عندها وقالت: لا يوجد عندى غير شقيقتى التى تصغرنى.. فشكرتها وذهبت ومعى هدى ومنى.

قابلت هناك والدها.. رئيس هيئة أركان حرب الجيش، فطمأننى وقال: إن ضباط الفالوجة بخير، ويرسل لهم أسلحة وذخيرة وتموينا، وإن شاء الله يحضرون قريبا.

فى خطاب بتاريخ 21/11/1948 يقول جمال:

«أرجو ألا تنشغلى إذا تأخرت فى المكاتبات فأنا أرسلها حسب الظروف ولكنها لا تكون منتظمة فى هذه الفترة على الأقل».

وفى خطاب بتاريخ 23/11/1948 يقول:

«... أرجو أن نلتقى قريبا فى أحسن الأحوال. أرجو أن تكونى مطمئنة جدّا... وأنا أحاول باستمرار أن أكتب لك فى أى فرصة وقد كتبت لك ثلاثة خطابات أرجو أن تكون وصلت... وعموما لا تنتظرى خطابات منتظمة فى هذا الوقت. لم أستلم منك خطابات منذ خمسة وأربعين يوما لصعوبة وصولها ولكن عبدالحكيم يطمئننى عليكم باستمرار».

وفى خطاب بتاريخ 26/11/1948 يقول:

«يمكن أن تصلنى أخباركم عن طريق عبدالحكيم.. أقصد أن تكلمى السيدة حرمه أن تبلغه عن أخباركم باستمرار لأنه يتصل بى يوميا... وأما خطاباتكم فلا يمكن أن تصل الآن... وأنا بخير والحمد لله وكل شىء يدعو للاطمئنان».

وفى خطاب بتاريخ 14/1/1949 يقول جمال:

«ما كنت أعتقد أنى سأفترق عنكم هذه المدة ولكن الحمد لله.. ويشجعنى على ذلك إيمانك العظيم بالله فيجب ألّا تقلقى ولا تحزنى مطلقا لهذا الغياب. سنلتقى قريبا إن شاء الله سويّا ونشكره شكرا جزيلا... فأنا بخير وسننسى كل شىء ونبقى سويّا يا حبيبتى العزيزة إلى الأبد...».

وفى خطاب يقول:

«... أرجو أن تفسحى هدى دائما وتأخذيها جنينة الحيوان وجنينة الأسماك.. أرجو أن تكونوا دائما فى أسعد حال».

زرت أختى فى الجيزة، وهى تسكن بجوار جنينة الحيوانات، وأخذت هدى ومنى وذهبنا للحديقة، ولم أذهب إلى جنينة الأسماك لأنى كنت لم أرها وللآن.. وكانت هدى تتكلم وحفظت اسم طائرين.
مكثت فى البيت لا أخرج إلا قليلا أتتبع الأخبار من الجرائد والراديو، وأدعو الله أن ينتهى الحصار فى الفالوجة ويحضر جمال.

شتاء سنة 1949

وكانت جارتى السيدة نادية المهدى ترجونى أن أخرج أو أذهب معها إلى السينما فكنت أرفض، ولم أذهب أبدا. كما أنى لم أتعود أن أخرج مع أى سيدة ولم يكن لى صديقات، بل كانت صلتى بالسيدات محدودة والكل بالنسبة لى سواء.. وكنت أقضى فراغى فى شغل التريكو لهدى ومنى، وابتدأت أشتغل بولوفر لجمال وقلت له فى خطاب: إنى أشتغل لك بولوفر لونه رمادى فاتح.. وهو يفضله فى ألوان البولوفر.

وصلنى خطاب بتاريخ 20/1/1949 قال:

«... وإن شاء الله أراكم قريبا جدّا فإن شاء الله سأكون بالقاهرة قبل أول فبراير أو فى الأسبوع الأول... وسنبقى سويّا باستمرار وأظن أن اللحظة التى سألقاكم فيها ستكون أسعد أوقات حياتى... وإن شاء الله يكون البولوفر خلص».. فعرفت أن خطابى وصل له، وفرحت جدّا بقرب حضوره.

هذه أجزاء من بعض خطاباته لى أيام حرب فلسطين محتفظة بها وعددها 46 خطابا.. وكلها بإمضائه الذى لم يتغير.

بعد انتهاء الإجازة الصيفية للطلبة وافتتاح الجامعة لم يعد أحد من إخوته يحضر للقاهرة، وكان عيد الأضحى وكنت منتظرة حضور جمال.. ومضت أيام العيد ولم يحضر ولم يصلنى منه خطاب، فكنت فى غاية القلق والانشغال عليه، وبالإضافة إلى ذلك بقائى بمفردى مع هدى ومنى.

