كيف ولماذا يُجنّد الأمريكيون عملاء لهم في لبنان ؟

كيف ولماذا يُجنّد الأمريكيون عملاء لهم في لبنان ؟
غزة - دنيا الوطن
للوهلة الأولى، وعندما تقر وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بتعرض عملياتها الاستخباراتية في لبنان الى «نكسة»، يبدو أن ثمة رابحاً هو «حزب الله» وخاسراً هو الجهاز الأمني الأميركي الذي تجاوز عمره العقد السادس، بينما لم يتجاوز عمر الأول، العقد الثالث. لكن في حسابات هذا العالم الأمني المعقد والشائك، هي عملية كر وفر. يوم لك.. ويوم عليك.
ليس جديداً على الأميركيين أن يتجسسوا على لبنان واللبنانيين، وفي الأمر طلعات ونزلات على مدى سني عمر وكالة الـ«سي آي أي» الستين. يكبر الانكشاف اللبناني أو يصغر، تبعاً لمعادلة استقرار الداخل والإقليم المترابطة، لكن مع كل انكشاف سياسي أو أمني، يتعزز حضور «الدول» في الداخل، وحضور «الداخل» في معادلات الدول، والدليل الأقرب، تلك الاستباحة المتمادية للبلد منذ ست سنوات ونيف، بفعل قرارات دولية زنرت لبنان جواً وبراً وبحراً وأمناً وسياسة وقضاءً واقتصاداً، وبفعل سياسات داخلية، ممن توالوا على السلطة، جعلت أمن اللبنانيين، غب التزامات وتنازلات وشبهات، تستدعي طرح أسئلة كبيرة، حول بلوغ الاستباحة الخارجية حد الإمساك بمفاصل أساسية في الدولة، ولعل وثائق وثرثرات «ويكيليكس» خير شاهد على تحول جزء من الطبقة السياسية الى «فرقة مخبرين» من «الدرجة العاشرة» عند السفارة الأميركية في بيروت.
ليس جديداً على الأميركيين أن يتجسسوا على لبنان واللبنانيين، لكن أن تقر وكالة الاستخبارات الأميركية، ولو بصورة غير رسمية، بأن عملياتها في بيروت قد تعرضت لنكسة، فإن الأمر مدعاة لطرح أسئلة وهواجس.
منذ الاستقلال كان لبنان محطة تجسسية وما يزال. يتسع دور المحطة الأميركية أو يضمر، لكن لطالما كان لبنان، قبل عام 1975، محطة إقليمية أساسية ومدرسة يتخصص فيها الجواسيس والعملاء. جاءت الحرب الأهلية واختلط حابل الصراعات بنابل الاستخبارات. تراجع دور المحطة اللبنانية لصالح محطات إقليمية (مثل قبرص أو عمان)، ولم تمنع الضربات المؤلمة التي تلقاها الأميركيون في لبنان، في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، جهاز الاستخبارات الأميركية من الانكفاء، خاصة أن لبنان ما بعد عام 1982، عرف ظاهرة المقاومة، التي فعلت فعلها، وما تزال، في مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، حتى أضحت المطلوب الرقم واحد على جدول الأعمال الأميركي ـ الاسرائيلي.
لم يكن «حزب الله»، على الأرجح، في وارد الكشف عن شبكة العملاء المرتبطة بجهاز الـ«سي أي أي»، داخل الحزب، غير أن الإرباك الذي أصاب بعض القواعد الحزبية، حتّم تلك الإطلالة الشهيرة للأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله في الرابع والعشرين من حزيران 2011، وقدم خلالها للرأي العام واقعة إلقاء القبض على ثلاثة موقوفين، لاحتواء المناخ الحزبي الداخلي من جهة، والإعلان عن توجيه أكبر ضربة للمخابرات المركزية الأميركية في لبنان، من جهة ثانية، مع إدراكه المسبق أن هذا الإعلان ستكون له تداعياته اللاحقة، بمعزل عن رغبة بعض الداخل اللبناني باستثماره عبر ترداد معزوفة عدم استحالة خرق بنية «حزب الله»، بعكس ما يردد الحزب دائماً، سواء من الأميركي أو الاسرائيلي أو غيرهما من الأجهزة المعادية أو «الصديقة».
لم يقل «حزب الله» حتى الآن، أكثر مما قاله السيد نصرالله، غير أن الرسالة التي أراد الحزب إيصالها، سرعان ما وصلت للأميركيين، برغم محاولة سفارتهم في بيروت السخرية «من ادّعاءات ومزاعم نصرالله». من هنا، كان قرار قيادة المخابرات المركزية الأميركية بفتح تحقيق ترافق مع إعادة تقييم شمل كل بنية وهرمية عمل المخابرات الأميركية في لبنان.. وصولاً الى سحب بعض العملاء سريعاً وإحداث تغييرات في بعض المواقع داخل الجهاز نفسه، على صعيد لبنان، وهو الأمر الذي أحدث إرباكاً لمسه عملاء كانوا يتصلون بالضباط ـ «الدبلوماسيين» الأميركيين ويأتيهم الجواب أن هذا الخط أو ذاك خارج الخدمة حالياً، مثلما انعكس سلباً على طريقة تبادل المعلومات بصورة تقليدية بين مكتب بيروت وبين جميع الأجهزة الأمنية اللبنانية الرسمية، وأيضاً على صعيد إنتاجية مكتب بيروت ربطاً بالادارة المركزية خلال الشهور الخمسة الأخيرة.