وبعد عدة أيام حضر والده وقال لى: سأبقى معك حتى يحضر جمال، ولن أرجع إلى إسكندرية أبدا مهما طال غيابه.. فشكرته لحضوره ورحبت ببقائه معى وشعرت براحة واطمئنان.

كنت أجلس بمفردى فى المساء بعد أن تنام هدى ومنى أشتغل التريكو، وأتذكر حديث جمال لى أيام الخطوبة عن سفرياته وتنقلاته فى البلاد. وكنت وقتها منتظرة أنى سوف لا أعيش فى القاهرة باستمرار، وكنت سعيدة بأنى سأسافر معه. وكنت أقول فى نفسى: أول بلد يسافر إليه يذهب ليحارب؟!.. وهو الآن محاصر فى الفالوجة ولا أدرى متى ينتهى هذا الحصار. والخطابات تصلنى وكلها يشعرنى فيها بأنه فى أمان وأنه سيحضر قريبا.. وأفكر ربما أنه يريد أن يعطينى الأمل ليخفف من حزنى بعد أن طال غيابه.

فى يوم قالت لى جارتى إن صاحبة البيت أبدت لها رغبتها فى أن أترك البيت لأنها سوف تبنى دورا آخر فوق مسكنى، فرددت عليها قائلة: كيف تطلبين منها أن تعزل الآن وزوجها مسافر فى الحرب؟! فاقترحت عليها أن أذهب وأعيش مع أخى.. فقلت لجارتى: أخبريها بأنى سأترك منزلها عند حضور الصاغ جمال عبدالناصر إن شاء الله قريبا.

تليفون من العريش

فى أول مارس سنة 1949 اتصل جمال بالتليفون وقال إنه موجود فى العريش وسيحضر فى خلال أسبوع.. وطلب أن أذهب لأخى فى الصباح ليكلمنى.. فكانت الفرحة العظيمة، وذهبت وكلمنى جمال وسألنى عن هدى ومنى ووالده وأشقائه وقال: أريد أن أكلم الوالد غدا.. فذهب معى لأخى وكلم جمال وكانت فرحتنا لا تقدر وقال لى: سأكلمك كل يوم فى نفس الموعد حوالى الثامنة صباحا حتى أحضر.
وفى يوم 6 مارس سنة 1949 فى المساء حضر جمال من الفالوجة.. وكانت الفرحة التى لا أقدر أن أعبر عنها، وكان أشقاؤه قد حضروا من إسكندرية. وعند وصوله عرف الجيران والناس فى المحال القريبة من منزلنا.. والكل كان يعرف الفالوجة والحصار ويريد أن يصافح العائدين منها ويحييهم.. فكانت هيصة أمام البيت.

بعد أن استراح قليلا نهض وقال: سأخلع الملابس الرسمية وألبس البدلة العادية.. لقد أوحشنى اللبس العادى، ثم سأل: أين البولوفر الذى اشتغلته لى؟ وكنت قد اشتغلته وجهزته وعلقته فى الدولاب فأحضرته له فأعجبه لونه ولبسه.. وكان أول لبس جديد بعد رجوعه.. ثم قال لى: سأخرج ولن أغيب فسأذهب للقشلاق وأرجع بسرعة.

كان قد مضى عليه خمسة أشهر لم يرنا.. هدى ومنى تغيرتا وكبرتا.. منى كانت لا تتكلم إلا القليل تعلمت الكلام، وهدى زاد كلامها وفصاحتها.

وطبعا كان الزوار يحضرون بكثرة، وكذلك الأقارب من إسكندرية والصعيد، وكانت الإجازة لمدة شهر. كنت أخرج معه ونذهب إلى السينما، وكان وقتها المعرض الزراعى الصناعى.. ذهبنا وقضينا اليوم كله هناك نتفرج على المعروضات وتناولنا الغداء. قابلنا ضابطا من معارفه كان متزوجا حديثا من أسبوعين، سلم علينا وقال: لسنا وحدنا فى شهر العسل بل أنتم أيضا.. وضحكنا.

الانتقال إلى بيت جديد

فى الأسبوع الأخير من شهر مارس قال لى جمال: قابلت ضابطا أعرفه رتبته كبيرة يملك فيللا فى كوبرى القبة، وبنى دورين جديدين فوق الدور الأول، والدور الثانى فاضى.. ففكرت نعزل ونسكن فى كوبرى القبة. رحبت، فقال: سأذهب لأرى البيت، وذهب مع الضابط ورأى المسكن وقال: إنه لا بأس به فلتذهبى معى وتشوفيه.. فقلت: مش ضرورى أشوفه ما دام عجبك، فلنعزل.. وكوبرى القبة مكان هادئ والدور الثانى السلالم له سهلة. وكنت مقتنعة بأنه أحسن من البيت الذى نسكنه، ولم أذكر له شيئا عن رغبة صاحبة البيت فى أثناء غيابه، وكانت قد حضرت لتهنئتنا بسلامة رجوعه من فلسطين وحدثته عنى وقالت له الكثير من المديح والثناء.

وفى آخر شهر مارس سنة 1949.. أى فى نفس الشهر الذى رجع فيه جمال من الفالوجة انتقلنا إلى البيت الجديد فى كوبرى القبة. وقبل مغادرتنا البيت حضرت صاحبة البيت وكانت تسكن بجوارنا ــ يعنى جيران وهو ملكها أيضا ــ وكانت متأثرة وبكت وقالت لى: لقد قلت إنك ستتركين البيت عند رجوع حضرة الصاغ جمال وها أنت ذى تتركينه. وسلمت علىّ بحرارة وهى تبكى.

ذهبت مع جمال وهدى ومنى للبيت الجديد.. وكنت أول مرة أراه كما حدث فى البيت الأول، وأعجبنى جدّا. والبيت مبنى بحيث يكون: البدروم، ثم الدور الأول، والثانى مسكننا، ودور ثالث.

ونظام الأبواب الثلاثة كالبيت الأول مع اختلاف إذ لا يوجد باب يوصل لحجرة السفرة كالبيت السابق، فالباب الثالث على الشمال يوصل لمدخل صغير للمطبخ. والبيت مكون من خمس حجرات منظمة كالآتى: حجرة السفرة ملحقة بحجرة الصالون بدون باب ولها باب على الصالة، والحجرتان تطلان على الشارع.

الصالون به فراندة مستديرة على ناصية البيت ترى الشارع العمومى.. شارع مصر الجديدة، وترى الباص والترامواى والكوبرى الذى يمر تحته المترو أمام المستشفى العسكرى فى ذلك الوقت.. وهى الآن الكلية الفنية العسكرية. أرى الشارع بوضوح إذ بيتنا الثالث فى الشارع بعد فيللتين صغيرتين ولكل فيللا حديقة. حجرة المكتب ملحقة بالصالة بدون باب أيضا وبها فراندة وشباك فى مواجهة الصالة يطل على حديقة المنزل الذى يلى منزلنا، وأرى الشارع أيضا، وفى الناحية الأخرى حجرتان للنوم.

كان جمال يحكى لى عن الوقت الذى قضاه فى الحرب وعن الحصار فى الفالوجة وقال: كانت هناك طفلة كنت أحب أن أكلمها تذكرنى بهدى وفى عمرها، وفى ليلة شعرت بحزن وقلت كيف حال تحية الآن وهدى ومنى؟ ولم أنم.. وكيف كان الرصاص والقنابل تتساقط حوله ونجاه الله، وقراءته للمصحف عدة مرات وتأديته للصلاة، وكيف كان يرسل لى الخطابات مع أحد العرب، ويدفع كل ضابط مبلغا ويصل ما يتقاضاه العربى إلى خمسين جنيها.

إبراهيم عبدالهادى يستجوب جمال

انتهى الشهر الإجازة ونقل العائدون من الفالوجة ــ وهم ثلاث كتائب ــ كل كتيبة فى بلد. وكانت الكتيبة السادسة ــ وهى التى بها جمال ــ نقلت للإسماعيلية، وهو أركان حرب الكتيبة. قال لى: لا يوجد هناك مكان لسكن عائلات الضباط، والمكان عسكرى فقط، وسوف أذهب وأحضر كل أسبوع.. فكان يحضر يوم الخميس ويغادر القاهرة يوم السبت فى الصباح الباكر.. ولم أذهب إلى الإسماعيلية أبدا ومكثت فى القاهرة.

استمر الحال حوالى ثلاثة أشهر، وكانت صحتى متوعكة إذ كنت فى الشهور الأولى للحمل.

فى شهر يوليو قال لى جمال: سأحضر فى إجازة لمدة شهر ففرحت جدّا، وفى أول يوم للإجازة فى الصباح خرج ورجع قبل الثانية عشرة ظهرا، وخلع ملابسه العادية طبعا ولبس البيجاما ورقد على السرير يقرأ. ولم يلبث إلا قليلا وسمعنا أحدا يصفق بشدة ويسأل عن مسكن الصاغ جمال عبدالناصر.