لم يقتصر الأمر على تحقيقات طالت الفريق الذي يقود شبكات التجسس في السفارة ويتخذ من «المبنى الرقم 2» في عوكر، مقراً له، بل شملت أيضاً بعض المواقع المركزية في ادارة الـ«سي أي أي» التي أوفدت محققين الى بيروت، توصلوا، على الأرجح الى استنتاج مفاده أن الإهمال والروتين هو من بين أسباب النكسة التي تعرضوا لها، من دون إغفال حقيقة امتلاك «حزب الله» تكنولوجيا متطورة وقدرات استخباراتية عالية جداً، جعلته قادراً على رصد الشبكة الأميركية فنياً وميدانياً، علماً أن الإسرائيليين كانوا قد احتجوا منذ مطلع العام 2009 لدى الأميركيين على تزويد «فرع المعلومات» في قوى الأمن الداخلي ببرنامج يتضمن تقنية رصد وتحليل الاتصالات الخلوية وغير الخلوية، بحجة أنه كان سبباً في وضع اليد على حوالى مئة شبكة إسرائيلية في لبنان... وأنه يخشى وصوله الى «حزب الله» وبالتالي استخدامه لكشف قدرات الأميركيين والاسرائيليين الاستخبارية في لبنان، وهو الأمر الذي أعاد التلميح اليه، أمس، المسؤول السابق للاستخبارات العسكرية الاسرائيلية العقيد شلومو موفاز.
واتخذ الأمر بعداً سياسياً من خلال قرار إيفاد رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب مايك روجرز إلى العاصمة اللبنانية في مهمة محددة وهي مقابلة المسؤولين في الوكالة(عوكر) والبحث معهم في الخلل الذي أدى إلى كشف عمل المخبرين، علماً أن مهمة «المبنى الثاني» في عوكر لا تقتصر على لبنان وحده بل تشمل أيضاً سوريا، فيما يتولى التشغيل ضباط يعمل بعضهم في السفارة بأسماء دبلوماسية مختلفة، ويستفيدون من كل الحصانات والامتيازات التي يتمتع بها فريق السفارة الأميركية على صعيد المواكب والاتصالات والسكن الخ...
وتبعاً للتحقيقات التي جرت مع الشبكات الإسرائيلية والأميركية، أمكن على صعيد تجنيد المخبرين من قبل جهاز الـ«سي أي أي» تحديداً، استخلاص الآتي:
أولاً، كيفية التجنيد: تتشابه الأساليب الأميركية، وأبرزها الآتي، أولا، فئة تعرض نفسها على الأميركيين ويمكن أن تُقبل أو تُرفض، ثانياً، فئة تطلب فيزا لدخول الأراضي الأميركية فتدرس ملفاتها وتستدعى للقسم القنصلي (الأمني) وهناك يتم إخضاع البعض لعملية ابتزاز للحصول على الفيزا أو سواها. ثالثاً، فئة تتصل بها السفارة الأميركية مباشرة وتعرض أعمالاً مشتركة تحت واجهات تبدأ تجارية أو إعلامية أو اجتماعية أو بيئية الخ... وتتطور تدريجاً إلى علاقة سياسية ـ أمنية. رابعاً، فئة لم يحتج الأميركيون إلى واجهة مموهة للصلة بهم، بل دخلوا معهم في صلب «الموضوع» مباشرة، وباسم الـ«سي أي أي».
ثانياً، الاستهدافات:
يمتلك الأميركيون ما يعتبرونه أغنى «بنك معلومات» في العالم. ومن خلاله يستثمرون في الأمن والسياسة والاقتصاد، وليست محطة لبنان معزولة عن المحطة المركزية وباقي المحطات في العالم، لجهة الاستهدافات التقليدية، التي تندرج تحت عنوان محاربة كل ما يمكن أن يشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي، ولكن تمتلك كل محطة خصوصية معينة تبعاً للبيئة التي تعمل ضمنها، وهذا الأمر يسري على المحطة اللبنانية، التي انخرطت بعد الحادي عشر من أيلول في معركة محاربة الإرهاب العالمي(تحديداً ملاحقة مجموعات «القاعدة»)، وعدا عن أهداف أخرى، فإن «القيمة المضافة» لهذه المحطة تكمن في تركيزها على الاستعلام عن حركات المقاومة ضد إسرائيل(لبنانية وفلسطينية وخاصة «حزب الله»)، سواء على صعيد المراكز الحساسة والسرية وخطط المقاومة وبنيتها العسكرية واللوجستية والتنظيمية (قيادات المقاومة الوسطية والعليا)، فضلا عن مؤازرة العمليات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية (نموذج الدور الذي لعبته الشبكات الأميركية في لبنان إبان حرب تموز 2006).
ثالثاً، التدرج في العلاقة مع العملاء بعد تجنيدهم:
ـ يخضع العميل أولاً لاستجواب هو عبارة عن مقابلة شخصية يجريها معه «خبراء» في المحطة (بعضهم من الذين يدرسون علم النفس). يملأ العميل استمارة تفصيلية بعد تقييم يؤكد قابليته وأهليته. يوضع العميل ضمن برنامج تأهيل، وفي هذه المرحلة المفصلية، يكلف بجمع معلومات عن أهداف معروفة لدى الأميركيين ولكن يجري التأكد من معلوماته ومطابقتها مع تلك الموجودة لمعرفة ما اذا كان صالحاً للعمل أم لا، أو أن يكون «مدفوشاً» للعمل من أجل اختراق الجهاز في بيروت أو سواه.
ـ يؤدي التدرج في العلاقة مع العميل الى وضعه ضمن «مرحلة تحديد برنامج»، وتشمل إقامة برنامج تدريبي على وسائل جمع المعلومات وكيفية حفظها وإرسالها وآلية الصلة الفورية (العاجلة) ولها آليتها، والدورية (كل أسبوعين أو ثلاثة أو أكثر وكلمة السر المتفق عليها والأماكن ووسيلة الاتصال وكل ما يتصل بعملية الانتقال والتمويه والتأكد من عدم لفت الانتباه الخ)....
بعد هذه المرحلة، تصبح العلاقة أكثر تقدماً، ويتوسع عمل كل من يقدم خدمات أكثر فائدة ويوضع في الوقت نفسه ضمن برنامج للتدرج الاستخباراتي تبعاً للفاعلية والإنتاجية.
رابعاً، أنواع العملاء: يمكن القول إن هناك نوعين من العملاء، الأول يدعى «العميل الجغرافي» الذي يعمل ضمن بقعة جغرافية معينة (الجنوب أو بيروت أو دمشق أو صيدا أو البقاع الخ...) والثاني، «عميل موضعي» ويعمل ضمن اختصاص معين (موضوع «حزب الله»، «التيار الوطني الحر»، الحركات الإسلامية، الأحزاب اليسارية، الصحافة، الخ...).
يتبين من خلال هذه العناوين أن البرنامج الأميركي يتطابق إلى حد كبير مع البرنامج الإسرائيلي، لا بل أن ثمة من يقول إن البرنامجين يكملان بعضهما البعض وإن ما عجز عنه الإسرائيلي، تكفل به الأميركي، خاصة بعد أن تكشف للإسرائيليين، إبان حرب تموز عدم فعالية بنك الأهداف الذي استخدموه كله ولم يتمكنوا بواسطته من اعتقال أو قتل أي من كوادر المقاومة طيلة ثلاثة وثلاثين يوماً.

ماذا قدم التسريب الأميركي؟

من الواضح أن هذا التسريب أثبت صحة استنتاجات المقاومة بأن السفارة الأميركية كانت وما تزال تشكل بؤرة تجسسية على الأرض اللبنانية، والأنكى من ذلك أن عملها لا يحتاج الى تمويه أحياناً، بدليل أن معظم الاجتماعات مع المخبرين والمجندين تعقد في «المبنى الرقم 2» في عوكر أو في بعض المقاهي والمطاعم الواقعة ضمن بقعة جغرافية يسهل انتقال ضباط السفارة منها وإليها، لأسباب أمنية بحتة. واللافت للانتباه أن الضباط الأميركيين يتنقلون أيضاً ضمن مواكب دبلوماسية تابعة للسفارة الأميركية، مستفيدين من الحصانة الدبلوماسية التي توفرها الحكومة اللبنانية لهم ولغيرهم من البعثات الدبلوماسية العاملة على الأراضي اللبنانية.
لن تحتاج المقاومة لمن يؤشر الى مستوى الإنجاز النوعي الذي حققته بكشف شبكة عملاء الـ«سي أي أي»، اذ يكفيها، ما يتردد على لسان الإعلام الأميركي والإسرائيلي في الأيام الأخيرة، بعد شهور من الصمت بسبب الصدمة التي أحدثها إعلان «حزب الله» عن الكشف عن الشبكة، وبسبب الترتيبات التي اقتضتها عملية الحد من الخسائر، من أجل استئناف العمل، وفق قواعد عمل جديدة.. وللبحث صلة.. متى تقرر المقاومة أن تنشر وثائق واعترافات.

التعليقات