وكان أحد الضباط. قابله جمال وتحدث معه دقائق وارتدى الملابس الرسمية وقال لى: لا تنتظرينى على الغداء سأغيب ولتتغدى أنت والأولاد.. وخرج وركب عربة مع الضابط. تناولت الغداء مع هدى ومنى ومر الوقت عاديا، وحتى حوالى الساعة السابعة لم يحضر.. وابتدأت أقلق: أين ذهب جمال؟ ومن هذا الضابط الذى حضر بطريقة غير عادية يصفق ويسأل بصوت عال عن مسكننا؟ وكنت أشعر بأن ما يحدث حولى غير عادى ولكن لم أفهم شيئا غير الكتمان. جلست بجوار الشباك المطل على الشارع فى حجرة السفرة..

ولم ألبث إلا قليلا ورأيت عربة كبيرة زرقاء تدخل الشارع وتقف أمام منزلنا، ورأيت جمال ينزل من العربة وينتظر شخصا آخر.. وكان عثمان باشا المهدى ــ رئيس هيئة أركان حرب الجيش ــ وكنت أعرفه وحتى عربته إذ كنت أراها أمام منزلنا السابق.

خرجت بسرعة من حجرة السفرة ودخلت حجرة النوم، وصعد جمال مع عثمان باشا ودخلا الصالون. وبعد قليل دخل جمال عندى فى الحجرة فقلت له بلهفة: أين أنت؟ إنى قلقة عليك.. فرد وقال: فلتعطنى بسرعة الأسلحة الموجودة عندك، ولاحظ اضطرابى وقلقى فقال: لا تخافى إنى راجع لك.. أسرعى وسأحكى لك عما حصل بعد خروج عثمان باشا، فقلت له: لقد عرفته وكنت جالسة بجوار الشباك.

كنت أخفى الأسلحة بين الملابس فى الدولاب.. فى الشتاء أخفيها بين ملابسه الرسمية الصيفية، وفى الصيف أخفيها بين ملابسه الشتوية، إذ كنت أرى أنها يجب إخفاؤها وألّا يراها أحد غيرى، بدون أن يلفت نظرى أو يقول لى شيئا. رجع جمال بعد خروج عثمان باشا وقال لى: كنت عند رئيس الوزراء إبراهيم عبدالهادى.. لقد استدعانى لاستجوابى والتحقيق معى بوجود عثمان باشا، وبقيت هناك للآن، وهو الذى كان يحقق معى ويستجوبنى بنفسه، وكان فى منتهى العصبية، وكنت أجاوبه على كل سؤال.. وأخيرا لم يجد إلا أن يقول لى: روّح، وسألنى هل عندك أسلحة؟ فقلت له: نعم.. وذكرت أنواعها، وكلف عثمان باشا بالحضور معى واستلام الأسلحة. وكنت منتظرا أنه سيعتقلنى لكنه قال لى: روّح.. وهو فى غاية الغيظ والضيق.

مكث جمال الشهر الإجازة فى القاهرة نخرج سويّا ونذهب إلى السينما.. وغالبا الصيفى فى مصر الجديدة، وأحيانا نأخذ هدى ومنى معنا. وكان يقابل الضيوف ويخرج مع بعضهم أو بمفرده.

بعد انتهاء الإجازة نقل من الإسماعيلية إلى مدرسة الشئون الإدارية بالقاهرة، وهى التى يقضى فيها الضباط فترة.. ثم يمتحنون ويحصلون على الترقية.. أى «فرقة». وكانت فرحتى عظيمة بنقله للقاهرة.
اشترى جمال العربية الأوستن السوداء، ودفع ثمنها من النقود التى توافرت معه أثناء مدة الحرب، إذ الراتب كما هو معروف يكون الضعف للمقاتلين، ولم تكن تكفى فكملت الباقى من ثمنها وفرحت بالعربية.

بعد شراء العربة بأيام قليلة قال: سآخذك لمشوار طويل.. وذهبنا إلى القناطر الخيرية ومعنا هدى ومنى وتناولنا الغداء هناك.
كان يحضر إلى المنزل بعض الضباط الذين سيدخلون امتحان كلية أركان حرب، وكان يساعدهم ويجلس معهم وقتا طويلا، وكنت أسمعهم يتكلمون فى موضوعات الدراسة، وكان يعطيهم الدوسيهات التى هو كاتبها ومجهزها بنفسه ويقول لى: إنى أحب أن أساعد كل من يريد أن يتقدم لكلية أركان حرب وأرحب به.

التعليقات